الاثنين، 18 يناير 2016

حرية السوق



حرية السوق 
السوق أقدم وسيلة شرعية معروفة للإستعباد ، و الصدقة أقدم وسائل العتق

لماذا ينسب الغرب إنجازاته الحضارية إلى الرأسمالية بشكل مطلق ؟ 

عندما يتكلم الغرب عن الرأسمالية فإنه يضعها في مقابل النظام الإقطاعي و الشيوعي نظراً للتمايز الكبير في الإنتاج و الحركة الطبقية التي حققها الغرب في مقابل تلك الأنظمة ، كما أن التناسب الطردي الذي حصل بين انفتاح الأسواق في العالم الغربي و التقدم الحضاري الذي تحقق فإن العالم الغربي يربط بين هاتين الحالتين كسبب و نتيجة مطلقة دون اكتراث كبير للعوامل الجغرافية و الديموغرافية و التاريخية التي تكتسب أهمية أكبر من مجرد فتح الأسواق فهي العماد الأساسي الذي قام عليه التقدم الحضاري إذ هي مادة و الأولى نظام يتفاعل مع هذه المواد و نسبها ، لكن لأن الرأسمالية تعد مركزية في الثقافة الغربية و في بنائها الإداري فإنه يهمنا أن ننظر إليها نظرة فاحصة تختبر مستقبلها . 

كما ذكرت في مقال سابق ، أنا شخصياً أربط بين الإمبريالية و التطور على جميع الأصعدة ، إذ أراه أهم عامل يمكن تمييزه عن بية العوامل ولا يعني هذا أنه الوحيد ،  ذلك أن التوسع و الكبر مع السيطرة يوجدان المواد و الظروف الملائمة للدراسة العقلانية و الإستثمار الناجح الذي يدعم كل مشروع جديد طموح ، ومع أن الشخص قد يستذكر تجارب إمبراطوريات كثيرة سابقة لم تحقق ما حققه الغرب من تقدم بنيوي و علمي صناعي إلا أن الفارق بين الحالتين كبير ، الإمبريالية التقليدية تختلف عن الإمبريالية الغربية إذ الثانية إعتمدت المركنتالية (غزو الأسواق) كوسيلة لتحقيق نفوذها و توسيع ممتلكاتها نتيجة لكونها منعزلة جغرافياً و منفتحة على بحار العالم تسعى لإيجاد إمبراطورية مكتفية تنافس البلدان الأوروبية المجاورة (مما يعني بناء إمبراطوريات متنافسة متجاورة لا تتاجر مع بعضها البعض و تتنافس على النفوذ و السيطرة ) ، وبالتالي نشأ عن ذلك أثر مادي إيجابي ظهر بالتدريج على بنية الدول الغربية المركنتالية سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً ، ذلك أن التصنيع يعتمد على كسر ارتباط العامل بالأرض و يربطه بالأجر الذي يتفاوت بحسب ندرة اليد العاملة و مهارتها ، كما أن الغزو الإقتصادي (المركنتالية) يحتاج إلى حسن إدارة الموارد و رصد كل شيء مما يزيد الشفافية و الكفائة و يغير معيار التباين في البناء الإجتماعي إذ يصير بالتدريج إلى بناء يعتمد على الكفاءة و الإبتكار (الميروتوقراطية) أكثر من السكون و المحاصصة السوقية داخل البلد، وهذا كله مع ازدياد النفوذ في السوق و تحقق القوة السياسية يزيد من القدرة على الإستقراء و التنبؤ بالمستقبل و دراسة النظم عوض عن المجازفة مما يخلق طبقة علمية جديدة منفصلة مكملة لمصلحة البلد و لبناءه الإجتماعي و الثقافي . 

النمو الإقتصادي مع الإتساع في غزو السوق يزيد من تعداد السكان و الإتساع في الأراضي و استصلاحها مما يزيد من حجم السوق المستهدفة فتزيد الفرص الوظيفية و تزيد قدرة الناس على إنشاء مشاريع ناجحة مما يزيد من الحركة العمودية بين الطبقات وهذا كله يساعد البلد على استكشاف مواهبه الداخلية و تمكينها . 

هذا الربط المطلق بين الرأسمالية و الثورة الصناعية / العلمية هو في حقيقته ربط ساذج إذ يجهل أن الحرية المطلقة طبيعة بشرية لا تبني ، كما أن تقييدها ما كان له أن يدوم على مدى آلاف السنين لولا أن الحرية كانت تعني فوضى مطلقة و انهياراً للبناء الإجتماعي و السياسي الذي هو أساس قوة الدول و أساس منعتها .. لذلك فإن التحرر لم يكن السبب بقدر ما كان عرضاً لنشوء حالة إجتماعية و سياسية مكنت الحكومات من تخفيف نفوذها و سلطتها دون أن يوجد ذلك أثراً سلبياً على حركة الناس و مصلحتهم العامة و قوة دولتهم .

المال ليس إلا وسيلة لتناقل البضائع ، كلما كان الإنتاج كبيراً و متطوراً كانت قدرة المال على الشارء كبيرة ، وبالتالي فإن غنى صاحب المال يزيد ، الدول الغربية ( سواء في غرب أوروبا أو في أمريكا ) امتلكت أكثر الأراضي خضرة وصلاحاً للزراعة ، كما امتلكت أنهارا تسهل نقل البضائع و الإنتقال بين مقاطعاتها ، و امتلكت مناخاً مناسباً للنمو و محاربة الأمراض و انفتاحاً كبيراً على المياه الدافئة ، وهذا كله يأتي مع التنافس القومي بين القوميات التي تشكلت على شكل دول مؤسساتية مما يعني ظهور الصناعة و تحقق المصلحة العامة من فتح الأسواق ، و هذا كله على حساب بقية العالم الذي لم يمتلك ذلك الحد من الظروف الجغرافية و الديموغرافية و التاريخية المناسبة ، لذلك فإن تغير الموارد أو جغرافيا المنطقة و مناخها ، أو تغير ديموغرافيتها و عصبياتها ، سيؤدي لمراجعة النظر في الرأسملية .





سألخص هنا النقاط الأساسية التي ذكرها د. تومس بيكيتي في كتابه ( الرأسمالية في القرن الحادي و العشرين ) و التي توضح مقدار الوهم الذي يسوق له كثير من الإقتصاديين عندما يتكلمون عن أهمية الحرية المطلقة للسوق ، مع الإعتماد المحوري على الإستهلاك و تحرير الغرائز دون تعييب إجتماعي أو ردع شرعي إذ السوق يكفي للردع و الضبط في نظرهم .. الكتاب طويل لكن يمكن تلخيصه في نقطة واحدة ( وهي النقطة الأولى ) ومن هذه النقطة يمكن استخلاص النقاط الثلاث التي تليها و بذلك يصبح الإختصار في أربع نقاط : 

١- ( r > g ) .. العائد على الإستثمار أكبر من النمو 
٢- ( inequality of r ) .. تتفاوت الأسواق في معدلات العائد على الإستثمار 
٣- ( B increases when g decrease ) .. العائد على الإستثمار في مقابل الأجور يزيد عندما يتراجع النمو . 
٤- ( capital has a threshold ) .. هناك نقطة تعديها يؤدي لانفصال الربح عن الجهد لحد كبير .

وقد وضع الكاتب قاعدتين رياضيتين مهمتين تساعدان على التنبؤ بمستقبل الأسواق 
  • alpha = r * B 
  • B = s / g 

الرأسمالية لا تصحح ذاتها ولا تؤدي لانتشار رأس المال و توسع الطبقة الوسطى إلا إذا كان هناك نمو كبير على حساب دول و مجتمعات أخرى ، إنخفاض النمو أو توقفه يؤدي للطبقية وهذه هي نتيجة النقاط الأربعة المذكورة سابقاً و التي أشرحها في الأسفل: 

١- العائد على الإستثمار أكبر من معدل النمو .. عبر التاريخ ظلت العائدات على الإستثمار أكبر من معدلات النمو لدى البلاد ، ولأن معدلات النمو كانت بطيئة فإن سرعة اغتناء الناس و تمكنهم من السيطرة على حياة مواطنيهم و التحكم في الحياة السياسية كانت أظهر ، و لأن الثروة قديماً كانت كلها في الأرض فإن مالك الأرض يصبح من لحظته طبقة أخرى إذ أن قدرة الناس على شراء الأراضي ضعيفة و حاجتهم إلى منتجاتها كبيرة كما أن معدلات الدخل الناتجة عنها أكبر من معدل نمو البلد ككل فيصير بيعها حماقة في كثير من الأحيان إذ هي أكبر تأمين على الفقر و الحاجة في المستقبل و أكبر وسيلة للسيادة و السيطرة ، لذلك فإن الإقطاعية كانت نتيجة طبيعية و منطقية ، فقلة الحاجة للإبتكار مع الإتكال على الأرض تجعل القوة العسكرية مقدمة على الكفاءة المهنية و العلمية . 

٢- مجالات الإستثمار تختلف اختلافاً كبيراً في نسبة العائد على الإستثمار و في كمية اليد العاملة التي تحتاج إليها ، نظراً لهذا التباين في معدلات الربح بين المجالات وفي كمية الإستثمارات التي يجب ضخها يصير الوقت وحده كفيل بإظهار التمايز بين التجار مما يجعل بعضهم تحت رحمة الآخر و يمكن بعضهم من شراء معضم أملاك الآخرين و احتكارها أو التلاعب في قيمتها مما يوجد عصابات و تحزبات تكون على حساب شفافية السوق و ثبات النظام.

٣- عندما تقل معدلات النمو فإن القدرة على إنشاء إستثمارات جديدة ناجحة تتراجع مما يزيد من قيمة المؤسسات التجارية الناجحة ، هذا عائد لكون القدرة الشرائية ضعيفة مع تشبع السوق بالمعروض الذي استوفى إحتياجات الناس (السوق) ، هذه الحالة تؤكد الطبقية في المجتمع لتتحول بالتدريج إلى طبقية سياسية ، ومن ثم فإن البناء السياسي نفسه يصبح معرضاً للخطر إذ تتعامل الطبقات فيما بينها و كأنها دول داخل دولة (عصابات) فتحرص على مصالحها و تستعبد غيرها باسم القانون تارة و اسم الدين تارة أخرى ولا يمنع الطبقية الشديدة و الإستعباد الداخلي إلا الخوف من المخاطر  الخارجية الذي قد يساعد على الإصطفاف الوطني. 

٤- هناك حد فاصل بين الحالة الحرجة للتاجر و الحالة الآمنة ، في الحالة الأولى التاجر بحاجة لتمييز نفسه بشكل إبداعي إلى حد كبير ، ونظراً لقلة دخله و العلاقات التي يملكها و الكفاءات التي يوظفها فإن هذه الحالة تعتمد إلى حد كبير على عبقرية التاجر و مثابرته و قدرته على توفير المال ، لكنه بعد أن يمتلك ما يزيد عن مئة مليون (رقم تقريبي ) فإنه غالباً ما يكون لنفسه علاقات و يتمكن من توظيف كفاءات تغنيه عن العمل بنفسه و إجهادها ، وهذا كله عائد لكون الإنسان لا يستهلك إلا شيئاً يسيراً مما يملك فتصبح الأرباح بعد أن يتجاوز المبلغ الضروري للصرف وسيلة للنفوذ في السوق و السيطرة و شراء العلاقات السياسية .. هنا التجار الجدد تصعب عليهم المنافسة ومالم توجد أسواق جديدة تحتاج لعبقرية جديدة يتمكن من خلالها هؤلاء التجار أن ينفذوا فإن الطبقة الغنية تستطيع أن تورث أملاكها و تطرد المنافسيها لتقتل العملية الديموقراطية .

أما من ناحية القوانين الإقتصادية المذكورة فإني سأوضح القانون الثاني ثم الأول نظراً لأن الأول يعتمد على الثاني في الفهم :

١- ( B = s / g ) .. هذه القاعدة تعني التالي ( قيمة رأس المال إلى الدخل تساوي نسبة الإدخار إلى النمو ) ، نظراً لأن هناك تناسب عكسي بين نسبة الإدخار و النمو فإن النمو إذا زاد قل الإدخار وكذلك الإدخار إذا زاد قل النمو ، وفي كلا الحالتين فإن قيمة الأصول تتغير إذ تقل مع ازدياد النمو نظراً لسهولة الإستثمار و ترتفع مع زيادة الإدخار ، وهذا يعيدنا إلى ماهو مذكور سابقاً إذ أن تباطؤ معدلات النمو يقلل من نشوء استثمارات جديدة و يحمي الإستثمارات القديمة فتتصلب الطبقات الإجتماعية لتصير تلك الطبقات مع الزمن طبقات سياسية . 

٢- ( alpha = r * B ) .. هذه القاعدة تعني ( نسبة الربح إلى المدخول الكلي تساوي المدخول الكلي للإستثمار مضروباً في قيمة رأس المال إلى الدخل ) ، من هذه القاعدة نستنتج أن الهبوط النسبي لقيمة الأصول في الدول ذات النمو العالي تؤدي لقلة الربح كنسبة من مجموع العائد على الإستثمار ، و بالتالي فإن حالة النمو الكلي للبلد تؤدي لتوزيع الدخل الحاصل من الإستثمار بشكل أكبر بين المستثمر و عماله مما يؤدي لزيادة الطبقة المتوسطة و قلة التمايز في الدخل. 

يجب التنويه إلى أن B في الدول المتقدمة (قيمة أصول الدولة إلى دخلها السنوي) في الوقت الحاضر تسواي ٦-٨ سنوات من دخل الدولة ، وهذه القيمة غالباً ما تهبط وقت الحروب ، أما alpha فإنها تتراوح بين الخمس و الربع في الدول سريعة النمو و يزيد ذلك في بعض الإستثمارات وعندما يتراجع النمو ليصل إلى درجات قد تصل إلى النصف . 





يصف آدم سميث في كثابه “ثروة الأمم” ( The Wealth of Nations ) حالة الدول المتوقفة  ( The Stationary State ) وهي الدول الغنية التي توقفت عن النمو لتتغير حركتها التجارية فيتغير لذلك نظامها الإجتماعي و السياسي ، فيوضحها هو في تقطتين مهمتين ، النقطة الأولى حالة التراجع الإجتماعي التي تقل فيها الأجور .. يقول : 

(( مع أن ثروة الدولة يفترض بها أن تكون مرتفعة ، إلا أنها إن كانت في حالة توقف طويل يجب ألا نتوقع أن تكون الأجور فيها مرتفعة .. هي حالة النمو “The progressive state” التي يتقدم فيها المجتمع لاستيطان مساحات أكبر -عوض عن امتلاكه كل موارد الثروة- تجد فيها أن العمالة الفقيرة -وهي غالبية جسد الشعب- أسعد و أكثر راحة من غيرها . هذه الحالة صعبة في الدولة الساكنة “Stationary State”، و كئيبة في الدولة المتراجعة “Declining State” . الدولة التي تتقدم في واقع الأمر تكون في حالة نشوة تصيب جميع فآت المجتمع . الدولة المتوقفة باهتة ؛ أما الدولة المتراجعة إقتصادياً فهي كئيبة و حزينة )). 

النقطة الثانية و هي تركز على قدرة الوجهاء الفاسدين و المحتكرين للثروة على استغلال النظام لتحقيق مصالحهم الذاتية .. يقول : 


(( في دولة يجد فيها الأغنياء و أصحاب الثروة الضخمة درجة كبيرة من الأمان ، بالكاد يجد الفقراء و أصحاب الثروات البسيطة أي نوع من الأمان ، هم معرضون تحت مسمى العدالة للمصادرة و السلب في أي وقت من قبل السلطات الدنيا ، في هذه الدولة كمية المواد المستهلكة و المتبادلة تجارياً لا يمكن أن تكون مساوية لما يعترف به التاجر أمام السلطات . في كل ناحية منها ، قمع للفقير يرسخ احتكار الغني ، الذي يتمكن بالتدريج من تحقيق أرباح كبيرة عن طريق امتصاص كل الحركة التجارية لنفسه )) . 

يقول الله تعالى :{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }البقرة261

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق