الشرق الأوسط الكئيب
عقد إلى عقدين من الحروب و الإصطفاف
نظراً لأنه من الصعب التكهن بنتيجة الأحداث على المدى القريب إذ القرارات السياسة تلعب دوراً كبيراً فإني سأقوم بطرح الإحتمالات أكثر من أن أحدد النتيجة النهائية أخذاً بالإعتبار موازين القوة الحالية و اتجاه الموارد و العصبيات و تغير التركيبة الإقتصادية مناطق العالم.
- العالم في المطلع القرن العشرين عالم أحادي القطب تحكمه الولايات المتحده بقوة إقتصادية مركزية و عسكرية و ثقافية/ علمية .. هذه الحقيقة هي الحقيقة المركزية التي ينطلق منها المستقبل .
- النقاط الثلاثة المذكورة تتارجع فيها الولايات المتحدة و معها المجتمع الغربي ككل مما يعني انتشار القوة في العالم و ازدياد الإستقطاب .. تراجع الولايات المتحدة عائد أساساً إلى تباطؤ نموها الإقتصادي وهو نمو يعتمد عليه العالم أجمع ، هذا يعني قلة التصدير الصيني كما يعني قلة التبادل الأميريكي الأوروبي مما يؤدي لتراجع الإمدادات المالية التي تقدمها أمريكا لحلفائها و تراجع التدخل العسكري في بقية أطراف العالم . هذا التباطؤ في النمو الإقتصادي قائم أساساً على حقيقتين : ١- تباطؤ النمو عدد السكان و في المساحة الجغرافية و الموارد ٢- إنتهاء عصر الإختراعات الثورية .
- انهيار سياسة العصا و الجزرة الأمريكية و معها الناتو يعني تراجع المدخول الأمريكي إلى حد ما على حساب العالم ، وهذا يعني حاجة الدولة الأمريكية للتفكير بطريقة يتم من خلالها تدوير المال في السوق الأمريكية بدل حالة التكدس التي وصلة إليها رؤس الأموال في يد القليل من الناس ، هنا يزيد الإنقسام الداخلي كما تزيد مساحة التحرك التي تتمتع بها بقية دول العالم .
- الدول التي تملك الموارد و القادرة على بناء سوق إستهلاكية كبيرة مستقلة عن الغرب ستجذب إليها دولاً أخرى مما يعني تزايد النفوذ و ظهور مراكز أقوى إقليمية مستقلة أكثر قدرة على التفاوض و تمثيل مجتمعاتها .. لكن أكثر ما يهم و يلفت النظر في هذه الحالة هي الحروب التي ستظهر في مناطق متفرقة من العالم نتيجة لتغير خطوط الصدع ، فالمركز الأمريكي مع حلف الناتو ليس هو المركز الوحيد بل هناك الإتحاد الروسي الذي يريد أن يحافظ على الدول المحيطة به سوقاً مكملة له و منفصلة عن العالم الإسلامي في النفوذ و كذلك شرق أوروبا ، و كذلك هي الصين التي ستسعى لتحريك الإستهلاك الداخلي و جعل الدول المجاورة لها مناطق نفوذ و أسواق ، و الهند ليست بعيدة عن هذه الحالة لكنها أكثر انحصاراً في علاقتها ببكاستان و بنقلاديش ، أما الحالة التي تبرز على مستوى العالم فهي حالة الشرق الأوسط .
- قام الغرب بزراعة إسرائيل في الشرق الأوسط كوسيلة لمنع دوله من الإتحاد حتى لا تتكون قوة في تلك المنطقة الإستراتيجية مما يعني خنق الحركة التجارية للعالم و إيجاد حركة عقدية ثقافية تواجه ثقافة السوق الغربية و مركزيتها ، و كذلك فقد فعلت روسيا في أرض القوقاز و آسيا الوسطى حرصاً على أن تبقى هذه المنطاق تحت نفوذها و أن تظل سوقاً تكاملية معها .
- العقد القادم نظراً لتراجع اقتصاد و ديموغرافيا الغرب و روسيا في مقابل العالم سيكون عقداً مليءً بالدماء إذ تستشعر كثيراً من الدول و المجتمعات قدرتها على الإنعتاق و تمثيل نفسها و ثقافتها نظراً لضعف قدرة الدول الغربية على إغراء هذه المجتمعات و إقناع سياسييها، من هذا المنطلق يصح النظر للثورات العربية و الحرب في العراق و سوريا و لبنان و اليمن .. قيام قوة سياسية مستقلة في هذه المنطقة من العالم سيعني مزيداً من التراجع للقوة الغربية و الروسية مما يؤدي لمزيد من الضعف أمام بقية دول العالم ، ولأن هذه الدول لن تسمح بذلك فإنها ستستخدم قوتها العسكرية إلى أقصى حد ممكن .
- الكيانات السياسية الضامنة لعرقلة قيام هذه السوق التجارية و الثقافية العقدية المستقلة هي إيران و إسرائيل ، و نظراً لأن تعاونهما سيكون أكثر أهمية فإن انهيار صورة إيران و ازدياد اتحاد الشعوب العربية مع بعضها و مع بقية دول العالم الإسلامي أمر حتمي .. هنا قيام حرب في هذا الإقليم ممكن إذا كانت القوى العالمية تشعر بأنها تستطيع أن تحتوي هذا الصراع في المنطقة و أن خسائرها لن تتعدا مكاسبها وههذا ما تسعى دول العالم الإسلامي لنقضه .
- كلما حاولت بقية دول العالم ( وخاصة في الغرب ) أن تعزل دول الشرق الأوسط و العالم الإسلامي حتى تحتوي هذا الصراع و آثاره زادت من إعتماد دول العالم الإسلامي على بعضها البعض و بالتالي زادت قوتها و قدرتها على تحمل الصراع و زيادة آثاره العالمية ، و العكس صحيح أيضاً إذ أن المحافظة على العلاقات الإقتصادية و العسكرية سيعني جر الدول الغربية لهذا الصراع وهو مالا ترغب فيه الدول الغربية .
- طالما أن الطاقة الرخيصة (المحروقات) لم تنضب فإن الحروب العالمية خارج حساب الدول غالباً نظراً لأنها تضر أكثر مما تنفع و ترهب أكثر مما ترغب ، و بالتالي فإن الصراعات ستظل صراعات بالوكالة نيابة عن القوى العالمية التي يظل المساس بها مساس بالأمن العالمي .. و بالتالي فإن حروب الوكالة هذه ستظل بشكل أو آخر قائمة في العقد القادم لا يجرؤ كل طرف على تحويلها إلى حرب مفتوحة نظراً لوجود بقية من المصالح و لا هو قادر على إنهائها إذ الصراع متكافئ ( أرض فيها غالبية ضعيفة في مواجهة قلة مدعومة غير قادرة على النفوذ لعموم الناس )
- بعد عقد من الزمن ( أو حتى عقدين .. الله وحده العالم بسرعة الإستنزاف و الإنهيار الذي سيصيب الدول المعتدية ) يكون الشرق الأوسط مستعداً لتقبل بناء سياسي جديد معتمداً على أساسات البناء السياسي القديم (السعودية) إذ أن مجرد العلاقات الكونفيدرالية و التحالفات لا يظهر أنها يمكن أن تكون كافية على المدى البعيد ، ولكن قيام كيان سياسي مستقل فعلياً بسيادة حقيقية يعني وجود نفوذ كبير مؤثر على بقية أرجاء العالم ، و لأن هذا أمر غير مقبول وهو في النفس الوقت موقف حتمي إن أرادت الدولة حماية نفسها و استقلالها فإن الدولة مظطرة لامتلاك السلاح النووي كوسيلة للردع ، الدولة لا تحتاج لأراض بحجم روسيا أو أمريكا كما أنها لا تحتاج لأن تملك تعدادهما السكاني و حجم أسواقهما ، الدولة تقع في وسط العالم و من يحكم العالم يجب أن يحكمها ، و بالتالي فإنها إن أرادت أن تتمتع بالحرية فإنها مظطرة لإيجاد وسيلة للردع ، وهذه تكون بامتلاك سلاح قوي و سوق مستقلة في العالم الإسلامي و هوية ثقافية و عقدية مستقلة قادرة على حماية عقول عامتها من تلاعب القوى الأجنبية .
- ليست هناك صورة واضحة عن المستقبل القريب فهناك العديد من العوامل المتداخلة كما أن القوى السياسية قادرة على حرف مسار عجلة التاريخ مما يجعل التنبؤ أمر صعب ، لكن ما يمكن الجزم به أن مركز العالم يبدأ في التحرك مرة أخرى ، فهو و إن كان قد ظل لعقود متمحوراً حول أمريكا الشمالية و وصلها لشرق العالم و غربه بعلاقاتها التجارية فإن هذه الحركة التجارية تضعف بالتدريج ولا تتلاشى تماماً ، و هذا مهم لأنه يقلل من الضغط على الشرق الأوسط إلى حد ما و يسمح للقوى فيه أن تمارس شيئاً من الحركة إذ هي منطقة طرفية ، لكن ضعف مركزية أمريكا يعيد مركزية الشرق الأوسط بالتدريج .
- الدولار قائم في قيمته على ثلاثة عوامل رئيسية : ١- إرتباطه بالنفط (إلا يباع إلا بالدولار) ٢- إرتباطه بالإنتاج الأمريكي (نظراً لأن السوق الأمريكية قوية فإن عملتها قوية) ٣- إرتباطه بالقوة العسكرية الأمريكية (نظراً لأن البحرية الأمريكية تسيطر على بحار العالم فإنها قادرة على خنق أي اقتصاد) .. إنهيار قوة أمريكا لن يكون دفعة واحدة كما أن ظهور قوى أخرى في العالم لا يظهر بين يوم وليلة ، لكن ضعف قدرة الحكومة الأمريكية على الوفاء بديونها قد يدفع الدول النفطية لبيع نفطها بغير الدولار و تراجع الإقتصاد الأمريكي بشكل أكبر سيؤدي لتراجع البحرية الأمريكية بالتدريج مما يعني ظهور عالم متعدد الأقطاب فعلياً .
- ضعف النمو يؤدي لترسخ الطبقية و قلة الحركة العمودية بالنسبة للكفاءات في المجتمع مما يؤدي لزيادة الفساد و انهيار العصبية السياسية ، كل ذلك قد يقود الدولة لمحاولة خوض حروب خارجية تخرج بها من مأزقها الداخلي أو أن تنكفئ على نفسها فتتصارع مانعة ً أطرافها من الإنفصال ، المستقبل وحده كفيل بتوضيح أي الطرق تختارها القوى السياسية ، لكن ماهو واضح أن الكثير من أفكار الثورة الصناعية و التنوير ستتم مسائلتها و تمحيصها مما يفتح فرجة لأفكار أجنبية على العالم الغربي كي تتسلل من خلالها ، من هنا تصبح القوى السياسية متخوفة على مجتمعاتها من الثقافة الإسلامية و الشريعة فتتحول من الحرية الفكرية للقمع و العنصرية .
- إن الحالة الحرجة للعقدين القادمين قائمة على أساس وجود بقية وافرة من الطاقة الرخيصة مع تراجع قوة أمريكا العالمية القادرة على فرض نظام عالمي يمنع التصارع و التعدي ، إما أن تنجح القوى الصاعدة في أن تتفق مع القوى القديمة على تقاسم العالم و النفوذ أو أن يتشأ صراع حربي كبير .
- أميل لحصول الخيار الأول نظراً لحرص دول العالم على تجنب الحروب العالمية و خوفهم منها ، لكن الحقيقة التي يجب التأكيد عليها أنها لا توجد قوة مركزية في العالم لا تمتلك سلاحاً رادعاً ، و نظراً لأن الشرق الأوسط مفتوح فإن العالم في الوقت الحاضر سيسعى لتحقيق مصالحه على حساب الشرق الأوسط ، لذلك فإن على دول الشرق الأسط القوية أن تتخذ موقف المهاجم متجاهلة بعض الإتفاقيات نظراً لأن الدول الغربية و الشرقية لن تلتزم بها أساساً وهي تراها لا تصب في صالحها .
- الحقيقة المؤلمة هي أن العالم الغربي يظل قادراً على إيذاء العالم الإسلامي قبل أن يقترب منه الآخر كما أن الآخر معتمد على الأول إقتصادياً و علميا ً إلى الحد الذي يجعل معه قيام صراع حقيقي بين الطرفين أمراً مستبعداً ، إذ مالم يكن هناك اصطفاف من شكل آخر يوازن القوى فإن العالم الإسلامي سيظل مسرح لقرارات المجتمعات الغربية تقضي عليها حروبها و تضمن من خلالها مصالحها ، نظراً لأن القوى الأخرى غير راغبة في صراع عالمي فإن العالم العربي و الإسلامي مقيد إلى حد بعيد و سيظل موقفه ضعيف و إن كان يتحسن بشكل تدريجي .
- النظام العالمي هو نظام يحاول أن يضبط صراع القوى الإمبريالية بمبادئ فضفاضة لا يستطيع فرض كثير منها إذ أن الطبيعة البشرية تفرض نفسها ، فالقوى تظل ساعية للتمدد كي تضبط بيئتها و تحقق لنفسها مركزية تضمن من خلالها الخلود ، و نظراً لأن ذلك لا يكون إلا على حساب قوى أخرى فإن الحروب المصيرية تظهر عندما تتواجه قوتان متقاربتان يقع في انهزام أحدهما تغير كبير في موازين القوة مما يؤثر في بقية القوى المجاورة ، هذا هو أساس التدخل الدولي إذا تسعى الدول للحفاظ على توازنات القوى السابقة حتى تحافظ على مستويات الحرية التي تتمتع بها ، ونظراً لأن موقع الشرق الأوسط موقع إستراتيجي فإن الدول الأجنبية ستظل حريصة على بدء الصراع فيه حتى ما تقوى و تتوسع قوة خارجة منه فيكون توسعها على حساب الدول الغربية .
- التوسع يكون في الأمور التالية : 1- المال ( الذهب و الفضة خصوصاً) 2- المواد الأساسية الضرورية للإنتاج 3- الأراضي الخصبة 4- صناعة السلاح 5- التعداد السكاني 6- المواقع الجغرافية الإستراتيجية (التي تمكن الدولة من الوصول للخصم دون أن يتمكن الخصم من الوصول إليها) 7- المركزية الثقافية العقدية .. هذه العوامل تميز القوى السياسية في العالم ، ولا تعد الأرقام المجردة في عالم الإقتصاد و البهرجة الصناعية إلا بيانات مضللة إذا لم تؤخذ هذه الحقائق كلها في الحسبان ، و نظراً لأن الأمن لا يتحقق إلا بمقدار ازدياد هذه النقاط فإن الدولة يجب عليها أن تتمتع بحس إمبريالي ( سواء كانت هذه الإمبريالية فاقعة أو كانت إمبريالية مركنتالية كما تفعل الدول الغربية ) حفاظاً على أمنها و ألا تجد في نفسها حاجة للإعتذار .
- إمتلاك الذهب و الفضة و امتلاك الأراضي الزراعية و الآمنة و امتلاك المنتجات الحيوية و امتلاك المركزية الإعلامية لن يزيد إلا أهمية في المستقبل ، كل ذلك في حين تظل الحروب تطل برأسها من كل جانب وفي مثل هذه الظروف لا يهتم الناس إلا لما يجدون فيه نفع حقيقي مادي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق