الجمعة، 13 مايو 2016

لماذا يحكم العسكر ؟




لماذا يحكم العسكر ؟ 
ما هي المراحل الحضارية في عمر الدولة و كيف تنشأ ؟


يقول الموبذان بهرام بن بهرام ( وهو وزير فارسي ) في حكاية البوم التي نقلها المسعودي : ( أيها الملك ! إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة و القيام لله بطاعته، و التصرف تحت أمره و نهيه؛ ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال؛ ولا قوام للرجال إلا بالمال؛ ولا سبيل للمال إلا بالعمارة؛ ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل؛ و العدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب و جعل له قيماً وهو الملك ) . 

 و من كلام كسرى أنو شروان في هذا المعنى بعينه : ( الملك بالجند؛ و الجند بالمال؛ و المال بالخراج؛ و الخراج بالعمارة؛ و العمارة بالعدل؛ و العدل بإصلاح العمال؛ و إصلاح العمال باستقامة الوزراء؛ و رأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه و اقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه ) .

و لأرسطو كلام مشابه في كتابه السياسة حيث يقول : ( العالم بستان سياجه الدولة؛ و الدولة سلطان تحيا به السنة؛ السنة يسوسها الملك؛ الملك نظام يعضده الجند؛ الجند أعوان يكلفهم المال؛ المال رزق تجمعه الرعية؛ الرعية عبيد يكتنفهم العدل؛ العدل مألوف و به قوام العالم ) . 

هذا الكلام كله يعضد بعضه بعضاً، وهو ما أريد أن أبني عليه النقاط التالية في هذا المقال، فالحكماء على رغم اختلاف عصورهم و ظروفهم يتفقون على هذه النقاط و إن كانوا يصوغونها صياغة مختلفة : 

١- أن أصل المجتمع في سوقه و العمران الناتج عن ذلك السوق. 
٢- أن السوق لا يقوم و يزدهر إلا بالعدل ( وهو النظام القائم يطبق على الجميع ). 
٣- أن النظام الذي يرسخ العدل في المجتمع يفرض بجند السلطان. 
٤- أن جند السلطان يحصلون على قوتهم من المال اللذي يفرضه لهم السلطان. 
٥- أن السلطان يحصل على ذلك المال عن طريق جنده الذين يجمعونه له من السوق. 
و بالتالي فإن السلطان يقوم به النظام كله، فيضبط السوق حتى يحمي المتعاملين فيه من بعضهم البعض، و يضبط الجباه و الوزراء فلا يؤخذ من العامة ما يزيد عن قدرتهم ولا يتكاسلون عن عملهم فتضيع مصالح الناس، كما أن السلطان مظطلع بتحريك الجيوش و حماية أراضي الدولة وهويتها . 


مما سبق يمكننا أن نستنتج الأعمدة الرئيسية التي تشكل كيان الدولة ، كما يمكننا أن نضع لتلك الأعمد ترتيباً زمانياً بحسب مركزيتها و تسلسلها في بناء الدولة : 

  • (مرحلة الإنتقاء و التسيد) .. هذه المرحلة هي أول مرحلة في بناء الكيان السياسي ، ذلك أن الإتفاق على رجل ضرورة أوليه يبدأ منها كل شيء في الدولة ، فالدولة في أساسها بناء عصبي تقوم على أساس قبول طوعي من قبل جماعة متنفذة بسيادة فرد عليهم يقيم بهم القانون و يضبط بهم السوق. 
  • ( مرحلة الضبط ) .. و هذه هي المرحلة التالية التي تتبع المرحلة الأولى مباشرة، في هذه المرحلة يفرض النظام و تتحقق الهرمية الطبيعية في الدولة. من خلال هذه المرحلة ندرك أهمية المؤسسة العسكرية و مركزيتها في بناء السلطة ، فالكيان السياسي الناشئ لا يصير دولة حتى ينجح في احتكار القدرة العسكرية، و متى ما قدر الحاكم على ضمان ذلك الإحتكار فإنه يتمكن إلى حد بعيد من تأكيد سيادة حكومته على أراضي الدولة و بالتالي فإنه يضمن هرميتها.
  • ( مرحلة التنظيم ) .. وهذه المرحلة لا تتم عادة إلا في الأراضي المهيأة لنشوء دول مستقرة، ففي تلك الأراضي تتوفر المياه الصالحة و الأراضي الزراعية و السوق المكتفية التي تسمح للوظائف الحكومية أن تنشأ و لطريقة العيش هذه (التوظيف الحكومي) أن تصبح منطقية. وفرة الإنتاج مع استقرار الحكم و ثبات العصبية السياسية تؤدي للإنتقال إلى هذه المرحلة من البناء السياسي، وهي مرحلة القانون المكتوب ( القانون الذي يقرره حكماء المجتمع ، لتكتسب الحكومة به شرعية أكبر ) . لذلك فإن الدولة في هذه المرحلة تتميز باهتمامها بموضوع القضاء ، ترفع شأنه حتى يصير لأصحاب تلك الوظيفة مكانة إجتماعية، كما تنشئ الوزارات و توظف الموظفين الحكوميين في القطاعات الأساسية ، ليشرعوا الشرائع بحسب المصلحة السياسية ويكونوا حلقة وصل بين الحاكم و المحكومين و يكونوا عامل فصل بين المتخاصمين في تلك القطاعات التي يختصون فيها. 
  • ( مرحلة التيسير ) .. وهي المرحلة التي تصل إليها الدولة بعد أن تكون قد حققت قدراً كبيراً من الإستقرار و التركيب و الرخاء إذ تصبح دولة مقتدرة و مهتمة بتعبيد الطرق و توفير الطاقة و تيسير وسائل الإتصال و تشييد العمارات الحكومية و دور العبادة و الحصون القوية و النزل على الطرق الطويلة أملاً في زيادة حجم السوق و إيجاد الثقة في نفوس الناس حتى يستثمروا و يجتهدوا في هذه الحركة التجارية المفتوحة، و بذلك فإن الدولة تزداد قوة بحجم سوقها، إذ أن خراج السوق يزداد و اكتفاء الدولة بصناعاتها يعينها على الإحتماء من المعتدي عسكرياً و اقتصادياً، كما أن التخصص ينمو باظطراد كلما نما السوق و تشعب، و هذا يزيد العلم و يطور الثقافة و يرسخ الدولة و يزيد هيبتها. 
  • ( مرحلة الخدمة ) .. و هذه المرحلة هي أول مراحل الترف (و إن كان عموم الناس لا ينظر إلى ما تنفقه الحكومة على أنه ترف)، إذ هي حالة إستثنائية في عموم التاريخ البشري، تكون الدولة فيها قد وصلت إلى مرحلة من الوفرة بعد عقود أو قرون من الإستقرار و النمو الإقتصادي و الرشد في الإنفاق ما ييسر لها أن تفكر في الإظطلاع بدور فاعل في المجتمع و سوقه عوض عن الإقتصار على دور الرقابة و التنظيم و التيسير الذي كانت لا تتعداه، و لأن تلك هي الحال الطبيعية و هذه حالة إستثنائية ناشئة عن وفرة مادية فإنها حالة تحسد عليها و هدف تطمح لنيله الأمم المنافسة دون إدراك عميق لسبب نشوء هذه الحالة في ذلك المجتمع بالذات، و هي بسبب تخفي أسباب ذلك النجاح المادي و طريقة نشوءه تجهد في مزاحمة بعضها البعض ( أي أن الأمم المهزومة تصبح في حالة غليان و تلاوم داخلي ) نظراً للتلاوم الحاصل بين طبقات المجتمع و الجهل الحاصل بالظروف الحقيقية للدولة النامية و الغالبة في مقابل الدولة المغلوبة و المتدنية في بنيانها الحضاري ( أي أنه من الطبيعي أن تنشغل الدولة وهي قليلة الموارد وصعبة الظروف بما هو أولى و سابق في البناء السياسي و الحضاري على ما هو طارئ و إستثنائي ). في هذه المرحلة توفر الدولة المدارس و الجامعات و المستشفيات و تحرص على توفير الخدمات الأساسية الأخرى  بالمجان أو بتكلفة قليلة إلى عامة الناس، مما يزيد من درجة الأمان و الرضا و الهيبة السياسية لدى عموم الناس.
  • ( مرحلة المفاخرة ) .. وهذه هي المرحلة الأخيرة وهي غالباً ما تكون مطلب الدول الأخرى و مثار حسدهم و اندهاشهم (أكثر من النقطة السابقة) ،إذ هي باكورة البناء الحضاري و رأس هرمه، فيها تكون التخصصات قد برعت في مجالاتها ، فالصناعات التَرَفية ( الأواني و المنازل و الأثاث و اللباس .. ) و الترفيهية و العلاجية و غيرها تكون قد تميزت عن سائر الحواضر. كما أن الجيوش تكون في أبهة و عتاد قل نظيره ، و تكون العلوم و الفلسفات قد وصلت إلى درجة من التعقيد و التقدم ما يثير غيرة الناظر. وهذه الحالة بالضبط على ما يبدو من سهولة تطبيقها هي في الحقيقة سبب هلكة المنافسين و اظطراب بنيانهم ، إذ أن المراقب يقف موقفاً مندهشاً و مظطرباً من هذا البناء و كيفية مجاراته و سبب العجز عن غلبته و عن خلفية الكيان البشري الذي بنا هذا العمران. 

ملحوظة ( مما سبق ندرك أن البناء الحضاري و تقدمه ناتج عن كبر السوق و تنوعه ، كما أن الثقافة و تعقيدها ناتجة عن كبر الصراعات و قدرة التجاوز، و بالتالي فإن المراحل الحضارية المتأخرة ناتجة في كثير من تعقيدها و تركيبها عن حركة جماعية تشمل عموم الشعب، وليست حركة سياسية يختص بها المتنفذون في رأس الهرم السياسي ولا بسبب سياساتهم الحكيمة ). 

شهد العالم العربي خلال السنوات السابقة ثورات متلاحقة أسقطت حكومات و أتت بأخرى ، لكن الذي يكاد يجمع عليه الجميع أن الآمال التي كانت قد بنيت لم يكن لها من الواقع نصيب، بل أن الحكم العسكري بات أكثر شدة و حضوراً من ذي قبل ، وهو الذي في الأساس كان مثار السخط و الإحتجاج ! فلماذا عاد هذا الحكم ؟ و لماذا وجد لنفسه عذراً في زيادة درجة القمع التي ما كان يحلم بها سابقاً ؟! 

الدولة كما ذكرنا في تركيبها كالبصلة تتكون من أغشية كل غشاء يغطي الذي يليه بحسب كبر السوق و استقرار النظام السياسي الذي يحكمه، حتى تصير البصلة كبيرة مستديرة مكتملة بشكلها الطبيعي، و كذلك هي الدول بحسب ترتيب النقاط السابقة هيكل أساسي يلبس رداءً فوق الرداء حتى ما يصل بناءه بناءً مكتملاً في جميع الفروع و التخصصات ، وهذه هي أعلى درجات الحضارة ( في شكلها المادي ) و قوتها السياسية.

من يفهم التسلسل الزماني هذا في البناء الحضاري للدولة و يفهم البناء السياسي الديموقراطي المعاصر يدرك أن الديموقراطية و إن كانت تحوي عصبية سياسية إلا أنها بناء أخلاقي مسؤول أيضاً، و لذلك فإنها حالة إستثنائية أيضاً ( نظراً لأن سيادة الأخلاق و المبادئ في الهياكل السياسية تعد حالة إستثنائية  ) تتطلب وجود عدة عوامل ليتحقق ذلك البناء و ليضمن المجتمع تلك النتائج الإيجابية التي يسعى لها من خلال ذلك البناء. و يمكن تلخيص هذه العوامل الرئيسة في النقاط التالية :

١- العصبية المجتمعة التي تطغى على العصبيات الفرعية في المجتمع. 
٢- وجود قانون عام متفق عليه سلفاً يتعصب له عموم الناس. 
٣- وجود سوق وافرة تضمن مساحة كافية من الحركة الحزبية و التنوع داخل المجتمع.


مما سبق يمكن للقارئ ملاحظة مصدر الإختلاف بين الصورة و الواقع، و أسباب السخط الجماعي و حركة التخوين و الإعتراض المستمرة، هذه الجماهير تقف موقف الفصام بين ما هو ممكن وما هو مطلوب، و مع تحركاتها السياسية القوية الساعية لتحقيق ماهو مطلوب فإنها تفوت على نفسها ماهو ممكن ، و لذلك فإن هذه الكيانات السياسية تزداد هشاشة و ضعفاً و تصبح إدارات البلاد فيها مهددة بالنقض مع كل حركة و عند كل منعطف، فلا يبنى شيء فيها ولا تجتمع فيها كلمة ، بل حتى البناء القديم يصبح متهالكاً وغير قادر على تحقيق أهدافه التي بني من أجلها. 

المجتمعات العربية بعد أن ثارت على حكوماتها اصطدمت بكل النقاط الثلاث المذكورة فكانت نتائج ثوراتها سلبيةً، كما أن جهل معظم المتابعين لسبب تلك الإنتكاسة جعل من الحلول المطروحة حلولاً إنشائية و مثالية غير عملية ولا واقعية. المجتمعات العربية ببساطة كانت قد فقدت الكثير من هويتها مع الغزو الثقافي الغربي الذي أعاد بناءها العصبي إلى البناء الجاهلي السابق لحضور الأسلام، و كان قد استثمر كثيراً في هذا المجال و أكده باستحضار تلك التواريخ و الملاحم و المنجزات القديمة، كما أن النموذج الغربي للحكم عُمّم بشكل ساذج على الجميع متجاهلين ظروف المجتمعات الغربية المغايرة و تاريخها القانوني و مبدئها المختلفة. 

من الطبيعي أن تعود المجتمعات للحكم العسكري إذ أن تلك المرحلة هي المرحلة الأولية السابقة لنشأة القانون و حكمه، و طالما أن المجتمع لا يتفق على ماهية القانون المقدس ولا حدود المجتمع المقدس ( العصبية العامة ) ولا يملك من الوفرة المادية ولا الطبقة المتوسطة ما يحمي به نفسه من تلاعب القوى الغنية الأجنبية بالقرار السياسي الداخلي فإن المجتمع سيظل في محاولات ديموقراطية فاشلة و ستظل المؤسسة العسكرية هي المؤسسة الوحيدة القادرة على فرض النظام و جمع الكلمة. 

ما يسمى بالمواطنة و حكم القانون يستوجب اتفاق مسبق و عصبية مسبقة و ظروف ميسرة ، و لأن هذه العوامل تتفاعل مع مجتمعات مسلمة فإنها تحتاج لأن تتصالح مع المجتمع الإسلامي و تاريخه : 
١- فالإتفاق المسبق يجب أن يكون على شكل القانون الحاكم و أسسه ( هل هي الشريعة بغايتها الأساسية وهي تعبيد النفس لله و التحرر من هوى النفس ؟ أم هي العلمانية المطلقة بغايتها الرئيسية وهي الحرية المطلقة و سيادة الشك ؟ ) 
٢- كما أن المجتمع بحاجة لتقديم هوية من هوياته باتفاق ، فهل الهوية المناطقية و القبلية هي الهوية المقدمة ؟ أم هي هوية الأمة ؟ وهل هي الأمة الإسلامية أم الأمة العربية ؟ .. كل هذه أسئلة تجب الإجابة عليها ، إذ أن في تحديد الهوية العليا وسيلة لجمع الناس و و أساساً ينطلق منه ليقرأ التاريخ بشكل يتوافق مع الأهداف الإستراتيجية للبلاد . 
٣- و أخيراً فإن فهم السوق العالمية و موازين القوة السياسية و الإقتصادية و منافذ التجارة البحرية و البرية يساعد على فهم السوق الداخلية، و بالتالي إدراك الحجم الحقيقي للبلاد و القدرة السياسية الحقيقية لها، و بطبيعة الحال فإن السوق كلما كبرت و استقرت صعب على المتنفذ الأجنبي أن يتلاعب في القرار السياسي الداخلي. 

أخيراً فإن العسكري يحكم لأن هذه هي الحال الأولية للدولة ، و مع أن الدول في الوقت الحالي تحوي من الخدمات و المرافق و العلوم و الصناعات ما يجعل النظر إليها على أنها كيان سياسي بدائي أمر مستبعد و غريب ، إلا أنها تعتبر كيانات أولية فعلاً إذا ما قورنت بالكيانات المجاورة ، فالمنجزات التي تحويها الكثير من الدول الضعيفة هي منجزات مستوردة لا تعبر عن العمر الحضاري الحقيقي للدولة، و بالتالي فإن هذا الترتيب الزماني و الهيكلية الأساسية للدولة تضيع مع تلك الكمية الكبيرة من المنجزات الحضارية المستردة ، و التي أوجدت حالاً من الفصام و الصراع الداخلي و الضياع بين أي أعمار الدولة يعيش المجتمع فعلاً ؟ و كيف له أن ينعتق ؟ و متى يمكن لهذا المجتمع أن يصل للهدف المطلوب ؟ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق