الجمعة، 1 يناير 2016

الهويات الإثنية





صراع الهويات الإثنية 
( المصلحة أساس العلاقات الإجتماعية ) 

الهوية الإثنية عصبية تجمع جماعة من الناس على أساسٍ ثقافي عقدي يؤدي لاجتماع عرق ما أو لا يكون للعرق مركزية كبيرة . المجتمع الذي يشترك في عقيدته ، وفي تقاليده الإجتماعية و السياسية ، وفي تاريخه و ثقافته ككل ، يكون لنفسه هوية إثنية تدمج العرق في كثير من الأحيان أو أن هذه الهوية الثقافية تكون مبنية حولها . للمثال ، الشيعة بعقيدتهم و عاداتهم الإجتماعية يكونون هوية إثنية داخل المجتمع السعودي و إن كانوا في أصلهم العرقي يرجعون إلى نفس النسب العربي الذي يرجع إليه سكان الجزيرة العربية ، وكذلك هي الهويات الوطنية في العالم العربي تشكل هويات إثنية تميز دولها و إن كانت أكثرها ترجع إلى نفس العرق و تؤمن بنفس الدين ، وكذلك هي العلاقة بين العرب و الفرس ، و العرب و الترك ، و العرب و غيرهم من الأعراق ، كلها جماعات إثنية يختلف مستوى التمايز فيما بينها و تختلف درجات الإحتكاك و التعارض .

إن فهم طريقة التفاعل بين الهويات الإثنية مهم لفهم أسباب الصراعات الحاصلة في الحاضر على الساحة السياسية و يفيد أيضاً في تصور مستقبلها ، و الحقيقة هي أن العلاقة بين الجماعات الإثنية يمكن إختزالها في قاعدة أساسية .. ( الهوية الإثنية هوية جماعية تتفاعل مع الجماعات الإثنية الأخرى على حسب وعي الجماعة بذاتها و وعيها بالجماعات الإثنية الأخرى التي تتفاعل معها و مركز المتصور لكل من الجماعتين في مقابل الآخر ) ، وهذا الوعي يؤدي لثلاث صور من التفاعل : 

١- إحترام كل جماعة إثنية لذاتها وللهوية الأخرى المتفاعلة معها مع الرغبة بعدم الإندماج و خسران الهوية الأولى لدى كل من الطرفين . 
٢- إحساس الجماعة الإثنية بعلويتها و تفوقها على الجماعة الأخرى مع الرغبة في فرض نفسها على الجماعة الأخرى و تشكيل ثقافتها ، أو الإحساس بالهزيمة و الدونية و الرغبة في الذوبان و الإندماج في الجماعة الغالبة و لبس هويتها . 
٣- إحترام كل جماعة لجوانب في ذاتها مع الإحساس بالنقص في جوانب أخرى مما يزيد الرغبة في الإندماج و التزاوج مع الجماعة الأخرى المكملة و المتشاركة في كثير من الأهداف و المصالح . 


تقسيم طرق التفاعل إلى هذه النقاط الثلاث الأساسية يسهل على الدارس حفظها و استخدامها في النظر للصراعات الواقعة في المحيط ، و بالإنطلاق من هذه النقاط سأوضح بالأمثلة كيف تتفاعل الجماعات الإثنية و كيف تلعب المصالح دوراً محورياً في دمج الجماعات و تفريقها . 

  • ( حالة التباين ) .. عندما تتلاقى أو تتجاور جماعتان ترى كل واحدة منهما في نفسها قيمة تستحق الإعجاب و الفخر ، ويكون ذلك بالتوازي مع الهوية الأخرى المتفاعلة التي هي بدورها تكون معجبة و مكتفية بنفسها ، فإن كلا الجماعتين تنجح في الوصول لحالة من التعايش طالما أن الظروف الإقتصادية لا تدفع أحدهما للتعدي على الآخر ولا تكون موازين القوة مائلة باتجاه أحد الطرفين بشكل كبير حتى ما يكون متمكناً من التعدي  .. الجماعات على هذا المنوال تكون ممتلكة لكمية من مصادر القوة و الهوية الثقافية ما يمنع كل طرف منها من التعدي والهيمنة إن سياسياً أو ثقافياً على الآخر ، و الأمثلة على هذه كثيرة كدول الإتحاد الأوروبي و الدول الوطنية في العالم العربي ، و الدولة العربي مع الدول الغير العربية المجاورة ، و في داخل المجتمع تكون موجودة على شكل جماعات إثنية تتعايش في ظل نظام الدولة المهيمن عليها وهي في حقيقة الأمر غير راغبة الذوبان في بقية الجماعات الإثنية .. إن الجماعات الإثنية في هذه الحالة تسعى للمحافظة على هويتها بالإمتناع عن التزويج و حتى زواج غالباً من خارج الجماعة ، وهي كذلك تسعى للمحافظة على قوة الجماعة بإبقاء المال داخل الجماعة ، فتسعى للتربح من الجماعات الأخرى فيما تراعي أفراد المجتمع الداخلي و تعطيهم بأقل الأثمان و توفر لهم الفرض الوظيفية و الإستثمارية ، ولذلك فإن الهويات الإثنية القوية في أي بلد كان تفتك به إقتصادياً و سياسياً و تيسر على المجتمعات التعدي .



 
  • ( حالة التعالي ) .. في هذه الحالة تكون جماعة من الجماعتين قد غلبت الجماعة الأخرى سياسياً و ثقافياً مما أدى لتعالي المكانة المادية و الذهنية لإحدى الجماعتين الإثنية ، هنا تكون للغالب مركزية مادية ( بالقوة السياسية و الإقتصادية ) و مركزية معنوية بسيادة ثقافته على ثقافة الجماعة الأخرى ، و الجماعة الغالبة هنا في حقيقة الأمر تظل حريصة على الحفاظ على نسلها و عدم اختلاط عرقها و إن كانت تتدخل في شؤون الجماعة الأخرى و تقرر لها ما يصح وما يجب أن تكون عليه ، فيما تكون الجماعة المغلوبة مادياً و معنوياً ((إن كانت غلبت عنوياً)) حريصة على الإندماج و تقمص شخصية الجماعة الغالبة ، فتتسمى بأسماء هذه الجماعة و تتكلم لغتها و تدين بدينها و تتعلم تاريخها و تتمنى لو تكون خلقتها مشابهة لخلقة الجماعة الغالبة ولو تتزاوج معها ( وإن كان ذلك في الغالب لا يتم نظراً لأن الغالب يأنف عن تزويج المغلوب ) . أمثال هذه الحالة ظاهرة في التاريخ ، كالعلاقة بين العرق الأوروبي بالأعراق غير الأوروبية في الأمريكتين (الأفارقة و الهنود الحمر ) ، و العلاقة التي ظهرت بين العرب و الأعراق الأخرى ممن تعلم العربية و دخل الإسلام و سار في الجيوش الإسلامية معترفاً بسيادة دولة الخلافة عليه . 
  • ( حالة التناغم ) .. هذه الحالة لا تحدث كثيراً بين الجماعات الإثنية ، إذ أن حصولها مرهون بتناغم المصالح و الشعور بالمخاطر المشتركة مما يؤدي لحركة جماعية مؤداها اختلاط في النسل و بروز نسل جديد بمواصفات خَلقية و خُلقية جديدة على ؤسس و مبادئ متفق عليها و هوية إثنية بارزة في مقابل هويات أخرى ، و لتوضيح هذه الحالة من الأفضل شرحها على المثال التاريخي في الإسلام وفي الغرب .. في الإسلام قامت القبائل العربية بادئ الأمر باستيطان البلاد المفتوحة و سعت للحفاظ على نسلها و تميزها بأن اختطت لنفسها مدناً جديدة بعيدةً عن بقية الأعراق ثم ما لبثت مع الوقت بعد أن دخلت بقية الأعراق في الإسلام و تعلمت اللغة العربية وهنا لقام العرب بالتزاوج مع تلك الجماعات و بالتشارك معها في الرزق و ببناء عصبية جديدة أساسها الأرض ، أسوة بمن سبقهم من هذه الأعراق ، وكذلك حصلت هذه الحالة مع الأعراق الأوروبية المهاجرة لأمريكا ، فقد قامت بتعلم اللغة الغالبة (الأنجليزية) و تقمصت مبادئ المجتمع و ثقافته و نهضت بالبلاد اقتصاديا بعد ذلك .. لكن هذه الحالة ليست حالة اختيارية، بل هي حالة ظرفية قرينة الشعور بالتكافؤ في المكانة الإجتماعية مع الشعور بالمصلحة المشتركة من التزاوج و التعاون و التعصب لبعض ، و بالتالي فإن أي ظرف سياسي تشعر فيه جماعة من الجماعات بقدرتها على الإكتفاء بذاتها أو التغلب لوحدها فإنها غالباً ما تفعل ذلك ، و كذلك فإن العدو الخارجي عندما يكون أقوى من قدرة مجموع الناس على الرد فإن هذه الجماعات الإثنية تبيع بعضها أملاً في البقاء . 


الملاحظ في كل ما سبق هو أن المصالح لها مركزية في تحديد مستقبل العلاقات الإجتماعية ، وهذا يناقض كثيراً من التصورات المسبقة لدى كثير من الناس ، و يفسر سير الأحداث و مستقبل العلاقات السياسية و الإجتماعية في كثير من الأحيان ، فالإنسان كائن ضعيف بطبعه يحتاج للتعاون البشري حتى ما يحافظ على أمنه و غذائه و نسله ، وهو كذلك طامع أناني يجهد في تعظيم موارده و تركيز مكانته ، ولذلك فإن أي علاقة لا تخدم غرضاً قيماً فإنها غالباً ما تكون علاقةً هشة ، بقاؤها مرتبط باستعداد كل طرف للتضحية ، وكلما كانت التضحية كبيرة و طويلة كان انفساخ العلاقة أسرع و أكثر حتمية ، و كما أن أساس العلاقات الإجتماعية مصلحة فإن أساس الحب ضعف و إعجاب ، و لذلك فإن الفرد أو الجماعة المتنفذة و البارزة بإمكانياتها تحظى بالحب و التقرب حتى و إن اتسمت تصرفاتها بالجفاف إلى حد بعيد ، ولعل الكثير يصف هذا التقرب بالسعي لحقيق المصلحة المجردة لكن الحقيقة هي أن المصلحة ترتبط بالعاطفة في كثير من الأحيان حتى ما يكون التمييز بينهما صعباً .. فلننظر للعلاقة الزوجية ثم العائلية لنصل بعدها للجماعات الكبيرة . الزواج في أصله عقد مبايعة يقوم فيه كلا الطرفين باستغلال ما يميز الآخر أملاً في المحافظة على النفس و استدامة النسل ، وبالتالي فإن الطرفين كلما ظهرت و قويت مميزاتهما و تعالت كان التجاذب بين الطرفين أعلى ، فالخصوبة مع الضعف و العفاف في الأنثى يغري إذ هي صفات تتميز بها هي و تضيف بها قيمة عالية إلى العلاقة لا يضيفها الرجل ، أم الرجل فإن امتلاكه للمال و العلم و الثقة و القدرة الجسدية تمكنه من توفير بيئة آمنة و مستقرة يمكنه بها أن يرغبها في قربه و الحرص على الإحتماء به ، ولو أننا تصورنا حال هذين الشخصين في حالة كان لكل منهما شيء قليل يضيفه لوجدنا أن العلاقة تكون أكثر هشاشة إذ الإرتباط هنا نفسي أكثر منه ضرورة حياتية ، و كذلك هي العلاقة بين أفراد الأسرة تزداد رسوخاً كلما كان مصدر دخل هذه الأسرة يعتمد على تكاتف أفرادها و تعاونهم ( كالزراعة مثلا” ) و كلما  تعددت مصادر الدخل و انتشرت فإن أفراد الأسرة تنحصر علاقاتهم بالمواسم و المناسبات عندما تستدعي الحاجة إجتماعهم . الجماعات الإثنية كذلك لا تندمج و تكون جماعة جديدة بلغة أو لهجة جديدة ، ولا تبني ثقافة جديدة على أرض موحدة مالم تدفعها ظروفها السياسية و الإقتصادية لذلك ، فالعرب الذين فتحوا العالم الإسلامي نجحوا في كثير من الأحيان في ترسيخ الدين و اللغة في الأراضي اللتي استوطنوها ، لكنهم و مع الزمن وجدوا لأنفسهم مصلحة من التزاوج مع المجتمعات التي تسكن هذه الـأرض ، إذ أن أفرادها ذوو قدرة على الإنتاج الصناعي و الزراعي و قد كان في خلقة نسائهم ما يرغب في ذلك ، و بالتدريج مع ذلك التزاوج تبنى عصبية جدية تنهار فيها العصبيات القديمة بشكل أكبر و بالأخص مع ظهور الصراعات السياسية التي توحد الجميع و تلغي الفروقات لتنشأ بعد ذلك ثقافة جديدة و عرق جديد يبقي ما كان نافعاً و يسائل كل ما لم تثبت منفعته . 

الجماعات الإثنية التي لا تملك الكثير لتقدمه ترسخ في أذهان الجماعات الأخرى دونيتها ، فترغب تلك الجماعات عن التزوج منها و تظل تقدم جماعتها هي في التعاملات الإقتصادية حتى ما يعود المجتمع و إن طال الزمن مجتمعاً طبقياً يسود فيه عرق و يساد عرق ، و تظل في أذهان ذلك العرق المغلوب ميل لحالتين ، حالة الأولى ثورة و نقمة يكون فيها تعليق الفشل بتلك الجماعة المسيطرة ولومها على كل شيء ، و الحالة الثانية حالة إنهزامية يسعى فيها أفراد الجماعة المغلوبة لتقليد الجماعة الغالبة و تقمص كل شيء فيها أملاً في الإندماج ، ولا تكفي الأخلاق و القيم الدينية هنا لإذابة هذه العصبيات و الجماعات الإثنية بل يظل التمايز و التعدي سيد الموقف ، ومالم تنتشر حالة المصاهرة و المشاركة الإقتصادية على نطاق ممكن فستظل تلك الدولة دولة هشهة إلى حد ما ، إذ التنوع مفيد طالما أنها كان في المسائل الطرفية أما غير ذلك فإن التمازج و الإختلاط هو أساس القوة . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق