الجمعة، 15 يناير 2016

بين التقدم و الإستقرار



بين التقدم و الإستقرار  (١)
هل بني الإسلام على التقدم أم الإستقرار ؟ وهل الأخيرة تتعارض مع المصلحة العامة في هذا العصر ؟


الإسلام بني على شهادة التوحيد ، وهي شهادة تقتضي وحدانية الإله و لا محدودية عظمته ، فهو وحده القادر الذي تصدر عنه كل القدرات، وهو وحده العالم الذي يعد العلم لازماً لوجوده فيهب منه ما يشاء لمن يشاء ، وهو وحده الملك الذي لا يخرج شيء عن ملكه فلا يملك مالك إلا كان ملكه من ملك الله ، وهو وحده الجميل الذي لا يصدر الجمال إلا عنه فيهب منه ما يشاء لمن يشاء ، وهو المصور الذي تم في صورته و أتم تصوير كل شيء فلا تصور مخلوقاته شيئاً إلا كان فرعاً عن تصويره ، وهو وحده القوي الذي لا تكون قوةٌ في الوجود إلا فرعٌ عن قوته و تحت ظلها ، وهو وحده الحكيم الذي يهب من الحكمة ما يشاء لمن يشاء فلا تحيط بحكمته حكمة ، وهو وحده العدل الذي به تهتدي مخلوقاته للعدل فلا تدرك منها إلا ما يشاء ، وهو النور المطلق الذي يأتي منه كل نور فيَرى كل شيء ولا يُرى ، وهو الرحمة المطلقة الذي تُسْتَمد منه الرحمات ، وهو وحده العزيز الذي منه تصدر العزة فيعز من يشاء و يصرف العزة عمن يشاء فيذل ، وهو المتكبر الذي لا يليق الكبر إلا به ، وهو الخالق فلا يخلق سواه ، و الكبير فليس أكبر منه شيء ، و الباقي فلا يكون بعده شيء كما أنه لم يسبقه شيء ، وهو مصدر الأرواح و مردها ، و مبعثر الأفلاك و جامعها فمحاسبٌ كلَ نفس بما خلفته في ملكها فإما نفسٌ دانية منه أو هي قد أوبقت نفسها فأبعدها. 

الله في الإسلام كل شيء ، به تستمد الأعمال قيمتها و الحياة معناها ، و بخطابه تعرف النفوس موقعها فتبني قيمها و مواقفها ، هو الكائن المطلق (الصمد) الذي صدرت عنه كل الكائنات فما كان لا يدور حول عظمته فإن العظمة لا تصيبه ، و من كان لا يتحرى الإتصاف بصفاته فإن كمال البناء البشري لا يدانيه ، و من كان يتعالى على السجود له و استجلاب رحمته فإن الرضى و الإنتظام غريب عليه . علاقة الإنسان بربه في الإسلام حالة من السكون ، أصلها الفرار منه إليه ، و التذلل الطوعي بين يديه أملاً في النجاة من ذل الشهوة و عبادة المخلوقات (تعظيمها) ، فهي تفكر يفضي إلى قناعة ، والتجاء يفضي لاطمئنان ، هي أصل اتزان النفس البشرية و مرد أمارتها على ما دونها ، تكتسب من تعاليها بعلاقتها به تعالي النفس و عمق النظرة ، ومن اتزانها في نفسها بالإلتجاء إلى خالقها إتزان في الموقف ، و من استشرافها موقفها بين يديه و تصورها مبعث الكائنات إستشرافاً عميقاً لمرد الحوادث و عواقب الأعمال و تباين قيمتها . 

الدنيا لذلك دنية ، لا يكون في شيء منها غاية مستقلة ، وما جعل منها غاية تطلب لذاتها صار للمجتمعات في طلبها هلكة ، يقول النبي عليه الصلاة و السلام كما ورد في سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه : (( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله وما والاه ، وعالم أو متعلم )) ، يعلق ابن رجب في جامع العلوم والحكم على هذا الحديث فيقول : ( فالدنيا وكل ما فيها ملعونة، أي مبعدة عن الله؛ لأنها تشغل عنه، إلا العلم النافع الدال على الله وعلى معرفته، وطلب قربه ورضاه، وذكر الله وما والاه، مما يقرب من الله ).  وهو هذا المنطق و المنطلق الذي ينطلق منه المسلم في نظره للحياة ، إذ هي لا تساوي عند الله جناح بعضوة كما ورد في الحديث ، وكما ورد في حديث غيره إذ يقول جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالسوق والناس كَنَفَتَيْه , فمر بجدي أسكَّ ميت , فتناوله بأذنه, ثم قال : (( أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ )) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء, وما نصنع به؟ قال : (( أتحبون أنه لكم ؟ )) قالوا : والله لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك , فكيف وهو ميت ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم )) أخرجه مسلم و أبو داود .  فالسياق العام للأدلة هذه و غيرها يفيد نظرة دونية للحياة ولا يوصف بالعظمة إلا ما انشغل بجلاله أو ساعد على الإنشغال به ، ولأن هذه هي الحالة فإن أي حراك دنيوي ينقسم في الذهنية المسلمة إلى ثلاثة أقسام : ١- أعمال معنية بمعرفة الله و تعظيمه ٢- أعمال معنية بتحقيق المصالح البشرية المشروعة ٣- و أعمال هي في نطاق التعدي و التعالي على الله وخلقه.  و لأن رضا الله و الدار الآخرة مقصد المسلمين عموماً فإن الإنسان يجب أن يتنقل بين الحالتين الأوليين دون أن يصيب الحالة الثالثة ، فما استغنى به من الحالة الثانية عن الوقوع في الحالة الثالثة كان له في عمله ذلك أجر ؛ أي أن الحلال الذي يشغل به العبد نفسه عن الوقوع في الحرام يكون له به أجر ، وقس على ذلك . 

الحالة الثالثة  -حالة التعدي و الكبر- في أصلها حالة من الإنشغال باستكمال رغبات النفس ولو كان على حساب الآخرين ، فيها نكران المعروف و تعظيم الذات رغبةً في التعالي و الحصول على المركزية الإجتماعية و الذكر ، و لأن هذه غرائز طبيعية فإن مقاومتها صعبة ، و بقدر ما يكون الوقوع فيها ميسوراً فإن نجاح النفس في مدافعتها منقبة ترفع مقام العبد عند ربه ، و أما إنكار الفضل و الإمتناع عن رد المعروف و عصيان و الوالي و الكبر فإنها على قبحها كصفات مطلقة تكون أكثر قبحاً و ظلماً عندما تكون في علاقة العبد بربه . 

يقول الله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيما) سورة النساء الآية ٤٨، ويقول تعالى : ( و إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) سورة لقمان الآية ١٣ .. ويروي البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال : لما نزلت : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) [ الأنعام : 82 ] ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس بذاك ، ألا تسمع إلى قول لقمان : ( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) . و على ذلك فإن العبادة المفروضة في الإسلام قليلة و جل التشريع تحريم لتعدٍ أو نهي عن مكروه يوصل لاعتداء ، يقول الله تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (١٥١) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (١٥٢) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (١٥٣تعالى ) سورة الأنعام . 

لأجل ذلك فإن ثمن رضا الله و جنته يسير إذا ما قيست القيمة بمعايير السوق ، إذ أن جل التشريع امتناع ، ولأن الإمتناع إنتفاء لعمل فإنها في الحقيقة حالة سكون ، والسكون يفترض به أن يكون غير مجهد لكنه في حالة البشر أكثر الأمور إجهاداً ، فالنفس لا تتحمل السكون بل تتقلب بين أطماعها و مخاوفها ، تسعى ما بقيت إما في إعمار شيء أو هي تتعدى على شيء فتهدمه ، و لأن هذه هي حالة النفس البشرية فإن المجتمعات البشرية ككل تتقلب بتقلب نفوس أفرادها، فتبني و تهدم ، و تفرح و تقنط ، في تقلب سريع و شديد يجعل الإدارة صعبة و البناء هشاً ، ولذلك فإن هذه المجتمعات لا تبني إلا على حساب غيرها إذ أن أصل الرضا في نفوس أفرادها تعالٍ ، بعكس النفوس المطمئنة التي تمسي في مضاجعها راضية مرضية ، فهي تقصد الإستغناء في قوتها و تجد في نفسها القدرة على الإمتناع عن استعباد الآخرين ، لذلك فإن البناء السياسي في الإسلام بناء مستقر باستقرار أفراده إذ هو قائمٌ أساساً على الإستغناء الفردي و الإستقلال السياسي، معتمداً في ذلك على تعبيد النفس و تذليلها لله رغبة في انعتاقها عما هو دونه ، ولأجل ذلك كانت المنتجات الحضارية متباينة تبايناً كبيراً بين دولة الإسلام و غيرها ، ولأجل ذلك كان فهم المنطلقات في العقيدة الإسلامية ضرورياً لفهم النتائج . 



عن أبي يوسف عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قِـبَـله، وقيل : قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم -ثلاثا- ، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال : (( يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام )) صححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، ويُرى باطنها من ظاهرها )). فقال أبو موسى الأشعري : لمن هي يا رسول الله؟ قال : (( لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والناس نيام )) رواه أحمد و حسنه الألباني . هذه الأحاديث وما شابهها على بساطتها تؤكد أصل التشريع و تتوافق مع تسلسله التاريخي إذ كان أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقيام الليل و التطهر و الإمتناع عن كبائر الذنوب (الموبقات) و ظل هذا هو أساس الإسلام وما تلاه من أحداث و تشريعات كان تتمة لما سبق ، يقول الله تعالى : ( يا أيها المزمل ، قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القران ترتيلا ) ، ويقول : ( يا أيها المدثر قم فأنذر ، وربك فكبر ،  وثيابك فطهر ،  والرجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر )  ، فهذه الأمور هي جوهر الدين ومنطلق التشريع وما جاء بعدها جاء متمماً و مفصلاً لفروع شجرة الإسلام ، وما يتوافق مع هذا الكلام هي صيغة المبايعة التي يأخذها النبي عليه الصلاة و السلام على المسلمات اللاتي أتين يبايعنه على الإسلام ، يقول الله تعالى : ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ) سورة الممتحنة الآية ١٢ . ففي هذه الآية تأكيد لما سبق وعقد قائم أساساً على الإعتراف بحق الله وحده بالعبادة إذ لا تصح لغيره ولا تكون الأعمال معتبرة بعد ذلك إلا إذا ارتبطت بجلاله ، ثم يكمل فصول هذا العقد فيؤصل للناس حقوقهم و يمنعهم على بعضهم البعض فيحرم عليهم أموالهم و أعراضهم و أرواحهم و أنسابهم  و يؤكد للقائد فيهم حقه في أن يطاع ( وهنا القائد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فيما لا يكون في معصية الخالق ، وهذا كله جوهر العقد الإجتماعي في الإسلام و جوهر البناء السياسي و بذرة الشجرة التي لا تنبت إلا بسقيا . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق