الاثنين، 16 مايو 2016

السوق .. بين الحرية و الإستقلال (١)




السوق .. بين الحرية و الإستقلال (١)
ما هو مقصد الشريعة في أحكام البيوع ، الحرية أم الإستقلال ؟ 




السوق تنازع سلمي و حركة إجتماعية يطلب فيها الناس مصالحهم الفردية بوضوح، من خلال آلية تضمن لكل فرد حقه، عن طريق تقييم جهده و مدى إضافته. لذلك فإن السوق تعد من أكبر الدلالات على تحضر المجتمع إذ هي وسيلة سلمية يستخدمها الناس عامة للتعالي فيما بينهم و لجمع أكبر قدر ممكن من النفوذ دون استخدام القوة أو أي وسيلة أخرى لا يكون فيها المتبايعين راضيين. فهي تسليم جماعي بتعالي الأحكم و الأكفأ بغض النظر عن قوة المتعالي جسدياً أو نفوذ جماعته. و لأن التسليم حالة شاذة في البشر ( إذ الأصل الإعتراض و التعدي ) فإن ظهور السوق و حرية التعامل التجاري تعد أمراً طارئً وحالة ناشئة عن قوة مستقلة فارضة لهذا النظام. فالسوق إلى حد ما قرينة الهيمنة السياسية لجماعة عادلة وهي -أي السوق- تتحرك و تنمو بشيء من الفردانية الإجتماعية الثقافية التي تقدم الكفاءة و الإنتاجية و تستخدمها كوسيلة للتعالي في النسيج الإجتماعي على الترابط الإجتماعي الصلب و التساوي الإجتماعي. من هذا المنطلق إقترنت السوق بالتحضر كما اقترنت بنشوء الطبقية الإجتماعية، إذ هي بطبيعتها تكسر العائلة الممتدة (القبيلة) لتبني عصبيات مختلفة ( على أساس المهن و درجة الغنى و المنطقة و المصالح المادية .. ) و توجد حرية أكبر للفرد ينعتق بها من ارتباطه الإجتماعي بقبيلته ليجد لنفسه جماعة أخرى يتعصب لها بحسب الوظيفة أو المهنتة أو الشهادة.

ما سبق يعد تعريفاً بسيطاً بالسوق و ربطاً لتلك الحركة الأنانية الواضحة بالحركة الإجتماعية الضيقة (العائلة و الحي) و السياسية الواسعة (الدولة بحكامها و متنفذيها ). و من خلال هذه المقدمة البسيطة أريد أن أدخل في موضوعي لأحدد عناصر السوق و العوامل المؤثرة فيه، و مآلات الحركة التجارية و أثرها على التركيب الطبقي للمجتمع و البناء السياسي، كما أني أريد أن أحدد القواعد المهمة و الحدود التي يجب أن يلتزم الناس بها حتى لا تؤدي السوق لنقض نفسها.

العملية التجارية في أساسها مقايضة ، أي أنها عقد بين طرفين يستبدل فيه كل طرف ما لديه بما يملكه الآخر سعياً لاستيفاء حاجته و ضمان معيشته، ولأن ذلك يعني أن لكلا الطرفين حاجة في أن تكون رغبتة و حاجته متناسقة مع رغبة الآخر زماناً و مكاناً فإن العمليات التجارية ( وهي المقايضة هنا ) تكون محدودة كماً و متذبذبة زماناً. المال لذلك يعد وسيلة عملية ضرورية لحفظ مجهود الفرد حتى يتمكن من استدعاء هذه القيمة متى أراد و استبدالها بما يحتاجه في السوق بالبضاعة التي يريد. فوظيفة المال هنا هو البينية، أي أنه يعمل على تقريب إحداثيات الزمان و المكان بين البائع و المشتري حتى ما يقل الغرر بين المتبايعين و تزداد فرصة التوافق و من ثم التعاقد ( أي أن البائع يستطيع أن يشتري بالمال الذي كسبه بضاعة لا يملكها المشتري في ذلك المكان و بالكمية المطلوبة، كما أنه يستطيع أن يؤجل الشراء للوقت الذي يحب دون أن تتأثر قدرته الشرائية بشكل كبير ). 

و قبل أن نتكلم عن مقاصد الشريعة و الحكمة من تشريعاتها فإنه يصح أن نحلل السوق ككل ، عناصره الأساسية و العوامل المؤثرة فيه حتى نتمكن من التنبؤ بمستقبله و التركيبة الإجتماعية الناتجة عنه بعد مدة طويلة من الحركة التجارية الحرة . 

