الخميس، 21 يناير 2016

الجغرافيا و تاريخ الحضارات (١)



الجغرافيا و تاريخ الحضارات (١)
عندما تكون الأرض جامعة للناس فإنها تيسر تسخيرهم ليبنو أثراً


ذكرت في مقال سابق أن البشر بطبيعتهم متوحشون ، يسعون لتحقيق مصالحهم الذاتية على حساب الآخرين نظراً لتأصل الأنانية في نفوسهم ، كما أنهم يتمنعون عن الإنقياد و يفضلون التحرر المطلق ، إذ أن الحرية غريزة أصيلة في النفس البشرية تتوافق مع المصلحة الذاتية إذ أن ضمان بقائها يقتضي تحررها و سعيها ، أما الإنقياد فإنه مؤذن بالهلكه . 

هذه الغرائز يتم التشريع لها في الوقت الحالي أن تطلق باسم الحرية و المساواة على أن هذه الحرية تؤدي كنتيجة حتمية للمصلحة العامة والعدل ! ، فهي الفطرة السليمة الصحيح التي يؤدي إعتاقها لانشراح النفس و اهتمامها ببناء مجتمعها و دولتها كما يقولون ! 

الحقيقة التاريخية هي أن الناس متنافرون بطبيعتهم ، يتنازعون على مصالحهم و مركزيتهم  فلا تجتمع لهم قوة ولا يقوم لهم بنيان حتى قدر الله أن تتكون ظروف طبيعية تؤدي لاجتماع بشري و سخرة بشرية هرمية ، هذه الظروف المكرهة للناس على الإنقياد و البناء الطبقي هي الظروف الأساسية الضرورية للبناء الحضاري الذي جمع بعض الأعراق و فرق بعضها ، وسهل الإدارة على بعض و صعبها على الآخر ، حتى تتابع التاريخ بعد ذلك يتراوح بين حركة الإنسان الطموحة التي تعتمد على ظروفها الجغرافية 
و أخرى تتحداها .

كنت قد ذكرت في مقال سابق أن الحضارة منتج ديني وهذا كلام صحيح إذا ما نظر للحضارة على أنها خصال بشرية ترتقي بالإنسان من حالة التوحش و الأنانية الهائجة إلى حالة السكينة و الإنتظام الذاتي المعني بمصلحة الجماعة البشرية ككل مع الإهتمام بالذات كحالة فردية ضمن جماعة أكبر ، هذه الخصال هي أصل الحضارة الإنسانية من حيث هي حالة نفسية متزنة و خصال صالحة لتحقيق الإستقرار الجماعي . إلا أن عموم الناس لا ينظرون للحضارة من هذه الناحية ، بل هي في نظرهم تلك المنجزات المادية العظيمة ( العظيمة في كبرها و دقتها و تعقيدها ) التي تبهر الآخرين و تخضعهم إما بقوة عسكرية أو قوة إقتصادية تحقق الرفاهية لعليتهم و تبهر أشراف الجماعات الأخرى ممن يسعى للمنافسة ،  لذلك فإنه يصح أن نعيد تعريف الحضارة من هذه الناحية و أن نختبر أصلها الجغرافي نظراً لكون الجغرافيا و موارد الطبيعة أهم الفاعلين في حركة البشر عندما يكون دافع التحضر الداخلي ( السكينة و الرضى و الإلتزام الذاتي بعدم التعدي ) ضعيف . 



الحضارة من ناحية مادية هي حصيلة نقطتين اثنتين آساسيتين : 
- الكثرة
- الإنتظام 

الحقيقة هي أن العقائد على ما تلعبه من دور في تسهيل تقدم المجتمعات و على ما تساهم به من جمع عصبيات الناس و تنظيمهم هي في حقيقتها وسيلة في يد القادة تتراجع أهميتها كلما تراجع النفع المادي منها ، ولأن هذه هي حال العقائد في الغالب ( إلا الديانات السماوية الثلاثة التي يتميز الإسلام من بينها كدين ينحو لأن يكون فاعلاً في الطبيعة أكثر منه مفعولاً ) فإنه لا يهم النظر إليها بعمق هنا ولا تمييزها طالما أن أثرها السياسي ضعيف ، و الحقيقة أنه رغم ما يقال عن كثير من العقائد و عن دورها في صياغة الواقع السياسي إلا أنها أفكار متفاعلة مع المصلحة السياسية تسعى لترسيخ الوضع و تثبيت المصلحة و تخليد الذكر أكثر من أن تدفع غالبية الناس شريفهم و وضيعهم للتعالي على رغباتهم و مصالحهم . 

من هنا دراسة الظروف الجغرافية و موارد الطبيعة ثم خلقة الإنسان القاطن لتلك الأراضي تساعد على التنبؤ بمستقبل المجتمعات البشرية و تفهم أسباب نشوء الحضارات و انهيارها ، و أنا أختصر الظروف المؤثرة في التالي : 
١- الناس بحاجة لأرض تنتج من السعرات الحرارية ما ييسر لقاطنيها أن يصرفوا أوقاتهم في غير طلب الرزق . 
٢- يجتمع الناس على الماء و الأراضي الزراعية التي يسهل التحكم فيها و التنبؤ بمستقبلها. 
٣- المياه الهادئة التي يمكن استخدامها للري و النقل تؤدي لتنظيم الناس و جمعهم . 
٤- الأراضي المطلة على المياه الدافئة توصل المجتمعات بالسوق العالمية مما يزيد تركيزها على السوق و التخصص . 
٥- الأراضي التي تقع بين الإستواء و القطب يمكن زراعتها بالمحاصيل الغنية بالسعرات الحرارية مع تجنب الأمراض الإستوائية . 
٦- التشابه في الخلقة و التجربة التاريخية تسهل في الإندماج و التزاوج . 
٧- جمال الخلقة يزيد في العصبية و طلب الجمال و إتقانه في البناء . 


أول شيء يعني البشر في سعيهم اليومي هو الرزق ، الناس لا يستطيعون العيش من دون ماء و غذاء ، و نقل الغذاء لمسافات طويلة أمر مهلك و مستنفذ للطاقة ، كما أنه خطير و يعرض الناقل لنفوذ سكان تلك الأراضي ، هذا كله يعني أن الناس مرتبطون بالأرض ارتباطهم بالحياة ، فالأراضي الخصبة على ضفاف الأنهار موطن طبيعي للإستيطان ، و كل ما كانت الأراضي الخصبة كبيرة و الأنهار قريبة و هادئة يمكن ضبطها للري و النقل فإن الأراضي تكون أراض ميسرة لتوسع الإستيطان إذ يسهل التنقل فيما بينها مما يسهل إيصال البضائع و حكم الناس حكماً مركزياً . 

الأراضي الخصبة ليست العامل الوحيد للتنبؤ بمستقبل الإستيطان إذ أن بعض الأراضي تكون خصوبتها نتيجة هطول الأمطار ، هذه الأراضي تنشئ مجتمعات تختلف عن تلك التي نشأت على ضفاف الأنهار و احتاجت للسيطرة على فيض النهر بانتظامها و حسها الجماعي ، الأراضي الزراعية المنتشرة بانتشار الأمطار توجد جماعات متفرقة بحسب اتساع الأراضي الزراعية المستوطنة و بحسب وعورة أرضها و صعوبة التنقل فيما بينها ، هذا كله عائد لكون البشر لا يجتمعون إذا كانوا يملكون خيار الإفتراق ، وهذا ما يحصل إذ تتكون قرى صغيرة يجتمع فيها عرق واحد يبني مساكنه البسيطة حول أراض زراعية تكفي أهلها حاجتهم من المواد الأساسية للبناء و الإحتماء فتصير تلك القرى وحدات إجتماعية أساسية بسيطة توفر حاجات الإنسان الأساسية و تمنع الإنصياع للكيانات السياسية الأجنبية التي تستعبد و تستهلك الموارد دون أن تضيف شيئاً مادياً كثيراً . 

خلال التاريخ وجدت حضارات كثيرة منتشرة على رقعة جغرافية وعرة تملك موارد زراعية و مادية كثيرة ، لكن صعوبة الأرض و اتساعها جعلها عصية على الدمج في كيان سياسي واحد مركزي السلطة يملك القدرة على إظهار قوة سياسية خارجية ، لذلك فإن المجتمعات كلما ابتعدت عن مجاري الأنهار أو البحار الدافئة التي تربط الدول القريبة فإن قدرتها على الضبط و الإنضباط و الإنفتاح على المجتمعات الأخرى تكون قليلة مما يجعل أنتاجها الحضاري أقل ضخامة و إبهاراً ، و يجعل اتحاد أفرادها أكثر حاجة للتهديد الأجنبي و الخطر السياسي ( من الأمثلة على ذلك : اليونان ، إيران ، إيطاليا ، أسبانيا ، اليمن ) 

ما يعرف من حضارات قديمة و ما توجد عليه أدلة يعود جله إلى حضارات أربع أساسية نشأت على السهول بجنبات الأنهار التي كانت تشق أراضيها فانطلقت منها الصناعات الأساسية و التنظيم السياسي و الكتابة و الحساب  مما جعل الجماعات البدوية تحرص على مهاجمتها و استعمارها و استغلال مواردها .. هذه المواطن الأربع الأساسية لنشوء الحضارة هي : 
١- نهري دجلة و الفرات ( بلاد ما بين النهرين المعروفة بالعراق ) .
٢- نهر النيل ( مصر ) .
٣- نهر السند ( باكستان و شمال الهند ) .
٤- نهر يانغتسي و النهر الأصفر ( الصين ) .

هذه الأراضي عبارة عن سهول خصبة على ضفاف الأنهار ، يسهل ريها من خلال تلك الأنهار كما يسهل استخدام أنهارها في النقل و التنقل ، فتنقل البضائع و ينتقل الناس عليها لتنشأ الممالك بعد ذلك نتيجة لهيمنة جماعة بسيطة على سائر الناس القاطنين على ضفاف تلك الأنهار . تصل المجتمعات على ضفاف الأنهار إلى حد معين من النمو و استجادة البناء و الصنائع ( يضع ذلك الحد حجم السوق المتوفرة التي هي ناتجة عن كمية الأراضي الزراعية و عدد السكان القاطنين و وفرة المواد الأساسية ، كم أن إطلالها على البحار يوفر لها سوقاً إضافية )، عند ذلك الحد تكون تلك المجتمعات مهترئة من الداخل ضعيفة و غير قادرة على حماية نفسها مما يمكن القبائل البدائية من غزوها و إخضاعها و تحقيق الغلبة السياسية عليها ، إلى أن تصل تلك الجماعات الجديدة للإقتتال فيما بينها ثم الذوبان في تلك المجتمعات و التعرض لمجتمعات أخرى خارجية لا تستطيع أن تحمي نفسها منها . 


هذه الدائرة من الإستيطان و الحكم ثم التحلل فالإستيطان و الحكم من قبل الجماعات البدوية هي حالة المجتمعات التي تعيش على ضفاف الأنهار إذ هي تفقد عصبيتها و تجد أن الطبقية المفرقة فيها مع خصوبة أراضيها تعرضها لهجوم الجماعات البدائية دائماً طلباً لخيرات تلك البلاد . 

لذلك فإن الأنهار الكبيرة الهادئة  التي تصل الناس في تلك البقعة من الكرة الأرضية (بين مناخ الإستواء و القطب ) هي مهد الحضارة ، كما أنها منبع الحكم الفردي الأوتوقراطي (الدكتاتوري) ، و بالعكس فإن القبائل البدوية على أطراف تلك السهول هم الجماعات المحاربة ، و كذلك فإن الجبال المطلة على تلك السهول تكون بالضرورة مهد الحكم التشاركي ( الديموقراطي ) إذ هي لا تملك إلا التفاعل مع عصبية الناس الجديدة التي أوجدتها ظروفهم السياسية دون أن يستطيع المركز أن يفرض سلطته عندما ترفض الأطراف المحتمية بظروف جغرافية وعرة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق