الجمعة، 29 يناير 2016

تحليل الشخصية (٣)



تحليل الشخصية (٣)
تتفاوت الشخصيات في أنماطها حسب قدرتها على الإستقلال و التأثير 


بعد أن ذكرنا أثر النمو فإن علينا توضيح أهمية البيئة و أثرها على تمييز شخصية الإنسان . البيئة لها دور رئيسي نظراً لكون حاجات الإنسان غير متساوية في أهميتها ، ماسلوا ذكر ذلك في نظريته التي رتبت حاجات الإنسان و دوافعه حسب الأهمية ، لذلك فإن النظرية توضح كيف أن هناك مجتمعات بشرية كبيرة تظل في أسفل هرم الحاجات مقموعة ومظطرة للعمل وفق هذه الحاجات الأساسية لتتكيف مع بيئتها الصعبة أكثر من أن تستطيع أن تمثل نفسها في بيئتها و أن توضح اختلافها .. هرم ماسلو يضع حاجات الإنسان بهذا الترتيب : 

١- الحاجات الحيوية (البيولوجية) الأساسية.
( وهي حاجة الإنسان للغذاء و الهواء و الماء و إخراج الفضلات والنوم ) 
٢- الحاجة للأمن .
( وهي حاجة الإنسان لأن يشعر بأنه في مأمن من أي اعتداء جسدي ) 
٣- الحاجة للإنتماء و الحب 
( وهي الحاجة للشعور بالإنتماء لجماعة تهتم له و تحامي عنه “العصبية” )
٤- الحاجة لتحقيق المكانة و الفخر
( حاجة الإنسان لإثبات نفسه في محيطه و الحصول على إعجاب الناس )
٥- الحاجة لتحقيق الذات و تمثيلها 
( وهي حاجة الإنسان لبناء الجمال كما يراه و لتمثيل مبادئه والحاجة لأن يكون العمل ذا بعد عقدي و تاريخي أكبر من الذات و غرائزها القصيرة ) . 

النفس إلى حد بعيد تظل أسيرة الحاجات الثلاثة الأساسية عندما تكون غير مشبعة ، ذلك أن معظم الناس لا يستطيعون التفكير في القيم و المبادئ إذا كان الجوع قد بلغ منهم مبلغه (مالم تكن القيم و المبادئ قد سبقت الجوع و الخوف فصارت الصعوبات وسيلة لبلوغ شيء أعظم ) أو كانوا في خوف شديد أو حتى لم تكن لهم جماعة ينتمون إليها في مجتمع غريب ، و كلما ارتفع الإنسان في هذا الهرم إستطاع أن يتجواز بعض عتباته لتمثيل نفسه و تجاوزها . تبعاً لهذه النظرية فإن الجماعات الإثنية الصغيرة التي تشتكي من الفقر و الخوف تنحصر نفسية أفرادها في المراتب السفلى من الهرم إلى حد بعيد، و كذلك هي الدول الضعيفة مما يجعل أفرادها في أنانية أو عصبية جماعية شديدة غير قادرين على تجاوز الذات و الوصول لمرحلة أعمق فلا يتطور العلم فيها ولا الفن ولا الذوق العام في تلك المجتمعات ، أما العقيدة فإنها تكون بسيطة تعلقية منطلقة من شخصية تستشعر هشاشتها، وكذلك الطموح فإنه يعد شيءً غريباً و نذير شؤم على الجماعة ككل لا يتجرأ عليه إلا الوجهاء، أما بقية الناس فإن أمنيتهم تتمحور حول المحافظة على الأمن و الغذاء.

هذا يدفعنا أيضاً للكلام عن عقيدة المجتمع و نظرته للحياة إذ أن ذلك يؤثر على شخصية الإنسان إلى حد لا يمكن تجاهله ، فما هي النظرة السائدة لدى الناس عن الحياة ؟ وبالتالي ما هو المطلوب من الإنسان فيها ؟ وماهي القيم الصحيحة التي يجب أن يتقيد بها الإنسان ؟ وما هي الأمور الجميلة التي يجب أن يسعى الإنسان لتمثلها ؟ 

المجتمعات التي ترى أن الحياة ليس لها غاية أو أن غايتها التعالي و المفاخرة تختلف عن المجتمعات التي ترى أن الحياة وسيلة لما هو أعظم منها و أن قيمة الأشياء فيها نسبية بالمقارنة مع اليوم الآخر . المجتمعات الأولى تسعى لاستيفاء متعها فيتكالب أفرادها عليها ولا توقفهم إلا قوة قاهرة ، أما المجتمعات من الطبيعة الثانية فإنها أسهل في الإدارة طالما أن عقيدة الحاكم لا تختلف عن المحكوم و لا المحكومون يختلفون كثيراً في تلك العقيدة .. المجتمعات التي تحمل عقيدة واضحة و عميقة ينحو أفرادها للتصرف بشكل متقارب فيما تكون المجتمعات الأخرى عرضة لابتكار العقائد كل حسب شهوته و مصالحه و نظرته التاريخية التي تختلف إلى حد كبير عن نظرة الآخرين ، لذلك فإن العقلاء و المخلصين في المجتمعات التي تطغى فيها الشهوة على العقيدة معرضون بشكل أكبر للإنقسام و الصراع من المجتمعات التي تشترك في العقيدة ، ذلك أن إستنتاجاتهم العلمية و التاريخية تختلف مما يوجد الأرضية للإنقسام ، كما أن المجتمعات التي تشترك في عقيدة غير منطقية تمارس القمع على عقلائها و تهمش التفكير مما ييسر لبروز مجتمع صلب و متشابه لكنه أعمى إلى حد بعيد لا تستطيع أن تميز أفراده ، و قس على ذلك فإن المجتمعات في الظروف الصعبة كما ذكرت سابقاً تحاول الحفاظ على هويتها فيذوب فيها التمايز الفردي لمصلحة الجماعة ، إذ الضعيف لا يظهر إلا القليل من شخصيته ، كالطفل و المرأة و المسكين كل منهم بحاجة لأن يكيف نفسه مع بيئته ليأمن على نفسه و يحفظ موارده . 

الإختلاف في الجنس أيضاً مهم ، لأن الإنسان يستمد قيمته مما يضيفه ، ونظراً لأن المرأة ضعيفة في جسدها ، ضعيفة في عقلها ، قيمة في خلقتها و تعاطفها فإنها تنحوا لاستغلال هذه الميزات لتعزيز قيمتها الإجتماعية و الحفاظ على وجودها ، المرأة الصارمة و السياسية تكون لذلك صارمة و سياسية بصورة تختلف عن صرامة الرجل و منطقيته السياسية ، و كذلك فإن المرأة الأنانية تظهر أنانيتها بشكل يختلف عن أنانية الرجل ، و المرأة العاطفية تتعاطف مع الجماعات القريبة منها و التي تمثلها بطريقة مختلفة و بقرب جسدي أكبر ، لذلك فإن إتفاق الرجل و المرأة في تحليل الشخصية لا يعني اتفاق المواقف ولا سهولة التعايش إذ أن موارد الجنسين الجسدية و جوانب ضعفهما تختلف تماماً، ذلك أن الرجل في خلقته أقوى وهذه القوة تؤثر على شخصيته و قراراته ، كما أن قيمته مستمدة من قدرته على الإنفاق و شجاعته و تضحيته ( أي استعداده للهلكة ) ، و بالتالي فإن الرجال أكثر تفاوتاً في القيمة من النساء ، إذ لا شيء يحميهم ويصلح ظروفهم مالم يصلحوها هم بأنفسهم، فالرجل الضعيف يهلك والمرأة لا تهلك ، و المرأة القوية تدارى فيما الرجل القوي يحارب لتزداد قوته و يزداد نضجه - بالمقارنة مع قرينته التي تشابهه في الشخصية - أو أنه يهلك نظراً لأنه يعد خطراً أكبر منها . ولأن الصراع هو أساس التعلم ، و الخسارة هي أساس التحلم كلما احتمى طرف بطرف كانت قدراته الجسدية و النفسية و العقلية قد احتمت من النضج و العكس صحيح . لذلك فإن المرأة العاقلة التي تكثر القراءة و الإنضباط و التعلم من الآخرين في مجتمعها لا تنجز ما ينجزه الرجل الذي يشابهها في الشخصية غالباً ، لا من حيث الإنجاز الكمي ولا النوعي ، فالنساء بالعموم تتمحور قيمتهم المضافة حول إبقاء النسل و الحفاظ على الهوية و العادات الإجتماعية و التفاخر ، أما الرجال فإن بقاءهم تهديد لبقاء الآخرين أو عون لهم على من يهددهم ، لذلك هم في صراع دائم من أجل البقاء ، يبنون ليهدم غيرهم و يهدمون ما بناه غيرهم ليبنوا شيئاً أكثر قوة و أثراً. 

ختاماً فإن أفضل وسيلة لتمييز الأشخاص تمييزاً عملياً مفيداً يكون بتقسيمهم على سلم تراتبي من حيث القوة النفسية و العلقية و القدرة على الإستقلالية ، كلما كان الإنسان مدركاً لطبائع الناس و نفوسهم كانت قدرته على التعامل معهم و إدارتهم و تحريكهم أكبر .



تحليل الشخصية (٢)



تحليل الشخصية (٢)
تتفاوت الشخصيات في أنماطها حسب قدرتها على الإستقلال و التأثير 


عوض عن التركيز على النشاطات الذهنية التي يحب الدماغ أن يشغل نفسه بها أرى أنه من الأفضل النظر إلى المحاور باعتبارها أفرع لشخصية كل إنسان ، و شكل ميله في ذلك الفرع (الوظيفة) يوضح مقدار قوته (إستقلاله) في ذلك الفرع ، لذلك فإن الوظائف عبارة عن سلم تراتبي أعلاه كمال القوة النفسية و أدناه ضعف ، و عموم الناس يتمايزون في هذه السلالم و يقعون في المنتصف .

الأفرع كاملة برأيي هي كالآتي : 
١- الحاجة للعلاقات الإجتماعية للإستمتاع و التلقي في مقابل القدرة على الإنعزال و التأمل. 
٢- حالة الوقوف عند ظواهر الأحداث الصغيرة و ربط أطرافها في مقابل الوقوف عند الأحداث الكبيرة و اكتشاف الأنظمة و العوامل المؤثرة زمانياً و مكانياً. 
٣- حالة الإهتمام بتشكيل المجتمع الصغير و المحيط في مقابل الإهتمام بالمجتمع الكبير و تشكيله. 
٤- مركزية الذات في البيئة المحيطة حيث يهدف الإنسان للهيمنة و البناء المتكامل في مقابل مركزية البيئة التي تجعل الشخص متفاعلاً أكثر منه فاعل. 
٥- هذه وظيفة أخلاقية أساسها التجرد من حظوظ النفس في مقابل الحرص على مركزية الهوية . 


أنا هنا لا أهتم بترتيب المحاور بقدر ما أهتم بتصنيف الناس على سلم عمودي من حيث القدرة على الإستقلال و الإدراك و التأثير و الإتقان ، هذه الطريقة برأيي تفيد أكثر في الحياة اليومية و تساعد الإنسان على التكيف مع بيئته الإجتماعية و تفهم منطلقات الناس العاطفية . 

الداخلية و الخارجية و التعمق فيها يؤدي لتعقيد النظر إلى حد بعيد ، في الحقيقة إن طريقة التلقي و درجة التلقي للبيانات مع طريقة العمل و درجة العمل هما الأساسان لاختلاف كل الشخصيات ، و محاولة الغوص بعمق يؤدي للتنظير و تضيع الفائدة العملية للتحليل.

مما سبق نستنتج أن أقوى الشخصيات هي : الشخصية التي لا تحتاج لكثير من تفاعل الإجتماعي سواءً للتلقي أو لإرضاء النفس فتتلقى الإشارات من المحيط و تربط  وتكون موقف سريع ثم تعود للعيش مع نفسها ، كما أنها الشخصية التي تستطيع إبصار أثر الأحداث و معاني التفاعلات بشكل أكبر فلا تتعلق بالتفاصيل ، كما أنها شخصية معنية بالعمل و تحقيق الأثر السياسي الكبير أكثر من التعلق بالآثار الإجتماعية الصغيرة ، وهي أخيراً شخصية تتحلى بقدر أكبر من الشجاعة إذ هي معنية بتشكيل واقعها و إبقاء أثرها على المحيط أكثر من أن تتعايش مع ذلك بسلبية .. هذا كله بالإضافة لمحور أساسي برأيي أنه أغفل أو تصور مصمموا الإختبار أنه يندرج تحت محاوره وهو محور التجرد ، وهذا المحور قد يختلط بالمحور الثالث ( إذ يسمى العقلانية في مقابل العاطفية ) ، و الحقيقة أن الأشخاص المعنيين بالأثر السياسي الكبير تكون نقاشاتهم و مواقفهم عقلانية إلى حد بعيد ، لكنهم لا يتجردون للحق عندما تتعرض الهوية السياسية التي يتعصبون لها للخدش أو التهميش ، هنا يتميز أصحاب هذا المحور بقدرة أكبر على تحمل الحقيقة و التجرد لها من التعصب و القبول باللامركزية ، و هذه الحالة برأيي تعبر عن نفسها بخصلة الطمأنينة . 

وفي المقابل فإن أضعف الشخصيات هي أكثرها إعتماداً على الآخرين ، فهي : تحتاج لعلاقات إجتماعية قوية حتى تستقي المعلوماتها و ترضى عن نفسها بهذه العملية الإجتماعية التبادلية التي يقوم كل طرف فيها بإثراء الآخر بمعلومات يتفقون على أنها تهمهم و بإطراء يبقي في النفس إحساساً بالمركزية و الأهمية ، وهي شخصية تتوقف كثيراً عند مظاهر الأشياء دون أن تتمكن من الغوص كثيراً لفهم معانيها و آثارها إلا عندما تجتمع لديها كمية كمية كافية من المعلومات، وهي أيضاً شخصية لا تشغل نفسها كثيراً بالآثار السياسية ولا عواقب القرارات على المجتمع الكبير بل هي تحرص على المجتمع المحيط بها أن تبقى العلاقات فيه جيدة ، و هي أيضاً غير حريصة على ضبط البيئة التي تعايشها و تشكل نسقها أو الإعتراض على ما يختلف مع ما تراه صحيحاً في كثير من الأحيان ، لا ترا أنها معيار يحكم على الأشياء كما أنها لا ترا أنها تستطيع تغيير البيئة ، و أخيراً هي شخصية غير متجردة تحب ذاتها و الهويات التي تمثلها وهي قادرة على التعايش مع الظلم طالما أن مركزيتها محفوظة أو أنها لم تظلم هي . 

الناس في الغالب يقعون في المنتصف بين هذين القطبين ، ففي الحالة الأولى تكون الشخصية قد وصلت إلى حد بعيد من الكمال البشري ، يقول النبي عليه الصلاة و السلام في الصحيحين : ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع ) ، فهذا برأيي يتوافق مع هذه النظرة إذ أن الخصال لا تتساوا في قيمتها ولا الشخصيات متماثلة فيما تضيفه ، وفي الحالة الثانية فإن الشخصية تكون ضعيفة في قدراتها و مواقفها كما أنها جشعة ولا أخلاقية .

 هذه النظرة أكثر واقعية و عملية إذ هي تتوافق مع ما يؤكده الله تعالى في القرآن وما تؤكده السنة النبوية وما هو مشاهد من تفاوت بشري في القدرات العقلية و النفسية ، قال النبي عليه الصلاة والسلام للأشج عبدالقيس : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله و رسوله : الحلم ، و الأناة ) “رواه مسلم” ، ومع أن مختلف المجتمعات البشرية تحوي من العقلاء و القادة ما يكفي لإعمار البلاد و إثرائها في حال أطيعوا ، إلا أنهم كثيراً ما يضلون أقوامهم نتيجة لعدم تجردهم للحقيقة و عصبيتهم لجماعتهم و تاريخهم ، فيزينون لهم أعمالهم و يضلون ضعفائهم و سفهائهم كما يقول الله تعالى : ( قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) . 

تتمة لما سبق يجب التنويه على عدة نقاط تؤثر على شخصية الإنسان ، وهي عوامل زمانية و مكانية تؤثر على شخصية الإنسان وإن كانت لا تصدر عنه مبدأياً لأنها في أصلها تفاعل مع الظروف . 
  • العوامل الزمانية المؤثرة هي : ١ - صغر العمر الذي لا تكون فيه الأعضاء قد أتمت نموها ( الدماغ خصوصاً ) . ٢- قلة الخبرة التي تجعل الفرد يتصرف أحياناً بما لا يتوافق مع طبيعته نظراً لمحدودية التجربة فيتأثر بنصائح الآخرين و طريقة تعاملهم مع الأحداث.

- العوامل المكانية المؤثرة : ١- حالة الفقر و الخطر لدى الإثنية الضعيفة في مجتمع أو الدولة الصغيرة المهددة. . ٢- العقيدة العامة لدى المجتمع ( كيف وجد العالم ؟ ، كيف هو على حقيقته ؟، ماذا سيؤول إليه ؟ ، وما هو المطلوب منك ؟ ) ٣- المنجزات التاريخية للعائلة أو المجتمع ككل ، هذا الأمر يوجد توقعات مسبقة إما سلبية أو إيجابية.

  • عامل الخلقة : ١- ظروف الأنثى من حيث الخلقة تختلف عن الذكر .  ٢- قبح الخلقة له أثر نفسي و مادي على حياة الإنسان مما يؤثر على قراراته و تصرفاته . 


أنماط الشخصية ( أو جوانب قوتها ) لا يمكن تحديدها بقوة مالم يكبر الإنسان و يجد الفرصة ليتصرف على طبيعته دون أن يفرض الواقع عليه نفسه ، لذلك فإن الأغنياء و الوجهاء تظهر شخصياتهم الحقيقية بشكل أكثر وضوحاً فيما يكون الفقراء و المستضغفون و الأطفال تحت هيمنة المجتمع و سلطة الأقوياء ، ولا يعني ذلك أن هؤلاء الضعفاء مقموعون بالضرورة فأحياناً كثيرة يكون الضبط هو الوسيلة الوحيدة لضمان مصلحة المجتمع ولا يتم ذلك إلا بكبت طموحات الضعفاء المعتدية و الناقمة .



الأطفال و المراهقون تنطبق عليهم هذه الحقيقة ولذلك فإنه من المنطقي دراسة النمو و أثر البيئة ، نظرية بياجيه تفيد في ذلك إذ قام بشرح مراحل نمو الطفل و تقسيمها  كما قام بتوضيح عملية التعلم لدى الطفل وهو ينتقل في إدراكه للواقع من حوله من مرحلة لمرحلة أخرى ، ذكر نظرية بياجيه  لذلك يساعد على فهم الإنسان بشكل أكبر و فهم تفاوت الأفراد و أثر الزمان و التجربة عليهم . 


بياجي قسم نمو الإدراك إلى عدة مراحل تبعاً للعجز الذي لاحظه في كل مرحلة ، و مع أن هذه النظرية و التقسيم معني بالنمو إلا أنه يعطي نظرة عميقة لفهم عملية التعلم ( هل هي خارجية أم داخلية ؟ وكيف تكون نظرة الإنسان للحياة و طريقة تفاعله معها عندما تكون قدرته على التعلم أقل و إدراكه أضعف ) .. مراحل الإدراك حسب بياجي هي كالتالي : 

١- المرحلة الحسية ( ٠ - سنتين ) : 
* في هذه المحرلة يتعرف الطفل على المحيط من حوله حسياً باختبار لون الأجسام و شكلها و ملمسها و رائحتها و طريقة تفاعلها( أي أنه يتعرف على المادة و الإنسان ).
  • ثم يتعلم الطفل بالتدريج بعد سنة من العمر أن الأجسام لمجرد أنها غير مرئية لا يعني أنه انتفى وجودها فعلياً ( أي أن هناك موجودات لا يراها ). 
  • يلي ذلك تعلم تمثيل الأجسام و الأحداث بالحركات بعد أن يكون قد استذكرها ليطلبها فيما بعد و يعرف مكانها.


٢- المرحلة ماقبل العملية ( ٢ - ٧ سنوات ) : 
  • يتعلم في بداية هذه المرحلة تمثيل الأجسام و الأحداث بالكلام فيكون سريع التعلم للألفاظ في هذا الوقت .
  • ثم يتعلم بالتدريج التخلي عن مركزيته المكانية لينظر بالتدريج للعالم من مواقع الآخرين ( المنطق المكاني أو الفضائي ) 
  • ثم يتعلم مبدأ المحافظة .. الأجسام لا تتغير كتلتها ولا عددها لمجرد أنها غيرت أشكالها و أحجامها .

٣- المرحلة العملية الصلبة : 
بعد أن اختبر الطفل كمية كبيرة من الأجسام بآثارها و تفاعلاتها و بعد أن جمع كمية كبيرة من الكلمات و العبارات التي تمثلها و استطاع أن يصنف هذه الأجسام و الآثار و الأشخاص حسب خصائصها المتشابهة و آثارها إذ هو قد تعلم في المرحلة السابقة مبدأ المحافظة و المنطقية الفضائية ( التي يستطيع من خلالها أن يرا الشيء من أكثر من زاوية ) صار الطفل قادراً على التفاعل مع الحياة بإيجابية و الإعتماد على نفسه ، لكن نقطة ضعفه التي تحده هي عدم قدرته على التفكير المجرد و التنظير ( أي أنه لا يستطيع أن يعزل تجربته الشخصية ليبني واقعاً خيالياً يختبر من خلاله قوانين الطبيعة فيصل إلى إستنتاجات علمية مفيدة ) 

٤- المرحلة العملية : 
هذه المرحلة و التي تكون عند البلوغ هي المرحلة التي يتعلم فيها الإنسان التجريد و التفكير المنطقي البحت عن طريق التمثيل و التخيل و العزل و التلاعب الذهني ، لينظر للموضوع من أكثر من زاوية و ليخضع هذا الموضوع لكل الإختبارات التصورية كما كان قد تعلم النظر للأجسام من أكثر من زاوية فإنه الآن يتعلم النظر للفكرة و التفاعلات من أكثر من زاوية .




هذه القدرة على تخيل الأجسام بأبعادها الثلاثية ( لا مركزية الجسد و الصورة ) و القدرة على اختبار الأشياء و آثارها ذهنياً بعزلها و مقارنتها و تصور كل الإحتمالات للوصول للقواعد و القوانين ، كل ذلك عندما أتى بالتدريج مع نمو الطفل دل على أن هذه القدرات ( الإستنباط و الإستقلال و التفاعل مع المجتمع الكبير ) قدرات علوية تميز الأشخاص و ترفعهم فوق بعضهم البعض عوضاً عن التمايز الأفقي الذي يذكره اختبار MBTI ، ولكن لأن الطفولة تقتضي عدم الكمال فإن وضوح الشخصية لا يتم إلا بعد الكبر ، كما أن قلة التجربة و الإنكشاف على المحيط يتناسب طردياً مع قلة العلم و التفكير المنطقي و الخيال أيضاً ، لذلك فإن عملية التعلم عملية تفاعلية للمحيط الخارجي فيها دور كبير.



الحقيقية أن العلم هو معرفة الأشياء كما هي واقعياً ، إدراك أبعادها و طريقة تفاعلها و مآلاتها ، و نظراً لأن الإستدلال و الإختبار العملي ضروري في هذه العملية فإن الحفظ يصبح مهماً ( أي أن الحفظ لا يكون في الغالب لمجرد الحفظ و إنما لمقارعة التجارب السابقة و تدوينها و متابعة نتائج التدخل لاحقاً ) . الإنسان منذ طفولته يملك القدرة على تصنيف الأشياء حسب خصائصها المادية ، ثم يبدأ في رسم صورة عن طريقة تفاعل هذه الأشياء مع بعضها ، فعندما تتعارض تجربته مع تصور مسبق فإنه يسائل أنماط التفاعل التي بناها سابقاً ليعيد بناء أنماط أكثر صحة و توافقاً مع الواقع ، و عندما يرى أجساماً أكثر جدة و تنوعاً فإنه يدخلها في ذلك التصنيف المسبق أو يضيف صنفاً جديداً ، المهم في هذه العملية هو الإطلاع على المحيط و فهم القوانين حتى ما يصير الإنسان مهيمناً على واقعه و مطمئناً لمستقبله . 

لذلك فإن العلم لا يخرج من الإنسان بل هو نتاج عملية تفاعلية يسعى من خلالها الإنسان لأن يتموضع موضعاً صحيحاً يحقق من خلاله أمناً و مصلحة و مكانة مرغوبة ، أو هو يسعى لاكتساب هذه المعلومات ليغير ما يكره و يبني بيئة محيطة تستمد نظمها و قوانينها مما يراه هو صحيحاً و نافعاً ، و نظراً لأن التركيبة الدماغية عند البشر أكثر تعقيداً فإن القدرة لديهم على تصنيف الأشياء و فهم الأنماط (السنن) و البناء على ذلك تصورات واقعية واسعة للمحيط القريب و البعيد و تصورات للمستقبل و الماضي و حمل المجتمعات الكبيرة للتموضع تموضعاً مناسباً في هذه الإحداثات الواسعة جداً مكانياً و زمانياً تميزهم عن غيرهم من الكائنات وتدل على أن العقل تدريجي في بنيته من الضعف ( في قدرته على إدراك الواقع القريب و البعيد ) إلى القوة ( في قدرته على إدراك ذلك الواقع بكل أبعاده و فهم الصورة الكبيرة ) و أن هذا التدرج يعود للخلقة البشرية و لدرجة نمو هذه الخلقة و درجة تفاعلها مع المحيط . 

الكلام السابق لا يتعارض مع كون الإنسان يملك مبادئ أصيلة هي في أصل خلقته ، يراعيها في تعامله مع المحيط و يحترمها مهما كان مصدرها ، هذه المبادئ الأساسية برأيي هي العدل و التعاطف .. العدل مهما اختلف على تعريفه الناس فإنه في أصله اتفاق فطري بين المخلوقات على سيادة القانون وانطباقه على الجميع ، و القانون هنا يقصد به أن تؤجر كل نفس حسب جهده و إضافتها دون تمييز بين من قدم هذه الإضافة ، أما التعاطف فهو ما يناقض الأنانية الشديدة التي لا تلتفت لمعاناة الآخرين، و بهذه المبادئ الأصيلة تتفاعل المخلوقات مع المحيط فتستحسن أشياء متشابهة حتى تتعلم ألا تستحسنها و تشمئز من أشياء متشابهة حتى تتعلم ألا تتشاءم منها تبعاً للبيئة التي نشأت فيها ، أو هي تعترض على نصيبها فتتعدى لتحرف النتائج الطبيعية التي كانت المخلوقات غيرها لتحققها (المكتسبات من عمل الأفراد) و مع هذا الإنحراف و التعدي تتعلم المخلوقات الأخرى التعدي أو هو يصعب عليها ألا ترد التعدي حتى ينتج مجتمع يحرف كله السنن الطبيعية باتفاق . مما سبق نستنتج أن هذا محور أساسي في تمييز الناس و أن سعيهم للتجرد للحق و قبول الهامشية الفردية في مقابل مركزية الجماعة يمايز بين الناس و يفاضل بعضهم على بعض .

الخميس، 28 يناير 2016

تحليل الشخصية (١)



تحليل الشخصية (١)
تتفاوت الشخصيات في أنماطها حسب قدرتها على الإستقلال و التأثير 


هذه الدراسة التمييزية لأنماط الشخصيات البشرية تعتمد في كثير من إستنتاجاتها على بنية اختبار الشخصية الذي قامت بصياغته كاثرين كوك برغز Katharine Cook Briggs وابنتها إيزيبيل برغز مايرز Isabel Briggs Myers واللتان صنفتا الشخصيات البشرية على أساس نظرية كتبها كارل يونغ Carl Jung عالم النفس السويسري الذي صنف هو الشخصيات على أساس ثلاثة وظائف سيكولوجية أساسية يتفاعل من خلالها الإنسان مع العالم  ، كلما اختلفت وظيفة من هذه الوظائف اختلفت طريقة تلقيه أو تفاعله مع ما يتلقاه ، ولذلك فإن الوظيفتان الأساسيتان جعلتا مركز الشخصية ثم استعمل يونغ الوظيفة الأخرى لتقديم أحد هاتين الوظيفتين على الأخرى و تمييز قوتها ، الوظيفتان الأساسيتان معنيتان بـ : التلقي ( الحسية مقابل الحدسية ) و العمل ( العقلانية مقابل العاطفية ) ، وهو - كارل يونغ - هنا يرى أن واحدة من هذه الأقطاب تكون طاغية على شخصية الفرد معظم الوقت فيما يطغى قطب آخرى على شخص آخر. لذلك فإن الأساس الذي يعتمد عليه هذا الإختبار ( MBTI ) هو أننا كلنا لدينا ميول محددة لترجمة تجاربنا المعيشية ، و أن هذا الميل في طريقة الترجمة يؤسس لشخصيات مختلفة في اهتماماتها ، و حاجاتها ، و قيمها ، و دوافعها . 



كتابة كارل يونغ في أنماط الشخصية Psycological Types كانت دراسة تحليلية و مقارنة غير تجريدية ولا رقمية، مبنية على مشاهدته الشخصية للواقع و الأحداث من حوله ، هذا جعل موقع دراسته العلمي ضعيف إلى حد ما نظراً لضعف طريقة الإستدلال ، لكنها برأيي عملية و مفيدة لحد كبير ولذلك فإني سأستخدمها في هذا المقال كنقطة أنطلق منها . كارل يونغ حدد وظيفتين أساسيتين لهما أربعة أقطاب ( الحسية / الحدسية و المنطقية / العاطفية ) ، ثم جعل لكل قطب إتجاه ( إما داخلي أو خارجي ) ، مما جعل لهاتين الوظيفتين ثمانية فروع تختلف في أثرها النفسي فيصبح لطغيان أحدها شكل إجتماعي مختلف. 

كاثرين كوك بريغز كانت قد بدأت دراستها في الشخصيات البشرية عام ١٩١٧ بعد أن قابلت زوج ابنتها الذي كانت شخصيته تختلف إلى حد كبير عن شخصيات أهله مما أثار فضولها و دفعها لقراءة السير الذاتية أملاً في تحديد الأسس التي تميز شخصيات الناس ، بعدها كتبت كاثرين نظريتها في أنماط الشخصيات البشرية بناءً على أربعة أعمدة : تأملي ، عفوي ، إداري ، و اجتماعي . لكن بعد أن تمت ترجمة كتاب كارل يونغ ( أنماط السيكولوجيا ) Psychological Types قامت كاثرين بقراءته لتكتشف أن نظريتة كانت أعمق من نظريتها مع التشابه الظاهر في المنطلقات ، عندها قامت بمراجعة أفكارها ثم سعت مع ابنتها لتحويل تلك النظرية (لكارل يونغ) إلى اختبار عملي يفيد في الحياة اليومية ، ولكنهما عندما صمما أختبار الشخصية أضافا للوظائف الثلاثة التي كان كارل يونغ قد كتبها وظيفة رابعة أساسية ليتم الإختبار شكله الحالي .. الوظيفة الرابعة (الحسم/ المرونة).  

ومع أن هناك كلام كثير على طريقة الإختبار نظراً لطريقة صياغة الأسئلة و سهولة اللعب في نتائجها إذ أن ميول المختبر المتحفظة أو المندفعة تؤثر في شكل النتائج ، إلا أن التقسيم نفسه واقعي و عملي ، لذلك فإنه يستحق لفت الإنتباه. 

تفسير نتيجة الإختبار يعتمد على نقطتين أساسيتين كما ذكرت سابقاً وهما : ١- ماهية الوظائف ذات الأولوية لدى الدماغ ( هي تحديداً الوظائف التي يجد الدماغ متعة في ممارستها)  ٢- و ماهية الميل القطبي لتلك الوظائف ؟ هل هو ميل داخلي أم خارجي ؟ 



سأحاول أن ألخص نظرية كارل يونغ في النقاط التالية ( مضافاً إليها الحرف الرابع الذي أضافته كاثرين و إيزابيل ) : 
I N T J
E S F P

عند النظر إلى الحروف الأربع العلوية في كل سطر نلاحظ التالي : 
١- أن الحرفان في المنتصف هما مركز شخصية الإنسان إذ هما يختصران طريقة تلقيه و وسيلة تفاعله . 
٢- أن الداخلية في مقابل الخارجية (الحرف الأول) يختلف معناها بحسب الوظيفة التي ترتبط بها ( هل هي وظيفة التلقي أم وظيفة التفاعل ) .
٣- الحسم في مقابل التراخي ( الحرف الأخير ) يساعدنا على تمييز أي الوظيفتين مقدم و يمثل شخصية الإنسان بشكل كبير .

بناءً على الكلام السابق فإننا نستطيع أن نترجم الشخصيتين العلويتين ، فنقول : 
 INTJ  .. Ni , Te , Fi , Se 
 ESFP  .. Se , Fi , Te , Ni

تحليل الشخصية الأولى .. - الخصلة الأولى فيها و الطاغية هي Ni (التأمل) و نظراً لأنه داخلي فهو معني بملاحظة الأحداث في الخارج و ربطها و صياغة صورة شاملة تفيد الأهداف الداخلية و القيم العميقة  - الخصلة الثانية  وهي المتداخلة مع الأولى Te (العملية) وهي في حقيقتها عقلانية خارجية أي تهتم بالعمل الخارجي و النتائج الملموسة  - الخصلة الثالة Fi وهي (الأصالة و الإطمئنان) وهو منطق عاطفي يهدف للإستقرار الداخلي عن طريق التكيف مع البيئة المادية أو الإجتماعية الموجودة   - الخصلة الرابعة Se وهي (الملامسة) وهي الإهتمام بالمادة و تفاصيلها و الأشخاص و حالاتهم . 

تحليل الشخصية الثانية .. - الخصلة الأولى و الطاغية فيها هي Se (الملامسة) وهي لا مرجعية الداخل النفسي ، الشخص يؤمن بالمادة و يهتم بتفاصيلها و يهدف للتفاعل معها و اكتسابها لتحقيق رضاه   - الخصلة الثانية Fi وهي ( الإطمئنان و الأصالة ) وهو المنطق العاطفي الذي يهدف للإستقرار و الأمان  - الخصلة الثالثة هي Te ( العملية ) ، - ثم الخصلة الأخيرة Ni (التأمل) 

هاتان الشخصيتان تختلفان لدرجة كبيرة نظراً لأنهما يقدمان وظائف مختلفة وبالتالي فإنهما يتفاعلان بطريقة مختلفة ، الأول يحب التأمل بينما الثاني تشغله بالمادة ولا يستطيع العيش بدون كمالها ، الأول لديه مركزية ذاتية ينطلق من خلالها للتأثير في العالم بينما الآخر يتأثر بالعالم و يتكيف معه ليحافظ على تلك المادة التي يحب و الظروف التي لا يستطيع التخلي عنها.

و للتوضيح فإني سأشرح كل واحدة من هذه الرموز : 
Te .. قطب يدل على السعي للتأثير في الواقع المعيشي عن طريق العمل المنطقي 
Ti .. قطب يدل على السعي للتموضع في الواقع المعيشي عن طريق المنطق 
Ni .. قطب يدل على سعي لفهم الواقع الكبير بنظمه لخدمة قيم و أهداف داخلية 
Ne ..  قطب يدل على سعي لفهم الواقع الكبير بنظمه لمجرد الفهم و التموضع النفعي 
Fe .. قطب يدل على السعي لتكوين بيئة إجتماعية صغيرة مترابطة و سعيدة 
Fi .. قطب يدل على السعي للتعايش مع البيئة الإجتماعية و تجنب الصراع 
Se .. قطب يدل سعي لفهم الواقع القريب المحيط لمجرد الفهم و التموضع
Si .. قطب يدل على سعي لفهم الواقع المحيط لخدمة القيم و الأهداف الداخلية 

مما سبق نستطيع أن نستنتج أن الشخصيات يمكن تمييزها عن طريق بضعة أسئلة و ملاحظات بسيطة ..

١- هل المركزية العملية للذات و قيمها مع الثقة في قدراتها ؟ أم هي للبيئة المحيطة و آثارها ؟ .. وبالتالي نعرف إن كان الشخص فاعل في المحيط أو متفاعل . 
٢- إذا كانت المركزية للذات فهل هذه الذات (متأنية) تقرأ الواقع على شكل نقاط مترابطة و متأثرة ؟ أم هي ذات (مخاطرة) تتعلم من أخطائها و تجاربها و العالم المحيط الذي تتفاعل معه؟ .. وبالتالي نعرف إن كان الشخص يقدم التأمل و المراقبة أم المعاينة و التجريب
٣- إذا كانت الشخصية متأنية فهل هي تشغل نفسها بالمجتمع الكبير و المخاطر البعيدة ؟ أم هي تحلل المجتمع المحيط و المخاطر القريبة فتخفق في تحليل الواقع السياسي الكبير ؟ 
٤- إن كانت الشخصية مخاطرة فهل هي تثق في العادات و الطرق التقليدية بشكل كبير ؟ أم هي شخصية تبتكر طريقة سيرها وهي سائرة ؟ 
٥- أما إن كانت المركزية للبيئة الخارجية و تأثيرها فالسؤال هنا .. هل البيئة المؤثرة في الذهن هي العالم الكبير بكل تعقيداته و جماله فيهتم العقل بمعرفته و التموضع فيه ؟ أم هو العالم الصغير و المحيط بكل أخباره و تفاصيله فيكون الإنسان فضولياً و مراقباً لمحيطه حتى يضمن لنفسه تموضعاً جيداً ؟





و أخيراً فإننا نستنتج النقاط التالية في موضوع الداخلية و الخارجية :

١- الداخلية في التلقي ( بغض النظر عن كون التلقي حسي أو حدسي ) .. الشخص الداخلي تكفيه القليل من المعلومات التي يستقيها بأحاسيسه إذ هو يستخدم النقاط و الإنطباعات الأساسية حتى يبني صورة متكاملة متناسقة مع الصور القديمة تهدف كلها للمحافظة على القيم و المبادئ و الأهداف التي كان الفرد قد أعدها مسبقاً .. لذلك فالشخص الداخلي في تلقيه أكثر تحليلية و ولذاته مركزية أكبر في الحكم و التأثير على الواقع لأنه أكثر.

٢- الداخلية في التأثير ( بغض النظر عن كون التأثير عاطفي إجتماعي أو عملي سياسي ) .. الشخص داخلي التأثير لا يشغل نفسه كثيراً بتغيير الواقع بل هو مستمتع به و بتفاصيله (إن كانت تفاصيل قريبة محيطة أو تفاصيل كبيرة معقدة ) يتفاعل معه حماية لنفسه و رغبة في الحفاظ على واقعه . 

 ٣- الخارجي في التلقي ( بغض النظر عن كون تلقيه حسي أو حدسي ) .. هو شخص يتعلم من تجربته و معاينته بشكل أكبر ، يحتاج لبيانات كثيرة حتى يصل إلى الصورة الكبيرة ، لذلك فإن ثباته المسبق في وجه التحديات الجديدة (مركزيته من الأحداث ) أقل نظراً لأنه يحتاج لتفاصيل أكثر حتى يتصور آثار مواقفه الحالية فيحكم و يتموضع بناء على ذلك .

٤- الخارجي في التأثير (  بغض النظر عن كون هذا التأثير سياسي كبير أو عاطفي إجتماعي ) .. هو شخص معني بالتأثير ويرى لنفسه مركزية أخلاقية و قيمية ، فإن كانت قيمه خائطة فإنه بحاجة للكثير من المناقشة و التأمل حتى يغير تمركزه و العكس ، هؤلاء الأشخاص يلمحون الواقع المحيط ولا يتبحرون فيه لأنهم معنيون بالعمل كثيراً.




تعليقي و انتقاداتي : 
١- التمييز الأفقي لهذه المحاور الوظيفية هو برأيي أقل واقعية و أكثر تعقيداً ، واقع الأمر أن تفاوت الناس من حيث الفاعلية العملية ، و التأملية ، و بيئة التفاعل ( السياسية في مقابل الإجتماعية )  هو في أصله تفاوت في القوة ، و إن كان لكل شخصية بتمايز نقاط ضعفها و قوتها فائدة لا تنكر في المجتمع . 
٢- التحليل لا يلتفت لمحور وظيفي مهم وهو محور ( الأنانية في مقابل التجرد ) ، و هذا المحور الذي هو في أساسة عصبية تتدرج في قدرتها على الإنعتاق من الذات لأجل الحق إذ ترتفع أو تهبط في سلم رقمي أعلاه طلب الحق المحض و أدناه طلب المصلحة الذاتية ، قد يتم إنكار هذا المحور أو محاولة إدراجه في المحاور السابقة لكن الحقيقة هي أنه محور أخلاقي يؤثر في شخصية الإنسان إلى حد كبير. 
٣- التحليل لا يتكلم عن أثر السن في شخصية الإنسان و قدرته على ممارسة الوظائف المذكورة 
٤- التحليل لا يتكلم عن أثر البيئة و الظروف الحياتية التي تمايز بين دوافع الناس حسب هرم ماسلوا للدوافع البشرية . 
٥- التحليل لا يتكلم عن أثر الصورة المسبقة للحياة ، و لا عن التصورات الإجتماعية المسبقة لماهية القيم و القوانين الصحيحة التي تؤدي للنتائج مطلوبة، فهذه وإن كانت غير أصيلة في خلقة الإنسان إلا أنها تبني نظرته للحياة و من ثم فإنها تؤثر على طريقة تفاعله . 

لأجل كل ذلك فإني سأحاول أن أعيد تقسيم الشخصيات شاملاً كل الظروف الزمانية (العمر) و المكانية (البيئة الإجتماعية و السياسية) و كل المحاور (محور التجرد) ، متجنباً التعقيد حتى تصبح لهذه النظرية أثراً عملياً أكبر في الحياة اليومية . 

الخميس، 21 يناير 2016

الإسلام و الجمال




الإسلام و الجمال 
كمال شكل الشيء دليل كماله في مضمونه 

الإنسان كائن ضعيف ، يتأثر بشكل الشيء أكثر من مضمونه ، يلامس خصائصه الخارجية و يميزها دون أن يستطيع تمييز مضامينه و أسس بنائه إلا إذا تخصص و سخر الوقت لدراسته.

ظل الإسلام طوال العهد المكي يحامي عن وجوده بالإلتجاء بالقوى المهيمنة في ذلك المجتمع و مخاطبة عقلاءه، ثم انتقل بعد ذلك إلى المدينة إحتماءً بها من تعدي القبائل القرشية التي وجدت أن رسالة الإسلام صارت مهددة لهيمنتها السياسية و طبقيتها الإجتماعية فقررت أن تتحد للقضاء عليها ، لكن هذاالإنتقال لم يغير الكثير في بادئ الأمر إذ ظل الإسلام يحامي عن وجوده بتلك القوة العسكرية السياسية الصغيرة التي كانت أشبه ما تكون بالعصابة المتضامنة ، لكن هذا القوة السياسية تغير نفوذها في أواخر العهد المدني لتصير قوة مسيطرة على الجزيرة العربية عموماً ، إذ قد استطاعت بهيمنتها السياسية و الأخلاقية و التنظيمية أن تهيمن على قلوب الناس فتحولهم من اللامبالاة إلى الإعجاب و الإنتظام ، و لأن الإنتظام خصلة عزيزة في بيئة مترامية الأطراف تسكنها قبائل مفككة فإن حمل الناس على ذلك كان يحتاج إلى أمرين، الأول هو مركزية السلطة التي تأتي نتيجة ازدياد المال و السلاح في يد المركز ، الثاني هو الإبهار و القوة الناعمة التي يملكها هذا الكيان السياسي الجديد . 

يسر الله تعالى للجزيرة العربية ظروفاً جمعت سكانها على فرقة أصيلة تحتمها جغرافيتها القاسية ، فالله تعالى قضى بأن يخرج الماء العذب “زمزم” من ذلك الوادي الجاف حتى تجتمع القبائل المهاجرة عليه ، ثم قضى بأن يبني إبراهيم البيت بنفسه و أن يؤذن في الناس بالحج لتجتمع القلوب على تلك البقعة ، فاجتمعت الناس تؤم البيت و تلتجئ إلى ربها من خلاله ، ثم يسر لهذه المنطقة أن تكون على خط تجاري تسمح لها بأن تبني مساكنها و تعمر أسواقها فكانت رحلة الشتاء و الصيف و التي تأتي بالبضائع إلى أسواق مكة فكان ذلك سبباً أساسياً لنشوء مركز واحد في بيئة عصية على الإجتماع على مركز ، إذ أن هذه المدينة صارت أكبر مدن الجزيرة ولا ينافسها في ذلك إلا مدن اليمن ، كما أنها أرض محمية بجبالها الصعبة و صحار طويلة يسرت للحكم فيها أن يكون مستقلاً عن أي نفوذ و للعبادة و الدين أن تكون مستقلة عن أديان القوى السياسية المجاورة ، كل هذا و الإسلام بعد لم يظهر كانت البيئة قد هيئت له ، ولا أدل على ذلك من حملة أبرهة العسكرية التي أراد الفرس من خلالها القضاء على هذه الإستقلالية السياسية العربية و تحقيق المزيد من النفوذ السياسي و الهيمنة . 

البيئة الصحراوية الكبيرة تقتل كل احتمالية ممكنة للبناء إذ الناس بطبيعة عيشهم رحل ، و نتيجة لترحالهم الدائم لا يستقرون ولا يبنون ليتعلموا من الصنائع ما يمايزهم و يسخرهم لبعضهم البعض ، كل هذا يعني أن القبائل العربية لا تجد في ظروفها ما ييسر لها أن تنتظم و أن تعبر عن هذا الإنتظام ببناء متناسق جميل ، وسواءً كان ذلك في بناء المساكن و الطرقات أو المزارع و مساقي المياه أو آلات الغناء و الرقص التي تعد بدائية إلى حد كبير في تلك البيئة ، كل ذلك كان يعني أن أكثر المجالات قبولاً للإبداع و التحسين هي أقلها كلفة ، وهي اللغة و إيقاعاتها ، من هذا المنطلق كان للقرآن أثراً كبيراً إذ هو متناسق في إيقاعه ، عظيم في معانية ، و منظم في أثره الإجتماعي . 

الكيان السياسي الحاكم يجب أن يكون مصدراً للرزق و الأمن إلى حد كبير ، إذ أن امتلاكه للمادة يعني قدرته على الضبط و التهذيب ، كما أنه يحتاج لأن يغزو عقول أتباعه و نفوسهم حتى تستقر في أذهانهم علويته الخلقية و كفائته الإدارية (القوي الأمين) ليمكنوه من إخضاعهم و تسخيرهم لهدف يرونه يمثلهم جميعاً و يرتقي بهم عن واقع غير مرغوب . 

الجمال في أصله انتظام و تناسق ، يكون في الأمور المرئية كالبناء و الخلقة البدنية ، و الأمور المسموعة كالشعر و الغناء و كل ماله إيقاع متناغم ، كما أن العلم أيضاً يفتن طلابه بقدرته على ربط الأحداث و إظهار تناسقها ، وكذلك هي حركة الجيوش و المراسم السياسية التي تدل على تناغم الناس و انسجامهم ، كل ذلك يتوافق مع ميول النفس البشرية التي تحب أن ترى بيئتها مدروسة و منظمة و معمورة ، فتكتسب لذلك حساً بالهيمنة و التعالي على سائر المخلوقات ، فتكون خليفة لربها فيها تيسر أمورها و تمنعها عن بعضها . 



لأجل كل ما سبق فإن الإسلام لا ينتشر إلا إذا اقترن بمظاهر الجمال الحسي و الإنتظام العملي و النظافة نظراً لأن عموم الناس يتأثرون بالمحسوسات أكثر من العقائد و القوانين التي لا يلمس أثرها إلا بعد حين . القرآن لذلك كان له أثراً كبيراً على العرب المتقنين للبناء اللغوي و المتلذذين بإيقاعات خطابه ، إبداع القرآن في طرحه و كمال نسيجه كان حاملاً للمعاني التي يقصد إيصالها إلى الناس عموماً و العرب خصوصاً ، هذه الوسيلة كانت الوسيلة الوحيدة المطروحة في بيئة جافة متصارعة يصعب بناء شيء فيها غير البناء اللفظي ، ثم تبع ذلك الإنسجام اللفظي إنسجام عملي بالإصطفاف خلف إمام واحد و الإنطلاق تحت إمرته ثم الإنضباط الذاتي الذي أوجدته تشريعاته ، كل هذا الجمال الذي قارع الفوضى المحيطة أدى لانصياع الناس و دخولهم في هذا الدين الجديد يسعون للهيمنة من خلاله على محيطهم حتى يبنوا واقعاً جميلاً منظماً . 

لذلك فإن المجتمعات المتحضرة أصعب قبولاً لدين الإسلام ، إذ أن هذه المجتمعات تمكنت من الهيمنة على محيطها و تنظيمها و بنائها دون أن تنتظم بدين السماء “الإسلام” ، مما أوجد شعوراً بالإستغناء عن تعاليمه، بل عن التعاليم الدينية عموماً إذ الإنسان ينحوا نحو التخلي كلما استشعر هيمنته وهو يتوهم غناه عن ربه كلما بنا شيئاً دون الرجوع إليه ، والعكس صحيح فإن الفوضى و الدمار والفقر و الظلم كانت عوامل رئيسة تدفع الناس لقبول هذا الدين إذ أن نتائجه الإيجابية دائماً ما كانت تغري المستضعفين وتوفر لهم المظلة و الرداء الذي يحميهم. لذلك فإن أكثر بلاد العالم إستغناءً عن هذا الدين و زهداً في تعاليمه هي أكثرها غناً من حيث الموارد و المنجزات الحضارية ، و العكس الصحيح فالمجتمعات المظلومة و المستضعفة تتشرب هذا الدين كما تتشربه الإسفنجة . 

يقول الله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة و معارج عليها يظهرون ، و لبيوتهم أبواباً و سرراً عليها يتكئون ، و زخرفا و إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا و الآخرة عند ربك للمتقين ) سورة الزخرف 

و يقول تعالى : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ) سورة الزخرف 

ويقول تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين ، و إنه لفي زبر الأولين ، أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ، ولو نزلناه على بعض الأعجمين ، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ، كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) سورة الشعراء 

هذا هو عماد الإسلام المادي ، الجمال الذي ينسجه المجتمع المسلم حول نفسه ، بدون ذلك الجمال و الإنتظام لا يطمح الناس للإنضمام لهذا الدين ولا يستشرفونه ، كما أن هذا الجمال الذي يورث تدرس (تتحلل) بالتدريج أسسه التي بني عليها ، فتتحرك المجتمعات عنها لتلتزم بمظاهر الحضارة الإسلامية دون أسسها ، ومن هذا المنطلق تخرج المذاهب التي تتعارض مع رسالة الإسلام ( كالصوفية و القديانية و القدرية و الشيعة ) ، هذه المذاهب كلها تحافظ على شكل الإسلام و إسمه ، فتتعصب لتاريخه و أجداده و أمجاده دون أن تلتزم تعاليمه ، و هذا كله ناتج عن الإستغناء المادي بما يسره الله من أرزاق في هذه الطبيعة و بالبناء السياسي الذي يمكن إتمامه بشكل مبهر دون الحاجة للعودة إلى تعاليم الإسلام . 

باختصار إنتظام الشيء و تناسقه هو جماله ، و الجمال يؤدي للهمينة ، كما أن الهيمنة توجد النظام و بالتالي تصنع الجمال .. هاتين حالتين مطردتين يدعم كل واحد منهما الآخر ، لذلك فإن الجمال أصيل في الإسلام متفق مع فطرة الإنسان ، فما عافته النفوس عموماً كان بعيداً عن الدين وما استحسنته من بناء و فن لا يحمل اعتداءً على أحد ( الله أو خلقه ) فإنه من الأسس التي يبنى عليها الدين.

يقول الله تعالى : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) سورة المائدة .

وقد كانت النبي عليه الصلاة و السلام يحب الإتقان في العمل و يدعوا إلى إتيان الجمع بأحسن الثياب و يقول ( حبب إلي من دنياكم النساء و الطيب ) ، وكذلك فإنه كان يختار أجمل الصحابة ليكونوا له رسلاً ،  و كان يقول : ( إن الله جميل يحب الجمال ) ، و قال : ( إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) ، و لكل ذلك منطق في السياسة فجمال الطلعة يؤثر على مستقبل الفرد و الجماعة إذ الناس تستبشر بمن هو جميل الخلقة ، نظيف الثياب ، حسن الرائحة ، رقيق الطباع و الألفاظ ، فهذه الطباع التي تحقق المصلحة المادية تقرب من الله إذ الله جميل يحبها كما تحبها المخلوقات ، وهو سبحانه يتصف بها كما يحب أن يتصف بها عباده .


ختاماً فإن السعي للجمال و التحسين المادي لا يكون على حساب العدل و الرحمة ، كما أن الجمال المفضي للفتنة (إنتهاك حرمات الله) محرم إذ أنه على استحسان النفوس له يؤدي مع الزمن إلى انهيار أعمدة الدين و أسس المجتمع القويم . 


أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علماً و عملاً إنه سميع مجيب .

الجغرافيا و تاريخ الحضارات (٢)




الجغرافيا و تاريخ الحضارات (٢) 
عندما تكون الأرض جامعة للناس فإنها تيسر تسخيرهم ليبنو أثراً


الحضارة لا يمكن أن تنشأ في مجتمع بالكاد يصل لحاجته من الغذاء "السعرات الحرارية" كما هي الحالة في مجتمعات الصيد ، هذه الطريقة في العيش غير ثابتة في مدخولها ولا هي مستقرة في محيط صغير يجمع الناس بل الناس فيها محتاجون دائماً للتنقل وراء موردهم الغذائي المتنقل ، ولأنها وسيلة منهكة و تظطر الناس للتنقل فإنها لا تبني شيئاً ولا تيسر الظروف لتكوين البناء الطبقي في المجتمع ، لذلك فإن العقل و التفكير المنطقي يكون في أبسط حالاته بعكس القدرات الجسدية التي يهتم المجتمع لقوتها و تحسينها ، كذلك هي حالة الرعي لا يمكن أن تنشئ مجتمعات حضارية كبيرة قادرة على الصناعة و الكتابة نظراً لأن الرعي يظطر أصحابه لمداومة التنقل فتتكون العصبيات حول جماعات عرقية صغيرة متنقلة مع ماشيتها ، تحافظ على بقائها بمحل الماشية معها و تحافظ على أمنها بمداومة التنقل تجنباً لمواجة القوى الكبيرة ؛ و أخيراً الأراضي الشاسعة التي لا تقارب بينها أنهار يصعب حكمها من قبل جماعات لا تجد شيئاً من موارد الطاقة الرخيصة ما ييسر لها نقلاً سريعاً يحفظ وحدة البلاد و مركزية السلطة ، هذا كله يعني بالضرورة أن الدول الكبيرة ( التي هي عمود الحضارة الطبيعي ) كانت لابد أن تتمحور حول الأنهار ، و كانت هذه الأنهار تحتاج لأن تكون هادئة و طويلة (أي يمكن الإستفادة منها و السيطرة عليها )، و إن كانت محمية بعوامل جغرافية أخرى كالجبال و الصحاري فإنها تصبح في منعة أكبر و أقدر على الإستمرار كوحدة تاريخية ، مثال ذلك الهند و الصين التين بنتا حضارتيهما حول الأنهار و احتمتى بالجبال المحيطة بهما .  

التاريخ البشري و قصة الحضارة فيه عبارة عن سرد قصصي لتكاثر الناس و انتشارهم والتنوع الذي يحصل مع ذلك الإنتشار ، كلما تكاثر مجتمع من المجتمعات و انتشر تنوعت موارده و ظروفه ، وهذا يؤدي لتنوع الإقتصاد و زيادة العلم و تطور الصناعة و خلود الذكر ، و العكس بالعكس . لذلك فإنه يصح أيضاً أن نقول أن التاريخ البشري هو سرد قصصي للتكاثر البشري و الغلبة ( التغلب الإقتصادي و العسكري )، فالنظام الإقتصادي و حرية السوق في حقيقة الأمر يتبعان الأمن و هيمنة القانون إذ أن الصراعات العسكرية صراعات عصبية رافضة لشكل الطبقية الإجتماعية التي ينتجها السوق الحر ، إذ هي تسعى بقوتها لحرف نتائجه و تمييز جماعة عن أخرى ، كل مجتمع يحمل في نفسه عصبيات تتعارض مع نتائج السوق يوجد لنفسه تشريعات أو تسهيلات تسمح لعصابة ما بأن تتعدى على السوق ، وليس هناك فرق في وجود التعصب من عدمه إذ أن هذه خصلة بشرية طبيعية ، ولكن شكل العصبية و توافقها مع البناء السياسي هو الذي يحدد النتائج ، فبعض المجتمعات تشمل عصبيتُها كل أفرادها و تبنى هويتها كدولة على مجموع عصبيات الناس فتصبح بنيتهم السياسية الداخلية بنية نظامية حرة ، وتصبح عصبيات الناس حامية للسوق و نتائجه ، و العكس يرى إذ أن كثيراً من المجتمعات تكون عصبياتها مجزئة فلا تصير هناك سوق حرة يحميها المشتركون فيها ، و قس على ذلك فالسوق و كبره تابع لكبر العصبية و رسوخها و الأمن الذي توجده ضامن لحرية السوق و شفافيته. 

الحقيقة أنه على ما ذكر عن هذه الحضارات التي نشأت على ضفاف الأنهار إلا أنها ليست الوحيدة التي كانت لجغرافيتها الطول الأكبر في الحكم عليها و على مصير حركتها السياسية و الإقتصادية عبر التاريخ ، الدول الخصبة التي تحميها الجبال و تجد لنفسها إطلالة كبيرة على البحار و يجد عرقها الواحد أنه محصور بين قوى سياسية معتدية على جانبية تبني لنفسها بالتدريج سوقاً واحدة و كياناً سياسياً موحدها يساعدها على التكيف مع ظروفها ، فتنتج و تزرع و تصدر و تحارب نظراً لأن هذا هو محيطها . لا تحتاج الدول من هذا النوع لأن تمتلك أنهاراً هادئة جامعة ، إذ الأمطار تسد حاجتها من الماء و ظروفها السياسية الصعبة تجمعها ، كما أن إطلالتها على البحر و التضاريسها الجغرافية الصعبة تساعدها على استخدام البيئة المحيطة لصالحها . من أكبر الأمثلة على ذلك في الوقت الحاضر ( إيران ) ، هذه الدولة بما تحويه من أراض خصبة شاسعة و جغرافية صعبة تحميها مع انكشافها على قوى أجنبية تجد أنها تحافظ علي كيانها السياسي و تعمل كوحدة إقتصادية متماسكة ، و هذا طبعاً لم ينتج إلا بعد أن ظهر الحضارات السابقة و صارات هذه الأراضي محصورة فيما بينها ، تتميز بعرقها و ثقافتها و تمتلك من الموارد ما يمكنها من المنافسة .



 الحالة الأوروبية  كذلك مشابهة لما ذكرناه إذ هي لم تنشأ على نهر ولكنها كانت أرضاً خصبة مطلة على البحر المتوسط الذي يصلحها بأراض شاسعة و متنوعة في مواردها و شعوبها مما ييسر لها بناء أماراتها و توسيع ممتلكاتها مع الإتساع التجاري الذي كانت تبنيه وهي تغزو أسواق الشرق الأوسط و شمال أفريقيا ، لذلك فإن الحضارة الأوروبية قيض لها منذ نشأتها الأولى أن تكون حضارة مبنية في اتساعها و تقدمها على سيطرتها على البحار و غزوها للأسواق المجاورة ، هذه هي الوسيلة التي تنمو بها أوروبا وهي الوسيلة التي تستطيع بها أن توصل أفرادها بعضهم ببعض و أن تحكمهم حكماً مركزياً ، ولذلك فإن الحضارة الغربية فقدت نشاطها و قوتها و اتساع مدنها بمجرد أن فقدت السيطرة على البحر المتوسط عندما نزعت الحضارة الإسلامية منها شمال أفريقيا و أراضي الشام ، وكذلك فإن أول الأراضي الأوروبية تقدماً و اتساعاً في مطلع عصر النهضة كانت أراضيها الشمالية الغربية نظراً لتوفر الأنهار و الأراضي الخصبة السهلة و الإنكشاف الآمن على المياه الدافئة التي توصل للعالم الجديد ( أمريكا الشمالية و الجنوبية ) ، و بمجرد أن حصل ذلك حتى عادت المدن الأوروبية تتسع و عادت صناعاتها تنافس و كذلك العلم بدأ ينتشر بين الناس باطراد مع اتساع الإمبراطوريات الأوروبية و أسواقها. 



أمريكا هي الأخرى من أكثر الأمثلة وضوحا و دلالة على ما سبق ، ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية هي في حقيقتها أرض غنية جداً بالموارد ، هي أخصب أراضي العالم و فيها أكبر شبكة أنهار تصل بين تلك الأراضي الزراعية ، وهي بين ذلك و ذاك منفتحة في تجارتها على أهم محيطين ( الهادي و الأطلسي ) ، لذلك فإنها ما كان يمنعها عن التقدم إلا ندرة الماشية الصالحة للتربية و الحلرث و ندرة المحاصيل الغنية بالسكريات ( القمح و الذرة و الشعير .. ) و مع ذلك كله قلة السكان من ذوي العرق الواحد و العصبية الواحدة ، وبالتالي فإنه بمجرد أن استعمرت تلك الأرض أوروبا و جلبت معها الماشية ( الغنم و الأبقار و الخيل ) و المحاصيل الضرورية للزراعة و الصناعات المتقدمة حسب ذلك الزمن ( صناعة السفن و آلات الحرب و صناعة المساكن ) فإنها صارت لفورها موطن حضارة و أرض قوة و نفوذ ، ولو أن أمريكا كانت على خط الإستواء لا تملك من الأنهار ما يساعد على التنقل و الري ولا من السهول ما يساعد على الحكم و الإمتداد ولا من الإنكشاف على البحار ما يساعدها على التجارة مع الدول الأخرى ما بنت نفسها كقوة عالمية ولا كان لها من الشأن ماهو معروف الآن . الحضارة لا تكتسب قوتها و تعقيدها و تفوقها العلمي و الصناعي إلا بمقدار كبر أسواقها و مواردها، ولأن هذه هي الحالة بالنسبة لأمريكا و كذلك كانت بالنسبة لأوروبا الإمبريالية فإن معدل التطور يتناسب طردياً دائماً مع معدل الإتساع ، و لأن هذه هي الحقيقة فإن المنجزات الحضارية و القوة يفترض بها أن تتراجع كلما قل تراجع التكاثر و الإتساع ، إذ تقل الفرص الإستثمارية ليقل معها انتشار المال و تقل الفرص المتاحة لعقول الشابة أن تنافس بمنتجاتها و أفكارها المؤسسات القائمة .

هذا هو أثر الجغرافيا على المجتمعات البشرية ، كبير جداً إذ أن الناس بالعموم في حركتهم يدفعهم الخوف أكثر مما يدفعهم الطموح ، و تسيطر عليهم الأنانية أكثر مما يشغلهم هم الآخرين من مواطنيهم و من المجتمعات المحيطة بهم . هذه الحالة تعني أن البشر خلال تاريخهم يجدون أنفسهم في موقف المفعول أكثر من موقف الفاعل ، و بالتالي فإن التنبؤ بحركتهم يعد أكثر سهولة خاصة في العصور الفائتة التي لا يجد الناس فيها طاقة رخيصة وافرة ولا موارد كثيرة منتشرة ، هنا تكون الحركة البشرية أكثر رتابة و التحولات التاريخية أقل عدداً ، ولأجل ذلك فإن الحضارة كما ننظر إليها ( منتجات صناعية و علمية مادية و أنظمة مركبة ) هي في الحقيقة صناعة الجغرافيا و المناخ بالعموم مع معدل التكاثر و حد التكاثر الذي تسمح به تلك البيئة . 

البعد الجغرافي يتفاعل مع البعد التاريخي لينتج حركة الصراع السياسي و الإقتصادي ، هذا هو اختصار إحداثيات التفاعل ( أفقية و عمودية ) ، ذلك أن الأمم كيانات إجتماعية لها قصصها التاريخية وهي في تفاعلها البشري مع محيطها تسعى لاستكمال تلك القصة قبل أن يكمل التاريخ مسراه ، و ينتهي الصراع بغلبة جماعة ما ، و مع أن هذه النظرة تعد نظرة سطحية إلا أنها معبرة بشكل موجز عن واقع المجتمعات البشرية في هويتها و تفاعلها ، كما أن نظرية نهاية التاريخ ليست غريبة على العالم بل هي تنطلق من هذا المنطلق إذ تجد المجتمعات أن هناك نقطة قصوى يتوقف عندها السير ، لذلك هي تستجدي انتهاء التاريخ أو  الخروج بالمنافسة إلى قوى سماوية لتنهي بذلك قصتها الحضارية في تاريخ الحياة البشرية بنهاية علوية تتفوق فيها على منافسيها فيخلد ذكرها في نفسها وفي نفوس الآخرين ( كما تأمل هي ) ، هذا البعد مهم جداً إذ أن له أثراً كبيراً على الواقع السياسي ، فالمجتمعات التي تجد أن هويتها و قصتها الحضارية تتعارض مع ظروفها لا تتوقف عن مجابهة تلك الظروف و محاولة تطويعها أملاً في استكمال قصتها الحضارية .



العرق له دور مغفل يتجاهله الكثير من الكتاب و المؤرخين ، ومع أن بعضهم كتب عنه إلا أن الكتبة كانت تتراوح بين الإجحاف و الإهمال ، فهذا الدور يختلف عن الدور الذي كان يزعمه المتعصبون لأعراقهم إذ هم يرون أنهم يتفوقون بخلقة عقولهم و شخصياتهم الأصيلة في ذواتهم ، الحقيقة هي أن الخلقة الجسدية الظاهرة لها دور أكبر و تمييز أكثر أثراً بين المجتمعات البشرية من الأعضاء الداخلية، فالعقل كأي عضو من أعضاء الجسد يتكيف مع محيطه البليد أو الصعب فيقوى كما تقوى العضلات كلما وجد في بيئته ما يتحداه ويضعف مع الإهمال، لكن خلقة الجسد ( أي جمال الملامح ) و تميزه يوجد ميزة نفسية تؤثر على حركة الناس و قراراتهم مما يؤثر على نتاج التفاعلات الإجتماعية . فالخلقة كلما كانت أجمل كان حظ صاحبها في الحصول على الوظائف العالية و الفرص الإستثمارية الجيدة و المصاهرات النافعة أكثر من حظ أقرانه ممن لا يصلون إلى ما يصل إليه في كمال خلقة ، هذه الحقيقة المغفلة لها أثر تاريخي كبير لا يمكن إغفاله ، فالخلقة و إن كانت لا تبني قصراً أو تبدع صنعة أو تحرث أرضاً إلا أنها تؤثر بشكل كبير على نفسيات أصحابها ، فالجمال يعبد لصاحبه الكثير من ظروف الحياة ، كما أن سعيه لتكييف الطبيعة يزيد إذ هو يجدها مطواعة في يديه فتكون ثقته بنفسه أكبر و طموحه أبعد و نظرته للجمال و انتقاؤه أعمق ، الجميل ببساطة يقدر قيمة الجمال أكثر من غيره إذ يعايش أثره و يحرص على المحافظة عليه و بناء الواقع الذي يتوافق معه . هذا الكلام كله ينطبق أيضاً على الطبيعة و المناخ إذ أن جمالها يدفع أصحابها لاستكمال بنائها الطبيعي و تحسين مرافقها و تنظيم مجتمعها ،  الجمال ببساطة تناسق و تمام في الخلقة ، ولأن التمام يوحي بالإنتظام و الهيمنة فإنه يغري بالتحسين و طلب الكمال ، ومن هذا المنطلق فإن للخلقة و البيئة أثراً كبيراً على نفسيات أصحابها و طرق تعاملهم مع واقعهم .

في الختام .. الحضارة المادية هي في الحقيقة نتاج التكاثر ، و التكاثر لا يتم إلا إذا وجدت الضروف الجغرافية التي تساعد على توفير حاجات الكثرة و ربطهم و ضبطهم في نفس الوقت ، كما أن تمام ذلك كله مرهون إلى حد ما بتمام الخلقة و الطبيعة و الصورة الذهنية .