السوق تتكون من ثلاثة عناصر هي  : 
١- المنتجات ( المواد و الخدمات المتاجر بها ).
٢- أفراد المجتمع المتبايعين ( عددهم و كفاءتهم الإنتاجية و حاجاتهم ).
٣- المال ( وفرته في المجتمع و مدى انتشاره فيه ). 


كما أن هناك أربعة عوامل تؤثر في السوق هي : 
١- حجمه ( أي حجم العوامل السابقة ). 
٢- إتجاهه ( للنمو أو الإنكماش ).
٣- سرعته نمواً أو انكماشاً ( و هذا يتأثر بنوع الإتصالات و المواصلات المتوفرة ).
٤- الإستقرار السياسي ( مقدار رضا الطبقات المكونة للسوق ، سواءً كانت سوقاً محلية أو عالمية ).


عناصر السوق التي ذكرناها ( المنتجات ، المال ، و الأفراد على طرفي المعاملة ) 
فيها تفصيل يحتاج إلى شرح و توضيح، ذلك أن هذه التفاصيل تؤثر على العناصر ، و من ثم فإنها تؤثر في السوق ككل ( في حركة البائع و الشاري ) .

١- المنتجات : و هذه تكون مواداً أساسية أو قريباً من الأساسية كالمنتجات الزراعية، أو تكون صناعة مركبة بحاجة لمختصين و خبرات عالية، أو تكون خدمات تعتمد على المورد البشري كالتعليم و الصحة و الإدارة و الإستشارات المالية و القانونية ، أو تكون موقعاً جغارفياً مهماً يستثمر في مجالات سياحية أو عسكرية . كل هذه المنتجات تؤثر في المجتمع المنتج إذا ما اعتمد على شكل من أشكال هذه المنتجات بدرجة كبيرة، فالتركيبة السياسية و الحركة الطبقية تتغير من الصلابة إلى المرونة و العكس تبعاً لشكل المنتج الذي يعتمد عليه السوق أساساً.

٢- الأفراد : الفرد هو المادة الأساسية التي يبنى عليها السوق، ذلك أن المعاملات التجارية أساسها مصلحة الفرد و شهوته، والسوق تجسد ذلك الميل و تتعامل معه. لكن الأفراد في المجتمع يتميزون من حيث العمر و الجنس و الكفاءة العملية و الدرجة التعليمية، و لذلك فإن مجرد الوفرة البشرية لا تؤدي لنمو السوق و تطوره ( أي أن هناك علاقة طردية غير لازمة ). فالأطفال و كبار السن عجزة لا يقدرون على الإنتاج و ينهكون المجتمع بحاجاتهم، كما أن حاجة المرأة و رغباتها تختلف عن حاجة الرجل و رغباته -إلى حد ما- و كذلك قدرتها الإنتاجية و مجالتها التي تبرع فيها، و لذلك فإن تركيبة المجتمع الديموغرافية و درجة تعليمه و رسوخ ثقافة الإنتاج و الفردانية فيه تؤثر في السوق بشكل كبير.

٣- المال : هو الوسيلة البينية التي تقيّم بها الأشياء و تشترى، إذ يتسم بصفات تيسر على المتبايعين القيام بعملياتهم التجارية في أي وقت وفي أي مكان بوضوح كبير( كما ذكرنا فإن المال يقرب إحداثيات الزمان و المكان بين طرفي المبايعة فيزيد احتمالية التبايع و يقلل من تذبذب الحركة التجارية عبر الزمان )، ومن خلال هذه الصفات يتمكن المال من تحقيق هذه المصالح ، فتزيد قيمته لذلك و يتميز عن سائر المواد.

الصفات التي يجب أن تتوفر في المادة حتى تصبح نافعة و يمكن استخدامها كوسيلة بينية في التعاملات التجارية هي : 
أ - يجب أن يكون للمادة المستخدمة كنقد قيمة في ذاتها ( أي أنها نافعة و نادرة ).
ب- يجب أن تكون المادة مقاومة للعمليات الحيوية ( أي أنها لا تفسد مع الزمن ). 
ت- يجب أن تكون المادة سهلة النقل و الحفظ ( صغيرة الحجم ).
ث- يجب أن تكون المادة قابلة للتقسيم و التجزئة دون أن تفقد قيمتها بعد التقسيم. 
ج- يجب أن تكون متطابقة ( أي أنك لو استبدلت ديناراً بدينار آخر لما فقدت من القيمة شيء ).

هذه هي الخصائص المميزة للمادة والتي تجعل منها استثناءً من بين المواد لتستخدم كوسيلة للقيام بالعمليات التجارية، فالناس كانوا ولا زالوا بحاجة لحفظ مجهودهم و استدعاء قيمته متى دعت الحاجة لحماية أنفسهم و ضمان مصالحهم في أي نسيج إجتماعي مركب. فالطبيعة البشرية الأنانية تقتضي وجود وسيلة مادية عملية يحفظ بها الناس حقوقهم و يحاجون بها خصومهم، و الناس متى ما غفلوا عن هذا الأصل و وثقوا في بعضهم و في من يحكمهم كان لمن يملك طباعة المال (العملة) القدرة على سرقة مجهود الناس و استعبادهم بطريقة يسيرة و خفية، و الزمن وحده كفيل بإيصال هذه الرسالة و إعادة الناس لما هو أصل.

إذا أخذنا في الإعتبار تذبذب هذين العنصرين ( المنتجات المادية و الناس ) من حيث الكمية و النوعية و الأهمية في السوق و إذا أدركنا إرتباط المال بالحركة السياسية و الصراع الطبقي و السعي للإحتكار أدركنا سبب التغير في قيمة المال و أسعار المنتجات .. فالمال كما ذكرنا في أصله سلعة ( أي مادة لها قيمة في حد ذاتها ) ، لكن سهولة نقل هذه السلعة و تجزئتها و ندرتها و محافظتها على خصائصها مع مرور الزمن تجعل منها وسيلة جيدة للتثمين و التبايع. و مع أن البائع قد لا يرغب في هذه السلعة الأخرى ( المال الحقيقي الذهب و الفضة ) إلا أنه يرغب في خصائصه التي تمكنه من الحفاظ على القيمة الحاصلة من عمله و استخدامها متى ما دعت الحاجة و بأي طريقة أراد .

لأجل ذلك فإن المال يعد عاملاً أساسياً في تسهيل التعاملات التجارية، و حفظ الحقوق ، و رصد معدلات الإنتاج و درجة الغنى. بدون المال يصعب على الناس تقييم مجهودهم و حفظه و مقايضته بما هو مساو له . لذلك فإن اكتناز المواد التي تحظى بهذه الخصائص (الذهب و الفضة) يقلل من عدد العمليات التجارية، مما يقلل من معدلات الإنتاج ، و يؤدي بالسوق إلى الإنكماش و الإقتصار على الحاجات الأساسية، و مع هذه الحالة يزول الإستقرار السياسي و الإجتماعي. 

المال لا يمكن إلا أن يكون ذهباً و فضة على المدى البعيد ، أما على المدى القصير فإن  المواد الأخرى التي تحضى بأعلى قدر ممكن من الخصائص المذكورة يمكن استخدامها كوسيط (مال) . حالياً يستخدم الورق كمال ، وهذه الوسيلة و إن كانت نجحت في تحقيق تقدم اقتصادي و تيسير التبادل التجاري على مدى العقود الفائتة إلا أنها حالة طارئة لا يمكن أن تستمر ، و السبب في ذلك يعود لكون النقد الورقي قليل القيمة في حد ذاته ( قيمته تكاد تكون معدومة نظراً لوفرة المادة المستخدمة في هذا النقد ) و لذلك فإن النقد الورقي المستخدم في التعاملات التجارية في هذا الزمن يحتاج لأن تضخم قيمته صناعياً ( أي عن طريق التدخل البشري ) ولا يمكن فعل ذلك إلا إذا امتلك الكيان السياسي الواهب لهذه القيمة قوة سياسية كبيرة و ثقة إجتماعية كبيرة ليفرض بها هذه المادة في التعاملات التجارية ، و لأن القوة تحتاج لوفرة مادية و عسكرية و لأن الثقة تحتاج لمراكمة نجاحات كثيرة على مدى طويل فإن الأشخاص القادرين على تحويل الناس من التعامل بالمعادن النفيسة إلى المعدان المضخمة ( النقد الورقي ) قلة ، و قدرتهم على الحفاظ على هذه الحالة من احتكار صناعة النقد و تضخيم قيمته مرتبطة بنجاهم في ضمان مصالح الناس و تحقيق النجاحات السياسية الكبيرة. متى ما فقد الكيان السياسي أحد هذين الدعامتين ( القوة و الثقة العامة ) فإن عملته تفقد ( النقد الورقي ) شيئاً من قيمتها ، و إن هو فقد كلا العاملين يكون النقد قد فقد قيمته تماماً ، نظراً لافتقاره للقيمة الأصلية ( أي أن الورق ليس فيه قيمة كبيرة في حد ذاته ). 

إستخدمت الأمم عبر التاريخ العديد من المواد و السلع كوسيط في العملية التجارية ( كنقد )، لكن هذه المواد كلها كانت تزول قيمتها بمجرد أن تنكشف هذه المجتمعات على الذهب و الفضة (أي تتعامل به لأول مرة)، فالمعادن الأخرى تصدأ أو يصعب تجزئتها أو نقلها، لذلك فإن النقد كله في العالم إلم يكن ذهباً أو فضة فهو نقد فرض فرضاً و ضخم تضخيماً ليقوم بوظيفة لا يقوم بها إلا الذهب و الفضة . هذا لا يعني أن المجتمعات المنعزلة في بيئات صغيرة بموارد محدودة لا يمكن لها أن تتعامل بنقد آخر غير مفروض ، إذ المواد النادرة في البيئات المختلفة تختلف ، مما يعني أنها تملك قيمة مختلفة و تؤدي دوراً مختلفاً ( قد استخدمت بذور الكاكاو و فرو الغنم و ثمار أخرى كوسيلة للتبايع في بيئات و مجتمعات مختلف عبر التاريخ نظراً لعدم توفر هذين العمدنين) . 

و مما سبق يمكننا أن نفهم الكثير من التشريعات الإسلامية في باب البيوع ، ذلك أن التجارة أساسها شراء برخص و بيع بغلاء ، و نظراً لأن قدرة البائع على زايدة الفرق بين تكلفة المنتج الأساسي و سعره عند البيع مرهون بقدرته على إحتكاره ( سواءً إحتكاراً جائراً بالتعدي على المنافسين أو احتكاراً مشروعاً بالتغلب على المنافسين في جودة المنتج ونوعه و جرته “الإبتكار” ) فإن التاجر لا يغتني حتى يملك قوة تساعده على توفير ما لا يمكن توفيره في بيئته السياسية أو كفاءة مبدعة تيسر له أن يبز أقرانه و يأتي بما لم يأت به الآخرون. غير ذلك من التجارة يكون الربح فيها قليل و عامل الزمن مهم لتحقيق غنى ملموس. 

لكن الأفضل من ذلك بلا شك هو احتكار المال نفسه !! .. هذه هي العمليات البنكية و الربح الذي يتضاعف مع الزمن من الإقراض المضمون. لا تقوم البنوك بإنتاج شيء ملموس، و كل ما تدعيه هو أنها تقوم بتيسير المعاملات التجارية و تقريب المصالح زماناً و مكاناً من خلال الإقراض و الضمان و تأمين الممتلكات الغالية في خزائنها. لكن الحقيقة هي أنها مؤسسات تجمع و تحتكر ما هو ذا قيمة، ثم تستخدم تلك القيمة لتوظيف اليد العاملة في السوق لتحضى هي بالربح من خلال تلك الأعمال، و البنوك في هذه الحالة لا تخاطر مخاطرة حقيقية، وهي لا يمكن أن تفعل حتى تكون طرفاً في العملية التجارية ( أي إما بائعاً أو مشترياً ) و حتى تقرض ما لديها من مال فعلاً بوضوح دون أن توهم المودع و المقترض بأرقام تفوق الودائع الحقيقية . 

إن الشريعة الإسلامية في قسم البيوع تفطنت لهذا المدخل التي يتسلل من خلاله أصحاب المال و الجاه، إذ يصبح المال في حده ذاته سلعة ( مع كونه نقداً مستعملاً في التعاملات التجارية ) فيكون احتكاره سبباً في رفع قيمته ، قيمة تتجاوز قيمته الفعلية إذا ما قورن بالمنتجات المادية في السوق، لذلك فإن المال الحقيقي ( الذهب و الفضة ) بالندرة المصطنعة الناتجة عن الإحتكار يكتسب قيمة تفوق قيمته الحقيقية ( فيصبح مجموع قيمة الذهب و الفضة أضعاف قيمة المنتجات المادية ) ، لكن هذه الحالة غير ظاهرة في الوقت الحالي نظراً للوفرة المصطنعة عن طريق طباعة أموال بدون أصول تدعمها و إعطاء إيصالات على الذهب و الفضة بأضعاف ما هو متوفر لدى هذه البنوك . كل ذلك يؤدي لتذبذب شديد بين الإنكماش الذي يعدم السوق و يعاقب المستثمر و بين التضخم الذي يعاقب المدخر و المقتصد في معيشته . و في كلا هاتين الحالتين فإن البنوك و من يملكها يكونون في مأمن من الفقر و الحاجة للعمل. 

ؤرجئ بقية الكلام عن مقاصد التشريع في مجال بيوع حتى أتكلم عن العوامل المؤثرة في السوق .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق