تحليل الشخصية (٢)
تتفاوت الشخصيات في أنماطها حسب قدرتها على الإستقلال و التأثير
عوض عن التركيز على النشاطات الذهنية التي يحب الدماغ أن يشغل نفسه بها أرى أنه من الأفضل النظر إلى المحاور باعتبارها أفرع لشخصية كل إنسان ، و شكل ميله في ذلك الفرع (الوظيفة) يوضح مقدار قوته (إستقلاله) في ذلك الفرع ، لذلك فإن الوظائف عبارة عن سلم تراتبي أعلاه كمال القوة النفسية و أدناه ضعف ، و عموم الناس يتمايزون في هذه السلالم و يقعون في المنتصف .
الأفرع كاملة برأيي هي كالآتي :
١- الحاجة للعلاقات الإجتماعية للإستمتاع و التلقي في مقابل القدرة على الإنعزال و التأمل.
٢- حالة الوقوف عند ظواهر الأحداث الصغيرة و ربط أطرافها في مقابل الوقوف عند الأحداث الكبيرة و اكتشاف الأنظمة و العوامل المؤثرة زمانياً و مكانياً.
٣- حالة الإهتمام بتشكيل المجتمع الصغير و المحيط في مقابل الإهتمام بالمجتمع الكبير و تشكيله.
٤- مركزية الذات في البيئة المحيطة حيث يهدف الإنسان للهيمنة و البناء المتكامل في مقابل مركزية البيئة التي تجعل الشخص متفاعلاً أكثر منه فاعل.
٥- هذه وظيفة أخلاقية أساسها التجرد من حظوظ النفس في مقابل الحرص على مركزية الهوية .
أنا هنا لا أهتم بترتيب المحاور بقدر ما أهتم بتصنيف الناس على سلم عمودي من حيث القدرة على الإستقلال و الإدراك و التأثير و الإتقان ، هذه الطريقة برأيي تفيد أكثر في الحياة اليومية و تساعد الإنسان على التكيف مع بيئته الإجتماعية و تفهم منطلقات الناس العاطفية .
الداخلية و الخارجية و التعمق فيها يؤدي لتعقيد النظر إلى حد بعيد ، في الحقيقة إن طريقة التلقي و درجة التلقي للبيانات مع طريقة العمل و درجة العمل هما الأساسان لاختلاف كل الشخصيات ، و محاولة الغوص بعمق يؤدي للتنظير و تضيع الفائدة العملية للتحليل.
مما سبق نستنتج أن أقوى الشخصيات هي : الشخصية التي لا تحتاج لكثير من تفاعل الإجتماعي سواءً للتلقي أو لإرضاء النفس فتتلقى الإشارات من المحيط و تربط وتكون موقف سريع ثم تعود للعيش مع نفسها ، كما أنها الشخصية التي تستطيع إبصار أثر الأحداث و معاني التفاعلات بشكل أكبر فلا تتعلق بالتفاصيل ، كما أنها شخصية معنية بالعمل و تحقيق الأثر السياسي الكبير أكثر من التعلق بالآثار الإجتماعية الصغيرة ، وهي أخيراً شخصية تتحلى بقدر أكبر من الشجاعة إذ هي معنية بتشكيل واقعها و إبقاء أثرها على المحيط أكثر من أن تتعايش مع ذلك بسلبية .. هذا كله بالإضافة لمحور أساسي برأيي أنه أغفل أو تصور مصمموا الإختبار أنه يندرج تحت محاوره وهو محور التجرد ، وهذا المحور قد يختلط بالمحور الثالث ( إذ يسمى العقلانية في مقابل العاطفية ) ، و الحقيقة أن الأشخاص المعنيين بالأثر السياسي الكبير تكون نقاشاتهم و مواقفهم عقلانية إلى حد بعيد ، لكنهم لا يتجردون للحق عندما تتعرض الهوية السياسية التي يتعصبون لها للخدش أو التهميش ، هنا يتميز أصحاب هذا المحور بقدرة أكبر على تحمل الحقيقة و التجرد لها من التعصب و القبول باللامركزية ، و هذه الحالة برأيي تعبر عن نفسها بخصلة الطمأنينة .
وفي المقابل فإن أضعف الشخصيات هي أكثرها إعتماداً على الآخرين ، فهي : تحتاج لعلاقات إجتماعية قوية حتى تستقي المعلوماتها و ترضى عن نفسها بهذه العملية الإجتماعية التبادلية التي يقوم كل طرف فيها بإثراء الآخر بمعلومات يتفقون على أنها تهمهم و بإطراء يبقي في النفس إحساساً بالمركزية و الأهمية ، وهي شخصية تتوقف كثيراً عند مظاهر الأشياء دون أن تتمكن من الغوص كثيراً لفهم معانيها و آثارها إلا عندما تجتمع لديها كمية كمية كافية من المعلومات، وهي أيضاً شخصية لا تشغل نفسها كثيراً بالآثار السياسية ولا عواقب القرارات على المجتمع الكبير بل هي تحرص على المجتمع المحيط بها أن تبقى العلاقات فيه جيدة ، و هي أيضاً غير حريصة على ضبط البيئة التي تعايشها و تشكل نسقها أو الإعتراض على ما يختلف مع ما تراه صحيحاً في كثير من الأحيان ، لا ترا أنها معيار يحكم على الأشياء كما أنها لا ترا أنها تستطيع تغيير البيئة ، و أخيراً هي شخصية غير متجردة تحب ذاتها و الهويات التي تمثلها وهي قادرة على التعايش مع الظلم طالما أن مركزيتها محفوظة أو أنها لم تظلم هي .
الناس في الغالب يقعون في المنتصف بين هذين القطبين ، ففي الحالة الأولى تكون الشخصية قد وصلت إلى حد بعيد من الكمال البشري ، يقول النبي عليه الصلاة و السلام في الصحيحين : ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع ) ، فهذا برأيي يتوافق مع هذه النظرة إذ أن الخصال لا تتساوا في قيمتها ولا الشخصيات متماثلة فيما تضيفه ، وفي الحالة الثانية فإن الشخصية تكون ضعيفة في قدراتها و مواقفها كما أنها جشعة ولا أخلاقية .
هذه النظرة أكثر واقعية و عملية إذ هي تتوافق مع ما يؤكده الله تعالى في القرآن وما تؤكده السنة النبوية وما هو مشاهد من تفاوت بشري في القدرات العقلية و النفسية ، قال النبي عليه الصلاة والسلام للأشج عبدالقيس : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله و رسوله : الحلم ، و الأناة ) “رواه مسلم” ، ومع أن مختلف المجتمعات البشرية تحوي من العقلاء و القادة ما يكفي لإعمار البلاد و إثرائها في حال أطيعوا ، إلا أنهم كثيراً ما يضلون أقوامهم نتيجة لعدم تجردهم للحقيقة و عصبيتهم لجماعتهم و تاريخهم ، فيزينون لهم أعمالهم و يضلون ضعفائهم و سفهائهم كما يقول الله تعالى : ( قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) .
تتمة لما سبق يجب التنويه على عدة نقاط تؤثر على شخصية الإنسان ، وهي عوامل زمانية و مكانية تؤثر على شخصية الإنسان وإن كانت لا تصدر عنه مبدأياً لأنها في أصلها تفاعل مع الظروف .
- العوامل الزمانية المؤثرة هي : ١ - صغر العمر الذي لا تكون فيه الأعضاء قد أتمت نموها ( الدماغ خصوصاً ) . ٢- قلة الخبرة التي تجعل الفرد يتصرف أحياناً بما لا يتوافق مع طبيعته نظراً لمحدودية التجربة فيتأثر بنصائح الآخرين و طريقة تعاملهم مع الأحداث.
- العوامل المكانية المؤثرة : ١- حالة الفقر و الخطر لدى الإثنية الضعيفة في مجتمع أو الدولة الصغيرة المهددة. . ٢- العقيدة العامة لدى المجتمع ( كيف وجد العالم ؟ ، كيف هو على حقيقته ؟، ماذا سيؤول إليه ؟ ، وما هو المطلوب منك ؟ ) ٣- المنجزات التاريخية للعائلة أو المجتمع ككل ، هذا الأمر يوجد توقعات مسبقة إما سلبية أو إيجابية.
- عامل الخلقة : ١- ظروف الأنثى من حيث الخلقة تختلف عن الذكر . ٢- قبح الخلقة له أثر نفسي و مادي على حياة الإنسان مما يؤثر على قراراته و تصرفاته .
أنماط الشخصية ( أو جوانب قوتها ) لا يمكن تحديدها بقوة مالم يكبر الإنسان و يجد الفرصة ليتصرف على طبيعته دون أن يفرض الواقع عليه نفسه ، لذلك فإن الأغنياء و الوجهاء تظهر شخصياتهم الحقيقية بشكل أكثر وضوحاً فيما يكون الفقراء و المستضغفون و الأطفال تحت هيمنة المجتمع و سلطة الأقوياء ، ولا يعني ذلك أن هؤلاء الضعفاء مقموعون بالضرورة فأحياناً كثيرة يكون الضبط هو الوسيلة الوحيدة لضمان مصلحة المجتمع ولا يتم ذلك إلا بكبت طموحات الضعفاء المعتدية و الناقمة .
الأطفال و المراهقون تنطبق عليهم هذه الحقيقة ولذلك فإنه من المنطقي دراسة النمو و أثر البيئة ، نظرية بياجيه تفيد في ذلك إذ قام بشرح مراحل نمو الطفل و تقسيمها كما قام بتوضيح عملية التعلم لدى الطفل وهو ينتقل في إدراكه للواقع من حوله من مرحلة لمرحلة أخرى ، ذكر نظرية بياجيه لذلك يساعد على فهم الإنسان بشكل أكبر و فهم تفاوت الأفراد و أثر الزمان و التجربة عليهم .
بياجي قسم نمو الإدراك إلى عدة مراحل تبعاً للعجز الذي لاحظه في كل مرحلة ، و مع أن هذه النظرية و التقسيم معني بالنمو إلا أنه يعطي نظرة عميقة لفهم عملية التعلم ( هل هي خارجية أم داخلية ؟ وكيف تكون نظرة الإنسان للحياة و طريقة تفاعله معها عندما تكون قدرته على التعلم أقل و إدراكه أضعف ) .. مراحل الإدراك حسب بياجي هي كالتالي :
١- المرحلة الحسية ( ٠ - سنتين ) :
* في هذه المحرلة يتعرف الطفل على المحيط من حوله حسياً باختبار لون الأجسام و شكلها و ملمسها و رائحتها و طريقة تفاعلها( أي أنه يتعرف على المادة و الإنسان ).
- ثم يتعلم الطفل بالتدريج بعد سنة من العمر أن الأجسام لمجرد أنها غير مرئية لا يعني أنه انتفى وجودها فعلياً ( أي أن هناك موجودات لا يراها ).
- يلي ذلك تعلم تمثيل الأجسام و الأحداث بالحركات بعد أن يكون قد استذكرها ليطلبها فيما بعد و يعرف مكانها.
٢- المرحلة ماقبل العملية ( ٢ - ٧ سنوات ) :
- يتعلم في بداية هذه المرحلة تمثيل الأجسام و الأحداث بالكلام فيكون سريع التعلم للألفاظ في هذا الوقت .
- ثم يتعلم بالتدريج التخلي عن مركزيته المكانية لينظر بالتدريج للعالم من مواقع الآخرين ( المنطق المكاني أو الفضائي )
- ثم يتعلم مبدأ المحافظة .. الأجسام لا تتغير كتلتها ولا عددها لمجرد أنها غيرت أشكالها و أحجامها .
٣- المرحلة العملية الصلبة :
بعد أن اختبر الطفل كمية كبيرة من الأجسام بآثارها و تفاعلاتها و بعد أن جمع كمية كبيرة من الكلمات و العبارات التي تمثلها و استطاع أن يصنف هذه الأجسام و الآثار و الأشخاص حسب خصائصها المتشابهة و آثارها إذ هو قد تعلم في المرحلة السابقة مبدأ المحافظة و المنطقية الفضائية ( التي يستطيع من خلالها أن يرا الشيء من أكثر من زاوية ) صار الطفل قادراً على التفاعل مع الحياة بإيجابية و الإعتماد على نفسه ، لكن نقطة ضعفه التي تحده هي عدم قدرته على التفكير المجرد و التنظير ( أي أنه لا يستطيع أن يعزل تجربته الشخصية ليبني واقعاً خيالياً يختبر من خلاله قوانين الطبيعة فيصل إلى إستنتاجات علمية مفيدة )
٤- المرحلة العملية :
هذه المرحلة و التي تكون عند البلوغ هي المرحلة التي يتعلم فيها الإنسان التجريد و التفكير المنطقي البحت عن طريق التمثيل و التخيل و العزل و التلاعب الذهني ، لينظر للموضوع من أكثر من زاوية و ليخضع هذا الموضوع لكل الإختبارات التصورية كما كان قد تعلم النظر للأجسام من أكثر من زاوية فإنه الآن يتعلم النظر للفكرة و التفاعلات من أكثر من زاوية .
هذه القدرة على تخيل الأجسام بأبعادها الثلاثية ( لا مركزية الجسد و الصورة ) و القدرة على اختبار الأشياء و آثارها ذهنياً بعزلها و مقارنتها و تصور كل الإحتمالات للوصول للقواعد و القوانين ، كل ذلك عندما أتى بالتدريج مع نمو الطفل دل على أن هذه القدرات ( الإستنباط و الإستقلال و التفاعل مع المجتمع الكبير ) قدرات علوية تميز الأشخاص و ترفعهم فوق بعضهم البعض عوضاً عن التمايز الأفقي الذي يذكره اختبار MBTI ، ولكن لأن الطفولة تقتضي عدم الكمال فإن وضوح الشخصية لا يتم إلا بعد الكبر ، كما أن قلة التجربة و الإنكشاف على المحيط يتناسب طردياً مع قلة العلم و التفكير المنطقي و الخيال أيضاً ، لذلك فإن عملية التعلم عملية تفاعلية للمحيط الخارجي فيها دور كبير.
الحقيقية أن العلم هو معرفة الأشياء كما هي واقعياً ، إدراك أبعادها و طريقة تفاعلها و مآلاتها ، و نظراً لأن الإستدلال و الإختبار العملي ضروري في هذه العملية فإن الحفظ يصبح مهماً ( أي أن الحفظ لا يكون في الغالب لمجرد الحفظ و إنما لمقارعة التجارب السابقة و تدوينها و متابعة نتائج التدخل لاحقاً ) . الإنسان منذ طفولته يملك القدرة على تصنيف الأشياء حسب خصائصها المادية ، ثم يبدأ في رسم صورة عن طريقة تفاعل هذه الأشياء مع بعضها ، فعندما تتعارض تجربته مع تصور مسبق فإنه يسائل أنماط التفاعل التي بناها سابقاً ليعيد بناء أنماط أكثر صحة و توافقاً مع الواقع ، و عندما يرى أجساماً أكثر جدة و تنوعاً فإنه يدخلها في ذلك التصنيف المسبق أو يضيف صنفاً جديداً ، المهم في هذه العملية هو الإطلاع على المحيط و فهم القوانين حتى ما يصير الإنسان مهيمناً على واقعه و مطمئناً لمستقبله .
لذلك فإن العلم لا يخرج من الإنسان بل هو نتاج عملية تفاعلية يسعى من خلالها الإنسان لأن يتموضع موضعاً صحيحاً يحقق من خلاله أمناً و مصلحة و مكانة مرغوبة ، أو هو يسعى لاكتساب هذه المعلومات ليغير ما يكره و يبني بيئة محيطة تستمد نظمها و قوانينها مما يراه هو صحيحاً و نافعاً ، و نظراً لأن التركيبة الدماغية عند البشر أكثر تعقيداً فإن القدرة لديهم على تصنيف الأشياء و فهم الأنماط (السنن) و البناء على ذلك تصورات واقعية واسعة للمحيط القريب و البعيد و تصورات للمستقبل و الماضي و حمل المجتمعات الكبيرة للتموضع تموضعاً مناسباً في هذه الإحداثات الواسعة جداً مكانياً و زمانياً تميزهم عن غيرهم من الكائنات وتدل على أن العقل تدريجي في بنيته من الضعف ( في قدرته على إدراك الواقع القريب و البعيد ) إلى القوة ( في قدرته على إدراك ذلك الواقع بكل أبعاده و فهم الصورة الكبيرة ) و أن هذا التدرج يعود للخلقة البشرية و لدرجة نمو هذه الخلقة و درجة تفاعلها مع المحيط .
الكلام السابق لا يتعارض مع كون الإنسان يملك مبادئ أصيلة هي في أصل خلقته ، يراعيها في تعامله مع المحيط و يحترمها مهما كان مصدرها ، هذه المبادئ الأساسية برأيي هي العدل و التعاطف .. العدل مهما اختلف على تعريفه الناس فإنه في أصله اتفاق فطري بين المخلوقات على سيادة القانون وانطباقه على الجميع ، و القانون هنا يقصد به أن تؤجر كل نفس حسب جهده و إضافتها دون تمييز بين من قدم هذه الإضافة ، أما التعاطف فهو ما يناقض الأنانية الشديدة التي لا تلتفت لمعاناة الآخرين، و بهذه المبادئ الأصيلة تتفاعل المخلوقات مع المحيط فتستحسن أشياء متشابهة حتى تتعلم ألا تستحسنها و تشمئز من أشياء متشابهة حتى تتعلم ألا تتشاءم منها تبعاً للبيئة التي نشأت فيها ، أو هي تعترض على نصيبها فتتعدى لتحرف النتائج الطبيعية التي كانت المخلوقات غيرها لتحققها (المكتسبات من عمل الأفراد) و مع هذا الإنحراف و التعدي تتعلم المخلوقات الأخرى التعدي أو هو يصعب عليها ألا ترد التعدي حتى ينتج مجتمع يحرف كله السنن الطبيعية باتفاق . مما سبق نستنتج أن هذا محور أساسي في تمييز الناس و أن سعيهم للتجرد للحق و قبول الهامشية الفردية في مقابل مركزية الجماعة يمايز بين الناس و يفاضل بعضهم على بعض .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق