الجمعة، 29 يناير 2016

تحليل الشخصية (٣)



تحليل الشخصية (٣)
تتفاوت الشخصيات في أنماطها حسب قدرتها على الإستقلال و التأثير 


بعد أن ذكرنا أثر النمو فإن علينا توضيح أهمية البيئة و أثرها على تمييز شخصية الإنسان . البيئة لها دور رئيسي نظراً لكون حاجات الإنسان غير متساوية في أهميتها ، ماسلوا ذكر ذلك في نظريته التي رتبت حاجات الإنسان و دوافعه حسب الأهمية ، لذلك فإن النظرية توضح كيف أن هناك مجتمعات بشرية كبيرة تظل في أسفل هرم الحاجات مقموعة ومظطرة للعمل وفق هذه الحاجات الأساسية لتتكيف مع بيئتها الصعبة أكثر من أن تستطيع أن تمثل نفسها في بيئتها و أن توضح اختلافها .. هرم ماسلو يضع حاجات الإنسان بهذا الترتيب : 

١- الحاجات الحيوية (البيولوجية) الأساسية.
( وهي حاجة الإنسان للغذاء و الهواء و الماء و إخراج الفضلات والنوم ) 
٢- الحاجة للأمن .
( وهي حاجة الإنسان لأن يشعر بأنه في مأمن من أي اعتداء جسدي ) 
٣- الحاجة للإنتماء و الحب 
( وهي الحاجة للشعور بالإنتماء لجماعة تهتم له و تحامي عنه “العصبية” )
٤- الحاجة لتحقيق المكانة و الفخر
( حاجة الإنسان لإثبات نفسه في محيطه و الحصول على إعجاب الناس )
٥- الحاجة لتحقيق الذات و تمثيلها 
( وهي حاجة الإنسان لبناء الجمال كما يراه و لتمثيل مبادئه والحاجة لأن يكون العمل ذا بعد عقدي و تاريخي أكبر من الذات و غرائزها القصيرة ) . 

النفس إلى حد بعيد تظل أسيرة الحاجات الثلاثة الأساسية عندما تكون غير مشبعة ، ذلك أن معظم الناس لا يستطيعون التفكير في القيم و المبادئ إذا كان الجوع قد بلغ منهم مبلغه (مالم تكن القيم و المبادئ قد سبقت الجوع و الخوف فصارت الصعوبات وسيلة لبلوغ شيء أعظم ) أو كانوا في خوف شديد أو حتى لم تكن لهم جماعة ينتمون إليها في مجتمع غريب ، و كلما ارتفع الإنسان في هذا الهرم إستطاع أن يتجواز بعض عتباته لتمثيل نفسه و تجاوزها . تبعاً لهذه النظرية فإن الجماعات الإثنية الصغيرة التي تشتكي من الفقر و الخوف تنحصر نفسية أفرادها في المراتب السفلى من الهرم إلى حد بعيد، و كذلك هي الدول الضعيفة مما يجعل أفرادها في أنانية أو عصبية جماعية شديدة غير قادرين على تجاوز الذات و الوصول لمرحلة أعمق فلا يتطور العلم فيها ولا الفن ولا الذوق العام في تلك المجتمعات ، أما العقيدة فإنها تكون بسيطة تعلقية منطلقة من شخصية تستشعر هشاشتها، وكذلك الطموح فإنه يعد شيءً غريباً و نذير شؤم على الجماعة ككل لا يتجرأ عليه إلا الوجهاء، أما بقية الناس فإن أمنيتهم تتمحور حول المحافظة على الأمن و الغذاء.

هذا يدفعنا أيضاً للكلام عن عقيدة المجتمع و نظرته للحياة إذ أن ذلك يؤثر على شخصية الإنسان إلى حد لا يمكن تجاهله ، فما هي النظرة السائدة لدى الناس عن الحياة ؟ وبالتالي ما هو المطلوب من الإنسان فيها ؟ وماهي القيم الصحيحة التي يجب أن يتقيد بها الإنسان ؟ وما هي الأمور الجميلة التي يجب أن يسعى الإنسان لتمثلها ؟ 

المجتمعات التي ترى أن الحياة ليس لها غاية أو أن غايتها التعالي و المفاخرة تختلف عن المجتمعات التي ترى أن الحياة وسيلة لما هو أعظم منها و أن قيمة الأشياء فيها نسبية بالمقارنة مع اليوم الآخر . المجتمعات الأولى تسعى لاستيفاء متعها فيتكالب أفرادها عليها ولا توقفهم إلا قوة قاهرة ، أما المجتمعات من الطبيعة الثانية فإنها أسهل في الإدارة طالما أن عقيدة الحاكم لا تختلف عن المحكوم و لا المحكومون يختلفون كثيراً في تلك العقيدة .. المجتمعات التي تحمل عقيدة واضحة و عميقة ينحو أفرادها للتصرف بشكل متقارب فيما تكون المجتمعات الأخرى عرضة لابتكار العقائد كل حسب شهوته و مصالحه و نظرته التاريخية التي تختلف إلى حد كبير عن نظرة الآخرين ، لذلك فإن العقلاء و المخلصين في المجتمعات التي تطغى فيها الشهوة على العقيدة معرضون بشكل أكبر للإنقسام و الصراع من المجتمعات التي تشترك في العقيدة ، ذلك أن إستنتاجاتهم العلمية و التاريخية تختلف مما يوجد الأرضية للإنقسام ، كما أن المجتمعات التي تشترك في عقيدة غير منطقية تمارس القمع على عقلائها و تهمش التفكير مما ييسر لبروز مجتمع صلب و متشابه لكنه أعمى إلى حد بعيد لا تستطيع أن تميز أفراده ، و قس على ذلك فإن المجتمعات في الظروف الصعبة كما ذكرت سابقاً تحاول الحفاظ على هويتها فيذوب فيها التمايز الفردي لمصلحة الجماعة ، إذ الضعيف لا يظهر إلا القليل من شخصيته ، كالطفل و المرأة و المسكين كل منهم بحاجة لأن يكيف نفسه مع بيئته ليأمن على نفسه و يحفظ موارده . 

الإختلاف في الجنس أيضاً مهم ، لأن الإنسان يستمد قيمته مما يضيفه ، ونظراً لأن المرأة ضعيفة في جسدها ، ضعيفة في عقلها ، قيمة في خلقتها و تعاطفها فإنها تنحوا لاستغلال هذه الميزات لتعزيز قيمتها الإجتماعية و الحفاظ على وجودها ، المرأة الصارمة و السياسية تكون لذلك صارمة و سياسية بصورة تختلف عن صرامة الرجل و منطقيته السياسية ، و كذلك فإن المرأة الأنانية تظهر أنانيتها بشكل يختلف عن أنانية الرجل ، و المرأة العاطفية تتعاطف مع الجماعات القريبة منها و التي تمثلها بطريقة مختلفة و بقرب جسدي أكبر ، لذلك فإن إتفاق الرجل و المرأة في تحليل الشخصية لا يعني اتفاق المواقف ولا سهولة التعايش إذ أن موارد الجنسين الجسدية و جوانب ضعفهما تختلف تماماً، ذلك أن الرجل في خلقته أقوى وهذه القوة تؤثر على شخصيته و قراراته ، كما أن قيمته مستمدة من قدرته على الإنفاق و شجاعته و تضحيته ( أي استعداده للهلكة ) ، و بالتالي فإن الرجال أكثر تفاوتاً في القيمة من النساء ، إذ لا شيء يحميهم ويصلح ظروفهم مالم يصلحوها هم بأنفسهم، فالرجل الضعيف يهلك والمرأة لا تهلك ، و المرأة القوية تدارى فيما الرجل القوي يحارب لتزداد قوته و يزداد نضجه - بالمقارنة مع قرينته التي تشابهه في الشخصية - أو أنه يهلك نظراً لأنه يعد خطراً أكبر منها . ولأن الصراع هو أساس التعلم ، و الخسارة هي أساس التحلم كلما احتمى طرف بطرف كانت قدراته الجسدية و النفسية و العقلية قد احتمت من النضج و العكس صحيح . لذلك فإن المرأة العاقلة التي تكثر القراءة و الإنضباط و التعلم من الآخرين في مجتمعها لا تنجز ما ينجزه الرجل الذي يشابهها في الشخصية غالباً ، لا من حيث الإنجاز الكمي ولا النوعي ، فالنساء بالعموم تتمحور قيمتهم المضافة حول إبقاء النسل و الحفاظ على الهوية و العادات الإجتماعية و التفاخر ، أما الرجال فإن بقاءهم تهديد لبقاء الآخرين أو عون لهم على من يهددهم ، لذلك هم في صراع دائم من أجل البقاء ، يبنون ليهدم غيرهم و يهدمون ما بناه غيرهم ليبنوا شيئاً أكثر قوة و أثراً. 

ختاماً فإن أفضل وسيلة لتمييز الأشخاص تمييزاً عملياً مفيداً يكون بتقسيمهم على سلم تراتبي من حيث القوة النفسية و العلقية و القدرة على الإستقلالية ، كلما كان الإنسان مدركاً لطبائع الناس و نفوسهم كانت قدرته على التعامل معهم و إدارتهم و تحريكهم أكبر .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق