الأربعاء، 18 مايو 2016

الوفاء عند المرأة و الرجل (٢)




الوفاء عند المرأة و الرجل (٢)
ما العوامل المؤثرة على التزام الجنسين بالعلاقة الزوجية 


تتحلى الأنثى بميزة و نقطة ضعف كبيرة ، الميزة هي أنها في فترة معينة تملك قيمة في سوق التزاوج لا يحلم بها معظم الرجال، و هذه القيمة تدركها الأنثى كما يدركها الذكر، لذلك تجد الميل الكبير لدى عموم الإناث لأن يظهروا مفاتنهمم خصوصاً في تلك المرحلة المبكرة التي تستطيع فيها الحصول على الكثير من التمييز لصالحها لمجرد كونها أنثى ضعيفة فاتنة !! لكن هذه الحالة لا تدوم طويلاً ، فالفتاة تفقد جل هذه المكانة و القوة بمجرد تجاوز السن ٣٥ ، و نظراً لكون عموم النساء لا يملكون من القدرات و الجرأة على المخاطرة ما يمكنهم من التسيد في مجال الإقتصاد و السياسة فإنهن يشعرن بتراجع قيمتهن بشكل كبير بعد ذلك العمر ، و تصير حالتهن النفسية هشه إلى حد كبير إذا هي لم تبني عائلة تتعصب لها و تستنزف نفسها لها (أي العائلة تستنزف نفسها لهذه المرأة).

الرجال عموماً ( لا ننظر لمن تميز منهم و صار مطلباً للفتيات ) لا ترتفع قيمتهم بشكل كبير في سوق الزواج، لكن القدرة على الإنتاج و استقراء المستقبل و الإستقرار النفسي و الجسدي مع تقدم السن يشعر المرأة بالأمان إن قرر هذا الرجل تسخير نفسه وموارده لهذه المرأة و أولادها ، لذلك فإن الرجل يعد تأميناً ضرورياً بالنسبة للمرأة ، فيما تعد المرأة بإضافتها رفاهية جميلة يتمناها الرجل (أنها تبقي أثره بالإنجاب له و تربية أطفاله على ما يحب). 

لذلك نسمع العبارة الغربية الشهرة 
Women are the gate keepers of sex,  men are the gate keeper of commitment 

وهي عبارة مفهومة إن أنت أدركت نقاط قوة الجنسين ، فالمرأة ذات القيمة الجنسية الأعلى هي التي تقرر من يحظى بجسدها ، أما الرجل صاحب القيمة الإقتصادية و الأمنية الأعلى هو الذي يقرر من يحصل على ناتج تعبه و هلكته. 

و هنا نعود إلى سؤالنا ، هل صحيح أن النساء أكثر وفاءً من الرجال ؟ و لماذا كانت للرجال صلاحيات في الشريعة الإسلامية تفوق صلاحيات النساء إن كان ذلك صحيحاً ؟ 

مما سبق وصلنا إلى النقاط التالية : 
١- أن قيمة المرأة أكثر تذبذباً ( من القيمة العالية جداً إلى المنخفضة جداً ). 
٢- أن إضافة الرجل ضرورية بينما إضافة المرأة رفاهية ( أي أن النساء بدون الرجال يهلكون، في حين أن الرجال بدون النساء ينقطع نسلهم و يندثر أثرهم ). 
٣- أن إضافة الرجل تحتاج لتنافس عام في السوق يكون فيه نجاح كل رجل على حساب الآخر إلى حد ما ، في حين أن ما تقدمه المرأة لا يخضع للمنافسة ( بمعنى أن كل النساء تقريباً قادرات على تقديم نفس الإضافة ، و أن الكسل و الإمتناع الفردي هو الحائل الأساسي ). 

علينا أن ندرك مما سبق أن موقف المرأة في النسيج الإجتماعي موقف حرج، نظراً لكون الإضافة التي تقدمها إضافة غير ضرورية من حيث الأمن و المعيشة للناس عموماً و الزوج خصوصاً، و بالتالي فإنها تتحرك من موقف ضعيف أساساً، فالإضافة التي تقدمها إضافة بعيدة المدى تدل على قيمة مطلوبة و عصبية إجتماعية غالبة، بدون هذه القيم الإجتماعية الخالدة و العصبية السياسية الجماعية فإن الرجال عموماً لا يحرصون على النسل ، و عدم حرصهم عليه إذ هم يفقدون النظرة المستقبلية الحالمة و الإستعداد للتضحية من أجل ذلك يجعل الزواج تجارة خاسرة ، و إستثماراً غير مرغوب ولا مفهوم أساساً. 

الزواج التزام و الإلتزام حالة طارئة على النفس البشرية لا يقدم عليها غريزياً إلا شخصية ضعيفة تسعى لحماية نفسها من خطر الوحدة . و لأن الرجل لا يجد في الزواج نفعاً مادياً قريب فإنه لا يقدم عليه من تلقاء نفسه ، بل يحتاج لكيان إجتماعي صلب يفرض عليه الإلتزام بتقديم نفسه للكلة نظير الحصول على المتعة و الأثر الإجتماعي البعيد ، و لأن هذا المردود لا يعد مردوداً مغرياً بالنسبة للرجال عموماً فإن التشريع يفترض به أن يحابي الرجال حتى يشعر المتقدم بجدوى الإستثمار. 

الوفاء خلق وليس غريزة، ولأن الناس ليس من طبعهم الإلتزام بما قد يؤدي لهلكتهم فإن المندفع للإلتزام غالباً ما تجد في التزامه منفعة مادية و مصلحة ( و إن كانت خافية عليك )، و نظراً لكون التزام الرجل بالعلاقة يعرضه لخطر أكبر على مدى أطول فإن الزواج يعد غبناً واضحاً للذكر، و حرصه على التخلص من التزاماته لا يدل على تدني مستواه الخلقي و إنما يدل على رغبته في الحصول على عقد أكثر إنصافاً في الغالب. 

الإسلام حلل التعدد لهذا السبب و سلم القوامة للرجل لهذا السبب و جعله محتكراً لسلطة الطلاق لهذا السبب، فهو سعى لتعويض الرجل عن فارق الإضافة بتمليك الرجل زوجته و أولاده. و لأن هذا التشريع إعتراف ضمني بعلو قيمة الرجل و ما يقدمه على حساب حساب ما تقدمه الزوجة فإن أكثر النساء تميل للإعتراض عليه و إن كان بطرق ملتوية.




يقول الطبيب و الفيلسوف بريفولت عبارة أصبحت مشهورة فيما بعد هي :
( المرأة وليس الرجل من يقرر كل ظروف العائلة الحياونية )

و قد زاد آخر على هذه العبارة ثلاثة نقاط يفترض بها أن تكون توضيحاً : 
١- الخدمات التي قدمها الذكر للأنثى في السابق لا تؤدي لاستمرار العلاقة أو حصولها في المستقبل.
٢- أي عقد يحصل فيه الذكر على وعد بإقامة علاقة مستقبلية نظير تقديمه لخدمة آنية هو عقد باطل و منته عند الإنتهاء من تقديم الخدمة.
٣- الوعد بخدمات مستقبلية من قبل الذكر لها أثر محدود على العلاقة الحالية أو المستقبلية، هذا الأثر يقل كلما كان الوعد بعيداً في المستقبل و يزيد كلما كانت ثقة الأنثى في الذكر كبيرة. 

الحقيقة أن عبارة بريفولت و النقاط المذكورة أيضاً لها وجه من الصحة ، فالمرأة تحدد ظروف العائلة الحياونية بتقريرها ماهية الخصال و الخدمات التي ترضا بها و تقبل بمبادلة الطرف الآخر بها نظراً لكونها غالباً تأتي من قيمة تزاوج أعلى. كما أن المرأة من خلال النقاط الثلاثة السابقة تعتبر أن هذه الخدمات المقدمة إلتزامات دائمة  لا يمكن إستخدامها كدين أو وعود مستقبلية نظراً لكون الأمان و المكانة الإجتماعية المقدمة هي المطلوب و ليست الخدمات المحددة في ذاتها منفصلة ، ذلك أن هذه الطريقة في المقايضة ترفع من قيمة المرأة إذ يلتزم الرجل فيها بتقديم خدماته بشكل الدائم بغض النظر عن تقلبات العلاقة و ما يمكن أن يصيب الزوجة ( المقايضة العينية المحددة على الطرف الآخر تنقص من قيمة المرأة و تعطي الإنطباع بأن هذه الأنثى تبيع نفسها ). و نظراً لزن هذه الطريقة توقع من الغرر على الرجل أكثر مما يقع على المرأة، فإن التشريع يجب أن يضمن للرجل وسيلة يحصل من خلالها على حاجته دون أن يترك الأنثى الأولى للهلاك.

الخطأ الذي وقع فيه بريفولت هو في كونه غير مدرك لكون المرأة لا تملك من الخيارات الشيء الكثير حتى تحدد جميع ظروف العائلة، ففي نهاية المطاف النساء في المجتمع محصورون بالرجال في نفس المجتمع ( أحياناً ينكشفن على رجال من خارج المجتمع فتتغير الديناميكية )، و بالتالي فإن الأغنياء من الرجال بما يقدمونه لأزواجهم من بيئة جميلة و آمنة يحددون لبقية النساء ما هي البيئة المثالية التي تتطلع إليها المرأة ، و ما هي الأمور التي لا يمكن أن تتنازل عنها. فالمرأة لكونها تحتكر الإنجاب و تمتلك أكثر الأمور فتنة للرجل تستطيع أن تملي شروطها، لكنها تفعل ذلك إلى حد معين يضمن لها مصلحتها، إذ أن كثرة المطالب و استنزاف الخطاب دون مردود كبير يؤدي لنتيجة عكسية تجبرها على التعامل مع الواقع. 


الخلاصة .. الزواج بالنسبة للرجل إستثمار طويل المدى يبني به الرجل مملكته الخاصة التي يخلد بها ذكره و يشبع بها غريزته و يؤكد استقلاله عن بقية المجتمع، بينما يعد الزواج بالنسبة للمرأة عموماً حاجة وسيلة تحتمي بها من الإعتداء الخارجي و الندرة المادية كما تسعى بالإنجاب لبناء مجتمع ضغير مترابط يزيدها قوة و احتماء و قيمة مع تقادم الزمن. لذلك فإن التزام المرأة بالعلاقة الزوجية غريزة و موقف منطقي أساسه المصلحة الذاتية، أما التزام الرجل فهو استثمار طموح في مستقبل قد لا يعيشه يجده حاضراً تسليم زوجته نفسها له و حرصها على توريث صفاته و مبادئه لأبنائه. 

الأسرة و الإلتزام كما هو ملاحظ ليس طبيعة غريزية في البشر كما هي الحال عند الطيور، فالبشر بدون المبادئ و العقيدة و الإكراه القانوني و الإجماعي لا يتزوجون بل يستغلون بعضهم البعض ( كل طرف إن أمكنه الحصول على ما يحتاج إليه من الطرف الآخر دون الإلتزام تجاهه فرن غريزته تدفعه إلى عدم الإلتزام )، لهذا فإن كلام الناس في المجتمع و القوانين السياسية تهدف غالباً لفرض الإلتزام على الناس، كما أن الدين يقوم بدور مهم في الإرتقاء برغبات الناس حتى يتجاوزوا هذه الحالة من التدمير الذاتي . فكما ذكرت في مقال سابق أن التزاوج في عالم الإنسان أشبه ما يكون بطريقة التزاوج عند الحيوانات المفترسة ( التي يحصل فيها الذكر القوي على النساء و الأرض بقدر قوته ، وهو بامتلاكه لهم يفرض نفسه عليهم و يتحمل مسؤوليتهم ). 

الوفاء عند المرأة و الرجل (١)




الوفاء عند المرأة و الرجل (١)
ما العوامل المؤثرة على التزام الجنسين بالعلاقة الزوجية 


قبل مدة دخلت في نقاش مع جماعة من الناس عن موضوع الوفاء بين الجنسين، كان الرأي العام السائد أن الرجال أقل وفاءً من النساء، و أن هذا أمر ملاحظ ولا يحتاج إلى إثبات، و بالتالي فإن المجتمع مدين جداً للمرأة التي تقرر التنازل و البقاء مداومة الإهتمام مع زوج إنصرف بذهنه أو قرر أن يتزوج بأخرى. 

الرأي هذا سائد ولا يمكن قصره على تلك الجماعة التي ناقشتها ، مع أن التشريع الإسلامي لا يتفق معه !! إذ لو كانت هذه حقيقة لوهبت المرأة سلطة الطلاق و حرمها الرجل ! كما أن النبي عليه الصلاة و السلام و الأنبياء من قبله و الصحابة من بعده كانوا معددين و لم تعد هذه الخصلة طعنة فيهم و تقليلاً من وفائهم ! و أخيراً فإن تسليم الرجل القوامة و إلزام المرأة بطاعة زوجها يتناقض مع هذا الإستنتاج ! إذ أن الشخص الأكثر إلتزاماً و شعوراً بالمسؤولية تجاه الآخرين في العائلة هو الذي يحق له أن يأخذ القرارات نظراً لكون الصلاحية قرينة المسؤولية !! فلماذا يرتبط الوفاء بالمرأة عند الناس ؟ وهل هذا الإرتباط صحيح ؟ و إن كان صحيحاً فلماذا كان التشريع الإسلامي مناقض له ؟ 

تكمن المشكلة في النظرة الخاطئة للجنسين و لما يقدمه كل منهما في هذه العلاقة، إذ أن الوفاء ليس التزاماً جنسياً بالضرورة ، بل التزام أخلاقي ( غير غريزي ) بأداء الإلتزامات التي كان كل طرف قد أقر بتحملها عند بداية العلاقة مهما طرأ على العلاقة من حوادث تضعف من قدرة الطرف الآخر على الأداء ( أي أنه إلتزام يصعب تحديد تكلفته و مدته ، و من هذه الهلكة و النكران لرغبات الذات تكتسب هذه الصفة قيمتها ) . و لأن الطرفان يختلفان في نوع المسؤولية و الإلتزامات التي يتحملانها فإن الوفاء يفترض به أن يقاس بطريقة مختلفة عند كل جنس . 

و حتى نحلل موضوع الوفاء و نميز بين الجنسين فإننا بحاجة لتحديد الإضافة التي يقدمها كل من الجنسين و مضمون المقايضة الجارية بينهما .. فما هي هذه الإضافة ؟

١- الرجل .. نظراً لامتلاك الرجل ميزة في قدراته الذهنية و الجسدية و النفسية فإن عمله ينتج فائضاً مادياً يزيد عن حاجته و يتمكن به من تهيئة بيئة آمنة لغيره.

٢- المرأة ..المرأة على الطرف الآخر نظراً لضعفها الجسدي و الذهني و النفسي تواجه عجزاً في قدرتها الإنتاجية  بينما هي تحتكر القدرة الإنجابية و تتميز بقدرة على الرعاية و التعاطف في البيئة الإجتماعية الصغيرة لا يتقنها الرجل. 

هذا هو الأساس الحياوني الغريزي للعلاقة الزوجية، أما المعان الأخرى فهي معان أخلاقية أو دينية طارئة تأتي نتيجة تربية و تعليم، لا نتيجة انجذاب غريزي و متعة طبيعية. هذه الأمور و إن كان لها أهميتها في مجتمعاتنا البشرية المركبة إلا أنها لا تفيدنا كثيراً في تفسير الظواهر الإجتماعية التي بنى عليها الناس هذا الإستنتاج القائل بأن (( المرأة أكثر وفاء من الرجل )). 

ملحوظة أخرى .. قد يشترك الجنسان في بعض الهموم و الصفات التي تزيد من ترابطهما و التزامهما تجاه بعضهما البعض ، كالعقيدة المشتركة في مكان غريب و الحالة المادية السيئة في بيئة غنية و العرق المختلف في بيئة عنصرية، كل هذه الأمور تساعد الأطراف على الإلتحام نظراً لاستشعار الهلكة المشتركة ، لكنها لا تميز أياً من الطرفين. و بطبيعة الحال هناك جانب آخر يؤثر على التزام الطرفين بهذه العلاقة وهو الضغط الإجتماعي . الخوف من الإقصاء الإجتماعي و سوء السمعة و التدني في سلم المجتمع نتيجة للتصرفات الأنانية في العلاقة الزوجية تعمل على كبح الغرائز الأنانية إلى حد ما و تساهم في حفظ العائلة من التفكك. 

كل هذه العوامل الخارجية و الطارئة مفهومة، لكنها ليست مثار التساؤل ولا موضوع المقال، ذلك أن التشريع الإسلامي ميز الذكر عن الأنثى لكونه ذكر ، و لم يميزه لتدينه أو لوجود عوامل خارجية طارئة تضغط عليه، فما الذين يميز الذكر ؟ و لماذا عدت الأنثى عموماً في العقل العام أكثر وفاءً و رحمة من الذكر ؟ 

هناك مجالان يتميز فيهما الجنسان عن بعضهما البعض : 
١- قيمة الفرد في سوق التزاوج (المستمدة من الإضافة التي يقدمها). 
٢- بيئة عمل الجنسين (التي تتبين بها قيمة إضافته). 


قيمة الفرد في سوق الزواج و البيئة التي تتبين بها هذه القيمة :

نوع الإضافة التي يأتي بها كل طرف إلى الطاولة تجعل معايير التقييم مختلفة ، فالفتاة الصغيرة قليلة التجربة كثيرة الحياء فاتنة الجسد ( ملامحها دالة على الخصوبة و الضعف كالصدرين الممتلئين و الحوض الواسع و المناكب الضيقة و الوجه الطفولي ) تملك من القيمة في سوق التزاوج ما يعجز معظم الرجال عن بلوغه. و مع أن هذه الفتاة لا تبذل شيئاً يذكر لتصل إلى هذه الحالة إلا أنها بمجرد محافظتها على نفسها و امتلاكها لدلائل الخصب الجسدية و ملامح الضعف التي توهم الرجل بقدرته على التحكم فإنها تصير في موضع عالي يسمح لها بالإنتقاء و التخير من مجموعة كبيرة من الرجال . 
أما الذكر على الطرف الآخر فإنه قليل القيمة في جسده، إذ أنه لا ينجب ولا يرضع ، كما أن طاقته الإنتاجية رهينة التمرين و الخبرة، لذلك فإن خصال الرجل الجسدية التي تلفت نظر المرأة هي في غالبها خصال مكتسبة وليست كامنة ( الجسد العضلي و اللياقة العالية ) كما أن الخصال غير الجسدية لها دور أهم في لفت نظر المرأة، كالغنا المادي و الوظيفة العالية و الوجاهة الإجتماعية و التفوق العلمي و العقلي، كل هذه الخصال هي خصال مكتسبة تتطلب جرأة و صقلاً و منافسة ، فإذا تميز الرجل عين أقرانه إنتقل في عيون الإناث عموماً من الذكورة إلى الرجولة ( إذ الرجولة قرينة التميز الفردي ، و ليست خصالاً و عادات يمكن تصنعها )، وهذه الحالة هي الحالة المطلوبة لدى الإناث إذ أن في استنزاف هذا الرجل و استهلاكه لصالح الأنثى الطالبة قيمة فعلية تجنى. 

باختصار : 
١- الخصال المميزة للأنثى خصال خَلْقية في الغالب و غير مكتسبة. 
٢- الخصال المميزة للرجل خصال مكتسبة و غير خَلْقية. 
٣- الخصال المميزة للرجل تتطلب تمييزاً حقيقياً له عن أقرانه. 
٤- الخصال المميزة للأنثى لا تحتاج لتمييز أو مقارنة مع بقية الإناث.

النقاط السابقة تقودنا للتالي : 
١- قيمة الأنثى تكون في ذروتها في أواخر العقد الثاني و أوائل العقد الثالث من العمر. 
٢- قيمة الأنثى (أي قدرتها على دفع الناس ليقوموا بخدمتها دون مقابل) في هذه المرحلة تكون عالية جداً بالمقارنة مع عموم الرجال. 
٣- هذه القيمة تقل بالتدريج حتى تصل إلى درجة قريبة من الصفر أواخر العقد الخامس من العمر. 
٤- عمل المرأة و كسبها و قوتها العقلية و الجسدية تقلل من قيمتها الجنسية نظراً لأن المرأة تجعل من نفسها صعبة الإمتلاك و الإستثمار ( أي أنها تتحول من أرض تستثمر إلى كيان منافس ).
٥- قيمة الرجل الجنسية تتناسب طردياً مع تميزه و قوته الجسدية و النفسية و العقلية و المادية ، و بالتالي فإن قيمته الجنسية تزداد بالتدريج مع العمر حتى تصل إلى مداها في أواخر العقد الرابع و أوائل العقد الخامس. 
٦- متوسط قيمة الرجال عندما يصلون لأفضل سن لهم (أواخر العقد الرابع) أقل من متوسط قيمة النساء في أوائل العقد الثالث من العمر، نظراً لكون قيمة الرجل مستمدة من تميزه و الرجال لا يستطيعون أن يتميزون كلهم إذ أن ذلك ينقض مفهوم التميز أساساً. 
٧- القيمة الجنسية و القوة الإجتماعية للرجال الذين يتميزون عن أقرانهم تتفوق على قيمة النساء جميعهم وهم في أوائل العقد الثالث من العمر. 
٨- قيمة الرجال الجنسية و قوتهم الإجتماعي لا تقارب الصفر عموماً كما يحصل مع الإناث عند سن اليأس (كما أن القيمة الجنسية للرجال لم ترتفع كثيراً كما ارتفعت عند إناث)، لذلك فإن الرجال في مجال القيمة الجنسية يعدون أكثر إستقراراً و دواماً. 

الاثنين، 16 مايو 2016

السوق .. بين الحرية و الإستقلال (٢)




السوق .. بين الحرية و الإستقلال (٢)
ما هو مقصد الشريعة من الأحكام الشرعية في البيوع ، الحرية أم الإستقلال ؟ 


العوامل المؤثرة في السوق بشرح أكبر هي كما يلي : 

١- حجم السوق : 
السوق الكبيرة في الحجم هي سوق تظهر فيها التخصصات المتقدمة و الصناعات الترفية ، السوق الكبيرة في حجمها تمتلك قدرة شرائية و استثمارية كبيرة و عدداً كبير من الأغنياء القادرين على شراء السلع الغالية ذات الجودة العالية و المادة النادرة فتظهر للعالم صناعات كثيرة بجودة عالية و يصبح التخصص مطلباً مهماً لدخول سوق العمل إذا لم يكن الإنسان يملك رأس مال يمكنه من تجاوز مرحلة الوظيفة . السوق الكبيرة لا تشتغل كثيراً بالأساسيات إذ هي سهلة الإنتاج قليلة الإستنزاف لرأس المال و اليد العاملة.

٢- إتجاه السوق : 
حركة السوق بالتجاه النمو أو الإنكماش تؤثر بشكل كبير على مزاج المستهلك و المستثمر و بالتالي فإن معدل الرضا السياسي و الإستقرار و الشفافية يتغير ، و هذا كله يؤثر على درجة استعداد الناس للمخاطرة و الإستثمار ، كما يؤثر على درجة استعداد البنوك للإقراض. 
في السوق المنكمشة يسعى الناس للحفاظ على ضروريات الحياة و امتلاك الموارد التي تحفظ قيمتها رغبةً في تأمين النفس و الإستغناء عن الكيانات السياسية و التجارية التي فقد عموم الناس ثقتهم بها، هنا ترخص السلع و تفشل الكثير من الإستثمارات و تقل قدرة الحكومة على ضبط العامة . في السوق المنكمشة نظراً لضعف القدرة على الإستثمار في بيئة لا يوجد فيها طلب كثير تتصلب الطبقات، و تنعدم الحركة العمودية تقريباً، ولا يبقى إلا سيد يملك و مملوك يعمل يبديه ، وهذا هو جوهر الإشكال و أساس النقمة . 
السوق النامية على الطرف الآخر يعم الفأل فيها، فالناس جريؤون على الإستثمار و الإستهلاك نظراً لثقة المشتري في المستقبل و أمنه على دخله و النظام العام القائم. فتنموا صناعات الترف هنا و تصير المفاخرة و التعالي سمة عامة تجعل من الصناعات الطرفية صناعة مربحة ، و مع سخط الناس على هذا التمايز في الدخل و التعالي الطبقي إلا أن شعور الناس بوفرة الفرص و إمكانية الإغتناء و الإطمئنان على الضروريات يسكت العامة و يرضيهم حتى ينقلب ذلك كله مع أول انكماشة حقيقية في السوق. 

٣- سرعة النمو و الإنكماش : 
و هذا العامل أيضاً له دور مهم فالإتصالات الحديثة و سرعة النقل عن طريق وسائل المواصلات الحديثة ساعدت كثيراً على تنشيط الحركة التجارية، و من ثم فإن حركة السوق صعوداً و هبوطاً إتسمت بالسرعة إذا ما قورنت بحركة السوق التاريخية ، و هذه السرعة لها أثر كبير في هدر المال و إساءة الإستثمار و إحداث اظطرابات ثقافية و سياسية. 
كما أن الوفرة السريعة تنتج بطراً كبيراً و انفصالاً حقيقياً بين ثقافة الإنتاج و ثقافة الإستهلاك، إذ الغنى السريع سواءً للفرد أو المجتمع ينتج نظرة غير واقعية للحياة فيزداد اعتماد الشخص على الآخرين و تقوقعه في تخصصه الذي قد لا يفيد كثيراً عندما تحدث هزة إقتصادية تغير التركيبة القائمة، لذلك فإن التقلبات السريعة تغير مزاج المستهلك تغييراً راديكالياً من البطر و الجزع، و من الإقتصاد إلى الإسراف.
كما يجب أن ندرك أن وسائل الإتصال و المواصلات مع تأثيرها على النمو و خلق الفرص الإستثمارية الجديدة تؤثر على البناء الطبقي للمجتمع ، فالعولمة هي النتيجة الطبيعية لهذه الحالة من الإتصال و التواصل السريع، و ازدياد الفارق بين الأغنياء و الفقراء يعد نتيجة طبيعية، فالسوق كلما كبرت زاد اغتناء الغني فيها و ضعف الضعيف فيها.

٤- الإستقرار السياسي و الرضا بالتركيبة السياسية : 
التركيبة السياسية بعيداً عن شكل الإدارة و نظام الحكم تلعب دوراً محورياً في السوق. التركيبة السياسية في أساسها هرمية تحكم من خلالها جماعة و تسلم أخرى، و متى ما إنتفى الرضا من الجماعة المحكومة و قلت المسؤولية عند الجماعة الحاكمة قل الإستقرار في ذلك البناء الهرمي. و مع انتشار السخط و قلة الرضا يقل الإمتثال للقانون و يصير الناس للتعاون من خلال هرمياتهم الصغيرة متجاهلين للهرم الكبير وهو الدولة. هذه الحالة هي تنافي نمو التجارة، إذ الأمن قليل و سوق السلاح و العصبية رائجة، و بالتالي فإن الحركة التجارية التي أساسها رضاً ببروز الأكفأ لا تعود حتى تذوب العصبيات في عصبية واحدة جامعة . 

……………………………………………………..

عمر الدولة  ( عامل آخر يتعلق بطريقة صرف الناس ) :

هناك أيضاً نقطة يجب التنويه إليها ، وهي شكل الهرم المالي ( إنتشار المال في المجتمع ) في الدولة حديثة التأسيس في مقابل الدولة الهرمة. عند بداية الدولة تكون للعصبية الجامعة نفاذ في الناس، فيحرص الناس على التعاون و صلة الأرحام بالمال و غيره فيقل الفقر و تنحصر مظاهر الترف و المفاخرة ، و بالتالي فإن هرم الدولة السياسي و إن كان في تركيبه لا يزال هرماً إلا أن الهرم المالي يكون هرماً بيضاوياً صغير القاعدة نحيل الرأس عريضاً فيما بينهما . أما الدولة الهرمة ذات العصبية الميتة فإن رأس الهرم المالي عريض كما أن قاعدته مسطحة و عريضة جداً و بينهما طبقة متوسطة لا تكاد تذكر. 

هذا كله يؤثر على السوق، فالسوق في الدولة الحديثة تركز على الضروريات و لا تلقى فيها التحف و صناعة الرفاهية سوقاً كبيرة، لذلك فإن صناعة الرفاهية تكون ضعيفة البناء غالية الثمن، في حين أن بقية السلع تكون موفورة و رخيصة، إذ الدولة و الأغنياء فيها يركزون على إنتاج المواد الضرورية و تغطية حاجة الناس لها. أما في البناء الأخير فإن الصناعات الترفية تكتسب شعبية كبيرة و يصير لها سوقاً كبيراً، فتتوجه الأموال للإستثمار فيها ، لتقل أسعارها نسبياً و تتحسن جودتها ، في حين أن المواد الضرورية تصبح أكثر كلفة و إرهاقاً لعموم الناس . هذه الحالة توجد تبايناً شديداً بين من يملك و من لا يملك ، فالأول يبني جنة لا يحلم بها الفقير الذي لا يكاد يسد رمقه. هذه هي الحالة التي تسبق الإنهيار و الفوضى . 

……………………………………………………….

لماذا حرم النبي عليه الصلاة و السلام بيع المال بالمال ؟ و لماذا يعد البيع مختلفاً عن الربا؟ 

السبب ببساطة هو منع المال من أن يصير سلعة فيكتسب قيمة منفصلة عن الإنتاج . هذه الحالة تكسب الأغنياء غناً غير مرتبط بالعمل، و تحميهم نظراً لامتلاكهم المال و عقدهم إتفاقيات القروض الربوية من الخسارة ، ليصير المقرضون بالتدريج طبقة حاكمة مستعبدة للناس، تغتني باظطراد دون إنتاج أو مخاطرة . 

أنظر مرة أخرى لعناصر السوق الثلاثة و لاحظ كيف يتم التمييز و الإستعباد : 
المادة المستخدمة في الصناعة ، اليد العاملة القائمة بالصناعة ، ثم النقد الذي تقيّم به السلع و تستخدم كوسيلة لحفظ الثروة و الجهد المصروف .. المال هنا يستمد قيمته من الصفات اللتي يمتلكها و من ندرته أما قيمته الصناعية فإنها قليلة نسبياً،. هذه الخصائص ليست مفيدة في ذاتها إذا انتفت السلع و الخدمات، لذلك فإن استخدام النقد كسلعة ( عن طريق جمع الذهب و الفضة و احتكارهما ثم إقراضهما بقروض ربوية ) يقفز بها على السوق من حيث هي دلالة على مجهود الأفراد العاملين في السوق ، و الهيمنة على بقية الناس المتبايعين دون مجهود فعلي أو مخاطرة تذكر . 

إكتناز الذهب و الفضة و الإقراض باسمهما دون صرفهما فعلياً يؤدي للهيمنة على كافة العمليات التجارية الجارية في السوق ( سواءً كان ذلك السوق محلياً أو دولياً ) ، و بالتالي فإن هذه اليد المقرضة تستطيع التلاعب بأسعار السلع و تكلفة الإنتاج عن طريق تقرير الأيادي التي يمكن إقراضها و الفائدة المطلوبة على المقترضين و أسعار المواد الأساسية إذ هي مصدر الإيصالات (العملات) المأخوذة عن الذهب المخزون ، و بالتالي فإن هذه اليد المقرضة هي الأقدر على شراء المواد الأساسية و احتكارها و دفع الناس إلى طرف السوق ليصيروا أصحاب قيمة هامشية في العملية التجارية ، و من ثم في المركزية السياسية. 

كيف صار هذا الإحتكار للذهب ؟ و كيف صارت العملة ديناً ؟ 

ليس غريباً أن يحتكر الذهب إذ الصلاح ليس أصلاً في البشر، لكن الغريب أن يقبل الناس بأن يحاسبوا بغير المعادن النفيسة. الحقيقة هي أن ذلك التحول لم يطرأ إلا مع تقادم الزمن و تغير الأحوال بالتدريج، حتى صار الإبتعاد عن الذهب و الفضة أمراً مقبولاً و التمسك بهما أمراً لا تدعوا إليه الحاجة، بل هو تخلف و رجعية و بلاهة كما يرا عامة الناس !! 
الذهب و الفضة في الأصل مرتفعة أثمانها (عشر أوقية من الفضة تساوي أجر يوم كامل للجندي و الفلاح ، وهي كافية لكي يشتري بها حاجاته و حاجات أهله )، إذ هي نظراً لندرتها و جمال مظهرها ، و عدم تعرضها لآثار الزمان تدفع الناس للتعدي و الطلب . فهي وسيلة سريعة للإغتناء ، كما أن مصادرتها و حفظها بعيداً عن أنظار الناس يسير أيضاً . لذلك فإن الناس يميلون بالتدريج لاستئمان أصحاب الخزائن و القوة عليها ، كما أن أخذ إيصالات تدل على ملكيتهم لها يساعد على السفر بأمان دون الخوف من السرقة ، ومتى ما وصل الإنسان إلى البلدة التي يريدها قام بدفع إيصاله إلى خزينة (بنك) أخرى ليحصل على نقوده ( ذهب و فضة ) . هذه الصلة ضعيفة كما هو ظاهر ، إذ أن صاحب الخزنه يسهل عليه إصدار إيصالات تدل على نقد كثير هو لا يملكه، و نظراً لأن المقرض لا يتحمل الخسارة ، و لأن الإيصالات المطرحة تصبح بالتدريج أكثر من النقد الموجود في الخزنة حقيقة ( الذهب ) إذ أن صاحب البنك يقرضها كوسيلة لتحقيق الربح فإن صاحب البنك يكسب من إفلاس الناس ، إذ أن الطلب الفائض الذي ينتجه بإقراضه الكاذب و فوائده الكبيرة تعود على السوق بالنفع اللحظي الذي يؤدي لسوء تخطيط المستثمرين ، فينتج عن ذلك إستثمارات كثيرة بناءً على توهم لقدرة شرائية عالية تؤدي في نهاية المطاف لإفلاس معظم المستثمرين و استعباد الكثير من المقترضين الصغار نظراً لاعتمادهم على الوظائف و اقتراضهم هم بناء على أمنهم عليها.  
هذه الحالة لا تكبر حتى تكبر البنوك و تزيد قوتها بارتباطها بالحكومة و السلطة العسكرية في البلاد. إذ أن الكثير من الإجراءات البنكية تتطلب قمعاً عسكرياً و مصادرة للمتلكات، وهذه القوة العسكرية لا تملكها البنوك عادة، لذلك فإن عليها أن ترتبط بالحكومة في علاقة نفعية يحقق فيها كل طرف مصلحته. الأسلحة الحديثة و سرعة النقل و الإتصال في العصر الحالي يسرت على الحكومة مصادرة أموال الناس و فرض الإيصالات كوسيلة للتعاملات التجارية. و الحكومات و إن كانت لم تقم منذ البداية بفك ارتباط العملة عن الذهب إلا أنها سارت بهذا الإتجاه عن طريق الطباعة و الإقتراض دون أن تعلم العامة حتى صارت للعملات قيمة فعلية في ذهن العامة تتجاوز قيمة المادة الأولى (الذهب) التي يفترض بالعملة أن تستمد قيمتها منها. عندما صار هذا واقعاً قامت الحكومات بعد ذلك بفك ارتباط العملة عن الذهب فصادرت ما بقي للناس من حرية و استقلالية كان يضمنه لهم ذلك المال ( المعدنين النفيسين الذهب و الفضة ). 

يفترض بالمال أن يدل حقيقة على عمل تم إنجازه، و لأن هذه حقيقته فإنه يعد معياراً حقيقياً تقاس به كفاءة الحكومة و مقدار الفائض في إنتاج البلاد . الدول القوية بطبيعة الحال لا تحب أن يفرض عليها عموم الناس عن طريق حركتهم التجارية قيوداً تلزمها بالتعاون و التنازل للذي لا تريد التنازل له، لذلك فإنها تسعى لإضعاف قيمة الذهب و الفضة و فرض عملتها كوسيلة وحيدة للقيام بالتعاملات التجارية ( أي أنها تصادر قيمة العمل البشري الذي يقوم به عموم الناس لكي تتحرك هي وفق أهدافها السياسية، و ذلك عن طريق طباعة المال الذي تحتكر إنتاجه )، و مع أن الناس قد لا يلحظون الفرق عند أول تحرك نحو السيطرة على المال باحتكار إنتاجه و منع التعامل بغيره، إلا أن الإستمرار عل هذا النهج يؤدي بالتدريج إلى إنهيار النظام السياسيو الإقتصادي إذ أن عدم ملاحظة الآثار الإقتصادية السلبية الناتجة عن القرارات السياسية تزيد من تباين المجالين حتى يصل الحال إلى درجة كبيرة من التعارض بين ما تصرف عليه الحكومة و تستثمر فيه و تتبناه و بين ما يعود على الإقتصاد و عليها بالربح وهو ما يطلبه الناس. الرغبات السياسية هنا و المصالح الضيقة للجماعة المتنفذة تجد لها مساحة للتحرك نظراً لاحتكارها المال و تأخر الآثار الجانبية لناتجة عن طباعته و التلاعب به، لكن السوق بعد مدة يلحق بهذه السياسات فتصير الأسعار غالية و تقل المنتجات التي يطلبها السوق في مقابل منتجات و خدمات أخرى إلى أن يترك الناس التعامل بهذا النظام و يعودون لتقييم السلع و الخدمات القيمة عن طريق السرق الحرة (الذهب و الفضة) . 

الذهب و الفضة يقترنان بالحرية (الإستقلالية) إقتراناً لازماً، ذلك أنهما يفرضان على القيادة الوضوح ، فلا تستطيع الحكومة سرقة مجهود الناس دون أن تصادر أموالهم مصادرة واضحة (بعكس المال المطبوع الذي يصادر أموال الناس دون أن يدركوا أو يوافقوا )، كما أنها لا تستطيع أن توهم الدول الأجنبية بالغنى إذ أن خروج الذهب و الفضة من البلاد يؤدي لإضعافها بسرعة كبيرة ( بعكس العملات التي لا يؤدي خروجها من البلاد إلى إرهاق كبير ). و الحقيقة هي أن السوق كلما كبرت (كالسوق العالمية في الوقت الحاضر) فإنها تتعقد و يصعب على الناس متابعة التلاعب الحاصل فيها، لذلك فإن القيادة تجد مساحة كبيرة للتحرك لا يظهر من خلالها فساد، هنا تستمر القيادات السياسية و الإقتصادية في سرقة مجهود الناس و اللعب على ثنائية الثقة و الرهبة حتى يحين الوقت الذي تنهار فيه الشبكة التجارية ( نظراً لحصول تباين كبير بين الإستثمار و الطلب ) ، و ما ينتج عن ذلك من شعور بالهشاشة و الإستغلال عند العموم الناس، و هذا الشعور يؤدي بدوره للإمتناع عن المشاركة في النظام السياسي و الإقتصادي للبلاد ، و بالتالي فإن السوق السوداء تكبر ، و الحركات السياسية الإستقلالية تتعمق، فتقل لذلك واردات البلاد و تضعف الدولة ككل عن مواجهة الخارج أو فرض إرادتها السياسية على أي طرف. 

المثالية الناتجة عن حالة الوفرة الطويلة هي التي تؤدي إلى انفصال العقلية السياسية العامة عن الواقع. يغزو الوهم عموم الناس فيصيرون متوهمين قدرةً للبلد و المجتمع على الرقي بالإنسان فوق حالته الحيوانية، لذلك فإن السياسات تصبح مشتقة من تصور حالم لا من واقع ملموس، لذلك فإن القرارات المكلفة هذه تعود على البلد بالدمار تدريجياً و إن كان الشكل الظاهري مرتب و متناغم. هذه الحالة هي حالة المجتمعات المعترضة و المتكبرة ، عاشت في خيال حتى صار الواقع الطبيعي واقعاً غير محتمل ولا مفهوم. 

حجم السوق يتناسب طردياً مع حجم السرقة : 

الناس بطبيعتهم لا يتعاونون بل يجبرون على التعاون. بدون قوة مستقلة قادرة و صالحة تقدم المصلحة العامة لا يفرض نظام عادل يضمن لكل فرد يجتهد نصيبه ، وهنا تكمن المشكلة أيضاً فإن القوة إئا كانت مستقلة فإنها غالباً لا تكون نافذة و إن كانت نافذة فإنها نادراً ما تكون مستقلة. لذلك فإنه لا يمكن التعويل على فرد أو بضعة أفراد، النظام العادل و المصلحة العامة تتحقق عندما تتقدم الكفاءات و تقرر بنفسها أن تعمل وفق نظام يأذن بسقوط الضعيف و ارتقاء الكفاءة، و هذه بالطبع حالة نادرة و طارئة على المجتمعات، فالنظام (أي نظام سياسي حقيقي) يفترض به أن يضبط القوى المتحكمة في القرار السياسي و الإقتصادي لا أن يقتصر في حكمه على الضعفاء، إذ الضعيف مضبوط دائماً بوجود قوي آخر ينافسه و يضمن امتثاله أما ضبط القوي الذي به و بأمثاله يضبط المجتمع فإن ذلك يعد حالة إستثنائية و عدالة طارئة، و لذلك فإنه يمكن اختصار القول بـ ( أن صلاح البلد من صلاح وجهاءه، و متى ما كانت الوجاهة يتحصل عليها بالكفاءة و القدرة التنافسية في السوق فإن عموم الناس يتبعون نسق التسيد هذا فتتحقق المصلحة العامة و العكس صحيح ). 

طبقة الوجاهة تتغير أخلاقها مع الزمن ، و نظراً لكون الأصول ذات المركزية في اقتصاد البلاد يمكن إحتكارها فإن البلد يمكن أن يؤسر من قبل نفس الرجال الذين كانوا سبباً في نهضته بادئ الأمر. السبب في ذلك لكون اقتصاد البلد يبنى في أساسه على موارد أساسية لا يمكن الإستغناد عنها ( الماء و الزرع و الأرض التجارية و الطاقة و الذهب و الفضة و المواد الأولية الضرورية ) ، و لأن هذه الموارد محدودة فإن امتلاك جماعة صغيرة لمعظم هذه الأصول يجعلها محتكرة لرأس الهرم السياسي، إذ السلطة قرينة المال و المال يتبع الأصول، و متى ما فقد السلطة المال فقدت ولاء الجنود و خدمتهم، و متى ضعفت القوة السياسية و العسكرية إمتدت الأيدي إلى الأصول الأساسية فضعفت السلطة السياسية بشكل أكبر و أكبر حتى تنهار.


لذلك فإن الذي يحكم البلاد هو الذي يملك المال ، و من يملك المال هو الذي يملك الأصول الأكثر إدراراً للمال و الأكثر حيوية في البلاد، و بالتالي فإن الأصول الأساسية عندما تتملكها مجموعة بسيطة ثم تعمل على احتكار القطاع المصرفي (الإقراض الربوي) فإن المال يصبح دولة بين أفراد هذه الجماعة، ولا تظهر الخطورة و حالة الإستعباد هذه إلا عندما يضعف الإقتصاد و ينكمش، إذ تضعف القطاعات الطرفية التي كانت قد ظهرت مع تضخم السوق، فيفقد الناس وظائفهم و استثماراتهم و تبقى أصول العلية و استثماراتهم و يظهر للناس مقدار الطبقية الحاصلة و الإستعباد الخفي. تقعد وراء هذه الحالة حقيقة يتنكر لها الدعاة لحرية السوق وهي أن المال يجلب المال و القوة تجلب القوة (الجاه) ، فمع أن المال له ارتباط بالكفاءة و الجهد إلا أن هذا الإرتباط يضعف إلى حد الإنعدام كلما زادت ثروة الإنسان إلى درجة تمكنه من شراء أي منافس و تمييل أي كفة و استخدام كل كفاءة . 

السوق الكبيرة هي سوق واسعة جغرافيا، متقاربة صناعياً ( بالإتصالات و المواصلات ) ، متباينة ديموغرافياً. و لأن الموارد الأساسية المذكورة سابقاً ( الماء و الزرع و الطاقة و الذهب و الفضة .. ) لا تتسع كثيراً بمقدار اتساع السوق فإن نسبة الناس الذين يعملون على هامش السوق يزداد بقدر اتساع السوق، و في المقابل فإن أصحاب الثروات تزداد ثروتهم باظطراد كلما زاد السوق اتساعاً. في هذه الحالة تصبح هناك طبقة صغيرة تملك الأصول الضرورية ولا تعمل، و طبقة دونها مبدعة في التنبؤ بحركة الأسواق فتبتكر الصناعات الجديدة و تستفيد من حركة السوق العالمية فتغتني بجهدها، و طبقة دونها عاملة ( بين مختصين بشهادات عالية يعملون في مجالات مربحة و محترمة إجتماعياً، و عمال في مجالات دنيا حالتهم متوسطة ) ، ثم هناك العمال في المهن الوضيعة و البدائية فهؤلاء بالكاد يعيشون. هذا البناء الطبقي يتحول من شكل البيضة المستقرة على قاعدتها إلى شكل العدسة المقعرة من على جانبيها و بقاعدة عريضة جداً و وسط نحيل جداً و رأس عريض قليلاً. و السبب في ذلك كما ذكرنا أن الأعمال الأساسية لا تحتاج ليد عاملة ماهرة و كثيرة، كما أن الأعمال المربحة اليدوية هي أعمال هامشية و رفاهية في السوق، و ما عدا ذلك فإنه يمكن تحويله للرجل الآلي أن يعمله و التاجر الماهر أن يضارب في الأسواق لمن يملك ، فيكسب صاحب المال و يكتسب معه. و كل هذا يقل متى ما صغر السوق كما ذكر النبي عليه الصلاة و السلام ( لا يبع حاضر لباد )، أي أنه عزل رجل البادية في بيعه عن الحاضرة لأن في ذلك إكساب لغيره ( معاش يجده من فارق السعر بين رجل البادية و البيع داخل البلد ) ، و كذلك فإن وسائل التواصل و المواصلات تسهل على الأغنياء التواصل مع الفقراء فيحفظون أموالهم و يراكمونها فيما تجد الطبقة الفقيرة معاشاً يكفيها و تتحول الطبقة المتوسطة بالتدريج للفقر إذ تم تجاوزها فأصبحت مظطرة لأن تنافس من لا يمكن منافسته في فقره أو ابتكار صناعة جديدة ( و للأبتكار حدود في النفع و حاجة الناس ) . 

إنفصال الأسواق مهم لتوفير حياة كريمة ، كما أن اتساعها للحد الذي تتمكن معه المجتمعات من تطوير صناعات محورية في الحياة العامة يعد أمراً ضرورياً أيضاً.


يحرم الله كل ما من شأنه أن يزيد مراكمة المل لدى الطبقة الغنية و استعباد الناس ، و لأن مراكمة المال و استعباد الناس تتم عن طريق استغلال غرائز الناس كما تتم بالقوة فإن الشرع رغب بالناس عن اتباع شهواتهم و حرم كل تجارة تؤدي إلى استغلالها. لذلك فإن التجارة في الإسلام يجب أن تحتوي على الشروط التالي : 
١- أن تكون العملية واضحة ( أي لا تكون تقييماً إجتهادياً و إنما يكون المبلغ المبذول معلوماً بالتحديد و السلعة المشتراة واضحة بكل تفاصيلها زماناً و مكاناً ، و لذلك فإن كثيراً من المراهانت التجارية محرمة وهي تأمين على المستقبل و ما إلى ذلك مما لا يمكن تحديده فتقع المخاطرة بشكل غير واضح ولا متساو بين الطرفين ). 
٢- إن تكون في العملية مخاطرة لا يجنب منها أي من الطرفين ( بهذا تم تحريم الربا و القمار إذ أن المقرض و صاحب ملهى القمار يكسب دون أن يعرض نفسه لخسارة حقيقية ). 
٣- ألا تكون التجارة في الأسواق المحرمة ( كالتجارة بالجنس أو ما يدعو إليه ، أو الإتجار بالمسكر أو المسابقات التي في أصلها قمار ) كل هذه تعمل على غرائز الناس فتزيد من عبودية العامة و غنى الخاصة. 
٤- الإحتكار .. ( و الإحتكار هنا لا يهم كثيراً في السلع الهامشية لكنه يشل الإقتصاد و يستعبد الناس عندما يكون في الأصول الرئيسية كالماء و الغذاء و الدواء و الطاقة و الأرض الزراعية و الأراضي السكنية ) ، و الإحتكار محرم لأنه يستعبد الناس و يسهل استغلالهم و ضرب بعضهم ببعض لذلك فإن الزكاة كانت في الإصول ( سواء الذهب و الفضة أو كل ما كان يدر عائداً مادياً ) 

لو تأملنا التشريع الإسلامي لوجدنا أن التشريع لا يركز على حرية الفرد بقدر ما يركز على استقلاله ، فالأولى تقترن بحرية التصرف في المال و الأملاك مطلقاً ( فقد يورث المال لكلبه أو يصرفه كله على تحف و أمور ترفيهية و هذا كله محرم و يشرع للولي أن يصادر حق المالك في التصرف في ماله ) لذلك فإن المسلم و غيره في البلاد المسلمة لا يمكنه شراء أو الإستثمار في المواد المحرمة حتى و إن كان بقراره الشخصي وهو يرى أن ذلك من حريته الكفولة و أنه دليل احترامك له و اعترافك بنضجه ، الإسلام هنا يقول بأن عموم الناس لا يعرفون مصلحتهم و أنهم يلقون بأنفسهم إلى التهلكة إذ هم ييسرون لمن يحكمهم أن يستعبدهم في جميع مناح الحياة عندما يتبعون شهواتهم. بينما الإستقلال على الطرف الآخر يقتضي إلتزاماً جماعياً بالشريعة الإسلامية و مقاصدها فيما يضمن لك الشارع إمتلاك المال الحقيقي (الذهب و الفضة) و الأصول و حرية التصرف بهم في حدود الشرع مع إلزام الحاكم بمنع إحتكار الأصول و الموارد الأساسية عندما يصل التجار و المتنفذون لذلك، هذه الطريقة في البناء الإقتصادي تصادر الكثير من القوة من يد الحاكم و تجعله أسير نظام شرعي حاكم للجميع ، هذه هي الإستقلالية التي لا تتحقق العبودية إلا بها و لذلك هي مكروة من قبل أصحاب القرار عادة. 

الإستقلال لا يأتي إلا بالإستقرار و الإستقرار يكون نتيجة التسليم لله و الإنشغال بما عنده عن ما في الدنيا ، هكذا يرتبط الإقتصاد بالدين و هكذا يؤدي استقرار الفرد إلى استقرار السوق و استقرار البلد.  

السوق .. بين الحرية و الإستقلال (١)




السوق .. بين الحرية و الإستقلال (١)
ما هو مقصد الشريعة في أحكام البيوع ، الحرية أم الإستقلال ؟ 




السوق تنازع سلمي و حركة إجتماعية يطلب فيها الناس مصالحهم الفردية بوضوح، من خلال آلية تضمن لكل فرد حقه، عن طريق تقييم جهده و مدى إضافته. لذلك فإن السوق تعد من أكبر الدلالات على تحضر المجتمع إذ هي وسيلة سلمية يستخدمها الناس عامة للتعالي فيما بينهم و لجمع أكبر قدر ممكن من النفوذ دون استخدام القوة أو أي وسيلة أخرى لا يكون فيها المتبايعين راضيين. فهي تسليم جماعي بتعالي الأحكم و الأكفأ بغض النظر عن قوة المتعالي جسدياً أو نفوذ جماعته. و لأن التسليم حالة شاذة في البشر ( إذ الأصل الإعتراض و التعدي ) فإن ظهور السوق و حرية التعامل التجاري تعد أمراً طارئً وحالة ناشئة عن قوة مستقلة فارضة لهذا النظام. فالسوق إلى حد ما قرينة الهيمنة السياسية لجماعة عادلة وهي -أي السوق- تتحرك و تنمو بشيء من الفردانية الإجتماعية الثقافية التي تقدم الكفاءة و الإنتاجية و تستخدمها كوسيلة للتعالي في النسيج الإجتماعي على الترابط الإجتماعي الصلب و التساوي الإجتماعي. من هذا المنطلق إقترنت السوق بالتحضر كما اقترنت بنشوء الطبقية الإجتماعية، إذ هي بطبيعتها تكسر العائلة الممتدة (القبيلة) لتبني عصبيات مختلفة ( على أساس المهن و درجة الغنى و المنطقة و المصالح المادية .. ) و توجد حرية أكبر للفرد ينعتق بها من ارتباطه الإجتماعي بقبيلته ليجد لنفسه جماعة أخرى يتعصب لها بحسب الوظيفة أو المهنتة أو الشهادة.

ما سبق يعد تعريفاً بسيطاً بالسوق و ربطاً لتلك الحركة الأنانية الواضحة بالحركة الإجتماعية الضيقة (العائلة و الحي) و السياسية الواسعة (الدولة بحكامها و متنفذيها ). و من خلال هذه المقدمة البسيطة أريد أن أدخل في موضوعي لأحدد عناصر السوق و العوامل المؤثرة فيه، و مآلات الحركة التجارية و أثرها على التركيب الطبقي للمجتمع و البناء السياسي، كما أني أريد أن أحدد القواعد المهمة و الحدود التي يجب أن يلتزم الناس بها حتى لا تؤدي السوق لنقض نفسها.

العملية التجارية في أساسها مقايضة ، أي أنها عقد بين طرفين يستبدل فيه كل طرف ما لديه بما يملكه الآخر سعياً لاستيفاء حاجته و ضمان معيشته، ولأن ذلك يعني أن لكلا الطرفين حاجة في أن تكون رغبتة و حاجته متناسقة مع رغبة الآخر زماناً و مكاناً فإن العمليات التجارية ( وهي المقايضة هنا ) تكون محدودة كماً و متذبذبة زماناً. المال لذلك يعد وسيلة عملية ضرورية لحفظ مجهود الفرد حتى يتمكن من استدعاء هذه القيمة متى أراد و استبدالها بما يحتاجه في السوق بالبضاعة التي يريد. فوظيفة المال هنا هو البينية، أي أنه يعمل على تقريب إحداثيات الزمان و المكان بين البائع و المشتري حتى ما يقل الغرر بين المتبايعين و تزداد فرصة التوافق و من ثم التعاقد ( أي أن البائع يستطيع أن يشتري بالمال الذي كسبه بضاعة لا يملكها المشتري في ذلك المكان و بالكمية المطلوبة، كما أنه يستطيع أن يؤجل الشراء للوقت الذي يحب دون أن تتأثر قدرته الشرائية بشكل كبير ). 

و قبل أن نتكلم عن مقاصد الشريعة و الحكمة من تشريعاتها فإنه يصح أن نحلل السوق ككل ، عناصره الأساسية و العوامل المؤثرة فيه حتى نتمكن من التنبؤ بمستقبله و التركيبة الإجتماعية الناتجة عنه بعد مدة طويلة من الحركة التجارية الحرة . 

السوق تتكون من ثلاثة عناصر هي  : 
١- المنتجات ( المواد و الخدمات المتاجر بها ).
٢- أفراد المجتمع المتبايعين ( عددهم و كفاءتهم الإنتاجية و حاجاتهم ).
٣- المال ( وفرته في المجتمع و مدى انتشاره فيه ). 


كما أن هناك أربعة عوامل تؤثر في السوق هي : 
١- حجمه ( أي حجم العوامل السابقة ). 
٢- إتجاهه ( للنمو أو الإنكماش ).
٣- سرعته نمواً أو انكماشاً ( و هذا يتأثر بنوع الإتصالات و المواصلات المتوفرة ).
٤- الإستقرار السياسي ( مقدار رضا الطبقات المكونة للسوق ، سواءً كانت سوقاً محلية أو عالمية ).


عناصر السوق التي ذكرناها ( المنتجات ، المال ، و الأفراد على طرفي المعاملة ) 
فيها تفصيل يحتاج إلى شرح و توضيح، ذلك أن هذه التفاصيل تؤثر على العناصر ، و من ثم فإنها تؤثر في السوق ككل ( في حركة البائع و الشاري ) .

١- المنتجات : و هذه تكون مواداً أساسية أو قريباً من الأساسية كالمنتجات الزراعية، أو تكون صناعة مركبة بحاجة لمختصين و خبرات عالية، أو تكون خدمات تعتمد على المورد البشري كالتعليم و الصحة و الإدارة و الإستشارات المالية و القانونية ، أو تكون موقعاً جغارفياً مهماً يستثمر في مجالات سياحية أو عسكرية . كل هذه المنتجات تؤثر في المجتمع المنتج إذا ما اعتمد على شكل من أشكال هذه المنتجات بدرجة كبيرة، فالتركيبة السياسية و الحركة الطبقية تتغير من الصلابة إلى المرونة و العكس تبعاً لشكل المنتج الذي يعتمد عليه السوق أساساً.

٢- الأفراد : الفرد هو المادة الأساسية التي يبنى عليها السوق، ذلك أن المعاملات التجارية أساسها مصلحة الفرد و شهوته، والسوق تجسد ذلك الميل و تتعامل معه. لكن الأفراد في المجتمع يتميزون من حيث العمر و الجنس و الكفاءة العملية و الدرجة التعليمية، و لذلك فإن مجرد الوفرة البشرية لا تؤدي لنمو السوق و تطوره ( أي أن هناك علاقة طردية غير لازمة ). فالأطفال و كبار السن عجزة لا يقدرون على الإنتاج و ينهكون المجتمع بحاجاتهم، كما أن حاجة المرأة و رغباتها تختلف عن حاجة الرجل و رغباته -إلى حد ما- و كذلك قدرتها الإنتاجية و مجالتها التي تبرع فيها، و لذلك فإن تركيبة المجتمع الديموغرافية و درجة تعليمه و رسوخ ثقافة الإنتاج و الفردانية فيه تؤثر في السوق بشكل كبير.

٣- المال : هو الوسيلة البينية التي تقيّم بها الأشياء و تشترى، إذ يتسم بصفات تيسر على المتبايعين القيام بعملياتهم التجارية في أي وقت وفي أي مكان بوضوح كبير( كما ذكرنا فإن المال يقرب إحداثيات الزمان و المكان بين طرفي المبايعة فيزيد احتمالية التبايع و يقلل من تذبذب الحركة التجارية عبر الزمان )، ومن خلال هذه الصفات يتمكن المال من تحقيق هذه المصالح ، فتزيد قيمته لذلك و يتميز عن سائر المواد.

الصفات التي يجب أن تتوفر في المادة حتى تصبح نافعة و يمكن استخدامها كوسيلة بينية في التعاملات التجارية هي : 
أ - يجب أن يكون للمادة المستخدمة كنقد قيمة في ذاتها ( أي أنها نافعة و نادرة ).
ب- يجب أن تكون المادة مقاومة للعمليات الحيوية ( أي أنها لا تفسد مع الزمن ). 
ت- يجب أن تكون المادة سهلة النقل و الحفظ ( صغيرة الحجم ).
ث- يجب أن تكون المادة قابلة للتقسيم و التجزئة دون أن تفقد قيمتها بعد التقسيم. 
ج- يجب أن تكون متطابقة ( أي أنك لو استبدلت ديناراً بدينار آخر لما فقدت من القيمة شيء ).

هذه هي الخصائص المميزة للمادة والتي تجعل منها استثناءً من بين المواد لتستخدم كوسيلة للقيام بالعمليات التجارية، فالناس كانوا ولا زالوا بحاجة لحفظ مجهودهم و استدعاء قيمته متى دعت الحاجة لحماية أنفسهم و ضمان مصالحهم في أي نسيج إجتماعي مركب. فالطبيعة البشرية الأنانية تقتضي وجود وسيلة مادية عملية يحفظ بها الناس حقوقهم و يحاجون بها خصومهم، و الناس متى ما غفلوا عن هذا الأصل و وثقوا في بعضهم و في من يحكمهم كان لمن يملك طباعة المال (العملة) القدرة على سرقة مجهود الناس و استعبادهم بطريقة يسيرة و خفية، و الزمن وحده كفيل بإيصال هذه الرسالة و إعادة الناس لما هو أصل.

إذا أخذنا في الإعتبار تذبذب هذين العنصرين ( المنتجات المادية و الناس ) من حيث الكمية و النوعية و الأهمية في السوق و إذا أدركنا إرتباط المال بالحركة السياسية و الصراع الطبقي و السعي للإحتكار أدركنا سبب التغير في قيمة المال و أسعار المنتجات .. فالمال كما ذكرنا في أصله سلعة ( أي مادة لها قيمة في حد ذاتها ) ، لكن سهولة نقل هذه السلعة و تجزئتها و ندرتها و محافظتها على خصائصها مع مرور الزمن تجعل منها وسيلة جيدة للتثمين و التبايع. و مع أن البائع قد لا يرغب في هذه السلعة الأخرى ( المال الحقيقي الذهب و الفضة ) إلا أنه يرغب في خصائصه التي تمكنه من الحفاظ على القيمة الحاصلة من عمله و استخدامها متى ما دعت الحاجة و بأي طريقة أراد .

لأجل ذلك فإن المال يعد عاملاً أساسياً في تسهيل التعاملات التجارية، و حفظ الحقوق ، و رصد معدلات الإنتاج و درجة الغنى. بدون المال يصعب على الناس تقييم مجهودهم و حفظه و مقايضته بما هو مساو له . لذلك فإن اكتناز المواد التي تحظى بهذه الخصائص (الذهب و الفضة) يقلل من عدد العمليات التجارية، مما يقلل من معدلات الإنتاج ، و يؤدي بالسوق إلى الإنكماش و الإقتصار على الحاجات الأساسية، و مع هذه الحالة يزول الإستقرار السياسي و الإجتماعي. 

المال لا يمكن إلا أن يكون ذهباً و فضة على المدى البعيد ، أما على المدى القصير فإن  المواد الأخرى التي تحضى بأعلى قدر ممكن من الخصائص المذكورة يمكن استخدامها كوسيط (مال) . حالياً يستخدم الورق كمال ، وهذه الوسيلة و إن كانت نجحت في تحقيق تقدم اقتصادي و تيسير التبادل التجاري على مدى العقود الفائتة إلا أنها حالة طارئة لا يمكن أن تستمر ، و السبب في ذلك يعود لكون النقد الورقي قليل القيمة في حد ذاته ( قيمته تكاد تكون معدومة نظراً لوفرة المادة المستخدمة في هذا النقد ) و لذلك فإن النقد الورقي المستخدم في التعاملات التجارية في هذا الزمن يحتاج لأن تضخم قيمته صناعياً ( أي عن طريق التدخل البشري ) ولا يمكن فعل ذلك إلا إذا امتلك الكيان السياسي الواهب لهذه القيمة قوة سياسية كبيرة و ثقة إجتماعية كبيرة ليفرض بها هذه المادة في التعاملات التجارية ، و لأن القوة تحتاج لوفرة مادية و عسكرية و لأن الثقة تحتاج لمراكمة نجاحات كثيرة على مدى طويل فإن الأشخاص القادرين على تحويل الناس من التعامل بالمعادن النفيسة إلى المعدان المضخمة ( النقد الورقي ) قلة ، و قدرتهم على الحفاظ على هذه الحالة من احتكار صناعة النقد و تضخيم قيمته مرتبطة بنجاهم في ضمان مصالح الناس و تحقيق النجاحات السياسية الكبيرة. متى ما فقد الكيان السياسي أحد هذين الدعامتين ( القوة و الثقة العامة ) فإن عملته تفقد ( النقد الورقي ) شيئاً من قيمتها ، و إن هو فقد كلا العاملين يكون النقد قد فقد قيمته تماماً ، نظراً لافتقاره للقيمة الأصلية ( أي أن الورق ليس فيه قيمة كبيرة في حد ذاته ). 

إستخدمت الأمم عبر التاريخ العديد من المواد و السلع كوسيط في العملية التجارية ( كنقد )، لكن هذه المواد كلها كانت تزول قيمتها بمجرد أن تنكشف هذه المجتمعات على الذهب و الفضة (أي تتعامل به لأول مرة)، فالمعادن الأخرى تصدأ أو يصعب تجزئتها أو نقلها، لذلك فإن النقد كله في العالم إلم يكن ذهباً أو فضة فهو نقد فرض فرضاً و ضخم تضخيماً ليقوم بوظيفة لا يقوم بها إلا الذهب و الفضة . هذا لا يعني أن المجتمعات المنعزلة في بيئات صغيرة بموارد محدودة لا يمكن لها أن تتعامل بنقد آخر غير مفروض ، إذ المواد النادرة في البيئات المختلفة تختلف ، مما يعني أنها تملك قيمة مختلفة و تؤدي دوراً مختلفاً ( قد استخدمت بذور الكاكاو و فرو الغنم و ثمار أخرى كوسيلة للتبايع في بيئات و مجتمعات مختلف عبر التاريخ نظراً لعدم توفر هذين العمدنين) . 

و مما سبق يمكننا أن نفهم الكثير من التشريعات الإسلامية في باب البيوع ، ذلك أن التجارة أساسها شراء برخص و بيع بغلاء ، و نظراً لأن قدرة البائع على زايدة الفرق بين تكلفة المنتج الأساسي و سعره عند البيع مرهون بقدرته على إحتكاره ( سواءً إحتكاراً جائراً بالتعدي على المنافسين أو احتكاراً مشروعاً بالتغلب على المنافسين في جودة المنتج ونوعه و جرته “الإبتكار” ) فإن التاجر لا يغتني حتى يملك قوة تساعده على توفير ما لا يمكن توفيره في بيئته السياسية أو كفاءة مبدعة تيسر له أن يبز أقرانه و يأتي بما لم يأت به الآخرون. غير ذلك من التجارة يكون الربح فيها قليل و عامل الزمن مهم لتحقيق غنى ملموس. 

لكن الأفضل من ذلك بلا شك هو احتكار المال نفسه !! .. هذه هي العمليات البنكية و الربح الذي يتضاعف مع الزمن من الإقراض المضمون. لا تقوم البنوك بإنتاج شيء ملموس، و كل ما تدعيه هو أنها تقوم بتيسير المعاملات التجارية و تقريب المصالح زماناً و مكاناً من خلال الإقراض و الضمان و تأمين الممتلكات الغالية في خزائنها. لكن الحقيقة هي أنها مؤسسات تجمع و تحتكر ما هو ذا قيمة، ثم تستخدم تلك القيمة لتوظيف اليد العاملة في السوق لتحضى هي بالربح من خلال تلك الأعمال، و البنوك في هذه الحالة لا تخاطر مخاطرة حقيقية، وهي لا يمكن أن تفعل حتى تكون طرفاً في العملية التجارية ( أي إما بائعاً أو مشترياً ) و حتى تقرض ما لديها من مال فعلاً بوضوح دون أن توهم المودع و المقترض بأرقام تفوق الودائع الحقيقية . 

إن الشريعة الإسلامية في قسم البيوع تفطنت لهذا المدخل التي يتسلل من خلاله أصحاب المال و الجاه، إذ يصبح المال في حده ذاته سلعة ( مع كونه نقداً مستعملاً في التعاملات التجارية ) فيكون احتكاره سبباً في رفع قيمته ، قيمة تتجاوز قيمته الفعلية إذا ما قورن بالمنتجات المادية في السوق، لذلك فإن المال الحقيقي ( الذهب و الفضة ) بالندرة المصطنعة الناتجة عن الإحتكار يكتسب قيمة تفوق قيمته الحقيقية ( فيصبح مجموع قيمة الذهب و الفضة أضعاف قيمة المنتجات المادية ) ، لكن هذه الحالة غير ظاهرة في الوقت الحالي نظراً للوفرة المصطنعة عن طريق طباعة أموال بدون أصول تدعمها و إعطاء إيصالات على الذهب و الفضة بأضعاف ما هو متوفر لدى هذه البنوك . كل ذلك يؤدي لتذبذب شديد بين الإنكماش الذي يعدم السوق و يعاقب المستثمر و بين التضخم الذي يعاقب المدخر و المقتصد في معيشته . و في كلا هاتين الحالتين فإن البنوك و من يملكها يكونون في مأمن من الفقر و الحاجة للعمل. 

ؤرجئ بقية الكلام عن مقاصد التشريع في مجال بيوع حتى أتكلم عن العوامل المؤثرة في السوق .