ثنائية التعالي و الخلود (١)
الدافعان الأساسيان لحركة الكائنات كلها بعد أن تكون قد أمنت على حياتها (التعالي و الخلود)
درجت الرأسمالية على تأكيد أهمية الحرية و التنافسية في السوق كوسيلة لتحقيق النمو الإقتصادي و الرفاهية، وهذه النظرة وإن كانت صحيحة من ناحية أن الدول و الأمم لا تبنى إلا بإرادة حرة و فاعلة من عموم أفرادها إلا أنها نظرة سطحية تتجاهل الدوافع الأساسية في النفس البشرية و تفترض أن الفردانية و الحرية البحتة يمكنها أن تكون ضامناً وحيداً لنمو إقتصادي دائم (زيادة المال) ومن ثم قوة سياسية (زيادة المال و العدد) و تطور علمي، والحقيقة هي أن أفضل ما في الأعمال التجارية الحرة أنها تمثل بالبيانات الرقمية حركة الناس الحرة و سعيهم الفردي و الجماعي لتحقيق الإكتفاء ومن ثم التعالي و الخلود بما يبنونه و يكتبونه و يعزفونه، ولأن الناس قد يكونون منقسمين في هوياتهم التي يقدمونها و يدافعون عنها بحركتهم فإن البيانات التي يظهرها السوق الحر قد تدل على الصيرورة إلى الإنقسام و الإقتتال أو إلى البناء و الإتحاد مع تقادم الأيام في السوق الحرة، ولذلك فإن المجتمع بالعموم وهو يبني هذا كله لا يحتاج بالضرورة للإيمان بحرية السوق وإزالة القوانين المنظمة للتعاملات التجارية بل إنه يتصرف بحرية على أساس تعاقد ضمني من تلقاء نفسه (عقيدة و عصبية)، ومن ثم فإن أثر هذه الحركة البشرية الحرة في هذه الصراعات على المال إقتصاداً و التمثيل سياسةً (أي التعالي و الخلود) يتجلى حتى عندما تتراجع التعاملات التجارية الفردانية النفعية لتستبدل بحركة جماعية قومية أو أممية، فتتفاعل الجماعات البشرية مع الجماعات الأخرى المنازعة لها كما لو أنها جسد واحد متجانس و متناسق يلغي الكثير من حرية أفراده وتنافسهم الفردي الداخلي دون أن يؤثر ذلك كثيراً على نمو الجماعة إقتصادياً و ثقافياً و سياسياً على المدى البعيد نظراً لميل عموم الناس داخل تلك الجماعة لتحقيق الإستقلال والتعالي الجمعي ومن ثم الخلود، ومن الواضح أن هذا كله يعتمد على المشاحة و الصراع في طلب النمو الإقتصادي (التعالي بالمال و العدد) و من ثم التمثيل السياسي (الخلود)، وهذه هي الملاحظة التي يلحظها كل إنسان متمعن متجرد يهدف للإستفادة من سنن الله و العمل بمقتضاها.
هذا المقال بني على هذه الملاحظة ، وقد تأكدت الملاحظة عندي عندما رأيت النص القرآني يتوافق معها و كيف أنه قد أوضح أساسياتها فأحببت أن أكتب المقال لأصل هذه الفكرة و أشرحها.
يقول الله تعالى : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون )
و يقول تعالى : ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا )
و يقول تعالى : ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون، و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون )
و يقول تعالى : (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون)
و يقول تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين )
و يقول تعالى : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع و صلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا .. )
سؤعلق على هذه الآيات أثناء التفصيل في المقال لكني بداية أحب أن أبدأ بالقول أن أساس الإعتداء و الكفر و الإختلاف قائم على نقطتين أساسيتين :
١- إستشعار استثنائية الحياة (أي أن الأصل الفناء).
٢- إستشعار استثنائية التعالي (أي أن الأصل الهامشية و الضعف).
وأن هاتين النقطتين بدورهما تؤديان لحركتين مهمتين تُرى آثارهما في حياة المجتمعات عبر التاريخ :
١- السعي للتعالي وتبرير التمايز الطبقي الشديد (تشريع الظلم و الإستعباد لأن ذلك هو التعالي الطويل).
٢- السعي للخلود عن طريق الإرتباط بما يُظَن أنه خالد و قريب (التعاقد مع هذا الخالد المادي القريب أو التأثير و النقش فيه).
فإذا كان القارئ لهذه الكلمات متفقاً معي مبدأياً على محورية هاتين النقطتين في حياة المجتمعات فقد وصلنا أنا وإياه إلى استنتاج مفاده أن الحركة السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية (أي الحركة البشرية كلها) تتمحور حول هاتين النقطتين.
تفصيل :
إن حداثة المخلوق على الوجود (أي أنه طارئ) تقتضي بالضرورة خوفه من الزوال، وعدم مركزيته في هذا الوجود (نظراً لكونه موجُود لا مُوجِد، ولكونه محدود القدرات محاطاً بقوى كثيرة تفوقه قوة وتستطيع إهلاكه) أيضاً يدفعه لطلب المركزية حرصاً على البقاء، وبما أن البقاء غاية عند كل موجود كما أسلفنا (إذ الوجود خير من الفناء يستشعر ذلك كل مخلوق من أول يوم له في الحياة) فإن أي موجود يوقن بأنه زائل لا محالة سيعمل بالموارد التي يملكها على تخليد ذكره ليبقي أثره بعد أن يزول و تبقى هويته بشكل أو آخر، ومن هذا الوجه أيضاً فإن الإنسان إذا آمن بوجود آخر غير هذا الوجود الذي هو كائن فيه فإنه قد يسعى للعلو في ذلك الوجود على حساب هذا الذي هو كائن فيه، وهكذا تنشأ الأعمال البشرية صغيرةً كانت أو كبيرة على أساس “الصراع من أجل البقاء” ولكن بأشكال مختلفة.
إن الله عندما خلق الخلق مايز بينهم في القدرات و الوظائف لكنه لم يمايز بينهم من حيث نسبية الضعف و الحداثة إلى ذاته العلية إذ أن ذلك مستحيلاً، فالله تعالى الواحد المطلق في وجوده و قدرته و غناه و علمه إن كان قد أوجد الخلائق متباينين في القوة و العظمة إلا أن ذلك التباين لا يعني شيئاً إذا أضيفت الذات العلية إلى المعادلة نظراً لكوننا نعرف أن أي رقم يوضع على البسط فإنه يساوي صفراً مهما كبر إذا كان المقام الموضوع “لا نهائي” (أي أن خلق الخلائق كلهم على الله في الجهد سواء وهذا الجهد الذي قلنا أنه متساو عليه هو في المقدار الكمي لا شيء حرفياً، وهذا ليس استنتاجاً عبقرياً بل هو منطق بسيط ظاهر بجلاء في السنة النبوية التي ورد فيها أن الخلائق كلها تهلك يوم ينفخ في الصور و يعيد الله بعثها يوم القيامة كما لو أنه لم يهلكها ولم يخلقها من قبل في ستة أيام)، هذا المنطق و المبدأ الذي ننطلق منه نحن كمسلمين في النظر للمخلوقات و حالها يفسر لنا الشيء الكثير، فنستنتج منه أن التسليم الذي هو نقيض الجزع و الإعتداء طارئ على المخلوقات عموماً وعلى البشر خصوصاً (الذين يتمتعون بحرية الإختيار من بين سائر المخلوقات و القدرة على تسخير ما دونهم من كائنات)، ذلك أننا قد قررنا أن كل شيء يسعى لديمومة وجوده وبقاء أثره و علو شأنه في مقابل زوال الوجود و الأثر الذي هو حاصل لا محالة، و بالتالي فإن التسليم لمنشئ هذا الخلق بالإماتة و الإفقار (أي الرضا و التسليم له إذا قضى موتاً أو فقراً على الإنسان) مع القيام بالمسؤولية المادية عند الغنى و العلو تجاه الفقير و الضعيف تأتي مناقضة لما هو كامن و أصيل في نفس الإنسان (الإعتداء طلباً للتعالي و الخلود)، و لذلك فإننا نجد أن الله تعالى يقول في سورة النساء معلقاً و مبيناً أثر تدخله على حياة الناس و مقارناً ذلك الأثر بأثر حركة الناس و أفعالهم عندما تكون بمعزل عن هدايته : ( و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمالهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك و أرسلناك للناس رسولا و كفى بالله شهيدا )، و يقول أيضاً في سورة الشورى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير )، ففي هاتين الآيتين نجد المدخل الذي يمكن أن ندخل منه للتعليق على الآيات السابقة في أول المقال و الدلالة على ما قلته، فالله تعالى يقول بعبارة أخرى : (إن ما يقوله المشركون يا محمد من نسبة الشر و المصائب الواقعة عليهم إليك جهل، فالله تعالى هو مقدر الأقدار ومصير الأحداث فما يحصل لكم يحصل بعلمه و إرادته وكل هذا يكون بحكمته ولا يصير دون إذنه، و أما تفصيل الأحداث من حيث المقاربة البشرية فإن عليك يا محمد و الناس من بعدك أن تقاربوا هذه الأحداث بالطريقة الآتية .. الحسنة المادية و المعنوية التي تصيبكم عائدة لفضل الله و رحمته و منته ذلك أنكم أيها البشر غير قادرين على الخلق ولا على التصيير ولا على معارضة السنن الكونية التي أوجدتها عندما تكون فوق طاقتكم و أما المصائب التي تقع عليكم فجلها عائد إلى ما كسبته أيديكم، ذلك أنكم بإعراضكم عن الله و إقبالكم على شهواتكم و مطامع نفوسكم تعتدون على بعضكم البعض وعلى المخلوقات الأخرى من دونكم فتفسدون الحرث و النسل و تعودون للجهل والجهالة فينهار البناء و النظام لذلك أو تتحولون إلى شكل قاس و ظالم من الأنظمة يقع عليكم به الشقاء، أو يحق عليكم سخط الله فلا يمنع عنكم جنده في السماء و الأرض لتصير احتمالية الغرق بالطوفان و الهلاك بالزلزلة و القذف بالحجارة أموراً واردة جداً)، و كذلك هي الآية الثانية في سورة الشورى مؤكدة لهذا المفهوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق