الاثنين، 16 مايو 2016

السوق .. بين الحرية و الإستقلال (٢)




السوق .. بين الحرية و الإستقلال (٢)
ما هو مقصد الشريعة من الأحكام الشرعية في البيوع ، الحرية أم الإستقلال ؟ 


العوامل المؤثرة في السوق بشرح أكبر هي كما يلي : 

١- حجم السوق : 
السوق الكبيرة في الحجم هي سوق تظهر فيها التخصصات المتقدمة و الصناعات الترفية ، السوق الكبيرة في حجمها تمتلك قدرة شرائية و استثمارية كبيرة و عدداً كبير من الأغنياء القادرين على شراء السلع الغالية ذات الجودة العالية و المادة النادرة فتظهر للعالم صناعات كثيرة بجودة عالية و يصبح التخصص مطلباً مهماً لدخول سوق العمل إذا لم يكن الإنسان يملك رأس مال يمكنه من تجاوز مرحلة الوظيفة . السوق الكبيرة لا تشتغل كثيراً بالأساسيات إذ هي سهلة الإنتاج قليلة الإستنزاف لرأس المال و اليد العاملة.

٢- إتجاه السوق : 
حركة السوق بالتجاه النمو أو الإنكماش تؤثر بشكل كبير على مزاج المستهلك و المستثمر و بالتالي فإن معدل الرضا السياسي و الإستقرار و الشفافية يتغير ، و هذا كله يؤثر على درجة استعداد الناس للمخاطرة و الإستثمار ، كما يؤثر على درجة استعداد البنوك للإقراض. 
في السوق المنكمشة يسعى الناس للحفاظ على ضروريات الحياة و امتلاك الموارد التي تحفظ قيمتها رغبةً في تأمين النفس و الإستغناء عن الكيانات السياسية و التجارية التي فقد عموم الناس ثقتهم بها، هنا ترخص السلع و تفشل الكثير من الإستثمارات و تقل قدرة الحكومة على ضبط العامة . في السوق المنكمشة نظراً لضعف القدرة على الإستثمار في بيئة لا يوجد فيها طلب كثير تتصلب الطبقات، و تنعدم الحركة العمودية تقريباً، ولا يبقى إلا سيد يملك و مملوك يعمل يبديه ، وهذا هو جوهر الإشكال و أساس النقمة . 
السوق النامية على الطرف الآخر يعم الفأل فيها، فالناس جريؤون على الإستثمار و الإستهلاك نظراً لثقة المشتري في المستقبل و أمنه على دخله و النظام العام القائم. فتنموا صناعات الترف هنا و تصير المفاخرة و التعالي سمة عامة تجعل من الصناعات الطرفية صناعة مربحة ، و مع سخط الناس على هذا التمايز في الدخل و التعالي الطبقي إلا أن شعور الناس بوفرة الفرص و إمكانية الإغتناء و الإطمئنان على الضروريات يسكت العامة و يرضيهم حتى ينقلب ذلك كله مع أول انكماشة حقيقية في السوق. 

٣- سرعة النمو و الإنكماش : 
و هذا العامل أيضاً له دور مهم فالإتصالات الحديثة و سرعة النقل عن طريق وسائل المواصلات الحديثة ساعدت كثيراً على تنشيط الحركة التجارية، و من ثم فإن حركة السوق صعوداً و هبوطاً إتسمت بالسرعة إذا ما قورنت بحركة السوق التاريخية ، و هذه السرعة لها أثر كبير في هدر المال و إساءة الإستثمار و إحداث اظطرابات ثقافية و سياسية. 
كما أن الوفرة السريعة تنتج بطراً كبيراً و انفصالاً حقيقياً بين ثقافة الإنتاج و ثقافة الإستهلاك، إذ الغنى السريع سواءً للفرد أو المجتمع ينتج نظرة غير واقعية للحياة فيزداد اعتماد الشخص على الآخرين و تقوقعه في تخصصه الذي قد لا يفيد كثيراً عندما تحدث هزة إقتصادية تغير التركيبة القائمة، لذلك فإن التقلبات السريعة تغير مزاج المستهلك تغييراً راديكالياً من البطر و الجزع، و من الإقتصاد إلى الإسراف.
كما يجب أن ندرك أن وسائل الإتصال و المواصلات مع تأثيرها على النمو و خلق الفرص الإستثمارية الجديدة تؤثر على البناء الطبقي للمجتمع ، فالعولمة هي النتيجة الطبيعية لهذه الحالة من الإتصال و التواصل السريع، و ازدياد الفارق بين الأغنياء و الفقراء يعد نتيجة طبيعية، فالسوق كلما كبرت زاد اغتناء الغني فيها و ضعف الضعيف فيها.

٤- الإستقرار السياسي و الرضا بالتركيبة السياسية : 
التركيبة السياسية بعيداً عن شكل الإدارة و نظام الحكم تلعب دوراً محورياً في السوق. التركيبة السياسية في أساسها هرمية تحكم من خلالها جماعة و تسلم أخرى، و متى ما إنتفى الرضا من الجماعة المحكومة و قلت المسؤولية عند الجماعة الحاكمة قل الإستقرار في ذلك البناء الهرمي. و مع انتشار السخط و قلة الرضا يقل الإمتثال للقانون و يصير الناس للتعاون من خلال هرمياتهم الصغيرة متجاهلين للهرم الكبير وهو الدولة. هذه الحالة هي تنافي نمو التجارة، إذ الأمن قليل و سوق السلاح و العصبية رائجة، و بالتالي فإن الحركة التجارية التي أساسها رضاً ببروز الأكفأ لا تعود حتى تذوب العصبيات في عصبية واحدة جامعة . 

……………………………………………………..

عمر الدولة  ( عامل آخر يتعلق بطريقة صرف الناس ) :

هناك أيضاً نقطة يجب التنويه إليها ، وهي شكل الهرم المالي ( إنتشار المال في المجتمع ) في الدولة حديثة التأسيس في مقابل الدولة الهرمة. عند بداية الدولة تكون للعصبية الجامعة نفاذ في الناس، فيحرص الناس على التعاون و صلة الأرحام بالمال و غيره فيقل الفقر و تنحصر مظاهر الترف و المفاخرة ، و بالتالي فإن هرم الدولة السياسي و إن كان في تركيبه لا يزال هرماً إلا أن الهرم المالي يكون هرماً بيضاوياً صغير القاعدة نحيل الرأس عريضاً فيما بينهما . أما الدولة الهرمة ذات العصبية الميتة فإن رأس الهرم المالي عريض كما أن قاعدته مسطحة و عريضة جداً و بينهما طبقة متوسطة لا تكاد تذكر. 

هذا كله يؤثر على السوق، فالسوق في الدولة الحديثة تركز على الضروريات و لا تلقى فيها التحف و صناعة الرفاهية سوقاً كبيرة، لذلك فإن صناعة الرفاهية تكون ضعيفة البناء غالية الثمن، في حين أن بقية السلع تكون موفورة و رخيصة، إذ الدولة و الأغنياء فيها يركزون على إنتاج المواد الضرورية و تغطية حاجة الناس لها. أما في البناء الأخير فإن الصناعات الترفية تكتسب شعبية كبيرة و يصير لها سوقاً كبيراً، فتتوجه الأموال للإستثمار فيها ، لتقل أسعارها نسبياً و تتحسن جودتها ، في حين أن المواد الضرورية تصبح أكثر كلفة و إرهاقاً لعموم الناس . هذه الحالة توجد تبايناً شديداً بين من يملك و من لا يملك ، فالأول يبني جنة لا يحلم بها الفقير الذي لا يكاد يسد رمقه. هذه هي الحالة التي تسبق الإنهيار و الفوضى . 

……………………………………………………….

لماذا حرم النبي عليه الصلاة و السلام بيع المال بالمال ؟ و لماذا يعد البيع مختلفاً عن الربا؟ 

السبب ببساطة هو منع المال من أن يصير سلعة فيكتسب قيمة منفصلة عن الإنتاج . هذه الحالة تكسب الأغنياء غناً غير مرتبط بالعمل، و تحميهم نظراً لامتلاكهم المال و عقدهم إتفاقيات القروض الربوية من الخسارة ، ليصير المقرضون بالتدريج طبقة حاكمة مستعبدة للناس، تغتني باظطراد دون إنتاج أو مخاطرة . 

أنظر مرة أخرى لعناصر السوق الثلاثة و لاحظ كيف يتم التمييز و الإستعباد : 
المادة المستخدمة في الصناعة ، اليد العاملة القائمة بالصناعة ، ثم النقد الذي تقيّم به السلع و تستخدم كوسيلة لحفظ الثروة و الجهد المصروف .. المال هنا يستمد قيمته من الصفات اللتي يمتلكها و من ندرته أما قيمته الصناعية فإنها قليلة نسبياً،. هذه الخصائص ليست مفيدة في ذاتها إذا انتفت السلع و الخدمات، لذلك فإن استخدام النقد كسلعة ( عن طريق جمع الذهب و الفضة و احتكارهما ثم إقراضهما بقروض ربوية ) يقفز بها على السوق من حيث هي دلالة على مجهود الأفراد العاملين في السوق ، و الهيمنة على بقية الناس المتبايعين دون مجهود فعلي أو مخاطرة تذكر . 

إكتناز الذهب و الفضة و الإقراض باسمهما دون صرفهما فعلياً يؤدي للهيمنة على كافة العمليات التجارية الجارية في السوق ( سواءً كان ذلك السوق محلياً أو دولياً ) ، و بالتالي فإن هذه اليد المقرضة تستطيع التلاعب بأسعار السلع و تكلفة الإنتاج عن طريق تقرير الأيادي التي يمكن إقراضها و الفائدة المطلوبة على المقترضين و أسعار المواد الأساسية إذ هي مصدر الإيصالات (العملات) المأخوذة عن الذهب المخزون ، و بالتالي فإن هذه اليد المقرضة هي الأقدر على شراء المواد الأساسية و احتكارها و دفع الناس إلى طرف السوق ليصيروا أصحاب قيمة هامشية في العملية التجارية ، و من ثم في المركزية السياسية. 

كيف صار هذا الإحتكار للذهب ؟ و كيف صارت العملة ديناً ؟ 

ليس غريباً أن يحتكر الذهب إذ الصلاح ليس أصلاً في البشر، لكن الغريب أن يقبل الناس بأن يحاسبوا بغير المعادن النفيسة. الحقيقة هي أن ذلك التحول لم يطرأ إلا مع تقادم الزمن و تغير الأحوال بالتدريج، حتى صار الإبتعاد عن الذهب و الفضة أمراً مقبولاً و التمسك بهما أمراً لا تدعوا إليه الحاجة، بل هو تخلف و رجعية و بلاهة كما يرا عامة الناس !! 
الذهب و الفضة في الأصل مرتفعة أثمانها (عشر أوقية من الفضة تساوي أجر يوم كامل للجندي و الفلاح ، وهي كافية لكي يشتري بها حاجاته و حاجات أهله )، إذ هي نظراً لندرتها و جمال مظهرها ، و عدم تعرضها لآثار الزمان تدفع الناس للتعدي و الطلب . فهي وسيلة سريعة للإغتناء ، كما أن مصادرتها و حفظها بعيداً عن أنظار الناس يسير أيضاً . لذلك فإن الناس يميلون بالتدريج لاستئمان أصحاب الخزائن و القوة عليها ، كما أن أخذ إيصالات تدل على ملكيتهم لها يساعد على السفر بأمان دون الخوف من السرقة ، ومتى ما وصل الإنسان إلى البلدة التي يريدها قام بدفع إيصاله إلى خزينة (بنك) أخرى ليحصل على نقوده ( ذهب و فضة ) . هذه الصلة ضعيفة كما هو ظاهر ، إذ أن صاحب الخزنه يسهل عليه إصدار إيصالات تدل على نقد كثير هو لا يملكه، و نظراً لأن المقرض لا يتحمل الخسارة ، و لأن الإيصالات المطرحة تصبح بالتدريج أكثر من النقد الموجود في الخزنة حقيقة ( الذهب ) إذ أن صاحب البنك يقرضها كوسيلة لتحقيق الربح فإن صاحب البنك يكسب من إفلاس الناس ، إذ أن الطلب الفائض الذي ينتجه بإقراضه الكاذب و فوائده الكبيرة تعود على السوق بالنفع اللحظي الذي يؤدي لسوء تخطيط المستثمرين ، فينتج عن ذلك إستثمارات كثيرة بناءً على توهم لقدرة شرائية عالية تؤدي في نهاية المطاف لإفلاس معظم المستثمرين و استعباد الكثير من المقترضين الصغار نظراً لاعتمادهم على الوظائف و اقتراضهم هم بناء على أمنهم عليها.  
هذه الحالة لا تكبر حتى تكبر البنوك و تزيد قوتها بارتباطها بالحكومة و السلطة العسكرية في البلاد. إذ أن الكثير من الإجراءات البنكية تتطلب قمعاً عسكرياً و مصادرة للمتلكات، وهذه القوة العسكرية لا تملكها البنوك عادة، لذلك فإن عليها أن ترتبط بالحكومة في علاقة نفعية يحقق فيها كل طرف مصلحته. الأسلحة الحديثة و سرعة النقل و الإتصال في العصر الحالي يسرت على الحكومة مصادرة أموال الناس و فرض الإيصالات كوسيلة للتعاملات التجارية. و الحكومات و إن كانت لم تقم منذ البداية بفك ارتباط العملة عن الذهب إلا أنها سارت بهذا الإتجاه عن طريق الطباعة و الإقتراض دون أن تعلم العامة حتى صارت للعملات قيمة فعلية في ذهن العامة تتجاوز قيمة المادة الأولى (الذهب) التي يفترض بالعملة أن تستمد قيمتها منها. عندما صار هذا واقعاً قامت الحكومات بعد ذلك بفك ارتباط العملة عن الذهب فصادرت ما بقي للناس من حرية و استقلالية كان يضمنه لهم ذلك المال ( المعدنين النفيسين الذهب و الفضة ). 

يفترض بالمال أن يدل حقيقة على عمل تم إنجازه، و لأن هذه حقيقته فإنه يعد معياراً حقيقياً تقاس به كفاءة الحكومة و مقدار الفائض في إنتاج البلاد . الدول القوية بطبيعة الحال لا تحب أن يفرض عليها عموم الناس عن طريق حركتهم التجارية قيوداً تلزمها بالتعاون و التنازل للذي لا تريد التنازل له، لذلك فإنها تسعى لإضعاف قيمة الذهب و الفضة و فرض عملتها كوسيلة وحيدة للقيام بالتعاملات التجارية ( أي أنها تصادر قيمة العمل البشري الذي يقوم به عموم الناس لكي تتحرك هي وفق أهدافها السياسية، و ذلك عن طريق طباعة المال الذي تحتكر إنتاجه )، و مع أن الناس قد لا يلحظون الفرق عند أول تحرك نحو السيطرة على المال باحتكار إنتاجه و منع التعامل بغيره، إلا أن الإستمرار عل هذا النهج يؤدي بالتدريج إلى إنهيار النظام السياسيو الإقتصادي إذ أن عدم ملاحظة الآثار الإقتصادية السلبية الناتجة عن القرارات السياسية تزيد من تباين المجالين حتى يصل الحال إلى درجة كبيرة من التعارض بين ما تصرف عليه الحكومة و تستثمر فيه و تتبناه و بين ما يعود على الإقتصاد و عليها بالربح وهو ما يطلبه الناس. الرغبات السياسية هنا و المصالح الضيقة للجماعة المتنفذة تجد لها مساحة للتحرك نظراً لاحتكارها المال و تأخر الآثار الجانبية لناتجة عن طباعته و التلاعب به، لكن السوق بعد مدة يلحق بهذه السياسات فتصير الأسعار غالية و تقل المنتجات التي يطلبها السوق في مقابل منتجات و خدمات أخرى إلى أن يترك الناس التعامل بهذا النظام و يعودون لتقييم السلع و الخدمات القيمة عن طريق السرق الحرة (الذهب و الفضة) . 

الذهب و الفضة يقترنان بالحرية (الإستقلالية) إقتراناً لازماً، ذلك أنهما يفرضان على القيادة الوضوح ، فلا تستطيع الحكومة سرقة مجهود الناس دون أن تصادر أموالهم مصادرة واضحة (بعكس المال المطبوع الذي يصادر أموال الناس دون أن يدركوا أو يوافقوا )، كما أنها لا تستطيع أن توهم الدول الأجنبية بالغنى إذ أن خروج الذهب و الفضة من البلاد يؤدي لإضعافها بسرعة كبيرة ( بعكس العملات التي لا يؤدي خروجها من البلاد إلى إرهاق كبير ). و الحقيقة هي أن السوق كلما كبرت (كالسوق العالمية في الوقت الحاضر) فإنها تتعقد و يصعب على الناس متابعة التلاعب الحاصل فيها، لذلك فإن القيادة تجد مساحة كبيرة للتحرك لا يظهر من خلالها فساد، هنا تستمر القيادات السياسية و الإقتصادية في سرقة مجهود الناس و اللعب على ثنائية الثقة و الرهبة حتى يحين الوقت الذي تنهار فيه الشبكة التجارية ( نظراً لحصول تباين كبير بين الإستثمار و الطلب ) ، و ما ينتج عن ذلك من شعور بالهشاشة و الإستغلال عند العموم الناس، و هذا الشعور يؤدي بدوره للإمتناع عن المشاركة في النظام السياسي و الإقتصادي للبلاد ، و بالتالي فإن السوق السوداء تكبر ، و الحركات السياسية الإستقلالية تتعمق، فتقل لذلك واردات البلاد و تضعف الدولة ككل عن مواجهة الخارج أو فرض إرادتها السياسية على أي طرف. 

المثالية الناتجة عن حالة الوفرة الطويلة هي التي تؤدي إلى انفصال العقلية السياسية العامة عن الواقع. يغزو الوهم عموم الناس فيصيرون متوهمين قدرةً للبلد و المجتمع على الرقي بالإنسان فوق حالته الحيوانية، لذلك فإن السياسات تصبح مشتقة من تصور حالم لا من واقع ملموس، لذلك فإن القرارات المكلفة هذه تعود على البلد بالدمار تدريجياً و إن كان الشكل الظاهري مرتب و متناغم. هذه الحالة هي حالة المجتمعات المعترضة و المتكبرة ، عاشت في خيال حتى صار الواقع الطبيعي واقعاً غير محتمل ولا مفهوم. 

حجم السوق يتناسب طردياً مع حجم السرقة : 

الناس بطبيعتهم لا يتعاونون بل يجبرون على التعاون. بدون قوة مستقلة قادرة و صالحة تقدم المصلحة العامة لا يفرض نظام عادل يضمن لكل فرد يجتهد نصيبه ، وهنا تكمن المشكلة أيضاً فإن القوة إئا كانت مستقلة فإنها غالباً لا تكون نافذة و إن كانت نافذة فإنها نادراً ما تكون مستقلة. لذلك فإنه لا يمكن التعويل على فرد أو بضعة أفراد، النظام العادل و المصلحة العامة تتحقق عندما تتقدم الكفاءات و تقرر بنفسها أن تعمل وفق نظام يأذن بسقوط الضعيف و ارتقاء الكفاءة، و هذه بالطبع حالة نادرة و طارئة على المجتمعات، فالنظام (أي نظام سياسي حقيقي) يفترض به أن يضبط القوى المتحكمة في القرار السياسي و الإقتصادي لا أن يقتصر في حكمه على الضعفاء، إذ الضعيف مضبوط دائماً بوجود قوي آخر ينافسه و يضمن امتثاله أما ضبط القوي الذي به و بأمثاله يضبط المجتمع فإن ذلك يعد حالة إستثنائية و عدالة طارئة، و لذلك فإنه يمكن اختصار القول بـ ( أن صلاح البلد من صلاح وجهاءه، و متى ما كانت الوجاهة يتحصل عليها بالكفاءة و القدرة التنافسية في السوق فإن عموم الناس يتبعون نسق التسيد هذا فتتحقق المصلحة العامة و العكس صحيح ). 

طبقة الوجاهة تتغير أخلاقها مع الزمن ، و نظراً لكون الأصول ذات المركزية في اقتصاد البلاد يمكن إحتكارها فإن البلد يمكن أن يؤسر من قبل نفس الرجال الذين كانوا سبباً في نهضته بادئ الأمر. السبب في ذلك لكون اقتصاد البلد يبنى في أساسه على موارد أساسية لا يمكن الإستغناد عنها ( الماء و الزرع و الأرض التجارية و الطاقة و الذهب و الفضة و المواد الأولية الضرورية ) ، و لأن هذه الموارد محدودة فإن امتلاك جماعة صغيرة لمعظم هذه الأصول يجعلها محتكرة لرأس الهرم السياسي، إذ السلطة قرينة المال و المال يتبع الأصول، و متى ما فقد السلطة المال فقدت ولاء الجنود و خدمتهم، و متى ضعفت القوة السياسية و العسكرية إمتدت الأيدي إلى الأصول الأساسية فضعفت السلطة السياسية بشكل أكبر و أكبر حتى تنهار.


لذلك فإن الذي يحكم البلاد هو الذي يملك المال ، و من يملك المال هو الذي يملك الأصول الأكثر إدراراً للمال و الأكثر حيوية في البلاد، و بالتالي فإن الأصول الأساسية عندما تتملكها مجموعة بسيطة ثم تعمل على احتكار القطاع المصرفي (الإقراض الربوي) فإن المال يصبح دولة بين أفراد هذه الجماعة، ولا تظهر الخطورة و حالة الإستعباد هذه إلا عندما يضعف الإقتصاد و ينكمش، إذ تضعف القطاعات الطرفية التي كانت قد ظهرت مع تضخم السوق، فيفقد الناس وظائفهم و استثماراتهم و تبقى أصول العلية و استثماراتهم و يظهر للناس مقدار الطبقية الحاصلة و الإستعباد الخفي. تقعد وراء هذه الحالة حقيقة يتنكر لها الدعاة لحرية السوق وهي أن المال يجلب المال و القوة تجلب القوة (الجاه) ، فمع أن المال له ارتباط بالكفاءة و الجهد إلا أن هذا الإرتباط يضعف إلى حد الإنعدام كلما زادت ثروة الإنسان إلى درجة تمكنه من شراء أي منافس و تمييل أي كفة و استخدام كل كفاءة . 

السوق الكبيرة هي سوق واسعة جغرافيا، متقاربة صناعياً ( بالإتصالات و المواصلات ) ، متباينة ديموغرافياً. و لأن الموارد الأساسية المذكورة سابقاً ( الماء و الزرع و الطاقة و الذهب و الفضة .. ) لا تتسع كثيراً بمقدار اتساع السوق فإن نسبة الناس الذين يعملون على هامش السوق يزداد بقدر اتساع السوق، و في المقابل فإن أصحاب الثروات تزداد ثروتهم باظطراد كلما زاد السوق اتساعاً. في هذه الحالة تصبح هناك طبقة صغيرة تملك الأصول الضرورية ولا تعمل، و طبقة دونها مبدعة في التنبؤ بحركة الأسواق فتبتكر الصناعات الجديدة و تستفيد من حركة السوق العالمية فتغتني بجهدها، و طبقة دونها عاملة ( بين مختصين بشهادات عالية يعملون في مجالات مربحة و محترمة إجتماعياً، و عمال في مجالات دنيا حالتهم متوسطة ) ، ثم هناك العمال في المهن الوضيعة و البدائية فهؤلاء بالكاد يعيشون. هذا البناء الطبقي يتحول من شكل البيضة المستقرة على قاعدتها إلى شكل العدسة المقعرة من على جانبيها و بقاعدة عريضة جداً و وسط نحيل جداً و رأس عريض قليلاً. و السبب في ذلك كما ذكرنا أن الأعمال الأساسية لا تحتاج ليد عاملة ماهرة و كثيرة، كما أن الأعمال المربحة اليدوية هي أعمال هامشية و رفاهية في السوق، و ما عدا ذلك فإنه يمكن تحويله للرجل الآلي أن يعمله و التاجر الماهر أن يضارب في الأسواق لمن يملك ، فيكسب صاحب المال و يكتسب معه. و كل هذا يقل متى ما صغر السوق كما ذكر النبي عليه الصلاة و السلام ( لا يبع حاضر لباد )، أي أنه عزل رجل البادية في بيعه عن الحاضرة لأن في ذلك إكساب لغيره ( معاش يجده من فارق السعر بين رجل البادية و البيع داخل البلد ) ، و كذلك فإن وسائل التواصل و المواصلات تسهل على الأغنياء التواصل مع الفقراء فيحفظون أموالهم و يراكمونها فيما تجد الطبقة الفقيرة معاشاً يكفيها و تتحول الطبقة المتوسطة بالتدريج للفقر إذ تم تجاوزها فأصبحت مظطرة لأن تنافس من لا يمكن منافسته في فقره أو ابتكار صناعة جديدة ( و للأبتكار حدود في النفع و حاجة الناس ) . 

إنفصال الأسواق مهم لتوفير حياة كريمة ، كما أن اتساعها للحد الذي تتمكن معه المجتمعات من تطوير صناعات محورية في الحياة العامة يعد أمراً ضرورياً أيضاً.


يحرم الله كل ما من شأنه أن يزيد مراكمة المل لدى الطبقة الغنية و استعباد الناس ، و لأن مراكمة المال و استعباد الناس تتم عن طريق استغلال غرائز الناس كما تتم بالقوة فإن الشرع رغب بالناس عن اتباع شهواتهم و حرم كل تجارة تؤدي إلى استغلالها. لذلك فإن التجارة في الإسلام يجب أن تحتوي على الشروط التالي : 
١- أن تكون العملية واضحة ( أي لا تكون تقييماً إجتهادياً و إنما يكون المبلغ المبذول معلوماً بالتحديد و السلعة المشتراة واضحة بكل تفاصيلها زماناً و مكاناً ، و لذلك فإن كثيراً من المراهانت التجارية محرمة وهي تأمين على المستقبل و ما إلى ذلك مما لا يمكن تحديده فتقع المخاطرة بشكل غير واضح ولا متساو بين الطرفين ). 
٢- إن تكون في العملية مخاطرة لا يجنب منها أي من الطرفين ( بهذا تم تحريم الربا و القمار إذ أن المقرض و صاحب ملهى القمار يكسب دون أن يعرض نفسه لخسارة حقيقية ). 
٣- ألا تكون التجارة في الأسواق المحرمة ( كالتجارة بالجنس أو ما يدعو إليه ، أو الإتجار بالمسكر أو المسابقات التي في أصلها قمار ) كل هذه تعمل على غرائز الناس فتزيد من عبودية العامة و غنى الخاصة. 
٤- الإحتكار .. ( و الإحتكار هنا لا يهم كثيراً في السلع الهامشية لكنه يشل الإقتصاد و يستعبد الناس عندما يكون في الأصول الرئيسية كالماء و الغذاء و الدواء و الطاقة و الأرض الزراعية و الأراضي السكنية ) ، و الإحتكار محرم لأنه يستعبد الناس و يسهل استغلالهم و ضرب بعضهم ببعض لذلك فإن الزكاة كانت في الإصول ( سواء الذهب و الفضة أو كل ما كان يدر عائداً مادياً ) 

لو تأملنا التشريع الإسلامي لوجدنا أن التشريع لا يركز على حرية الفرد بقدر ما يركز على استقلاله ، فالأولى تقترن بحرية التصرف في المال و الأملاك مطلقاً ( فقد يورث المال لكلبه أو يصرفه كله على تحف و أمور ترفيهية و هذا كله محرم و يشرع للولي أن يصادر حق المالك في التصرف في ماله ) لذلك فإن المسلم و غيره في البلاد المسلمة لا يمكنه شراء أو الإستثمار في المواد المحرمة حتى و إن كان بقراره الشخصي وهو يرى أن ذلك من حريته الكفولة و أنه دليل احترامك له و اعترافك بنضجه ، الإسلام هنا يقول بأن عموم الناس لا يعرفون مصلحتهم و أنهم يلقون بأنفسهم إلى التهلكة إذ هم ييسرون لمن يحكمهم أن يستعبدهم في جميع مناح الحياة عندما يتبعون شهواتهم. بينما الإستقلال على الطرف الآخر يقتضي إلتزاماً جماعياً بالشريعة الإسلامية و مقاصدها فيما يضمن لك الشارع إمتلاك المال الحقيقي (الذهب و الفضة) و الأصول و حرية التصرف بهم في حدود الشرع مع إلزام الحاكم بمنع إحتكار الأصول و الموارد الأساسية عندما يصل التجار و المتنفذون لذلك، هذه الطريقة في البناء الإقتصادي تصادر الكثير من القوة من يد الحاكم و تجعله أسير نظام شرعي حاكم للجميع ، هذه هي الإستقلالية التي لا تتحقق العبودية إلا بها و لذلك هي مكروة من قبل أصحاب القرار عادة. 

الإستقلال لا يأتي إلا بالإستقرار و الإستقرار يكون نتيجة التسليم لله و الإنشغال بما عنده عن ما في الدنيا ، هكذا يرتبط الإقتصاد بالدين و هكذا يؤدي استقرار الفرد إلى استقرار السوق و استقرار البلد.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق