الإسلام و الجمال
كمال شكل الشيء دليل كماله في مضمونه
الإنسان كائن ضعيف ، يتأثر بشكل الشيء أكثر من مضمونه ، يلامس خصائصه الخارجية و يميزها دون أن يستطيع تمييز مضامينه و أسس بنائه إلا إذا تخصص و سخر الوقت لدراسته.
ظل الإسلام طوال العهد المكي يحامي عن وجوده بالإلتجاء بالقوى المهيمنة في ذلك المجتمع و مخاطبة عقلاءه، ثم انتقل بعد ذلك إلى المدينة إحتماءً بها من تعدي القبائل القرشية التي وجدت أن رسالة الإسلام صارت مهددة لهيمنتها السياسية و طبقيتها الإجتماعية فقررت أن تتحد للقضاء عليها ، لكن هذاالإنتقال لم يغير الكثير في بادئ الأمر إذ ظل الإسلام يحامي عن وجوده بتلك القوة العسكرية السياسية الصغيرة التي كانت أشبه ما تكون بالعصابة المتضامنة ، لكن هذا القوة السياسية تغير نفوذها في أواخر العهد المدني لتصير قوة مسيطرة على الجزيرة العربية عموماً ، إذ قد استطاعت بهيمنتها السياسية و الأخلاقية و التنظيمية أن تهيمن على قلوب الناس فتحولهم من اللامبالاة إلى الإعجاب و الإنتظام ، و لأن الإنتظام خصلة عزيزة في بيئة مترامية الأطراف تسكنها قبائل مفككة فإن حمل الناس على ذلك كان يحتاج إلى أمرين، الأول هو مركزية السلطة التي تأتي نتيجة ازدياد المال و السلاح في يد المركز ، الثاني هو الإبهار و القوة الناعمة التي يملكها هذا الكيان السياسي الجديد .
يسر الله تعالى للجزيرة العربية ظروفاً جمعت سكانها على فرقة أصيلة تحتمها جغرافيتها القاسية ، فالله تعالى قضى بأن يخرج الماء العذب “زمزم” من ذلك الوادي الجاف حتى تجتمع القبائل المهاجرة عليه ، ثم قضى بأن يبني إبراهيم البيت بنفسه و أن يؤذن في الناس بالحج لتجتمع القلوب على تلك البقعة ، فاجتمعت الناس تؤم البيت و تلتجئ إلى ربها من خلاله ، ثم يسر لهذه المنطقة أن تكون على خط تجاري تسمح لها بأن تبني مساكنها و تعمر أسواقها فكانت رحلة الشتاء و الصيف و التي تأتي بالبضائع إلى أسواق مكة فكان ذلك سبباً أساسياً لنشوء مركز واحد في بيئة عصية على الإجتماع على مركز ، إذ أن هذه المدينة صارت أكبر مدن الجزيرة ولا ينافسها في ذلك إلا مدن اليمن ، كما أنها أرض محمية بجبالها الصعبة و صحار طويلة يسرت للحكم فيها أن يكون مستقلاً عن أي نفوذ و للعبادة و الدين أن تكون مستقلة عن أديان القوى السياسية المجاورة ، كل هذا و الإسلام بعد لم يظهر كانت البيئة قد هيئت له ، ولا أدل على ذلك من حملة أبرهة العسكرية التي أراد الفرس من خلالها القضاء على هذه الإستقلالية السياسية العربية و تحقيق المزيد من النفوذ السياسي و الهيمنة .
البيئة الصحراوية الكبيرة تقتل كل احتمالية ممكنة للبناء إذ الناس بطبيعة عيشهم رحل ، و نتيجة لترحالهم الدائم لا يستقرون ولا يبنون ليتعلموا من الصنائع ما يمايزهم و يسخرهم لبعضهم البعض ، كل هذا يعني أن القبائل العربية لا تجد في ظروفها ما ييسر لها أن تنتظم و أن تعبر عن هذا الإنتظام ببناء متناسق جميل ، وسواءً كان ذلك في بناء المساكن و الطرقات أو المزارع و مساقي المياه أو آلات الغناء و الرقص التي تعد بدائية إلى حد كبير في تلك البيئة ، كل ذلك كان يعني أن أكثر المجالات قبولاً للإبداع و التحسين هي أقلها كلفة ، وهي اللغة و إيقاعاتها ، من هذا المنطلق كان للقرآن أثراً كبيراً إذ هو متناسق في إيقاعه ، عظيم في معانية ، و منظم في أثره الإجتماعي .
الكيان السياسي الحاكم يجب أن يكون مصدراً للرزق و الأمن إلى حد كبير ، إذ أن امتلاكه للمادة يعني قدرته على الضبط و التهذيب ، كما أنه يحتاج لأن يغزو عقول أتباعه و نفوسهم حتى تستقر في أذهانهم علويته الخلقية و كفائته الإدارية (القوي الأمين) ليمكنوه من إخضاعهم و تسخيرهم لهدف يرونه يمثلهم جميعاً و يرتقي بهم عن واقع غير مرغوب .
الجمال في أصله انتظام و تناسق ، يكون في الأمور المرئية كالبناء و الخلقة البدنية ، و الأمور المسموعة كالشعر و الغناء و كل ماله إيقاع متناغم ، كما أن العلم أيضاً يفتن طلابه بقدرته على ربط الأحداث و إظهار تناسقها ، وكذلك هي حركة الجيوش و المراسم السياسية التي تدل على تناغم الناس و انسجامهم ، كل ذلك يتوافق مع ميول النفس البشرية التي تحب أن ترى بيئتها مدروسة و منظمة و معمورة ، فتكتسب لذلك حساً بالهيمنة و التعالي على سائر المخلوقات ، فتكون خليفة لربها فيها تيسر أمورها و تمنعها عن بعضها .
لأجل كل ما سبق فإن الإسلام لا ينتشر إلا إذا اقترن بمظاهر الجمال الحسي و الإنتظام العملي و النظافة نظراً لأن عموم الناس يتأثرون بالمحسوسات أكثر من العقائد و القوانين التي لا يلمس أثرها إلا بعد حين . القرآن لذلك كان له أثراً كبيراً على العرب المتقنين للبناء اللغوي و المتلذذين بإيقاعات خطابه ، إبداع القرآن في طرحه و كمال نسيجه كان حاملاً للمعاني التي يقصد إيصالها إلى الناس عموماً و العرب خصوصاً ، هذه الوسيلة كانت الوسيلة الوحيدة المطروحة في بيئة جافة متصارعة يصعب بناء شيء فيها غير البناء اللفظي ، ثم تبع ذلك الإنسجام اللفظي إنسجام عملي بالإصطفاف خلف إمام واحد و الإنطلاق تحت إمرته ثم الإنضباط الذاتي الذي أوجدته تشريعاته ، كل هذا الجمال الذي قارع الفوضى المحيطة أدى لانصياع الناس و دخولهم في هذا الدين الجديد يسعون للهيمنة من خلاله على محيطهم حتى يبنوا واقعاً جميلاً منظماً .
لذلك فإن المجتمعات المتحضرة أصعب قبولاً لدين الإسلام ، إذ أن هذه المجتمعات تمكنت من الهيمنة على محيطها و تنظيمها و بنائها دون أن تنتظم بدين السماء “الإسلام” ، مما أوجد شعوراً بالإستغناء عن تعاليمه، بل عن التعاليم الدينية عموماً إذ الإنسان ينحوا نحو التخلي كلما استشعر هيمنته وهو يتوهم غناه عن ربه كلما بنا شيئاً دون الرجوع إليه ، والعكس صحيح فإن الفوضى و الدمار والفقر و الظلم كانت عوامل رئيسة تدفع الناس لقبول هذا الدين إذ أن نتائجه الإيجابية دائماً ما كانت تغري المستضعفين وتوفر لهم المظلة و الرداء الذي يحميهم. لذلك فإن أكثر بلاد العالم إستغناءً عن هذا الدين و زهداً في تعاليمه هي أكثرها غناً من حيث الموارد و المنجزات الحضارية ، و العكس الصحيح فالمجتمعات المظلومة و المستضعفة تتشرب هذا الدين كما تتشربه الإسفنجة .
يقول الله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة و معارج عليها يظهرون ، و لبيوتهم أبواباً و سرراً عليها يتكئون ، و زخرفا و إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا و الآخرة عند ربك للمتقين ) سورة الزخرف
و يقول تعالى : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ) سورة الزخرف
ويقول تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين ، و إنه لفي زبر الأولين ، أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ، ولو نزلناه على بعض الأعجمين ، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ، كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) سورة الشعراء
هذا هو عماد الإسلام المادي ، الجمال الذي ينسجه المجتمع المسلم حول نفسه ، بدون ذلك الجمال و الإنتظام لا يطمح الناس للإنضمام لهذا الدين ولا يستشرفونه ، كما أن هذا الجمال الذي يورث تدرس (تتحلل) بالتدريج أسسه التي بني عليها ، فتتحرك المجتمعات عنها لتلتزم بمظاهر الحضارة الإسلامية دون أسسها ، ومن هذا المنطلق تخرج المذاهب التي تتعارض مع رسالة الإسلام ( كالصوفية و القديانية و القدرية و الشيعة ) ، هذه المذاهب كلها تحافظ على شكل الإسلام و إسمه ، فتتعصب لتاريخه و أجداده و أمجاده دون أن تلتزم تعاليمه ، و هذا كله ناتج عن الإستغناء المادي بما يسره الله من أرزاق في هذه الطبيعة و بالبناء السياسي الذي يمكن إتمامه بشكل مبهر دون الحاجة للعودة إلى تعاليم الإسلام .
باختصار إنتظام الشيء و تناسقه هو جماله ، و الجمال يؤدي للهمينة ، كما أن الهيمنة توجد النظام و بالتالي تصنع الجمال .. هاتين حالتين مطردتين يدعم كل واحد منهما الآخر ، لذلك فإن الجمال أصيل في الإسلام متفق مع فطرة الإنسان ، فما عافته النفوس عموماً كان بعيداً عن الدين وما استحسنته من بناء و فن لا يحمل اعتداءً على أحد ( الله أو خلقه ) فإنه من الأسس التي يبنى عليها الدين.
يقول الله تعالى : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) سورة المائدة .
وقد كانت النبي عليه الصلاة و السلام يحب الإتقان في العمل و يدعوا إلى إتيان الجمع بأحسن الثياب و يقول ( حبب إلي من دنياكم النساء و الطيب ) ، وكذلك فإنه كان يختار أجمل الصحابة ليكونوا له رسلاً ، و كان يقول : ( إن الله جميل يحب الجمال ) ، و قال : ( إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) ، و لكل ذلك منطق في السياسة فجمال الطلعة يؤثر على مستقبل الفرد و الجماعة إذ الناس تستبشر بمن هو جميل الخلقة ، نظيف الثياب ، حسن الرائحة ، رقيق الطباع و الألفاظ ، فهذه الطباع التي تحقق المصلحة المادية تقرب من الله إذ الله جميل يحبها كما تحبها المخلوقات ، وهو سبحانه يتصف بها كما يحب أن يتصف بها عباده .
ختاماً فإن السعي للجمال و التحسين المادي لا يكون على حساب العدل و الرحمة ، كما أن الجمال المفضي للفتنة (إنتهاك حرمات الله) محرم إذ أنه على استحسان النفوس له يؤدي مع الزمن إلى انهيار أعمدة الدين و أسس المجتمع القويم .
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علماً و عملاً إنه سميع مجيب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق