الأربعاء، 31 أغسطس 2016

عودة الإقطاع (٢)




عودة الإقطاع (٢) 
 غاية السوق الوصول لحالة من السكون حيث تترسب جميع الأصول للقاع .. حيث يوجد الأثرياء 


عندما استنفذت القوى الغربية قدرتها على على التمدد (لم تعد هناك أراض كثيرة صالحة للإحتلال و الإستعمار) و انتهى بها الحال لخوض حربين عالميتين فيما بينها أودت بحياة الملايين إنتقلت القوى المنتصرة من التفكير بمنطق الدولة الوطنية المستقلة بقوميتها للتفكير بنظام عالمي جديد يحكم العالم و يتجاوز القوميات و الحدود الجمركية، تكون لتلك الدول بشركاتها مكان مميز سيادي ولمن تبعها من دول العالم إستقلال شكلي و تبعية إقتصادية و عسكرية متوغلة، هنا ظهرت الحرب بين الرأسمالية و الشيوعية. 

تم التسويق لهذين المشروعين على أنهما مشروعان متباينان في أصلهما الفلسفي و مقاصدهما المستقبلية، و مع أن التنظير يختلف إلا أن التنظير كثيراً ما يصطدم بالواقع فيجرده من رونقه و يعيده لأصله، و أصل الصراع بين الغرب الرأسمالي و الشرق الشيوعي صراع على النفوذ و الموارد و الأسواق، و مهما اختلفت البنية السياسية و درجة الحرية المكفولة في التعاملات التجارية فإن الأصل يبقى هذا. 
عندما تتعارض المصلحة الإقتصادية للأفراد في المجتمع (و خصوصاً رجال الأعمال) مع المصلحة العامة السياسية وعندما يحتاج عموم الناس للدفع القوي من قبل الحكومة المركزية لمنافسة القوة الأجنبية فإن الحكومة ستسعى لتقييد حريات الناس السياسية و الإقتصادية و الفكرية و ستستخدم كل الوسائل لتبرير تدخلها و تقييدها، بل قد تسمي هذا التعدي حماية للحرية و دعماً للديموقراطية !! 

عندما كانت أمريكا و الدول الغربية تواجه روسيا و الصين في كوريا و فيتنام لم تكن تهدف لزيادة درجة الحرية الممنوحة لعموم الناس في تلك الدول على رغم ما كانت تزعم، بل كانت تسعى لتقليل سلطة تلك الدول و قوانينها على أراضيها حتى تتمكن هي و الدول الغربية من شراء أصول تلك الدول و احتكارها و تحويلها لسوق إستهلاكية، فتصير بطبيعة الحال أراض تابعة للنفوذ الغربي و بعيدة عن المعسكر الشرقي. و العكس صحيح، فالدول الشرقية ( الإتحاد السوفيتي خصوصاً ثم صين ) لم تكن تسعى لرفع الطبقات المستضعفة في تلك الدول الأجنبية عنها عن طريق نشر الشيوعية إنما كانت تسعى لاحتلالها و جعلها تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر لها. لكن الذي دعم أمريكا و المعسكر الغربي أنها كانت تملك من الموارد و الشركات و الحركة الإبداعية ما يسر لها أن تستميل الكثير من الدول وتدفع بها للإنغماس في فلكها، كما يسر لها أن توضح بمقدار الرفاهية التي وفرتها لمجتمعها مقدار العبودية التي كانت شعوب الشرق (و خصوصاً الإتحاد السوفيتي و الصين) تعيش فيها، فانتهى الصراع لصالحها و ظن الناس أن حرية السوق و الديموقراطية هي التي انتصرت وهي التي يجب أن تنشر للناس حتى تعم الرفاهية جميع العالم، متجاهلين أن حرية السوق و الديموقراطية عوارض لوجود سببين أساسين وهما قوة العصبية و اتفاق المصلحة الخاصة مع العامة

النظام العالمي الجديد كان نظاماً سطره الغرب بعيد الحرب العالمية الثانية و ظل يتمدد بكل اتجاه ليشمل الدول الأخرى كلما نجح الغرب في تحقيق نمو وتمدد إقتصادي على حساب المعسكر الشرقي، وهكذا تمددت تلك القوة الغربية إلى حد سقط معه الإتحاد السوفيتي و صارت معه أمريكا القطب الأوحد الذي يدور بفلكه كل شيء، فالمال العالمي صار يمر من خلال بنوكها، و المعلومات الرقمية تمر من خلال معالجاتها و حواسيبها، و الطرق البحرية محمية ببارجاتها و سفنها، و هكذا صارت مع حلفائها الغربيين تحكم العالم بدعوى حماية العالم و نشر الديموقراطية، و مع حكمها للعالم ضمنت مركزية شركاتها و أولوية عمالها و مواطنيها في الفرص الوظيفية و السوق العالمية. 

البرنامج العالمي الذي دعت إليه أمريكا العالم جعلها تدفع فاتورة باهضة على المدى البعيد، فأمريكا كانت تطلب من الأسواق الناشئة و الدول المنافسة فتح أسواقها و إزالة التعريفات الجمركية و تيسير نقل البضائع و المعلومات و الناس بدعوى الحرية و سيادة الأكفأ و أن ذلك يؤدي لتساوي الفرص إلى حد ما و إبقاء الأنفع للناس !! دون أي التفاتة لمسؤولية الحكومات وما تنتظره منها شعوبها .. وهي :
١- التمثيل ( التمثيل العرقي و العقدي الثقافي ) 
٢- و الحماية ( رعاية المصلحة العامة للمجتمع )  

هنا كانت تتعامل أمريكا و الدول الغربية مع الدول الأجنبية عنها بنفاق و خداع، فالتفوق العلمي و الصناعي و الوفرة المالية التي تملكها تعطيها ميزة على الدول الأخرى مما يجعل العولمة تعمل لصالحها لترسخ هيمنتها، و بطبيعة الحال فإن الدول الأخرى عندما تقاوم أو تنجح في المنافسة فإن أمريكا و الدول الغربية تلجأ للحيل القذرة و التدخل السياسي و العسكري فتثير الفوضى في تلك البلاد و تعيد الكفة لصالحها. لكن دوام الحال من المحال و طول الهيمنة الغربية مع الرفاهية التي دامت كثيراً أضعفت العصبية الجامعة و زادت من التنافس الداخل على حساب التنافس الخارجي.

الطبقة البرجوازية صارت بالتدريج أكثر حرصاً على الإبقاء على علويتها و نفوذها من الإهتمام لمصلحة البلد ككل واستخدمت لهذه الغاية الإنفتاح الإقتصادي “العولمة” فقامت بالتالي :

1- الإستثمار الخارجي و تصدير الوظائف 
( قام الأغنياء بنقل مصانعهم للدول الفقيرة و استخدموا قلة أنظمة الحامية والضرائب لصالحهم، فصاروا يصنعون في تلك الدول الفقيرة و يصدرون صناعتهم لدولهم هم و الدول الأخرى، بهذه الطريقة حافظوا على هامش ربح أعلى و ضمنوا قدرة تنافسية أعلى .. لكنهم أيضاً طعنوا الطبقة المتوسطة في بلادهم إذ هم أضعفوا قدرتها على التفاوض بستخدام الأيادي العاملة الرخيصة و المدربة فصارت مدخولاتهم أقل و منافستهم لتلك المنتجات الخارجية أصعب، فحصل إغراق للبلد من قبل تجاره زادت على إثره حدة التفاوت الطبقي و الهيمنة السياسية ). 
٢- التجنيس و استقدام الأيادي الرخيصة 
( كانت قد بقيت لليد العاملة المحلية وسيلة واحدة للإغتناء و المحافظة على الدخل و رفاه المعيشة تلك الوسيلة هي العمل في قطاع الخدمات التي تحتاج ليد محلية قريبة، لكن هذه أيضاً صارت صعبة على اليد المحلية نظراً لسهولة الهجرة للبلاد الغربية و استغلال الشركات لبعض الفراغات في أنظمتها القانونية، إذ تقوم الشركة بتوضيف الأرخص و الأقل مطالبة و اعتراض من الأيادي الأجنبية لتحقق المزيد من الربح و تقلل التكلفة و المشاكل الداخلية). 

هنا أصابت العولمة أراضي المنشأ في مقتل فمع أن النظام الرأسمالي كان يفترض به أن يحقق المصلحة لتلك الدول الغربية الإستعمارية وهو ما فعله بالفعل لبضعة عقود إلا أنه قام بالتدريج بعض تلك الدول من الخلف وإنهاكها حتى صارت الطبقة البرجوازية و الحاكمة المستفيد الأوحد تقريباً من هذا النظام والراغب الأكبر في ثباته و تأكيده. لذلك فإننا نقول بأن العولمة الحديثة التي كان الغرب يستخدمها وسيلة للإستعمار صارت وسيلة لاستعمار الطبقة الحاكمة فقط، لذلك فإنها ستعجز عن إرضاء المجتمعات الغربية كما قد عجزت سابقاً عن إرضاء المجتمعات الأخرى، و سيؤدي هذا التمايز الكبير في الدخل لانهيار إقتصادي كبير “نتيجة لاستنزاف الطبقة الوسطى التي كانت المحرك الأكبر للإقتصاد باستهلاكها الهائل” يتبع هذا الإنهيار الإقتصادي تمايز سياسي شديد وواضح بين من يملك ومن لا يملك، ومن يدير كل شيء ومن تسهل إدارته باللقمة و المنصب و الكلمة .. المجتمعات الغربية هنا إنتهى شهر العسل بالنسبة لها. 

ماهي نهاية السوق الحرة “الرأسمالية” ؟ 

في البداية يجب أن ندرك نقطة مهمة كنت قد ذكرتها في مقال سابق عن الرأسمالية وهي أن العملية التجارية ( البيع و الشراء ) حالة طارئة على المجتمعات البشرية، ذلك أنها وإن كانت أكثر غريزية و بدهية لدى عموم الناس من العمل التطوعي الخيري الذي يعد أكثر عرضية إلا أن العدل و القبول و الرضى بنتائج المنافسة التجارية خلق غير أصيل في النفس البشرية، لذلك فإن السوق لا تنشط وتكبر إلا في بيئة إجتماعية يسودها الرضى و التراحم و تقديم المصلحة العامة أو أن قوة خاريجة طاغية تفرضها على عموم الناس فرضاً .. لكن لماذا ؟ 

 نظراً لكون السوق تمايز بين الناس ولكون الناس معترضون على التمايز بطبعهم إلم يكن ذلك التمايز لصالحهم فإن القبول الجمعي بنتائج السوق يبنى على عقد إجتماعي غير معلن أساسه : 
١- مساواة أرض اللعب ليحصل المتنافسون جميعاً على فرص متقاربة. 
٢- إنهاء هذه الطريقة في التعامل بين أفراد المجتمع “العملية التجارية” عندما تصبح المصلحة الفردية متعارضة تماماً مع المصلحة الجماعية .. مثل وقت الأزمات عندما ينتظر الناس من الغني أن يعين الفقير و من القوي أن يسخر قوته لنصرة الضعيف. 
هاتين النقطتين أساسيتين لقبول الناس منطق السوق واحترامهم لنتائجه، فمتى ما أخل التجار و الساسة بهذين الإلتزامين مارس عموم الناس السرقة و الإحتيال و الكذب و الثورة كوسيلة للإعتراض على النظام القائم.

الحرية المطلقة في السوق لا تؤدي لنشوء طبقة وسطى عريضة كما يقول آدم سميث، و استنتاجات آدم سميث هذه ما كان لها أن تكون أصلاً لولا عيشه في قلب الدولة الإستعمارية الكبرى وسط تمددها و انتشارها، فتحرر السوق في عهده كان يعني التوسع على حساب الأمم الأخرى و تصدير الفقر لتلك الأراضي الأجنبية كوسيلة لإغناء العامة في الدولة المستعمرة ! ولولا هذه الحالة من تصدير الفقر و استيراد الموارد و المزروعات برخص ما كان لحرية السوق أن تنتج شيئاً غير العبودية .. لكن كيف ؟ 

كنت قد ذكرت في مقال سابق الأسباب التي تؤدي لنشوء العبودية و انهيار حرية السوق من خلال السوق الحرة نفسها لكني سأعيد هذه النقاط في هذا المقال باختصار : 

١- معدلات النمو في الأعمال التجارية أعلى من معدل نمو الدولة ككل .. هذا يؤدي لتكدس الأصول عند الأغنياء بالتدريج على حساب عموم الناس. 
٢- الأصول الأساسية في أي سوق محدودة ( الأصول تتفاوت في مركزيتها بالنسبة للأسواق ) و نظراً لكون الأغنياء أول الناس امتلاكاً واحتكاراً لها فإن أي نمو في أي مجال آخر من مجالات الإقتصاد لا يؤدي لحصول المستثمرين في تلك المجالات على مركزية توازي مركزية الممتلكين للأصول الأساسية فمتى ما حصل إنهيار إقتصادي أو ضعف في النمو فإن الأمور تعود واضحة بجلاء، فالذي يملك الأساسية ليس كمن يملك الأصول الطرفية. 
٣- المال و النفوذ يجلب المزيد من المال و النفوذ .. أي أن النمو في الثروة عند الأغنياء يصير بالتدريج نمواً إظطرادياً لا نمواً تراكمي. 

أخذاً بهذه النقاط الثلاث نستنتج أن أي بلد و مجتمع يمارس فيه النشاط التجاري بحرية فإنه معرض لنشوء الطبقية الصلبة ( الحاكم و الإقطاعيين و التجار و أصحاب المهن ثم أخيراً العمال و المزارعين بهذا الترتيب من القوة و النفوذ و الغنى ) بالتدريج متى ما ضعف النمو أو توقف. ذلك أن النمو السريع و القوي يعمل عمل الهرم المقلوب، فالفرص في هذه البيئة تكون كثيرة و منوعة مما ييسر للعديد من الناس أن يرتقوا لمصاف الإقطاعيين فينافسوهم و يرفعوا من شأن عوائلهم كما رفع ؤلائك من شأنهم في السابق، و طالم كانت الفرص كثيرة و متاحة فإن عموم الناس يظلون قابلين مطيعين للنظام الرأسمالي القائم أملاً في الصعود لمصاف ؤلائك. و أما الإنكماش فإنه يعمل عمل الهرم الصحيح فيزيل تلك الشريحة الهائلة التي كانت تظن نفسها موازية للطبقة الحاكمة و الأرستقراطية و البرجوازية القديمة فتنهار نظراً لانهيار القطاعات التي تعمل فيها وهي أسواق الترفيه و السياحة و كثير من الصناعات الغالية المترفة و الإعلانات و الخدمات حتى لا يبقى من القطاعات إلا الضروري في الحياة البشرية ( الغذاء و الدواء و التعليم و المواصلات  العامة و الإتصال و الأمن و القضاء ) فيتركز المال بيد القليل الممتلكون لتلك الأصول الرئيسية ويصبح البقية عالة عليهم، و كذلك هي الحال عندما يضعف النمو فإن المالكين لهذه الأصول يسهل عليهم بالتدريج إحتكار السوق و شراء الأصول الأخرى الضعيفة و المعرضة للإفلس و التي لم تكن في حوزتهم.

الحروب و الأزمات عندما تواجه أمة لا تزال العصبية و العقيدة الجمعية فيها قوية فإنها تدفعها للتكاتف و إهمال العملية التجارية النفعية البحتة، هذه الحالة تؤجل ظهور الطبقية الصلبة و الإقطاع كما أن التمدد و النمو يفعل ذلك، و بالتالي فإن هاذين الظرفين عندما ينتفيان فإنه من الطبيعي أن يبقى التاجر والمستثمر على رأس الهرم في العملية التجارية حتى يستنزف القدرة الشرائية و تصبح اليد العاملة في البلد لا تأمل بأن تتملك أي أصل من الأصول المادية وإنما تفاوض بإنتاجها اليدوي اليومي و تعيش على أجر عملها ( أي أنها تستعبد ). 


نظرة في موضوع الأصول و اختلافه ..

الأصول تختلف بحسب مركزيتها في الإقتصاد كما ذكرت و إن كنت لم أقرأ لأي اقتصادي في هذا الموضوع إلا أني أرى أثره جلياً في البناء الإقتصادي و السياسي .. 

١- أصل الأصول و أساسها ( الأرض ) 
الأرض هي الثروة أساساً نظراً لأن كل شيء يخرج منها، فمن امتلك الأرض وما عليها امتلك الثروة. لكن هذا يبسط الموضوع كثيراً فالأراضي تحصل على قيمتها من عدة نقاط مختلفة تختلف على أساسها قيمتها.. 
أ- الأرض الزراعية  ختلف عن  ب- الأرض التي تحوي المياه العذبة (البحيرات) وتختلف عن  ت- الأرض التي تحوي مناجم و معادن ضرورية   ث- وفي الأخيد الأرض الإستراتيجية في موقعها 
و نظراً لما ذكرنا من كون الأرض هي أصل كل الثروات و نظراً لسهولة استثمارها و استغلالها مادياً إذ يستطيع الشخص أن يؤجرها بمبلغ معلوم أو نسبة ربحية معينة دون الحاجة لبذل أي جهد و تفكير فإن الأرض تقترن كثيراً بالعوائل الحاكمة و الطبقة الأرستقراطية لكونها وسيلة سهلة لتوريث المال و تثبيت الغنى و التعالي في النسل ولأنها كما ذكرنا لا تحتاج لجهد أو ذكاء و إنما تحتاج لعصبية وقوة عسكرية تحميها.

٢- الذهب و الفضة ( المال الذي يدوم ) 
ذكرت هذا الأصل بعد الأرض مباشرة نظراً لكون المعاملات البنكية من أكثر المعاملات التجارية بلادة في الفكر و الجهد، فهي كما سبق في الأصل السابق (الأرض) لا تحتاج لجهد بدني ولا فكري إنما يحتاج الشخص لامتلاك الكثير من هذا الأصل و ضمان قوة عسكرية تعيد له ماله إذا فشل المقترض في تسديد دينه أو الفائدة التي عليه أو أداء الأصول التي رهنها للبنك عندما قام بالإقتراض .. لذلك فإننا نجد أن الطبقة الأرستقراطية و الحاكمة تنشط في هذين المجالين و تحتكرهما تقريباً نظراً لكونها تملك ميزة سابقة على المنافسين في مجال العقار و المصرفية، كما أنها أقل الشرائح كفاءة من حيث الإنتاج و الإبداع. 
المزاوجة بين الإحتكار العقاري و المصرفي يضمن للطبقة العليا بقائها في أعلى هرم السلطة دائماً و يؤدي بالتدريج لتكدس المال بيدها مهما طال الزمن. 

٣- المهن الضرورية في المجتمع 
( في مجال الغذاء و الدواء و اللباس و الأمن و التعليم و القضاء ) 
هذه الأعمال المعنية بتحويل المواد الخام ألى منتجات ضرورية لا يستغني عنها المجتمع، و معها شريحة مهمة من موظفي الدولة معنية بالضبط و الإصلاح .. هذه الشريحة تبقى في عملها و يبقى دخلها محفوظاً لحد ما وقت الأزمات و الإنكماش الإقتصادي نظراً لعدم قدرة الناس عن الإستغناء عنها ( الدخل قد يتأثر نظراً لتغير القدرة الشرائية و درجة المنافسة في هذه القطاعات ) .. هذه الشريحة تؤجر لها الشريحة الأولى أراضيها و تبيع لها موادها الأولية و تقرضها، فهي تابعة للشريحة الأولى مهما زادت أموالها حتى تملك الأصول المذكورة سابقاً ما يغنيها. 

٤- الحرف الكمالية و الجمالية 
( الترفيه و التجميل و السياحة و الفنون .. ) 
هذه القطاعات تكون مربحة جداً في الإقتصادات القوية و النامية، لكن بمجرد أن ينكمش الإقتصاد أو يضعف نموه فإن هذه القطاعات تضعف بشكل كبير و يواجه موظفوها الفصل مما يزيد تبعيتهم للشريحتين المذكورتين سابقاً بالديون و الإعالة. 

الأصول الأساسية محدودة جداً لذلك فإن تثبيت السلطة باحتكارها يعد أمراً سهلاً، كما أن الحرف الأساسية قليلة إذا ما قورنت بالحرف التكميليلة لذلك فإنك ستجد شريحة كبيرة من الناس هامشية ضعيفة و تابعة متى ما واجه الإقتصاد أي أزمة حقيقية إذ تصبح هامشية هذه الطبقة واضحة بجلاء و مع إدراك هذه الطبقة لقلة أهميتها وعجزها عن تحديد مصيرها و الحصول على شيء من الإعتبار فإنها تتحول للثورة و الإعتراض على كل شيء. 

(( كل الأسواق تسعى ببطء للوصول لحالة من السكون و هذه الحالة أشبه ما تكون بترسب السكر أو الملح في أسفل الكأس عندما تطول حالة البرودة و السكون في الكأس، حتى نصل لحالة من الإستقرار يكون الماء فيها عذباً في الأعلى و مالحاً أو حالياً جداً في الأسفل … بمعنى أن الأسواق تتجه طبيعياً لبناء طبقة تملك كل شيء و طبقة أخرى لا تملك إلا يدها العاملة لتكسب قوت يومها و بين هذه وتلك طبقة متوسطة صغيرة مبدعة تحقق الرفاهية للطبقة الغنية )) 


و أخيرا كنت قد ذكرت في المقال الذي عنونته بـ (إنهيار العولمة) أربعة نقاط مهمة أحب أن أعيد شرحها و الإنطلاق منها للتكلم عن الأحداث الحاصلة و المستقبلية :

١- تباطؤ النمو و انهيار الإقتصاد 
٢- إستنزاف الموارد ( و أهمها الطاقة ) 
٣- تباين معدلات الإنجاب و النمو السكاني 
٤- التغير المناخي 


( النمو ) .. يعمل عمل الهرم المقلوب كما ذكرت سابقاً فالأسواق النامية بسرعة و قوة توجد فرصاً جديدة و كثيرة للإغتناء مما ييسر لعامة الناس التحرك عمودياً في سعيهم الطبيعي للتعالي و الغنى، و العكس بالعكس فالإقتصادات الراكدة و المنكمشة تعمل عمل الهرم القائم على قاعدته يصعب على من لا يملك مالاً و نفوذاً أن يرتقي فيه و يسهل على من ارتقى أن يفقد رأس ماله نتيجة لصعوبة المنافسة و البقاء .. الحالة الإنتقالية بين النمو و الإنكماش تظهر على شكل انهيار أو انهيارات إقتصادية متتالية، فحالة النمو تحمل معها التفاؤل بالمستقبل فيسهل الإقراض و الإستثمار و ترتفع الأسعار و يصير المجهود البسيط  كافياً للإغتناء و الكسب، ولكن ما إن تتجه الأسواق للركود حتى تتراجع الكثير من الإيرادات فتفشل تلك الشركات التي كانت قد بنيت على قروض و تلك التي كانت تعمل على وجود طلب عال في قطاعات طرفية، و هكذا تقل الوظائف ويقل معها دخل الحكومة وتصبح الدولة نفسها معرضة للإضطرابات السياسية و الإنقسامات. 
هذه هي أول مراحل التحولات المستقبلية فالإقتصاد الغربي وصل إلى حالة متقدمة من الركود و الإستنزاف للطبقة المتوسطة كما شرحت مما يجعل الحركة السياسية و الإدارية في المستقبل صلبة صعبة، و هذا يجعل احتمالية حدوث انقسامات و حروب أهلية في الكيانات السياسية الغربية إحتمالاً وارداً جداً، و بالطبع فإن ذلك إذا حصل يزيد من سرعة انتقال القوة و النفوذ للدول المنافسة ليتغير مع ذلك النظام العالمي. 


( الموارد ) .. سيد الموارد الطاقة الرخيصة كما ذكرت سابقاً في هذا المقال، فالطاقة الرخيصة “ أي تلك التي يكون فيها العائد من الطاقة على المستنزف لإخراجها كبير جداً” تزيد من قوة البلد إذ هي توفر عليه عدداً هائلاً من اليد العاملة و درجة كبيرة من المسايسة و الإرضاء الذي يحصل عند التفاوض مع البشر، و نظراً لكون النمو العالمي نمو إظطرادي “أي تضاعفي” فإن وصول العالم لمجرد استنزاف نصف الموارد الضرورية يعني أن العالم قد وصل إلى حالة حرجة من الشح في الموارد “إذ أن الإظطراد يعني بالضرورة الحجاة لمضاعفة الإستهلاك كلما مر عقد أو عقدين من الزمن” وما لم ينجح الناس في إيجاد بدائل لتلك الموارد فإن مجرد الثبات على الإستهلاك نفسه يعني حدوث انهيارات إقتصادية و صراعات سياسية كبيرة. و لأن الطاقة “المحروقات خصوصاً” ضرورية لاستخراج و إنتاج بقية المواد و الحاجيات فإن الوصول لقمة الإنتاج النفطي Peak Oil تعني أننا قد وصلنا لقمة الإنتاج في كل شيء، و بالتالي فإن النمو يتباطأ بالتدريج في كل المجالات ويقف في تلك الدول التي لا تملك من الموارد “الطاقة خصوصاً” ما تستقل به و تحافظ به علي نسبة النمو المظطردة المطلوبة، و العكس صحيح فالدول التي تملك من النفط و الطاقة الشيء الكبير “ومن اليورانيوم و الفضة و غيرها من المواد الضرورية النادرة” تصبح قوية و متنفذة في محيطها والعالم على حساب أصحاب اليد العاملة  في بقية الدول إذ أن اليد العاملة كثيرة و قدرتها التفاوضية قليلة. 


( تباين معدلات الإنجاب ) .. هذه النقطة لها علاقة بالتغير القفاي نتيجة الرفاهية و حالة التعالي التي وصلت إليها المجتمعات الغربية بالخصوص، فالمجتمعات عندما تصل إلى درجة عالية من التعالي على سائر المجتمعات و الرفاهية حتى ما تعود متطلعة إلى شيء بعد ذلك تصبح مفارقة للمنطق الذكوري في التعالي و الغلبة "المنطق الذي يعتمد على القوة و الكفاءة" لتستبدله بالمنطق الأنثوي الذي يعتمد على المظهر و الإغراء و محاولة الحصول على قبول الناس و رضاهم .. هذه المجتمعات في هذه المرحلة تسعى خلف المثاليات و الشكليات، كما تكون جبانة و بخيلة، فيقل الإلتزام بالزواج و تقل الزواجات و يقل الإنجاب و تنهار الأسر و تنحل عصبية المجتمع. 
التباين الكبير في معدلات الإنجاب سيؤدي بالتدريج لتغيير موازين القوة و انهيار القوى التي كانت متربعة على هرم السلطة العالمية لتنافسها قوى أخرى صاعدة. 


 ( التغير المناخي ) ..  هذه النقطة هي أقل النقاط وضوحاً و أصعبها إستقراءً ولولا الأحاديث النبوية الدالة على تغير الوضع الجغرافي في آخر الزمان و كثرة الكلام عن التغيرات المناخية الحاصلة من قبل الإعلام و التعليم الغربي ما ذكرته .. لكن هذا لو حصل في المستقبل القريب فإنه سيغير الكثير من التوازنات السياسية في المنطقة و العالم كما سيغير الكثير من الطباع و العوائد الإجتماعية عند الناس، ولعل هذه التغيرات و زيادة الموارد و القدرات عند العالم العربي و الإسلامي هي ما سيدفع هذه الأمة للتغلب على الأمم المحاربة لها و نشر عقيدتها في آخر المطاف. 


في آخر هذا المقال نصل للنقاط المستقبلية التي تنبأت بها في بداية هذا المقال و علاماتها في واقعنا المعاصر .. 

(عودة الوطنية و انهيار العولمة ) 

شهدنا خلال السنتين الفائتة موجة من الإنفصالات السياسية لبعض الدول عن تحالفاتها الدولية و قيام تحالفات جديدة و صراحة شديدة في تقديم المصلحة و تنحية المجاملات و ادعاء المبادئ، ظهر هذا الأمر بجلاء في انفصال بريطانيا عن الإتحاد الأوروبي و مطالبة اليونانيين و بعض الدول الأوروبية الأخرى بالإنفصال أيضاً كما شهدنا الموجة الوطنية الشديدة في أمريكا والتي يتزعمها دونالد ترامب و تقوم على معادات كل ما هو أجنبي و نافذ في السوق الأمريكية ( كاليد العاملة المكسيكية و المنتجات الصناعية الصينية و النفط العربي الرخيص ) و الدعوة لإعداة مناقشة الإتفاقيات السابقة و التنصل من الإلتزامات التي كانت أمريكا قد وقعت عليها و محاولة إستنزاف الحلفاء و كل من لأمريكا مصلحة معه. هذا كله يعود لتراجع الإقتصاد العالمي كما ذكرنا سابقاً، و تراجع الإقتصاد العالمي له علاقة باستنزاف الموارد و النفط خصوصاً لكن هذا ليس هو السبب الأساسي، السبب الأساسي هو العولمة التي مكنت أصحاب رأس المال من تجاوز الحدود عن طريق وسائل النقل الحديثة و الإتصال دون تعريف جمركي يذكر أو إلتزام سياسي و اجتماعي تجاه المجتمعات المستنزفة، كما أعطت التجار القدرة على امتصاص المال من الشعوب الغنية خاصة “مع إفادة الدول الناشئ و المصنعة إلى حد ما” و القضاء على الطبقة الوسطى، كما أن النظام المالي القائم على الإقراض السهل و الطباعة السهلة للمال مكنت أصحاب رأس المال و الساسة من إخفاء الآثار الجانبية لهذه السياسة فترة طويلة أدت لاستعباد العامة و إنتاج فقاعات إقتصادية عديدة سيذهب ضحيتها صغار المستثمرين مع عدد هائل من الوظائف التي يضمنونها. 


الحركة الوطنية الحديثة ستعمل عملين مهمين بنظري : 
١- ستضعف نفوذ الطبقة الغنية الحاكمة العالمية و التي تعمل من وراء الستار و تتحكم بالظروف الإقتصادية و العلاقات السياسية العالمية دون محاسبة أو مراقبة .. هذه الطبقة ستصبح بالتدريج تحت المجهر و سيرفض الناس علويتها و سيتم تجريدها من العديد من مصادر النفوذ التي تحضى بها لصالح الدول المعنية و لصالح سيادة حقيقية و مساءلة حقيقية تستطيع أن تمارسها الشعوب “الغربية خاصة” على حكامها. 
٢- إنهيار الرأسمالية و الشيوعية كفلسفات و قيام المصلحة القومية و العصبية العرقية بصراحة كوسيلة لتجاوز الأزمات الإقتصادية المقبلة .. الفلسفات تضعف و تتلاشى وقت الأزمات ولا يبقى حقيقة إلا عصبية الناس و تجاربهم السابقة و عاداتهم و مصلحتهم، و لأن المصلحة العامة للعرق المعني ستوضع فوق كل اعتبار أثناء هذه الأزمات فإن فكرة حرية السوق و التسامح ستتراجع في مقابل الإستئثار و التعالي، كما أن أي طرح مثالي و حالم “فلسفي” يتكلم عن واقع مثالي سيتراجع في مقابل التطهير و التعاون و التجاوز للمرحلة الحرجة .. هذا سيؤدي لانقسام الدول ذات المكونات العرقية و العقدية المختلفة إن أمكن الإنقسام أو فشلها و ضعفها كما سيؤدي لزيادة السلطة الممنوحة للحكومة من قبل العامة في مقابل قيامها هي بتفضيلهم و رعاية مصالحهم و التعدي على غيرهم . 

لكن بطبيعة الحال كون الدول الوطنية كلها غير قادرة على الإكتفاء بالموارد التي تملكها و القوة التي تجمعها فإن التحالفات التي ستقام ستكون بالتدريج أكثر صدقاً و عمقاً و عصبية، كما أنها ستوكن أسواقاً حرة إلى حد ما فيما بينها و تستثني الكيانات الأخرى التي ستحاول ممارسة السياسة المركنتالية معها و إفقارها، ولكن هذه الحالة ستتبع الحركة الوطنية الأولى برأيي و إن كانت بعض مظاهرها تتزامن مع الحركة الوطنية. 

إذا نشأت هذه الأسواق المنفصلة بين الدول ذات الحضارة الواحد فإن العالم سيصير منقسماً على أساس حضاري عقدي أكثر منه عرقي صرف أو مناطقي مصلحي، هنا نكون قد وصلنا لحالة مختلفة و مخيفة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق