السبت، 9 يناير 2016

مستقبل العالم .. إنتهاء المركنتالية (١)



مستقبل العالم .. إنتهاء المركنتالية (١)
( عندما تنتهي حالة الوفرة تنتهي معها حالة الإحتكار لتعود توازنات القوى كما كانت .. الحضارة التي تقع في المركز و تمتلك عمق الرسالة تظل في المركز ) 

قبل أن أبدأ في تحليل الواقع و أبعاده ، و قبل أن أبدأ بوضع أطر أبني عليها صورة واضحة عن المستقبل الذي نحن نتجه إليه ، سأحتاج لتعريف المصطالحات المستخدمه و توضيح القواعد التاريخية التي بني عليها وقاعنا . 

- نشأة العولمة على أساس إمبراطوريات غربية لم تتمدد جغرافياً حتى تمددت إقتصادياً ( المركنتالية كانت التمدد الإمبراطوري للدول الأوروبية التي تقع وراء البحار ) 

المركنتالية في حقيقتها نظام إقتصادي مركزي الإدارة يهدف لجمع أكبر قدر ممكن من المعادن النفيسة ( الذهب و الفضة ) كوسيلة لتحقيق الغلبة على الدول المنافسة ، وهو في الحقيقة نظام بسيط و منطقي بني على نظرة عامة لدى عموم الناس ( حاكمين و محكومين ) بأن العملية التجارية عملية صفرية مطلقة ، يكسب فيها طرف و يخسر فيها آخر ، و هذا التصور أساساً قد بني على وعي سطحي بالثروة على أنها ذهب و فضة ، و أنه بمقدار ما تملك الحكومة من هذه المعادن النفيسة فإنها تصبح حكومة غنيةً قوية ، و بقدر ما تفقد منها فإنها تصير حكومةً فقيرةً ضعيفةً ، وبالتالي فإن النظام الإقتصادي يجب أن يبنى حول هذه المعادن ، و يهدف إلى جمعها ، كما يجب أن ينظر إليهما على أنهما وسيلة مركزية لهزيمة القوى الأجنبية المنافسة . 
المركنتالية في حقيقتها بسيطة ، و بساطة الظروف التي نشأت فيها تبرر النظرة الإقتصادية البسيطة هذه ، لكنها على قدر بساطتها تحقق نتائج سياسية كبيرة و فعالة إذا ما كانت الصراعات القومية و التفوق الدولي هدف يحرك قيادة الدولة و مجتمعها . المركنتالية على بساطة نظرتها للإقتصاد منطقية ، إذ تحسب حساباً للمعادن النفيسة النادرة و تدرك مركزيتها في العملية التجارية ، ولكنها علـى الطرف الآخر تغفل حقيقة الثروة و نسبية القيمة التي تمتلكها هذه المعادن في كل بيئة وجدت فيها ، و بالتالي فإن إمتلاك أكبر كمية من المعادن النفيسة يعني إمتلاك قوة ولا شك ، وهذه القوة مستمدة من حقيقة ندرة هذه المعادن و مرزكيتها في التعاملات التجارية ، و بالتالي فإن إحتكارها يؤدي لشلل الأسواق الأجنبية كما يؤدي لسهولة شراء العملاء في الدول الأجنبية ،  إلا أن هذه المعادن عامل واحد لا يفيد الدولة كثيراً إن لم تتضافر معها عوامل الإنتاج الأخرى ولم تمتلك الدولة الموارد المادية و البشرية المدربة بكفاية ولم تمتلك من الفكر و الحركة الثقافية و القوة الناعمة ما يساند هذه الثروة الإقتصادية . 
المركنتالية في الحقيقة تجسيد مادي لحالة القومية الوطنية التي وصلت إليها المجتمعات الأوروبية ( الغربي منها )  ، فضعف القدرة علي التمدد الجغرافي في القارة مع الحاجة لتحقيق المزيد من المكاسب على حساب القوى السياسية الأخرى ، مع وفرة المزارع و اليد العاملة و المواد الأساسية في الأرض جعل الدولة تتجه بنظرها للخارج ، فقامت بالإستكشاف البحري بعد أن أزالت القوة الإسلامية من طريقها ( في أسبانيا ) و هدفت لتحقيق أكبر قدر من المكاسب و استنزاف للأراضي الجديدة حتى ما يصير الواقع السياسي متبايناً و البنية السياسية الإقتصادية أكثر قوة ، هذه الظروف أوجدت وسيلة جديدة لبناء الإمبراطوريات ، فالإمبراطوريات كانت لا تتسع إلا على حساب ما جاورها من الأراضي ، ولم تكن تبذل من المخاطرة المالية و العسكرية ما يمكنها من السيطرة على أراض تنتشر من خلف المحيطات ، و نظراً لأن هذه القوى الأوروبية لم تكن تستطيع أن تفرض سيطرتها بنفس الطريقة التي كانت تفرضها الإمبراطوريات السابقة إذ أن مركزها بعيد فإنها كانت تسعى لإقامت علاقات تجارية مربحة ( إحتكارية ) لتحقيق مكاسب الإمبراطوريات دون أن تتحمل تكلفة التمدد الإمبراطوري بشرياً و اقتصادياً . 

قوانين الدولة المركنتالية ( الدولة التي تسعى للتمدد الإمبراطوري عن طريق الإقتصاد ) : 
١- منع المستعمرات من المتاجرة مع الأمم الأخرى . 
٢- إستيراد المواد الخام من المستعمرات و إغراقها بالصناعات حتى تقتل المنافسين فيها و تخلق فائض تجاري ( بتقليل الرواتب و زيادة الإبتكار في الصناعة و محاولة زيادة الكمية المصنوع ) 
٣- السيطرة على الموانئ الرئيسية في العالم ، مانعاً لاستخدامها في عرض المنتجات على الناس هناك أو للوصول لأسواق أبعد . 
٤- منع التجارة في سفن غير سفن البلد . 
٥- منع إخراج الذهب و الفضة من البلاد ، حتى لو للشراء . 
٦- تقليل الإستهلاك الداخلي مع تيسير التصدير و فرض رسوم على الإستيراد .


من الأفضل أن نعود لبعض الحقائق الجغرافية حتى نتمكن من تصور نتائج الظروف الواقعة في ذلك العصر، الدول الأوروبية (غرب أوروبا) في أصلها قوميات عرقية تعيش في قارة صغيرة خضراء مليئة بالجبال و الأنهار التي تشكل عوازل طبيعية تفصل الدول بعضها عن بعض ، كما أن لها ساحلاً طويلاً على البحر المتوسط و المحيط الأطلسي و البلطيق ، مع توفر الجزر المتعددة على هذه البحار ، كما أن هذه القارة بعيدة عن خط الإستواء وهي مواجهة لدولتين إبمراطوريتين كبيرتين طالما شكلتا خطراً على تلك الدول القومية في أوروبا الغربية ( ١- الدولة العثمانية ٢- و روسيا القيصرية ) .. ولأن البحر هو الطريق الوحيد الذي تنكشف به دولة ما على بقية دول العالم بأعلى قدر من الأمان و أسرع مدة ممكنة فإن تصورنا لحالة الدول الغربية التي تمتلك من الأراضي الزراعية الشيء الكثير ، و من الأنهار الشيء الذي يساعدها على نقل البضائع و استخراج الطاقة و ربط البلاد بعضها ببعض ، ومن الوحدة السياسية و العصبية القومية ما يدفعها للتحرك في مصلحة الدولة القومية ، لذلك فإن ظهور المركنتالية كنظام إقتصادي نفعي يخدم هذه العصبية القومية التي كونتها الجغرافيا و التاريخ يكون أمراً طبيعياً و متوقعاً .. فقد خرج الإسبانيون و البرتغاليون بعد أن قضو على الدولة الإسلامية منتشرين في العالم الجديد طالبين للذهب و الموارد النادرة ( النادرة في القارة الأوروبية ) دون نظرة إستراتيجية أعمق تقتضي الإستيطان و التمدد في ذلك الزمن ، بينما سعى البريطانيون بعدهم بفترة قصيرة ( و الفرنسيون و الهولنديون بدرجة أقل ) للتمدد في أراض أكثر بعداً عن خط الإستواء و أكثر مشابهةً للأرض الأوروبية بقدر ما سعت لامتلاك السلع النادرة و المواد الخام التي تحتاجها ، ولأن هذه كانت إستراتيجية بريطانيا فإن التركيز على الإنتاج و خلق فائض في الميزانية كان أظهر في بريطانيا منه في أسبانيا و البرتغال ( أسبانيا و البرتغال كانت تستخدم الإستعباد المباشر بينما كانت بريطانيا تأسر سوق البلد لينتج عن ذلك استعباد الناس بؤجور و ديون و ساعات عامل طويلة للمدين ) ، و بالتالي فإن هذا النظام الإقتصادي الذي اعتمد في جوهره على الإنتاج الكمي و إغراق الأسواق الأخارجية ( بريطانيا خاصة ) كان منطقياً أن ينتج بنية تجارية مؤسسية ( شركات كبرى قائمة على التصدير ) عوضاً عن إنتاج المحلات الصغيرة الحرفية البدائية التي تتميز بها الدول الصغيرة بأسواقها الصغيرة ، فقد نظرت بريطانيا على وجه الخصوص إلى تجارها و مستثمريها على أنهم مصدر ثرائها فشرعت قوانين تحميهم و تساهم في حماية ممتلكاتهم و تسخير اليد العاملة لهم ، فبدأت المزارع تُسَوّر و بدأ الرُعَاة المتجولون يفقدون القدرة على رعاية ماشيتهم القليلة ، و مع هذا  التسوير للمزارع و التركيز على الإنتاج الكمي الكبير من المزرعة ظهرت اليد العاملة المستأجرة بدل الإقطاعات التي تربط المزارع بالأرض مدى الحياة و تربط النبيل بتقديم الجند و الكاهن وحده الذي يقرأ و يعظ و يحاضر، وظهرت فكرة الأجارة و الملكية المتنقلة ، و ظهرت بعض الممارسات الزراعية المبتكرة التي زادت من إنتاج الأرض ( كتنويع المزروعات بدل إراحة الأرض مدة طويلة ، و فرز القمح بطريقة تساعد على زيادة الإنتاج عند زرعه ) ، و هكذا زاد الإنتاج الزراعي و معه زادت اليد العاملة، ولأن الصناعات في ذلك العصر كانت أكثر بدائية ولكنها أيضاً أكثر محورية في الإقتصاد المركنتالي ( إذ الدولة يتوجب عليها أن تصدر المصنوعات بينما تستورد المواد الخام ، و أن تحتكر صناعة السلعة الغالية بينما تحرص على وفرة المواد الخام لتضعف قيمتها ) فإن تحول الناس للمدينة و للعمل في المشاغل اليدوية و المصانع البدائية كان هو الطريق الوحيد لضمان لقمة العيش ، ولهذا فقد نمت هذه الصناعات و تمت إجادتها .
 معظم ما كانت تعتمد الحكومة البريطانية عليه في التصدير هي الملابس و الأدوات المنزلية والتحف و الزينة ، ولأن اللباس يعد صناعةً محوريةً في هذه السوق المركنتالية فإنه من المنطقي أن تظهر أول الإبداعات الصناعية في هذا المجال ، فقد ظهرت آلات الغزل التي تشكل الخيوط لصنع الملابس ، ثم ظهرت في أمريكا آلة تفرز القطن عن بذوره ، وهذه كانت أولى الأجهزة الصناعية التي ساهمت بشكل كبير في زيادة الإنتاج و تحسين الدخل و غزو الأسواق الأجنبية ، مما زاد نفوذ الدول الأنجلو ساكسونية . ولأن هذا النظام هو نظام تنافسي بين الدول قائم على الحرص على الحصول على أكبر قدر من السوق العالمية ، للتتحفقق لدولة نفوذ سياسي فإن التركيز على التصدير ظل قائماً مما ساهم في تحسين الصناعات و ابتكار الوسائل التي توفر الجهد و المال ، و هنا ظهرت الآلات البخارية و المائية لتساهم في النقل و لتحرك الآلات البدائية بدل أن يحركها الناس ، و الحقيقة أن الآلة البخارية كانت تابعة لفكرة استخدام طاقة النهر و حركة المياة ، و وجود الفحم و اكتشاف أثر الغليان على المواد ساهم في ابتكار المحرك الأول في هذه المناطق المليئة بالأنهار و استخداماتها ، و ساهم فيها إحتياج الإقتصاد لهذه المنتجات ، ثم سارت حركة الثورة الصناعية بوتيرة أكبر بعد أن أدركت بقية الدول الأوروبية مركزية العملية الصناعية في هذه اللعبة و أهمية ضمان الموارد و تكديس الذهب ، و لأن دول الغرب الأوروبي كلها تقريباً تحظى بأنهار عدة و انفتاح على البحار فقد سارت بالتوازي إلى حد كبير ، و ساهم استقلالها و تنافسها على تناقل المعرفة و تقديم العقل على العاطفة الصبيانية و أنتجت لنفسها مشاريع قومية توسعية تهدف لإعطائها غطاءً أخلاقياً و تثبيتها بقاعدة علمية محيطة و متمكنة من مكنونات الأشياء و معانيها و طرق استعمالها و الإفادة منها ، فبدأت دراسات الأحياء تتعمق ، و الكيمياء ، و الفيزياء العملية بعد أن وضع نيوتن الأسس النظرية لها ، و تبع هذا كله ثورة في المجال الصناعي جعل الآلات تصل لمرحلة متقدمة جداً . 

( كبر الأسواق و بعدها و الإعتماد على التصدير إليها هي أساس نشأة الشركات عوض عن المحلات ، و التخصص العلمي عوض عن التعلم الحرفي البدائي وكلما تمكنت دولة من الوصول لأسواق أكثر و للدخول في تنافس تجاري فإن التخصص العلمي و ظهور الشركات يتبع ) 


لم يكن سير الأحداث بهذه الطريقة مخططاً له من قبل الغرب ، ولا كان الغرب يدرك أسباب تقدمه الظاهر على سائر القوى الأجنبية التي كان يواجهها ( بدءً من نهاية القرن الثامن عشر ) ، كل ما كان يدركه أنه يجد في نفسه إبداعاً أكثر وغناً أكثر و كفاءةً أكبر زادت ثقته في نفسه مع مرور الوقت و رغبته في إتقان كل شيء و الإلمام بكل شيء  و السيطرة على كل شيء في العالم حتى تحقق للعرق الأوروبي ذلك تقريباً في أواخر القرن التاسع عشر ، فلم تعد هناك قوة تستحق الإحترام فعلاً خارج العالم الغربي ، وكلما يدور من قرار لا يصدر عن المراكز الغربية لم يكن له أثر كبير ، و لذلك فإن العالم صار متجها للتمدن بشكل يختلف عما اعتاد عليه ، فهو هذه المرة سيكون مفتوحاً على الجميع و للجميع إذ أن له أسياد يقودونه من واراء البحار ، في أوروبا الغربية ، و أمريكا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق