الخميس، 21 يناير 2016

الجغرافيا و تاريخ الحضارات (٢)




الجغرافيا و تاريخ الحضارات (٢) 
عندما تكون الأرض جامعة للناس فإنها تيسر تسخيرهم ليبنو أثراً


الحضارة لا يمكن أن تنشأ في مجتمع بالكاد يصل لحاجته من الغذاء "السعرات الحرارية" كما هي الحالة في مجتمعات الصيد ، هذه الطريقة في العيش غير ثابتة في مدخولها ولا هي مستقرة في محيط صغير يجمع الناس بل الناس فيها محتاجون دائماً للتنقل وراء موردهم الغذائي المتنقل ، ولأنها وسيلة منهكة و تظطر الناس للتنقل فإنها لا تبني شيئاً ولا تيسر الظروف لتكوين البناء الطبقي في المجتمع ، لذلك فإن العقل و التفكير المنطقي يكون في أبسط حالاته بعكس القدرات الجسدية التي يهتم المجتمع لقوتها و تحسينها ، كذلك هي حالة الرعي لا يمكن أن تنشئ مجتمعات حضارية كبيرة قادرة على الصناعة و الكتابة نظراً لأن الرعي يظطر أصحابه لمداومة التنقل فتتكون العصبيات حول جماعات عرقية صغيرة متنقلة مع ماشيتها ، تحافظ على بقائها بمحل الماشية معها و تحافظ على أمنها بمداومة التنقل تجنباً لمواجة القوى الكبيرة ؛ و أخيراً الأراضي الشاسعة التي لا تقارب بينها أنهار يصعب حكمها من قبل جماعات لا تجد شيئاً من موارد الطاقة الرخيصة ما ييسر لها نقلاً سريعاً يحفظ وحدة البلاد و مركزية السلطة ، هذا كله يعني بالضرورة أن الدول الكبيرة ( التي هي عمود الحضارة الطبيعي ) كانت لابد أن تتمحور حول الأنهار ، و كانت هذه الأنهار تحتاج لأن تكون هادئة و طويلة (أي يمكن الإستفادة منها و السيطرة عليها )، و إن كانت محمية بعوامل جغرافية أخرى كالجبال و الصحاري فإنها تصبح في منعة أكبر و أقدر على الإستمرار كوحدة تاريخية ، مثال ذلك الهند و الصين التين بنتا حضارتيهما حول الأنهار و احتمتى بالجبال المحيطة بهما .  

التاريخ البشري و قصة الحضارة فيه عبارة عن سرد قصصي لتكاثر الناس و انتشارهم والتنوع الذي يحصل مع ذلك الإنتشار ، كلما تكاثر مجتمع من المجتمعات و انتشر تنوعت موارده و ظروفه ، وهذا يؤدي لتنوع الإقتصاد و زيادة العلم و تطور الصناعة و خلود الذكر ، و العكس بالعكس . لذلك فإنه يصح أيضاً أن نقول أن التاريخ البشري هو سرد قصصي للتكاثر البشري و الغلبة ( التغلب الإقتصادي و العسكري )، فالنظام الإقتصادي و حرية السوق في حقيقة الأمر يتبعان الأمن و هيمنة القانون إذ أن الصراعات العسكرية صراعات عصبية رافضة لشكل الطبقية الإجتماعية التي ينتجها السوق الحر ، إذ هي تسعى بقوتها لحرف نتائجه و تمييز جماعة عن أخرى ، كل مجتمع يحمل في نفسه عصبيات تتعارض مع نتائج السوق يوجد لنفسه تشريعات أو تسهيلات تسمح لعصابة ما بأن تتعدى على السوق ، وليس هناك فرق في وجود التعصب من عدمه إذ أن هذه خصلة بشرية طبيعية ، ولكن شكل العصبية و توافقها مع البناء السياسي هو الذي يحدد النتائج ، فبعض المجتمعات تشمل عصبيتُها كل أفرادها و تبنى هويتها كدولة على مجموع عصبيات الناس فتصبح بنيتهم السياسية الداخلية بنية نظامية حرة ، وتصبح عصبيات الناس حامية للسوق و نتائجه ، و العكس يرى إذ أن كثيراً من المجتمعات تكون عصبياتها مجزئة فلا تصير هناك سوق حرة يحميها المشتركون فيها ، و قس على ذلك فالسوق و كبره تابع لكبر العصبية و رسوخها و الأمن الذي توجده ضامن لحرية السوق و شفافيته. 

الحقيقة أنه على ما ذكر عن هذه الحضارات التي نشأت على ضفاف الأنهار إلا أنها ليست الوحيدة التي كانت لجغرافيتها الطول الأكبر في الحكم عليها و على مصير حركتها السياسية و الإقتصادية عبر التاريخ ، الدول الخصبة التي تحميها الجبال و تجد لنفسها إطلالة كبيرة على البحار و يجد عرقها الواحد أنه محصور بين قوى سياسية معتدية على جانبية تبني لنفسها بالتدريج سوقاً واحدة و كياناً سياسياً موحدها يساعدها على التكيف مع ظروفها ، فتنتج و تزرع و تصدر و تحارب نظراً لأن هذا هو محيطها . لا تحتاج الدول من هذا النوع لأن تمتلك أنهاراً هادئة جامعة ، إذ الأمطار تسد حاجتها من الماء و ظروفها السياسية الصعبة تجمعها ، كما أن إطلالتها على البحر و التضاريسها الجغرافية الصعبة تساعدها على استخدام البيئة المحيطة لصالحها . من أكبر الأمثلة على ذلك في الوقت الحاضر ( إيران ) ، هذه الدولة بما تحويه من أراض خصبة شاسعة و جغرافية صعبة تحميها مع انكشافها على قوى أجنبية تجد أنها تحافظ علي كيانها السياسي و تعمل كوحدة إقتصادية متماسكة ، و هذا طبعاً لم ينتج إلا بعد أن ظهر الحضارات السابقة و صارات هذه الأراضي محصورة فيما بينها ، تتميز بعرقها و ثقافتها و تمتلك من الموارد ما يمكنها من المنافسة .



 الحالة الأوروبية  كذلك مشابهة لما ذكرناه إذ هي لم تنشأ على نهر ولكنها كانت أرضاً خصبة مطلة على البحر المتوسط الذي يصلحها بأراض شاسعة و متنوعة في مواردها و شعوبها مما ييسر لها بناء أماراتها و توسيع ممتلكاتها مع الإتساع التجاري الذي كانت تبنيه وهي تغزو أسواق الشرق الأوسط و شمال أفريقيا ، لذلك فإن الحضارة الأوروبية قيض لها منذ نشأتها الأولى أن تكون حضارة مبنية في اتساعها و تقدمها على سيطرتها على البحار و غزوها للأسواق المجاورة ، هذه هي الوسيلة التي تنمو بها أوروبا وهي الوسيلة التي تستطيع بها أن توصل أفرادها بعضهم ببعض و أن تحكمهم حكماً مركزياً ، ولذلك فإن الحضارة الغربية فقدت نشاطها و قوتها و اتساع مدنها بمجرد أن فقدت السيطرة على البحر المتوسط عندما نزعت الحضارة الإسلامية منها شمال أفريقيا و أراضي الشام ، وكذلك فإن أول الأراضي الأوروبية تقدماً و اتساعاً في مطلع عصر النهضة كانت أراضيها الشمالية الغربية نظراً لتوفر الأنهار و الأراضي الخصبة السهلة و الإنكشاف الآمن على المياه الدافئة التي توصل للعالم الجديد ( أمريكا الشمالية و الجنوبية ) ، و بمجرد أن حصل ذلك حتى عادت المدن الأوروبية تتسع و عادت صناعاتها تنافس و كذلك العلم بدأ ينتشر بين الناس باطراد مع اتساع الإمبراطوريات الأوروبية و أسواقها. 



أمريكا هي الأخرى من أكثر الأمثلة وضوحا و دلالة على ما سبق ، ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية هي في حقيقتها أرض غنية جداً بالموارد ، هي أخصب أراضي العالم و فيها أكبر شبكة أنهار تصل بين تلك الأراضي الزراعية ، وهي بين ذلك و ذاك منفتحة في تجارتها على أهم محيطين ( الهادي و الأطلسي ) ، لذلك فإنها ما كان يمنعها عن التقدم إلا ندرة الماشية الصالحة للتربية و الحلرث و ندرة المحاصيل الغنية بالسكريات ( القمح و الذرة و الشعير .. ) و مع ذلك كله قلة السكان من ذوي العرق الواحد و العصبية الواحدة ، وبالتالي فإنه بمجرد أن استعمرت تلك الأرض أوروبا و جلبت معها الماشية ( الغنم و الأبقار و الخيل ) و المحاصيل الضرورية للزراعة و الصناعات المتقدمة حسب ذلك الزمن ( صناعة السفن و آلات الحرب و صناعة المساكن ) فإنها صارت لفورها موطن حضارة و أرض قوة و نفوذ ، ولو أن أمريكا كانت على خط الإستواء لا تملك من الأنهار ما يساعد على التنقل و الري ولا من السهول ما يساعد على الحكم و الإمتداد ولا من الإنكشاف على البحار ما يساعدها على التجارة مع الدول الأخرى ما بنت نفسها كقوة عالمية ولا كان لها من الشأن ماهو معروف الآن . الحضارة لا تكتسب قوتها و تعقيدها و تفوقها العلمي و الصناعي إلا بمقدار كبر أسواقها و مواردها، ولأن هذه هي الحالة بالنسبة لأمريكا و كذلك كانت بالنسبة لأوروبا الإمبريالية فإن معدل التطور يتناسب طردياً دائماً مع معدل الإتساع ، و لأن هذه هي الحقيقة فإن المنجزات الحضارية و القوة يفترض بها أن تتراجع كلما قل تراجع التكاثر و الإتساع ، إذ تقل الفرص الإستثمارية ليقل معها انتشار المال و تقل الفرص المتاحة لعقول الشابة أن تنافس بمنتجاتها و أفكارها المؤسسات القائمة .

هذا هو أثر الجغرافيا على المجتمعات البشرية ، كبير جداً إذ أن الناس بالعموم في حركتهم يدفعهم الخوف أكثر مما يدفعهم الطموح ، و تسيطر عليهم الأنانية أكثر مما يشغلهم هم الآخرين من مواطنيهم و من المجتمعات المحيطة بهم . هذه الحالة تعني أن البشر خلال تاريخهم يجدون أنفسهم في موقف المفعول أكثر من موقف الفاعل ، و بالتالي فإن التنبؤ بحركتهم يعد أكثر سهولة خاصة في العصور الفائتة التي لا يجد الناس فيها طاقة رخيصة وافرة ولا موارد كثيرة منتشرة ، هنا تكون الحركة البشرية أكثر رتابة و التحولات التاريخية أقل عدداً ، ولأجل ذلك فإن الحضارة كما ننظر إليها ( منتجات صناعية و علمية مادية و أنظمة مركبة ) هي في الحقيقة صناعة الجغرافيا و المناخ بالعموم مع معدل التكاثر و حد التكاثر الذي تسمح به تلك البيئة . 

البعد الجغرافي يتفاعل مع البعد التاريخي لينتج حركة الصراع السياسي و الإقتصادي ، هذا هو اختصار إحداثيات التفاعل ( أفقية و عمودية ) ، ذلك أن الأمم كيانات إجتماعية لها قصصها التاريخية وهي في تفاعلها البشري مع محيطها تسعى لاستكمال تلك القصة قبل أن يكمل التاريخ مسراه ، و ينتهي الصراع بغلبة جماعة ما ، و مع أن هذه النظرة تعد نظرة سطحية إلا أنها معبرة بشكل موجز عن واقع المجتمعات البشرية في هويتها و تفاعلها ، كما أن نظرية نهاية التاريخ ليست غريبة على العالم بل هي تنطلق من هذا المنطلق إذ تجد المجتمعات أن هناك نقطة قصوى يتوقف عندها السير ، لذلك هي تستجدي انتهاء التاريخ أو  الخروج بالمنافسة إلى قوى سماوية لتنهي بذلك قصتها الحضارية في تاريخ الحياة البشرية بنهاية علوية تتفوق فيها على منافسيها فيخلد ذكرها في نفسها وفي نفوس الآخرين ( كما تأمل هي ) ، هذا البعد مهم جداً إذ أن له أثراً كبيراً على الواقع السياسي ، فالمجتمعات التي تجد أن هويتها و قصتها الحضارية تتعارض مع ظروفها لا تتوقف عن مجابهة تلك الظروف و محاولة تطويعها أملاً في استكمال قصتها الحضارية .



العرق له دور مغفل يتجاهله الكثير من الكتاب و المؤرخين ، ومع أن بعضهم كتب عنه إلا أن الكتبة كانت تتراوح بين الإجحاف و الإهمال ، فهذا الدور يختلف عن الدور الذي كان يزعمه المتعصبون لأعراقهم إذ هم يرون أنهم يتفوقون بخلقة عقولهم و شخصياتهم الأصيلة في ذواتهم ، الحقيقة هي أن الخلقة الجسدية الظاهرة لها دور أكبر و تمييز أكثر أثراً بين المجتمعات البشرية من الأعضاء الداخلية، فالعقل كأي عضو من أعضاء الجسد يتكيف مع محيطه البليد أو الصعب فيقوى كما تقوى العضلات كلما وجد في بيئته ما يتحداه ويضعف مع الإهمال، لكن خلقة الجسد ( أي جمال الملامح ) و تميزه يوجد ميزة نفسية تؤثر على حركة الناس و قراراتهم مما يؤثر على نتاج التفاعلات الإجتماعية . فالخلقة كلما كانت أجمل كان حظ صاحبها في الحصول على الوظائف العالية و الفرص الإستثمارية الجيدة و المصاهرات النافعة أكثر من حظ أقرانه ممن لا يصلون إلى ما يصل إليه في كمال خلقة ، هذه الحقيقة المغفلة لها أثر تاريخي كبير لا يمكن إغفاله ، فالخلقة و إن كانت لا تبني قصراً أو تبدع صنعة أو تحرث أرضاً إلا أنها تؤثر بشكل كبير على نفسيات أصحابها ، فالجمال يعبد لصاحبه الكثير من ظروف الحياة ، كما أن سعيه لتكييف الطبيعة يزيد إذ هو يجدها مطواعة في يديه فتكون ثقته بنفسه أكبر و طموحه أبعد و نظرته للجمال و انتقاؤه أعمق ، الجميل ببساطة يقدر قيمة الجمال أكثر من غيره إذ يعايش أثره و يحرص على المحافظة عليه و بناء الواقع الذي يتوافق معه . هذا الكلام كله ينطبق أيضاً على الطبيعة و المناخ إذ أن جمالها يدفع أصحابها لاستكمال بنائها الطبيعي و تحسين مرافقها و تنظيم مجتمعها ،  الجمال ببساطة تناسق و تمام في الخلقة ، ولأن التمام يوحي بالإنتظام و الهيمنة فإنه يغري بالتحسين و طلب الكمال ، ومن هذا المنطلق فإن للخلقة و البيئة أثراً كبيراً على نفسيات أصحابها و طرق تعاملهم مع واقعهم .

في الختام .. الحضارة المادية هي في الحقيقة نتاج التكاثر ، و التكاثر لا يتم إلا إذا وجدت الضروف الجغرافية التي تساعد على توفير حاجات الكثرة و ربطهم و ضبطهم في نفس الوقت ، كما أن تمام ذلك كله مرهون إلى حد ما بتمام الخلقة و الطبيعة و الصورة الذهنية . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق