الجمعة، 15 يناير 2016

بين التقدم و الإستقرار (٢)



بين التقدم و الإستقرار  (٢)
هل بني الإسلام على التقدم أم الإستقرار ؟ وهل الأخيرة تتعارض مع المصلحة العامة في هذا العصر ؟ 



ليس في كل ما ذكر تعارض مع المصلحة الإقتصادية و السياسية ، و مع أن غالبية الناس في المجتمعات الإسلامية قد بنت منطلقاً غير هذا المنطلق أخذاً بالتجربة الغربية إلا أن التجربة الغربية نفسها قد أسيئ فهمها و تمثيلها ،  فالمجتمعات الغربية وإن كانت لم تبني دولها و تحقق منجزاتها الحضارية على أساس السكينة في علاقة العبد بربه ثم خلقه ، إلا أنها أيضاً لم تبن بنيانها على أساس التقدم ، ذلك أن المجتمعات لا تنمو لمجرد النمو ، ولا تحارب لمجرد الحرب ، إذ أن ذلك هدر والهدر لا يتوافق مع المصلحة العامة ولا يرتبط بالقوة السياسية أبداً ، المجتمعات الغربية أقامت كياناتها السياسية على أساس السيطرة و التعالي ، وهي غريزة طبيعة غير معقدة تتشكل مادياً على حسب الظروف التي تمر بها المجتمعات ، فالمجتمع الأوروبية الذي نما عدد سكانه نسبياً بالمقارنة مع بقية العالم و وجد في بيئته ما يساعد على استقلاليته و استغنائه بدأ في النظر لما يقع وراء حدوده  ، ولكن اختلاف الظروف بين شرق القارة الأوروبية و غربها أدى لظهور نتائج بنيوية و اقتصادية مختلفة كل الإختلاف فيما بينها ، فالشرق كان دائماً يجد مساحات شاسعة من الأرض صالحة للإستعمار و الإستنزاف فيما كانت المساحة الجغرافية محدودة غرب أوروبا مما اظطر الدول الغربية لاستخدام التجارة كوسيلة للإستعمار (المركنتالية) ، ولأن الحالة الأولى تقتضي النفوذ العسكري الطبقي و انتشار العرق الأوروبي و الإستنزاف الإقتصادي التقليدي فإن البنية السياسية ظلت بنية شمولية بيروقراطية تقليدية ، في حان كانت حالة دول الغرب الأوروبي صعبة تظطر مجتمعاتها لغزو بقية العالم بمنتجاتها أملاً في تحقيق فائض مالي و مادي يساعد على السيطرة و تحقيق النفوذ ، و مع أن الهدف السياسي ظل متشابهاً في هاتين الحالتين إلا أن الإنجازات العلمية و البنية الإقتصادية و السياسية تغيرت تغيراً كبيراً نظراً لاظطرارها للتكيف مع ظروفها الصعبة التي يتوجب عليها تذليلها إذا ما أرادت تلك المجتمعات إستعمار الأراضي و تحقيق سيطرة سياسية . 

التقدم كمفهوم نشأ مؤخراً بعد ذلك عندما صار العالم متبايناً تبايناً شديداً في بنية دوله السياسية و تطورها الصناعي و درجة رفاهية مجتمعاتها، إذ صارت الرفاهية و المفاخرة مطلباً لدى عموم الناس أكثر منها نتيجة حاصلة، و بهذا البريق صارت الدول الغربية المتفاخرة تدعو سائر دول العالم لتقليدها تقليد الأعمى مضللة تلك الشعوب و متجاهلة أصل بناءها لتمنع منافسيها من تحقيق أي استقلالية حقيقية تنتهي بغلبتها السياسية و الحضارية . الحقيقة التي تتجاهلها تلك المجتمعات أو أنها تجهلها أن هوس الإستهلاك لم يكن أساساً في تفوقها و سيطرتها كما أنه لن يكون أساساً لتفوق المجتمعات الأخرى و هيمنتها ، زيادة الإستهلاك هدف يسوق له التجار و السياسيون ليحققوا الربح في مشاريعهم التجارية حتى يمنعوا انهيار مؤسساتهم و حتى لا تعجز الدولة و شركاتها الكبيرة عن سداد ديونها فتخسر الطبقة العليا مكانتها الإجتماعية و السياسية لحساب الطبقات الدنيا و ينهار البناء السياسي في مقابل القوى الأجنبية، و بالطبع فإن الحكومة تكسب من ازدياد العمليات التجارية إذ يتحقق لها عائد أكبر نتيجة الضرائب المفروضة على حركة المال فيزيد نفوذها و تزيد مساحة التحرك المتاحة . 

الزهد و الإقتصاد في النفقة لا يتعارضان مع المصلحة العامة ولا يقللان من القوة السياسية و النفوذ للدولة ، بل العكس ، المجتمعات التي لا تصرف أكثر مما تملك و ترضى بما تملك و تحرص على من لا يملك تحقق إستقراراً إجتماعياً و مناعة داخلية تجهد أعدائها الذين يسعون في إيجاد ثغرات تحقق لهم مكاسب سياسية بغزو تجاري أو عسكري ، ولذلك فإن الإستقرار الإجتماعي لا النمو الإقتصادي مطلب أساسي و غاية يجهلها الكثير من الدارسين لعلم الإجتماع و فروعه ( الإقتصاد و السياسة ) نظراً لكونه قد استقر في الأذهان أن المجتمعات الغربية قد حققت ما حققت بسعيها “للتقدم و التعلم” ، و أنها لم تحقق تلك القفزات العلمية و التقنية و التنظيمية إلا بتعاليها على غرائزها، وهذا كله خطأ و جهل ، فكما أني وضحت بأن التقدم لم يكن غاية بل نتيجة حاصلة لحرص المجتمعات الغربية على السيطرة و الإستعمار و تخليد نفسها و ثقافتها مع وجود ظروف صعبة إظطرت تلك المجتمعات لتكيف نفسها و عصبياتها و ثقافتها لتناسب السوق و تستقرئ الطبيعة ، و كما أن التقدم بالعموم لم يكن إلا نتيجة فإن العلم و البحث العلمي كان نتيجة أيضاً لهذه الظروف ، و إن كان الفضول و السعي لفهم العالم الغيبي بعد إستشعار السيطرة على العالم الحسي دافع مهم ساهم في تحقيق قفزات علمية كبيرة و مهمة ، إلا أن هذا الدافع يتشارك مع الحالة الأولى و إن كان بشكل أعمق ، ولا أدل على ذلك من كلام أيشتاين نفسه : ( أسعى لفهم كيف يفكر الله ) .. هذه الحالة النفسية التي وصلت إليها المجتمعات الغربية إذ ترى في نفسها القدرة على السيطرة على كل شيء و استقراءه لدرجة أن الله جل جلاله صار نظاماً ثابتاً يمكن استقرائه و التعامل معه ومع الظروف الناتجة عنه لتحقيق المصلحة السياسية و الخلود الحضاري هي التي أوجدت الثقة الكبيرة لتحقيق قفزات علمية كبيرة ، ولكن هذه الثقة نفسها هي التي ستؤدي بها إلى الإنهيار في يوم من الأيام نتيجة للشك المسيطر و التنافر الكبير في أفكار الناس و قيمهم . 

المقايضة (السوق الحرة) حالة طبيعية تمثل النفس البشرية إذ يستخدمها الناس كوسيلة لتحقيق مصالحهم الذاتية و مصالح من يعولون و يتعصبون له في مقابل الآخرين ، و السوق نظراً لحريته و رقميته فإنه يعد وسيلةً جيدةً لتقييم مجهود الناس و ممتلكاتهم و حاجة المجتمعات للمنتجاتهم المفرزة ، و بالتالي فإن السوق آلةٌ جيدةٌ تمنع الهدر و تعاقب على الكسل ، لكنها في نفس الوقت حالةٌ فاقعةٌ من الأنانية و وسيلةٌ شرعيةٌ لتحقيق التعالي و الإستعباد ، ولذلك فإن الذي يراهن على السوق كوسيلة لتحقيق التقدم و الهيمنة السياسية إنما يراهن على الفرد المكون لذلك المجتمع ، فإن كان ذلك الفرد يتعصب لمجتمعه و ينضبط بعقيدته فإن المجتمع يكون لنفسه عدداً كافياً من التجار و المتنفذين الذين يستثمرون أرباح السوق و فضلته في المجتمع و في القطاعات التي يحتاجها لتحقيق هيمنة سياسية و اقتصادية و علمية ، أما إن كانت عصبية الناس قد ضعفت و عقيدتهم / ثقافتهم المميزة قد وهنت و تحللت فإن الحرية التجارية عندها تزيد من الإستعباد و الفساد و الإنقسام ، ومهما تحقق للبلد من مكاسب مالية نتيجة لإغراءات السوق المفتوحة فإن تلك الأموال تتكدس في يد فئة قليلة أنانية من الناس تنهك المجتمع ولا تشاركه مكاسبها ، وهذا كله يطلق عليه في الثقافة الإسلامية ( زوال البركة ) 

يقول الله تعالى : ( ولو أن أهل القرى آمنوا و التقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) سورة الأعراف . وفي الحديث : ( الحلف منفقة للسلعة ، ممحقة للبركة ) رواه الشيخان . 

وعلى هذا فإن الغاية من العملية التجارية (السوق) في الإسلام ليست رفع المباني و إبهار الناس بالزخارف و كبر الأسواق ، ولكنها ضمانة استيفاء حاجات الناس مع ضبط قويهم من أن يعتدي على ضعيفهم و دفع عمومهم للقيام بواجب الرسالة تجاه المجتمعات الأخرى وخلافة الله في خلقه بالعدل و الرحمة (بشراً كانوا أم حيوانات) . هذه الحالة من الإستقرار الإجتماعي و الطمأنينة النفسية تضمن حصول المنعة و الكفائة العلمية  و الصناعية و استتباب الأمن و حصول المصلحة العامة ، ولا يضر الحكومة بعد ذلك أن تسجل درجات متواضعة من معدلات الناتج القومي إذ أن هذه الأرقام منفعتها نسبية كما أن الكثير من الأنشطة الإجتماعية لا تمر من خلال مصلحة الضرائب في العالم الإسلامي ولكنها تحقق نفس المصلحة و أكثر إذ هي تضيع على الدول الأخرى فرصة استقراء المجتمع و استغلال حركته . 


الزهد في الإسلام ليس حالةً مطلقةً من الإحتقار للحياة البشرية على هذا الكوكب ، فالحياة على دنائتها في الإسلام تعد وسيلةً لما هو أعظم ، و نظراً لعظم الغاية فإن الحياة تكتسب قيمةً بقيمة المطلوب ، ولا أدل من قيمتها على قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتَّى يُسأل عن أربعٍ عن عمره فيما أفناهُ وعن جسده فيما أبلاهُ وعن علمه ماذا عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ) رواه ابن حبان و الترمذي في جامعه . و عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه و سلم : (( يتبع الميت ثلاثة ، فيرجع اثنان و يبقى معه واحد ، يتبعه أهله و ماله و عمله ، فيرجع أهله و ماله و يبقى عمله )) رواه البخاري و مسلم . ولهذا فإن قيمة الحياة في السنة النبوية نسبية ، تظل دائماً مرتبطة بما تستخدم فيه ، فإن سخرت لتحقيق مرضاة الله فهي تستحق الغبطة ، و إن كانت غير ذلك فإنها مهملة ، يقول النبي صلى الله عليه و سلم : (( لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق ، و رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها و يعلمها )) رواه البخاري ومسلم . ومع ذلك فإن النبي لا يتمنى أن تفتح الدنيا على آل بيته ليفتنوا بها فيقول : ((اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً)) أخرجه البخاري و مسلم و الترمذي . 

ختاماً .. الزهد مع الحرص على العدل و إتقان العمل و إرضاء حاجات الناس الأساسية يحققان للناس كل مصلحة و يشيدان للمجتمع كل بنيان كفيل بتحقيق المنعة ، يقول عليه الصلاة و السلام :(( إن الدنيا حلوة خضرة, وإن الله مستخلفكم فيها, فينظر كيف تعملون ؟ فاتقوا الدنيا, واتقوا النساء , فإن أول فتنة بني إسرائيل , كانت في النساء )) أخرجه مسلم فيه الصحيح . و عن رياض ابن حمار المجاشعي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق، و رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قرب و مسلم، و عفيف متعفف ذو عيال )) رواه مسلم .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق