الثلاثاء، 24 يناير 2017

ثنائية التعالي و الخلود (٢)


ثنائية التعالي و الخلود (٢) 
الدافعان الأساسيان لحركة المخلوقات كلها بعد أن تأمن على حياتها (التعالي و الخلود)

 إن أصعب مافي الإيمان بالله أنه إيمان بقوة غائبة مادياً حاضرة أثراً، قوة مستقلة لا يمكن التفاوض معها ولا مقايضتها واستغلالها ولا ضمان تجاوبها بالطريقة التي يطلبها السائل، ولذلك فإن رجاء هذه القوة و الإعتماد عليها لا يكون إلا بموقف عقلي وحالة نفسية متجاوزة لإحداثيات الزمان و المكان الآنية، موقف يعيش الإنسان من خلاله على أنه نقطة في قصة بشرية طويلة لها منشأ سابق على هذا الوجود و وجود تال له، كما أنه موقف يرى أن الإعتماد على الله مضمون النتائج، كما أن نتائجه المضمونة تظهر بحسب إرادة الطرف المطلق "الله" متى أراد و كيفما أراد فلا يستعجلها ولا يرى في بطئها دليل على إخلاف الموعود، و لأن أغلب الناس لا تتجاوز تصوراتهم الوجود الحالي ولا تتطلع إلى ما وراءه فإنه ليس بمستغرب ألا تتعلق بقوة لا تضمن تفاعلها بالطريقة المحددة المرسومة سلفاً ولا تستطيع استعجال مثوبتها في هذا الوجود الحاضر ولا استخدامها لتعال قريب ولا خلود محسوس، فالنفس كما أسلفنا نظراً لحداثة وجودها و استشعار هلكتها و ضعفها تسعى جاهدة مالم يمن الله عليها بالهداية لتعجيل النتائج، فهي تريد التعالي المادي الآن و الخلود في هذه الحياة التي تراها و تلامسها وهذا لا يتطابق مع موعود الله الذي لا توجد فيه أي ضمانة غير كلامه.




 نقطة أخرى .. وحدانية الله و تعاليه المطلق تعني أنه لا يمكن للكيانات الإجتماعية أن تتمايز به وبما أن التمايز مطلب غريزي فإن الإله الذي يمكن أن يكون مخصوصاً لقوم سيُقَدم على الإله الذين يتجاوز الهوية القومية، و الإله الذي يزيد على اختصاصه لذلك القوم بتلبية مطالبهم المادية الآنية سيقدم على الإله الذي يؤجل المثوبة إلى يوم آخر و هكذا يقارب الناس الدين مقاربة المقايضة و يتعاملون مع الله تعالى تعامل التاجر و يجدون أن لأنفسهم مصلحة في وجود عيب محدد في إلههم الذي يعبدونه فيبتكرون العيب و يعلمونه أبنائهم حرصاً على النتائج المادية التي يمكن أن يحصلوا عليها من هكذا معاملة، يقول الله تعالى في سورة الأعراف موضحاً هذا السعي عند البشر  : ( و جاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إله كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون )، فإذا أضفنا لوحدانية الله و نسبية المخلوقات إليه (أي أنهم متساوون أمامه) وحدة التشريع و انطلاق ذلك التشريع من هذا المبدأ المذكور وجدنا كيف أن الإيمان بالله يعارض غريزة قوية في البشر وهي طلب العلو و ديمومته ( أي اجعل لنا إله خاصاً و ديناً خاصاً مستمداً من ذلك الإله نضمن به علويتنا دائماً في الواقع وفي أذهان الناس ).


يقول الله تعالى في سورة طه حكاية عن بني إسرائيل و قصتهم مع السامري و العجل : ( فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسي )، أي أنهم قالوا أن موسى نسي وجهل فدلكم على إله غير صحيح، بل هذا هو إلهكم أنتم -بزعمهم- الذي يحبكم أنتم و القريب منكم والذي يريد متعتكم ولا يكرهكم على تجاوز شهواتكم، ونحن الأعرف و الشرفاء الذين نصلكم بهذا الإله .. هكذا يشرح الله نشأة الأديان وكيف أن الشهوات دائماً ما تكون أساساً لها.

و كل هذا متكرر و مستفيض في كتاب الله، يقول تعالى حكاية عن اليهود أيضاً و جدالهم هذه المرة مع عيسى عليه السلام : ( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين
 وكذلك رد الله تعالى على المشركين عندما طلبوا النبي عليه الصلاة و السلام أن يطرد الضعفاء و المساكين من أصحابه حتى يكون هذا الدين مخصصاً لهم و مؤكداً على تميزهم فقال : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين
وفي هذا التعامل المادي مع الله سبحانه وتعالى فتنة، فالله تعالى يزين للظالم المشرك شركه و عقيدته الباطلة بإفاضة المال عليه و تمكينه في الدنيا حتى ينتهي يوماً إلى الهلاك فتهلك عقيدته معه و يصير عبرة لمن يريد أن يعتبر، خذ على سبيل المثال صاحب الجنتين إذ قال : ( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قامة ولإن رجعت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا )، فصاحب الجنتين هنا يشك في الله و قدرته، يظن أن الجنتين أجمل و أعقد من أن يدمرها الله ليعيد إنشاءها أو ينشئ غيرها، ذلك أن هذا كله متعب و تحصيله صعب، لذلك فإن هذه الجنة بجمالها و قيمتها لا يمكن أن تُسَلّم إلا لشخص يحبه الله (وهو كما ذكرنا يشك في وجود أصلاً)، و الحب الذي يقصده هو الحب البشري الذي أساسه ضعف و طلب مؤانسة و قرب، ولهذا فإن حب الله و قربه و نصرته مقترنة في نظر الكافر بالمكاسب المادية التي يقدرها الله لذلك الكافر، فالله يحبه أي يريد قربه و يسترضيه فيعطيه من المال و النفوذ ولذلك فإن القيامة إن قامت فإن هذا الغني الوجيه حتماً سيكون من المقربين من الله -في نظره-، ومن هنا نفهم أيضاَ قول الله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة و معارج عليها يظهرون )، فالله يثبت هنا أن تكدس الثروة و دوامها في يد مجموعة بسيطة من الناس  فتنة لا يتحملها عموم الناس نظراً لما ذكرنا من ميل البشر الطبيعي لتحصيل المال و التعالي به و استخدام المادة و القوة لتخليد الذكر، ولما في أذهان الناس من الربط الساذج بين الغنى و رضا الله.

  

لكن لماذا الإدعاء بأن هذه الغريزة تنطبق على المخلوقات كلها ؟ أليست ملاحظاتك كلها مستمدة من قراءتك لحركة الناس ؟ 


الحقيقة أن جواب هذا السؤال يأتي من كتاب الله، فالآيتان اللتان ذكرتهما في أول المقال تشرح هذه النقطة بكل وضوح، يقول الله تعالى في سورة المؤمنون : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض سبحان الله و تعالى عما يصفون )، و يقول في سورة الإسراء : ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ). هاتان الآيتان تدلان على أن الإشراك يتناقض مع المنطق، ذلك أن وجود الله الخالق يتناقض أساساً مع مفهوم الشراكة، فالشراكة تقتضي المحدودية و المحدودية تقتضي الضعف و الضعف يؤدي إلى التصارع طلباً لما كنا قد ذكرناه سابقاً (التعالي و الخلود) .. فالله تعالى يقول بعبارة أخرى : ( لو أنه كان معي إله آخر لانطبق علي وعلى الآلهة الأخرى ما ينطبق عليكم أيها المخلوقات -تعالى الله عن ذلك-، فالشراكة تقتضي المحدودية و المحدودية تقتضي الضعف والضعف يؤدي للخوف وهذا هو أصل الشح الذي سيدفع بكل إله للذهاب بما يخلق بعيداً عن الآلهة الأخرى سعياً في الإكثار من الخلق و جمعاً للقوة أملاً في التعالي على الآلهة الأخرى، و هذه بالطبع حالة غير مستقرة لا يمكن أن يطول فيها خلق أو يتركب فيها بناء)، و كذلك هي الآية الأخرى تفيد نفس المعنى، فالله تعالى يقول بعبارة أخرى :( لو كان معي آلهة كما تقولون لوجدتم إلي طريقاً و منفذاً تؤذونني به و تتفاوضون معي من خلاله  ـتعالى الله عن ذلك علواً كبيرا-، فالشراكة تقتضي النقص و الحاجة وهذا بدوره يعني أن هناك وسيلة يمكن الدخول بها إلي وهي تلك النقطة التي تزعمون أني أكون ضعيفاً فيها). 

فإذا كان الله تعالى يطبق هذا المنطق على نفسه العلية فإن هذا دليل على أن هذه هي حال الكائنات عموماً مالم يسكنها الله و يهديها و يصرفها عن بعضها البعض، فالحيوانات كما نشاهدها في الطبيعة تتقاتل فيما بينها ليس من أجل الرزق فحسب بل من أجل الحصول على أكبر قدر من الأزواج لضمان الخلفة القوية و الكثيرة و من أجل السيادة على القطيع ومن أجل السيادة على الأرض وهكذا يستمر الصراع و التدافع من أول الأمر عندما تتصارع المخلوقات على المراعي لأجل البقاء إلى أن تتصارع على التزاوج و الإنجاب و الإنتماء للجماعة إلى أن تتصارع على التعالي في الجماعة و التعالي بالجماعة على الجماعات الأخرى. 



هرم ماسلو أصلاً يمكن تقسيمه على هذا الأساس وهو أصلا يتوافق تماماً مع ما أذكره، فالهرم مكون من خمسة خانات كما هو معروف .. من القاعدة إلى الرأس على النحو التالي :

١- الحاجات الفيسيولوجية (الغذاء و الهواء و الدواء)
٢- الحاجة للأمن (من الأخطار الخارجية) 
٣- الحاجة للإجتماعية (للإنتماء لجماعة) 
٤- الحاجة للتقدير  
٥- الحاجة لتحقيق الذات 

وهذه النقاط يمكن اختصارها في ثلاثة نقاط جامعة هي : 

١- الحاجات الأساسية .. التي يصارع فيها الإنسان لكي يبقى (أي الأكل و النوم و الأمن المادي و الإجتماعي ) 
٢- الحاجة للتعالي .. وهي الخانة الرابعة المذكورة في هرم ماسلو التي يسعى فيها الإنسان لنيل التقدير من مجتمعه، أو دفع المجتمع لتحقيق الهيمنة و التقدير من المجتمعات الأخرى. 
٣- الحاجة للخلود .. أي السعي لتجاوز المصلحة الآنية وتخليد الأثر أو الخلود بشكل من الأشكال ( هنا يأتي الدين ومن هذه النقطة تلعب العقيدة دوراً محورياً في تحريك الناس و دفعهم لتحمل المصاعب و العقبات ).

             

  يقول الله تعالى :( أتبنون بكل ريع آية تعبثون ، و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون )، أي ترفعون البناء و تتركون الآثار لعلكم تخلدون في هذه الأبنية وفي أذهان الناس. 


حتى الآن تكلمت عن الدلالات الإقتصادية و الدينية لهذه الغريزة الطبيعية ( أي كيف يتفاعل الإنسان مع موضوع الإقتصاد و قوانينه وكيف يتفاعل مع موضوع الدين و العقائد الغيبية منطلقاً من هذه الغريزة ) و بقي أن أفصل أكثر في أثرها و دلالاتها على الحياة الإجتماعية (أي كيف يتفاعل الزوج مع زوجته و أولاده و كيف تتفاعل العائلة مع العوائل الأخرى) و الحياة السياسية ( وهذه لأن موضوعها المال و العدد فإنها ستعيدنا للحديث عن الإقتصاد في نفس الوقت الذي نتحدث فيه عن العلاقات السياسية التنظيمية بين الناس كمجتمع كبير) .. هذا كله سأجعله في المقال التالي، كما أني سأذكر أدلة على كلامي من خلال الإستدلال بالديانات الرئيسية القائمة في العالم و كيف نشأت و أثرت في مجتمعاتها.   

ثنائية التعالي و الخلود (١)


ثنائية التعالي و الخلود (١)
الدافعان الأساسيان لحركة الكائنات كلها بعد أن تكون قد أمنت على حياتها (التعالي و الخلود)



درجت الرأسمالية على تأكيد أهمية الحرية و التنافسية في السوق كوسيلة لتحقيق النمو الإقتصادي و الرفاهية، وهذه النظرة وإن كانت صحيحة من ناحية أن الدول و الأمم لا تبنى إلا بإرادة حرة و فاعلة من عموم أفرادها إلا أنها نظرة سطحية تتجاهل الدوافع الأساسية في النفس البشرية و تفترض أن الفردانية و الحرية البحتة يمكنها أن تكون ضامناً وحيداً لنمو إقتصادي دائم (زيادة المال) ومن ثم قوة سياسية (زيادة المال و العدد) و تطور علمي، والحقيقة هي أن أفضل ما في الأعمال التجارية الحرة أنها تمثل بالبيانات الرقمية حركة الناس الحرة و سعيهم الفردي و الجماعي لتحقيق الإكتفاء ومن ثم التعالي و الخلود بما يبنونه و يكتبونه و يعزفونه، ولأن الناس قد يكونون منقسمين في هوياتهم التي يقدمونها و يدافعون عنها بحركتهم فإن البيانات التي يظهرها السوق الحر قد تدل على الصيرورة إلى الإنقسام و الإقتتال أو إلى البناء و الإتحاد مع تقادم الأيام في السوق الحرة، ولذلك فإن المجتمع بالعموم وهو يبني هذا كله لا يحتاج بالضرورة للإيمان بحرية السوق وإزالة القوانين المنظمة للتعاملات التجارية بل إنه يتصرف بحرية على أساس تعاقد ضمني من تلقاء نفسه (عقيدة و عصبية)، ومن ثم فإن أثر هذه الحركة البشرية الحرة في هذه الصراعات على المال إقتصاداً و التمثيل سياسةً (أي التعالي و الخلود) يتجلى حتى عندما تتراجع التعاملات التجارية الفردانية النفعية لتستبدل بحركة جماعية قومية أو أممية، فتتفاعل الجماعات البشرية مع الجماعات الأخرى المنازعة لها كما لو أنها جسد واحد متجانس و متناسق يلغي الكثير من حرية أفراده وتنافسهم الفردي الداخلي دون أن يؤثر ذلك كثيراً على نمو الجماعة إقتصادياً و ثقافياً و سياسياً على المدى البعيد نظراً لميل عموم الناس داخل تلك الجماعة لتحقيق الإستقلال والتعالي الجمعي ومن ثم الخلود، ومن الواضح أن هذا كله يعتمد على المشاحة و الصراع في طلب النمو الإقتصادي (التعالي بالمال و العدد) و من ثم التمثيل السياسي (الخلود)، وهذه هي الملاحظة التي يلحظها كل إنسان متمعن متجرد يهدف للإستفادة من سنن الله و العمل بمقتضاها.


هذا المقال بني على هذه الملاحظة ، وقد تأكدت الملاحظة عندي عندما رأيت النص القرآني يتوافق معها و كيف أنه قد أوضح أساسياتها فأحببت أن أكتب المقال لأصل هذه الفكرة و أشرحها.

يقول الله تعالى : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون
و يقول تعالى : ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا
و يقول تعالى : ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون، و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون
و يقول تعالى : (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون
و يقول تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين
و يقول تعالى : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله 
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع و صلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ..


سؤعلق على هذه الآيات أثناء التفصيل في المقال لكني بداية أحب أن أبدأ بالقول أن أساس الإعتداء و الكفر و الإختلاف قائم على نقطتين أساسيتين :

١- إستشعار استثنائية الحياة (أي أن الأصل الفناء). 
٢- إستشعار استثنائية التعالي (أي أن الأصل الهامشية و الضعف).

وأن هاتين النقطتين بدورهما تؤديان لحركتين مهمتين تُرى آثارهما في حياة المجتمعات عبر التاريخ :

١- السعي للتعالي وتبرير التمايز الطبقي الشديد (تشريع الظلم و الإستعباد لأن ذلك هو التعالي الطويل).
٢- السعي للخلود عن طريق الإرتباط بما يُظَن أنه خالد و قريب (التعاقد مع هذا الخالد المادي القريب أو التأثير و النقش فيه). 

فإذا كان القارئ لهذه الكلمات متفقاً معي مبدأياً على محورية هاتين النقطتين في حياة المجتمعات فقد وصلنا أنا وإياه إلى استنتاج مفاده أن الحركة السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية (أي الحركة البشرية كلها) تتمحور حول هاتين النقطتين. 


تفصيل : 

إن حداثة المخلوق على الوجود (أي أنه طارئ) تقتضي بالضرورة خوفه من الزوال، وعدم مركزيته في هذا الوجود (نظراً لكونه موجُود لا مُوجِد، ولكونه محدود القدرات محاطاً بقوى كثيرة تفوقه قوة وتستطيع إهلاكه) أيضاً يدفعه لطلب المركزية حرصاً على البقاء، وبما أن البقاء غاية عند كل موجود كما أسلفنا (إذ الوجود خير من الفناء يستشعر ذلك كل مخلوق من أول يوم له في الحياة) فإن أي موجود يوقن بأنه زائل لا محالة سيعمل بالموارد التي يملكها على تخليد ذكره ليبقي أثره بعد أن يزول و تبقى هويته بشكل  أو آخر، ومن هذا الوجه أيضاً فإن الإنسان إذا آمن بوجود آخر غير هذا الوجود الذي هو كائن فيه فإنه قد يسعى للعلو في ذلك الوجود على حساب هذا الذي هو كائن فيه، وهكذا تنشأ الأعمال البشرية صغيرةً كانت أو كبيرة  على أساس “الصراع من أجل البقاء” ولكن بأشكال مختلفة.   




إن الله عندما خلق الخلق مايز بينهم في القدرات و الوظائف لكنه لم يمايز بينهم من حيث نسبية الضعف و الحداثة إلى ذاته العلية إذ أن ذلك مستحيلاً، فالله تعالى الواحد المطلق في وجوده و قدرته و غناه و علمه إن كان قد أوجد الخلائق متباينين في القوة و العظمة إلا أن ذلك التباين لا يعني شيئاً إذا أضيفت الذات العلية إلى المعادلة نظراً لكوننا نعرف أن أي رقم يوضع على البسط فإنه يساوي صفراً مهما كبر إذا كان المقام الموضوع “لا نهائي” (أي أن خلق الخلائق كلهم على الله في الجهد سواء وهذا الجهد الذي قلنا أنه متساو عليه هو في المقدار الكمي لا شيء حرفياً، وهذا ليس استنتاجاً عبقرياً بل هو منطق بسيط ظاهر بجلاء في السنة النبوية التي ورد فيها أن الخلائق كلها تهلك يوم ينفخ في الصور و يعيد الله بعثها يوم القيامة كما لو أنه لم يهلكها ولم يخلقها من قبل في ستة أيام)، هذا المنطق و المبدأ الذي ننطلق منه نحن كمسلمين في النظر للمخلوقات و حالها يفسر لنا الشيء الكثير، فنستنتج منه أن التسليم الذي هو نقيض الجزع و الإعتداء طارئ على المخلوقات عموماً وعلى البشر خصوصاً (الذين يتمتعون بحرية الإختيار من بين سائر المخلوقات و القدرة على تسخير ما دونهم من كائنات)، ذلك أننا قد قررنا أن كل شيء يسعى لديمومة وجوده وبقاء أثره و علو شأنه في مقابل زوال الوجود و الأثر الذي هو حاصل لا محالة، و بالتالي فإن التسليم لمنشئ هذا الخلق بالإماتة و الإفقار (أي الرضا و التسليم له إذا قضى موتاً أو فقراً على الإنسان) مع القيام بالمسؤولية المادية عند الغنى و العلو تجاه الفقير و الضعيف تأتي مناقضة لما هو كامن و أصيل في نفس الإنسان (الإعتداء طلباً للتعالي و الخلود)، و لذلك فإننا نجد أن الله تعالى يقول في سورة النساء معلقاً و مبيناً أثر تدخله على حياة الناس و مقارناً ذلك الأثر بأثر حركة الناس و أفعالهم عندما تكون بمعزل عن هدايته : ( و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمالهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك و أرسلناك للناس رسولا و كفى بالله شهيدا )، و يقول أيضاً في سورة الشورى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير )،  ففي هاتين الآيتين نجد المدخل الذي يمكن أن ندخل منه للتعليق على الآيات السابقة في أول المقال و الدلالة على ما قلته، فالله تعالى يقول بعبارة أخرى : (إن ما يقوله المشركون يا محمد من نسبة الشر و المصائب الواقعة عليهم إليك جهل، فالله تعالى هو مقدر الأقدار ومصير الأحداث فما يحصل لكم يحصل بعلمه و إرادته وكل هذا يكون بحكمته ولا يصير دون إذنه، و أما تفصيل الأحداث من حيث المقاربة البشرية فإن عليك يا محمد و الناس من بعدك أن تقاربوا هذه الأحداث بالطريقة الآتية .. الحسنة المادية و المعنوية التي تصيبكم عائدة لفضل الله و رحمته و منته ذلك أنكم أيها البشر غير قادرين على الخلق ولا على التصيير ولا على معارضة السنن الكونية التي أوجدتها عندما تكون فوق طاقتكم و أما المصائب التي تقع عليكم فجلها عائد إلى ما كسبته أيديكم، ذلك أنكم بإعراضكم عن الله و إقبالكم على شهواتكم و مطامع نفوسكم تعتدون على بعضكم البعض وعلى المخلوقات الأخرى من دونكم فتفسدون الحرث و النسل و تعودون للجهل والجهالة فينهار البناء و النظام لذلك أو تتحولون إلى شكل قاس و ظالم من الأنظمة يقع عليكم به الشقاء، أو يحق عليكم سخط الله فلا يمنع عنكم جنده في السماء و الأرض لتصير احتمالية الغرق بالطوفان و الهلاك بالزلزلة و القذف بالحجارة أموراً واردة جداً)، و كذلك هي الآية الثانية في سورة الشورى مؤكدة لهذا المفهوم.

الأربعاء، 31 أغسطس 2016

عودة الإقطاع (٢)




عودة الإقطاع (٢) 
 غاية السوق الوصول لحالة من السكون حيث تترسب جميع الأصول للقاع .. حيث يوجد الأثرياء 


عندما استنفذت القوى الغربية قدرتها على على التمدد (لم تعد هناك أراض كثيرة صالحة للإحتلال و الإستعمار) و انتهى بها الحال لخوض حربين عالميتين فيما بينها أودت بحياة الملايين إنتقلت القوى المنتصرة من التفكير بمنطق الدولة الوطنية المستقلة بقوميتها للتفكير بنظام عالمي جديد يحكم العالم و يتجاوز القوميات و الحدود الجمركية، تكون لتلك الدول بشركاتها مكان مميز سيادي ولمن تبعها من دول العالم إستقلال شكلي و تبعية إقتصادية و عسكرية متوغلة، هنا ظهرت الحرب بين الرأسمالية و الشيوعية. 

تم التسويق لهذين المشروعين على أنهما مشروعان متباينان في أصلهما الفلسفي و مقاصدهما المستقبلية، و مع أن التنظير يختلف إلا أن التنظير كثيراً ما يصطدم بالواقع فيجرده من رونقه و يعيده لأصله، و أصل الصراع بين الغرب الرأسمالي و الشرق الشيوعي صراع على النفوذ و الموارد و الأسواق، و مهما اختلفت البنية السياسية و درجة الحرية المكفولة في التعاملات التجارية فإن الأصل يبقى هذا. 
عندما تتعارض المصلحة الإقتصادية للأفراد في المجتمع (و خصوصاً رجال الأعمال) مع المصلحة العامة السياسية وعندما يحتاج عموم الناس للدفع القوي من قبل الحكومة المركزية لمنافسة القوة الأجنبية فإن الحكومة ستسعى لتقييد حريات الناس السياسية و الإقتصادية و الفكرية و ستستخدم كل الوسائل لتبرير تدخلها و تقييدها، بل قد تسمي هذا التعدي حماية للحرية و دعماً للديموقراطية !! 

عندما كانت أمريكا و الدول الغربية تواجه روسيا و الصين في كوريا و فيتنام لم تكن تهدف لزيادة درجة الحرية الممنوحة لعموم الناس في تلك الدول على رغم ما كانت تزعم، بل كانت تسعى لتقليل سلطة تلك الدول و قوانينها على أراضيها حتى تتمكن هي و الدول الغربية من شراء أصول تلك الدول و احتكارها و تحويلها لسوق إستهلاكية، فتصير بطبيعة الحال أراض تابعة للنفوذ الغربي و بعيدة عن المعسكر الشرقي. و العكس صحيح، فالدول الشرقية ( الإتحاد السوفيتي خصوصاً ثم صين ) لم تكن تسعى لرفع الطبقات المستضعفة في تلك الدول الأجنبية عنها عن طريق نشر الشيوعية إنما كانت تسعى لاحتلالها و جعلها تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر لها. لكن الذي دعم أمريكا و المعسكر الغربي أنها كانت تملك من الموارد و الشركات و الحركة الإبداعية ما يسر لها أن تستميل الكثير من الدول وتدفع بها للإنغماس في فلكها، كما يسر لها أن توضح بمقدار الرفاهية التي وفرتها لمجتمعها مقدار العبودية التي كانت شعوب الشرق (و خصوصاً الإتحاد السوفيتي و الصين) تعيش فيها، فانتهى الصراع لصالحها و ظن الناس أن حرية السوق و الديموقراطية هي التي انتصرت وهي التي يجب أن تنشر للناس حتى تعم الرفاهية جميع العالم، متجاهلين أن حرية السوق و الديموقراطية عوارض لوجود سببين أساسين وهما قوة العصبية و اتفاق المصلحة الخاصة مع العامة

النظام العالمي الجديد كان نظاماً سطره الغرب بعيد الحرب العالمية الثانية و ظل يتمدد بكل اتجاه ليشمل الدول الأخرى كلما نجح الغرب في تحقيق نمو وتمدد إقتصادي على حساب المعسكر الشرقي، وهكذا تمددت تلك القوة الغربية إلى حد سقط معه الإتحاد السوفيتي و صارت معه أمريكا القطب الأوحد الذي يدور بفلكه كل شيء، فالمال العالمي صار يمر من خلال بنوكها، و المعلومات الرقمية تمر من خلال معالجاتها و حواسيبها، و الطرق البحرية محمية ببارجاتها و سفنها، و هكذا صارت مع حلفائها الغربيين تحكم العالم بدعوى حماية العالم و نشر الديموقراطية، و مع حكمها للعالم ضمنت مركزية شركاتها و أولوية عمالها و مواطنيها في الفرص الوظيفية و السوق العالمية. 

البرنامج العالمي الذي دعت إليه أمريكا العالم جعلها تدفع فاتورة باهضة على المدى البعيد، فأمريكا كانت تطلب من الأسواق الناشئة و الدول المنافسة فتح أسواقها و إزالة التعريفات الجمركية و تيسير نقل البضائع و المعلومات و الناس بدعوى الحرية و سيادة الأكفأ و أن ذلك يؤدي لتساوي الفرص إلى حد ما و إبقاء الأنفع للناس !! دون أي التفاتة لمسؤولية الحكومات وما تنتظره منها شعوبها .. وهي :
١- التمثيل ( التمثيل العرقي و العقدي الثقافي ) 
٢- و الحماية ( رعاية المصلحة العامة للمجتمع )  

هنا كانت تتعامل أمريكا و الدول الغربية مع الدول الأجنبية عنها بنفاق و خداع، فالتفوق العلمي و الصناعي و الوفرة المالية التي تملكها تعطيها ميزة على الدول الأخرى مما يجعل العولمة تعمل لصالحها لترسخ هيمنتها، و بطبيعة الحال فإن الدول الأخرى عندما تقاوم أو تنجح في المنافسة فإن أمريكا و الدول الغربية تلجأ للحيل القذرة و التدخل السياسي و العسكري فتثير الفوضى في تلك البلاد و تعيد الكفة لصالحها. لكن دوام الحال من المحال و طول الهيمنة الغربية مع الرفاهية التي دامت كثيراً أضعفت العصبية الجامعة و زادت من التنافس الداخل على حساب التنافس الخارجي.

الطبقة البرجوازية صارت بالتدريج أكثر حرصاً على الإبقاء على علويتها و نفوذها من الإهتمام لمصلحة البلد ككل واستخدمت لهذه الغاية الإنفتاح الإقتصادي “العولمة” فقامت بالتالي :

1- الإستثمار الخارجي و تصدير الوظائف 
( قام الأغنياء بنقل مصانعهم للدول الفقيرة و استخدموا قلة أنظمة الحامية والضرائب لصالحهم، فصاروا يصنعون في تلك الدول الفقيرة و يصدرون صناعتهم لدولهم هم و الدول الأخرى، بهذه الطريقة حافظوا على هامش ربح أعلى و ضمنوا قدرة تنافسية أعلى .. لكنهم أيضاً طعنوا الطبقة المتوسطة في بلادهم إذ هم أضعفوا قدرتها على التفاوض بستخدام الأيادي العاملة الرخيصة و المدربة فصارت مدخولاتهم أقل و منافستهم لتلك المنتجات الخارجية أصعب، فحصل إغراق للبلد من قبل تجاره زادت على إثره حدة التفاوت الطبقي و الهيمنة السياسية ). 
٢- التجنيس و استقدام الأيادي الرخيصة 
( كانت قد بقيت لليد العاملة المحلية وسيلة واحدة للإغتناء و المحافظة على الدخل و رفاه المعيشة تلك الوسيلة هي العمل في قطاع الخدمات التي تحتاج ليد محلية قريبة، لكن هذه أيضاً صارت صعبة على اليد المحلية نظراً لسهولة الهجرة للبلاد الغربية و استغلال الشركات لبعض الفراغات في أنظمتها القانونية، إذ تقوم الشركة بتوضيف الأرخص و الأقل مطالبة و اعتراض من الأيادي الأجنبية لتحقق المزيد من الربح و تقلل التكلفة و المشاكل الداخلية). 

هنا أصابت العولمة أراضي المنشأ في مقتل فمع أن النظام الرأسمالي كان يفترض به أن يحقق المصلحة لتلك الدول الغربية الإستعمارية وهو ما فعله بالفعل لبضعة عقود إلا أنه قام بالتدريج بعض تلك الدول من الخلف وإنهاكها حتى صارت الطبقة البرجوازية و الحاكمة المستفيد الأوحد تقريباً من هذا النظام والراغب الأكبر في ثباته و تأكيده. لذلك فإننا نقول بأن العولمة الحديثة التي كان الغرب يستخدمها وسيلة للإستعمار صارت وسيلة لاستعمار الطبقة الحاكمة فقط، لذلك فإنها ستعجز عن إرضاء المجتمعات الغربية كما قد عجزت سابقاً عن إرضاء المجتمعات الأخرى، و سيؤدي هذا التمايز الكبير في الدخل لانهيار إقتصادي كبير “نتيجة لاستنزاف الطبقة الوسطى التي كانت المحرك الأكبر للإقتصاد باستهلاكها الهائل” يتبع هذا الإنهيار الإقتصادي تمايز سياسي شديد وواضح بين من يملك ومن لا يملك، ومن يدير كل شيء ومن تسهل إدارته باللقمة و المنصب و الكلمة .. المجتمعات الغربية هنا إنتهى شهر العسل بالنسبة لها. 

ماهي نهاية السوق الحرة “الرأسمالية” ؟ 

في البداية يجب أن ندرك نقطة مهمة كنت قد ذكرتها في مقال سابق عن الرأسمالية وهي أن العملية التجارية ( البيع و الشراء ) حالة طارئة على المجتمعات البشرية، ذلك أنها وإن كانت أكثر غريزية و بدهية لدى عموم الناس من العمل التطوعي الخيري الذي يعد أكثر عرضية إلا أن العدل و القبول و الرضى بنتائج المنافسة التجارية خلق غير أصيل في النفس البشرية، لذلك فإن السوق لا تنشط وتكبر إلا في بيئة إجتماعية يسودها الرضى و التراحم و تقديم المصلحة العامة أو أن قوة خاريجة طاغية تفرضها على عموم الناس فرضاً .. لكن لماذا ؟ 

 نظراً لكون السوق تمايز بين الناس ولكون الناس معترضون على التمايز بطبعهم إلم يكن ذلك التمايز لصالحهم فإن القبول الجمعي بنتائج السوق يبنى على عقد إجتماعي غير معلن أساسه : 
١- مساواة أرض اللعب ليحصل المتنافسون جميعاً على فرص متقاربة. 
٢- إنهاء هذه الطريقة في التعامل بين أفراد المجتمع “العملية التجارية” عندما تصبح المصلحة الفردية متعارضة تماماً مع المصلحة الجماعية .. مثل وقت الأزمات عندما ينتظر الناس من الغني أن يعين الفقير و من القوي أن يسخر قوته لنصرة الضعيف. 
هاتين النقطتين أساسيتين لقبول الناس منطق السوق واحترامهم لنتائجه، فمتى ما أخل التجار و الساسة بهذين الإلتزامين مارس عموم الناس السرقة و الإحتيال و الكذب و الثورة كوسيلة للإعتراض على النظام القائم.

الحرية المطلقة في السوق لا تؤدي لنشوء طبقة وسطى عريضة كما يقول آدم سميث، و استنتاجات آدم سميث هذه ما كان لها أن تكون أصلاً لولا عيشه في قلب الدولة الإستعمارية الكبرى وسط تمددها و انتشارها، فتحرر السوق في عهده كان يعني التوسع على حساب الأمم الأخرى و تصدير الفقر لتلك الأراضي الأجنبية كوسيلة لإغناء العامة في الدولة المستعمرة ! ولولا هذه الحالة من تصدير الفقر و استيراد الموارد و المزروعات برخص ما كان لحرية السوق أن تنتج شيئاً غير العبودية .. لكن كيف ؟ 

كنت قد ذكرت في مقال سابق الأسباب التي تؤدي لنشوء العبودية و انهيار حرية السوق من خلال السوق الحرة نفسها لكني سأعيد هذه النقاط في هذا المقال باختصار : 

١- معدلات النمو في الأعمال التجارية أعلى من معدل نمو الدولة ككل .. هذا يؤدي لتكدس الأصول عند الأغنياء بالتدريج على حساب عموم الناس. 
٢- الأصول الأساسية في أي سوق محدودة ( الأصول تتفاوت في مركزيتها بالنسبة للأسواق ) و نظراً لكون الأغنياء أول الناس امتلاكاً واحتكاراً لها فإن أي نمو في أي مجال آخر من مجالات الإقتصاد لا يؤدي لحصول المستثمرين في تلك المجالات على مركزية توازي مركزية الممتلكين للأصول الأساسية فمتى ما حصل إنهيار إقتصادي أو ضعف في النمو فإن الأمور تعود واضحة بجلاء، فالذي يملك الأساسية ليس كمن يملك الأصول الطرفية. 
٣- المال و النفوذ يجلب المزيد من المال و النفوذ .. أي أن النمو في الثروة عند الأغنياء يصير بالتدريج نمواً إظطرادياً لا نمواً تراكمي. 

أخذاً بهذه النقاط الثلاث نستنتج أن أي بلد و مجتمع يمارس فيه النشاط التجاري بحرية فإنه معرض لنشوء الطبقية الصلبة ( الحاكم و الإقطاعيين و التجار و أصحاب المهن ثم أخيراً العمال و المزارعين بهذا الترتيب من القوة و النفوذ و الغنى ) بالتدريج متى ما ضعف النمو أو توقف. ذلك أن النمو السريع و القوي يعمل عمل الهرم المقلوب، فالفرص في هذه البيئة تكون كثيرة و منوعة مما ييسر للعديد من الناس أن يرتقوا لمصاف الإقطاعيين فينافسوهم و يرفعوا من شأن عوائلهم كما رفع ؤلائك من شأنهم في السابق، و طالم كانت الفرص كثيرة و متاحة فإن عموم الناس يظلون قابلين مطيعين للنظام الرأسمالي القائم أملاً في الصعود لمصاف ؤلائك. و أما الإنكماش فإنه يعمل عمل الهرم الصحيح فيزيل تلك الشريحة الهائلة التي كانت تظن نفسها موازية للطبقة الحاكمة و الأرستقراطية و البرجوازية القديمة فتنهار نظراً لانهيار القطاعات التي تعمل فيها وهي أسواق الترفيه و السياحة و كثير من الصناعات الغالية المترفة و الإعلانات و الخدمات حتى لا يبقى من القطاعات إلا الضروري في الحياة البشرية ( الغذاء و الدواء و التعليم و المواصلات  العامة و الإتصال و الأمن و القضاء ) فيتركز المال بيد القليل الممتلكون لتلك الأصول الرئيسية ويصبح البقية عالة عليهم، و كذلك هي الحال عندما يضعف النمو فإن المالكين لهذه الأصول يسهل عليهم بالتدريج إحتكار السوق و شراء الأصول الأخرى الضعيفة و المعرضة للإفلس و التي لم تكن في حوزتهم.

الحروب و الأزمات عندما تواجه أمة لا تزال العصبية و العقيدة الجمعية فيها قوية فإنها تدفعها للتكاتف و إهمال العملية التجارية النفعية البحتة، هذه الحالة تؤجل ظهور الطبقية الصلبة و الإقطاع كما أن التمدد و النمو يفعل ذلك، و بالتالي فإن هاذين الظرفين عندما ينتفيان فإنه من الطبيعي أن يبقى التاجر والمستثمر على رأس الهرم في العملية التجارية حتى يستنزف القدرة الشرائية و تصبح اليد العاملة في البلد لا تأمل بأن تتملك أي أصل من الأصول المادية وإنما تفاوض بإنتاجها اليدوي اليومي و تعيش على أجر عملها ( أي أنها تستعبد ). 


نظرة في موضوع الأصول و اختلافه ..

الأصول تختلف بحسب مركزيتها في الإقتصاد كما ذكرت و إن كنت لم أقرأ لأي اقتصادي في هذا الموضوع إلا أني أرى أثره جلياً في البناء الإقتصادي و السياسي .. 

١- أصل الأصول و أساسها ( الأرض ) 
الأرض هي الثروة أساساً نظراً لأن كل شيء يخرج منها، فمن امتلك الأرض وما عليها امتلك الثروة. لكن هذا يبسط الموضوع كثيراً فالأراضي تحصل على قيمتها من عدة نقاط مختلفة تختلف على أساسها قيمتها.. 
أ- الأرض الزراعية  ختلف عن  ب- الأرض التي تحوي المياه العذبة (البحيرات) وتختلف عن  ت- الأرض التي تحوي مناجم و معادن ضرورية   ث- وفي الأخيد الأرض الإستراتيجية في موقعها 
و نظراً لما ذكرنا من كون الأرض هي أصل كل الثروات و نظراً لسهولة استثمارها و استغلالها مادياً إذ يستطيع الشخص أن يؤجرها بمبلغ معلوم أو نسبة ربحية معينة دون الحاجة لبذل أي جهد و تفكير فإن الأرض تقترن كثيراً بالعوائل الحاكمة و الطبقة الأرستقراطية لكونها وسيلة سهلة لتوريث المال و تثبيت الغنى و التعالي في النسل ولأنها كما ذكرنا لا تحتاج لجهد أو ذكاء و إنما تحتاج لعصبية وقوة عسكرية تحميها.

٢- الذهب و الفضة ( المال الذي يدوم ) 
ذكرت هذا الأصل بعد الأرض مباشرة نظراً لكون المعاملات البنكية من أكثر المعاملات التجارية بلادة في الفكر و الجهد، فهي كما سبق في الأصل السابق (الأرض) لا تحتاج لجهد بدني ولا فكري إنما يحتاج الشخص لامتلاك الكثير من هذا الأصل و ضمان قوة عسكرية تعيد له ماله إذا فشل المقترض في تسديد دينه أو الفائدة التي عليه أو أداء الأصول التي رهنها للبنك عندما قام بالإقتراض .. لذلك فإننا نجد أن الطبقة الأرستقراطية و الحاكمة تنشط في هذين المجالين و تحتكرهما تقريباً نظراً لكونها تملك ميزة سابقة على المنافسين في مجال العقار و المصرفية، كما أنها أقل الشرائح كفاءة من حيث الإنتاج و الإبداع. 
المزاوجة بين الإحتكار العقاري و المصرفي يضمن للطبقة العليا بقائها في أعلى هرم السلطة دائماً و يؤدي بالتدريج لتكدس المال بيدها مهما طال الزمن. 

٣- المهن الضرورية في المجتمع 
( في مجال الغذاء و الدواء و اللباس و الأمن و التعليم و القضاء ) 
هذه الأعمال المعنية بتحويل المواد الخام ألى منتجات ضرورية لا يستغني عنها المجتمع، و معها شريحة مهمة من موظفي الدولة معنية بالضبط و الإصلاح .. هذه الشريحة تبقى في عملها و يبقى دخلها محفوظاً لحد ما وقت الأزمات و الإنكماش الإقتصادي نظراً لعدم قدرة الناس عن الإستغناء عنها ( الدخل قد يتأثر نظراً لتغير القدرة الشرائية و درجة المنافسة في هذه القطاعات ) .. هذه الشريحة تؤجر لها الشريحة الأولى أراضيها و تبيع لها موادها الأولية و تقرضها، فهي تابعة للشريحة الأولى مهما زادت أموالها حتى تملك الأصول المذكورة سابقاً ما يغنيها. 

٤- الحرف الكمالية و الجمالية 
( الترفيه و التجميل و السياحة و الفنون .. ) 
هذه القطاعات تكون مربحة جداً في الإقتصادات القوية و النامية، لكن بمجرد أن ينكمش الإقتصاد أو يضعف نموه فإن هذه القطاعات تضعف بشكل كبير و يواجه موظفوها الفصل مما يزيد تبعيتهم للشريحتين المذكورتين سابقاً بالديون و الإعالة. 

الأصول الأساسية محدودة جداً لذلك فإن تثبيت السلطة باحتكارها يعد أمراً سهلاً، كما أن الحرف الأساسية قليلة إذا ما قورنت بالحرف التكميليلة لذلك فإنك ستجد شريحة كبيرة من الناس هامشية ضعيفة و تابعة متى ما واجه الإقتصاد أي أزمة حقيقية إذ تصبح هامشية هذه الطبقة واضحة بجلاء و مع إدراك هذه الطبقة لقلة أهميتها وعجزها عن تحديد مصيرها و الحصول على شيء من الإعتبار فإنها تتحول للثورة و الإعتراض على كل شيء. 

(( كل الأسواق تسعى ببطء للوصول لحالة من السكون و هذه الحالة أشبه ما تكون بترسب السكر أو الملح في أسفل الكأس عندما تطول حالة البرودة و السكون في الكأس، حتى نصل لحالة من الإستقرار يكون الماء فيها عذباً في الأعلى و مالحاً أو حالياً جداً في الأسفل … بمعنى أن الأسواق تتجه طبيعياً لبناء طبقة تملك كل شيء و طبقة أخرى لا تملك إلا يدها العاملة لتكسب قوت يومها و بين هذه وتلك طبقة متوسطة صغيرة مبدعة تحقق الرفاهية للطبقة الغنية )) 


و أخيرا كنت قد ذكرت في المقال الذي عنونته بـ (إنهيار العولمة) أربعة نقاط مهمة أحب أن أعيد شرحها و الإنطلاق منها للتكلم عن الأحداث الحاصلة و المستقبلية :

١- تباطؤ النمو و انهيار الإقتصاد 
٢- إستنزاف الموارد ( و أهمها الطاقة ) 
٣- تباين معدلات الإنجاب و النمو السكاني 
٤- التغير المناخي 


( النمو ) .. يعمل عمل الهرم المقلوب كما ذكرت سابقاً فالأسواق النامية بسرعة و قوة توجد فرصاً جديدة و كثيرة للإغتناء مما ييسر لعامة الناس التحرك عمودياً في سعيهم الطبيعي للتعالي و الغنى، و العكس بالعكس فالإقتصادات الراكدة و المنكمشة تعمل عمل الهرم القائم على قاعدته يصعب على من لا يملك مالاً و نفوذاً أن يرتقي فيه و يسهل على من ارتقى أن يفقد رأس ماله نتيجة لصعوبة المنافسة و البقاء .. الحالة الإنتقالية بين النمو و الإنكماش تظهر على شكل انهيار أو انهيارات إقتصادية متتالية، فحالة النمو تحمل معها التفاؤل بالمستقبل فيسهل الإقراض و الإستثمار و ترتفع الأسعار و يصير المجهود البسيط  كافياً للإغتناء و الكسب، ولكن ما إن تتجه الأسواق للركود حتى تتراجع الكثير من الإيرادات فتفشل تلك الشركات التي كانت قد بنيت على قروض و تلك التي كانت تعمل على وجود طلب عال في قطاعات طرفية، و هكذا تقل الوظائف ويقل معها دخل الحكومة وتصبح الدولة نفسها معرضة للإضطرابات السياسية و الإنقسامات. 
هذه هي أول مراحل التحولات المستقبلية فالإقتصاد الغربي وصل إلى حالة متقدمة من الركود و الإستنزاف للطبقة المتوسطة كما شرحت مما يجعل الحركة السياسية و الإدارية في المستقبل صلبة صعبة، و هذا يجعل احتمالية حدوث انقسامات و حروب أهلية في الكيانات السياسية الغربية إحتمالاً وارداً جداً، و بالطبع فإن ذلك إذا حصل يزيد من سرعة انتقال القوة و النفوذ للدول المنافسة ليتغير مع ذلك النظام العالمي. 


( الموارد ) .. سيد الموارد الطاقة الرخيصة كما ذكرت سابقاً في هذا المقال، فالطاقة الرخيصة “ أي تلك التي يكون فيها العائد من الطاقة على المستنزف لإخراجها كبير جداً” تزيد من قوة البلد إذ هي توفر عليه عدداً هائلاً من اليد العاملة و درجة كبيرة من المسايسة و الإرضاء الذي يحصل عند التفاوض مع البشر، و نظراً لكون النمو العالمي نمو إظطرادي “أي تضاعفي” فإن وصول العالم لمجرد استنزاف نصف الموارد الضرورية يعني أن العالم قد وصل إلى حالة حرجة من الشح في الموارد “إذ أن الإظطراد يعني بالضرورة الحجاة لمضاعفة الإستهلاك كلما مر عقد أو عقدين من الزمن” وما لم ينجح الناس في إيجاد بدائل لتلك الموارد فإن مجرد الثبات على الإستهلاك نفسه يعني حدوث انهيارات إقتصادية و صراعات سياسية كبيرة. و لأن الطاقة “المحروقات خصوصاً” ضرورية لاستخراج و إنتاج بقية المواد و الحاجيات فإن الوصول لقمة الإنتاج النفطي Peak Oil تعني أننا قد وصلنا لقمة الإنتاج في كل شيء، و بالتالي فإن النمو يتباطأ بالتدريج في كل المجالات ويقف في تلك الدول التي لا تملك من الموارد “الطاقة خصوصاً” ما تستقل به و تحافظ به علي نسبة النمو المظطردة المطلوبة، و العكس صحيح فالدول التي تملك من النفط و الطاقة الشيء الكبير “ومن اليورانيوم و الفضة و غيرها من المواد الضرورية النادرة” تصبح قوية و متنفذة في محيطها والعالم على حساب أصحاب اليد العاملة  في بقية الدول إذ أن اليد العاملة كثيرة و قدرتها التفاوضية قليلة. 


( تباين معدلات الإنجاب ) .. هذه النقطة لها علاقة بالتغير القفاي نتيجة الرفاهية و حالة التعالي التي وصلت إليها المجتمعات الغربية بالخصوص، فالمجتمعات عندما تصل إلى درجة عالية من التعالي على سائر المجتمعات و الرفاهية حتى ما تعود متطلعة إلى شيء بعد ذلك تصبح مفارقة للمنطق الذكوري في التعالي و الغلبة "المنطق الذي يعتمد على القوة و الكفاءة" لتستبدله بالمنطق الأنثوي الذي يعتمد على المظهر و الإغراء و محاولة الحصول على قبول الناس و رضاهم .. هذه المجتمعات في هذه المرحلة تسعى خلف المثاليات و الشكليات، كما تكون جبانة و بخيلة، فيقل الإلتزام بالزواج و تقل الزواجات و يقل الإنجاب و تنهار الأسر و تنحل عصبية المجتمع. 
التباين الكبير في معدلات الإنجاب سيؤدي بالتدريج لتغيير موازين القوة و انهيار القوى التي كانت متربعة على هرم السلطة العالمية لتنافسها قوى أخرى صاعدة. 


 ( التغير المناخي ) ..  هذه النقطة هي أقل النقاط وضوحاً و أصعبها إستقراءً ولولا الأحاديث النبوية الدالة على تغير الوضع الجغرافي في آخر الزمان و كثرة الكلام عن التغيرات المناخية الحاصلة من قبل الإعلام و التعليم الغربي ما ذكرته .. لكن هذا لو حصل في المستقبل القريب فإنه سيغير الكثير من التوازنات السياسية في المنطقة و العالم كما سيغير الكثير من الطباع و العوائد الإجتماعية عند الناس، ولعل هذه التغيرات و زيادة الموارد و القدرات عند العالم العربي و الإسلامي هي ما سيدفع هذه الأمة للتغلب على الأمم المحاربة لها و نشر عقيدتها في آخر المطاف. 


في آخر هذا المقال نصل للنقاط المستقبلية التي تنبأت بها في بداية هذا المقال و علاماتها في واقعنا المعاصر .. 

(عودة الوطنية و انهيار العولمة ) 

شهدنا خلال السنتين الفائتة موجة من الإنفصالات السياسية لبعض الدول عن تحالفاتها الدولية و قيام تحالفات جديدة و صراحة شديدة في تقديم المصلحة و تنحية المجاملات و ادعاء المبادئ، ظهر هذا الأمر بجلاء في انفصال بريطانيا عن الإتحاد الأوروبي و مطالبة اليونانيين و بعض الدول الأوروبية الأخرى بالإنفصال أيضاً كما شهدنا الموجة الوطنية الشديدة في أمريكا والتي يتزعمها دونالد ترامب و تقوم على معادات كل ما هو أجنبي و نافذ في السوق الأمريكية ( كاليد العاملة المكسيكية و المنتجات الصناعية الصينية و النفط العربي الرخيص ) و الدعوة لإعداة مناقشة الإتفاقيات السابقة و التنصل من الإلتزامات التي كانت أمريكا قد وقعت عليها و محاولة إستنزاف الحلفاء و كل من لأمريكا مصلحة معه. هذا كله يعود لتراجع الإقتصاد العالمي كما ذكرنا سابقاً، و تراجع الإقتصاد العالمي له علاقة باستنزاف الموارد و النفط خصوصاً لكن هذا ليس هو السبب الأساسي، السبب الأساسي هو العولمة التي مكنت أصحاب رأس المال من تجاوز الحدود عن طريق وسائل النقل الحديثة و الإتصال دون تعريف جمركي يذكر أو إلتزام سياسي و اجتماعي تجاه المجتمعات المستنزفة، كما أعطت التجار القدرة على امتصاص المال من الشعوب الغنية خاصة “مع إفادة الدول الناشئ و المصنعة إلى حد ما” و القضاء على الطبقة الوسطى، كما أن النظام المالي القائم على الإقراض السهل و الطباعة السهلة للمال مكنت أصحاب رأس المال و الساسة من إخفاء الآثار الجانبية لهذه السياسة فترة طويلة أدت لاستعباد العامة و إنتاج فقاعات إقتصادية عديدة سيذهب ضحيتها صغار المستثمرين مع عدد هائل من الوظائف التي يضمنونها. 


الحركة الوطنية الحديثة ستعمل عملين مهمين بنظري : 
١- ستضعف نفوذ الطبقة الغنية الحاكمة العالمية و التي تعمل من وراء الستار و تتحكم بالظروف الإقتصادية و العلاقات السياسية العالمية دون محاسبة أو مراقبة .. هذه الطبقة ستصبح بالتدريج تحت المجهر و سيرفض الناس علويتها و سيتم تجريدها من العديد من مصادر النفوذ التي تحضى بها لصالح الدول المعنية و لصالح سيادة حقيقية و مساءلة حقيقية تستطيع أن تمارسها الشعوب “الغربية خاصة” على حكامها. 
٢- إنهيار الرأسمالية و الشيوعية كفلسفات و قيام المصلحة القومية و العصبية العرقية بصراحة كوسيلة لتجاوز الأزمات الإقتصادية المقبلة .. الفلسفات تضعف و تتلاشى وقت الأزمات ولا يبقى حقيقة إلا عصبية الناس و تجاربهم السابقة و عاداتهم و مصلحتهم، و لأن المصلحة العامة للعرق المعني ستوضع فوق كل اعتبار أثناء هذه الأزمات فإن فكرة حرية السوق و التسامح ستتراجع في مقابل الإستئثار و التعالي، كما أن أي طرح مثالي و حالم “فلسفي” يتكلم عن واقع مثالي سيتراجع في مقابل التطهير و التعاون و التجاوز للمرحلة الحرجة .. هذا سيؤدي لانقسام الدول ذات المكونات العرقية و العقدية المختلفة إن أمكن الإنقسام أو فشلها و ضعفها كما سيؤدي لزيادة السلطة الممنوحة للحكومة من قبل العامة في مقابل قيامها هي بتفضيلهم و رعاية مصالحهم و التعدي على غيرهم . 

لكن بطبيعة الحال كون الدول الوطنية كلها غير قادرة على الإكتفاء بالموارد التي تملكها و القوة التي تجمعها فإن التحالفات التي ستقام ستكون بالتدريج أكثر صدقاً و عمقاً و عصبية، كما أنها ستوكن أسواقاً حرة إلى حد ما فيما بينها و تستثني الكيانات الأخرى التي ستحاول ممارسة السياسة المركنتالية معها و إفقارها، ولكن هذه الحالة ستتبع الحركة الوطنية الأولى برأيي و إن كانت بعض مظاهرها تتزامن مع الحركة الوطنية. 

إذا نشأت هذه الأسواق المنفصلة بين الدول ذات الحضارة الواحد فإن العالم سيصير منقسماً على أساس حضاري عقدي أكثر منه عرقي صرف أو مناطقي مصلحي، هنا نكون قد وصلنا لحالة مختلفة و مخيفة. 

عودة الإقطاع (١)



عودة الإقطاع (١) 
 غاية السوق الوصول لحالة من السكون حيث تترسب جميع الأصول للقاع .. حيث يوجد الأثرياء 


كنت قد كتبت مقالاً سابقاً عنونته بـ( نهاية العولمة ) و هذا المقال الحاضر تفصيل أكبر لما ذكر في ذلك المقال و متابعة زمانية لسير الأحداث و تعاقبها، فقد بدأت خلال العقد الماضي تتجلى بوادر الإنفصال و التغير في النظام العالمي خصوصاً في دول العالم الثالث إذ قد كانت أكثر المناطق تضرراً من الأزمة الإقتصادية التي حصلت في عام ٢٠٠٨ لكن آثار تلك الأزمة لم تقف عند تلك الدول بل ظلت الأزمات الإقتصادية تتراكم و التململ السياسي الناتج يزداد في المجتمعات المتقدمة على شكل أزمات و تحركات سياسية كبيرة ومن كل ذلك بدا جلياً أن العولمة تواجه مقاومة شرسة و انتقاد حاداً من نفس المجتمعات و الدول التي كانت السبب الأول في نشأة ذلك النظام و رسوخه، و لأن عموم الناس لا يفهمون أساس نشأة العولمة ولا ركائزها الأساسية فإن انهيار النظام سيعد صدمة كبيرة للعموم الناس كما كانت النشأة الأولى صادمة، و من هنا فإن هذا المقال يتحدث عن الأسس التي بنيت عليها العولمة و عن سبب انهيارها المتوقع و عن الشكل المبدأي الذي يمكن أن يظهر . 

بحسب الظروف المتوفرة و الحالة العقدية السائدة لدى المجتمعات تسلسلت الأحداث و البناء السياسي العالمي في القرن الخمسة الماضية بهذه الطريقة : 

١- التنافس الغربي على بناء الإمبراطوريات (الإستعمار).
٢- وصول التوسع الإمبراطوري الغربي لأقصى مداه و بدء الصراع الغربي الداخلي.
٣- تراجع الإحتلال المادي الصريح و قيام الرأسمالية كوسيلة للإحتلال و الهيمنة. 
٤- الوصول لأقصى حد من استنزاف الدول الأخرى و من ثم العودة لاستنزاف الداخل الغربي. 

النتائج المستقبلية المتوقعة لسير الأحداث السابقة : 

٥- إنهيار العولمة المطلقة و ظهور الحركات الوطنية و قوانين الحماية الجمركية الشديدة.
٦- إنهيار حالة الإنفتاح الثقافي و الحضاري و قيام التكتلات الحضارية على شكل أسواق كبيرة منفصلة.
٧- صراعات عسكرية و اقتصادية كبيرة بين الحضارات المختلفة.
.. لا يمكن الجزم بهذه النتيجة ولا التنبؤ بما بعدها فعدد العوامل المؤثرة في الأحداث المستقبلية كبير جداً يجعل من حساب أثر كل منها أمراً مستحيلاً. 


عودة للتفصيل في النقاط السابقة .. 
إن من أكثر الأوهام انتشاراً هي الإعتقاد بأن الأفكار الفلسفية قد لعبت دوراً أساسياً في تشكيل الأنظمة السياسية و الصراعات الدولية خلال القرنين الفائتين، و مع أننا نعترف بوجود تباين في البنى السياسية و تبن لأفكار فلسفية مختلفة من قبل الأنظمة الحاكمة إلا أن هذه الأفكار لم تلعب دوراً محورياً في الحياة العامة و الخاصة، كما أنها لم تحرف الناس بشكل كبير عن السعي في إشباع غرائزهم و التعالي على أقرانهم بل كانت تلك الفلسفات والله تعالى أعلم وسيلة لتحقيق المصالح و استيفاء الأطماع الغريزية التي ادعت تلك الفلسفات أنها تضبطها و تنظمها، فالغرائز الأساسية في البشر لا تهذبها الفلسفات ولا الفنون بل تتهذب بغرائز أكثر علوية و ارتقاءً منها، كما أن الأنانية لا تضعف بالخطابات الرنانة و القصص العاطفية بل تضعف عندما تغمرها أنانية من شكل آخر، تطلب الذكر من العلي الكبير الذي يهم ذكره و الخلود الأخروي الكامل الذي يتجاوز الخلود الدنيويفي حقيقته و معانيه، و لذلك فإني عندما تكلمت عن الدولة في المقال السابق ( الدولة و الناس ) ذكرت القاعدتين الأهم التي برأيي تلعب الدور المحوري في نشأة الدول و ثباتها: 

١- التعدي أصل في الطبيعة البشرية .. به تقوم الهرمية التي تنشئ كيان الدولة
٢- الحضارة منتج ديني .. به يتجاوز الناس مصالحهم الفردية ويجد المجتمع لنفسه هوية تتجاوز المكان و الزمان

و مع أن الدول يمكن أن تنشأ و تعمر بعقيدة ضعيفة و عقائد متنوعة نتيجة لوفرة العوامل المادية اللازمة و سهولة الضبط من قبل القوة المركزية الضاربة إلا أن هاتين النقطتين تظلان نقطتان رئيسيتان مؤثرتان يهمنا استحضارهما قبل الخوض في النقاط السابقة و التفصيل فيها .. لكن لماذا ؟ 

لأن كل ما حصل من نمو إقتصادي و تفوق حضاري كان ناشئاً عن هاتين النقطتين بالتحديد، فالقصة بدأت برأيي بنهاية القرن الخامس عشر و بداية القرن السادس عشر عندما انتقلت الأوروبا ككل من الدفاع و التقوقع إلى التمدد و الإحتلال (ما يسمى بالإستعمار) و البناء القومي، هذه الحركة السياسية و الإجتماعية كانت واضحة و بدائية في دوافعها لكنها بالتدريج تسمت بمسميات أخرى و ادعت أنها تملك دوافع أكثر تعقيداً و رقياً مما سبق ، فما هي هذه الدوافع البسيطة حقيقةً ؟ 

١- الإغتناء 
٢- التعالي 

و مع أن الإغتناء عن الناس يعد دافعاً أكثر بدائية و قبولاً إلا أنه إذا أضيف إلى الدافع الثاني صار موقفاً واحداً يختزل في كلمة واحدة .. “التعدي” ، و لأن التعدي لا يعهد غالباً إلا ممن وجد في نفسه قوة و غلبة فإن هذا التوجه لا يستغرب منه أن يزيد كلما حققت تلك المجتمعات تقدماً على الصعيد العسكري و السياسي. 

ملحوظة .. “أول الدول انتشاراً و سعياً لبناء إمبراطورية كانت البرتغال و أسبانيا اللتان نجحتا في إخراج المسلمين من شبه جزيرة أيبيرا و تبعتهما في ذلك دول أوروبا الغربية فرنسا و بريطانيا و هولندا.. وقد كان لنجاحهم في ذلك التمدد الجغرافي أثر كبير على إقتصاداتهم هم و اقتصادات الدول الأوربوبية ككل بعد ذلك فزاد التزامهم بعقيدتهم و مبادئهم و حثهم ذلك على العودة للتعمق في تاريخهم و الإستنباط لمستقبلهم”

هذه الدوافع دوافع بسيطة غريزية مفهومة لذلك فإن النجاح العسكري و السياسي الأول في بداية القرن السادس عشر لم يشكل صدمة حضارية ولا تحدياً فكرياً ملحوظاً لكل ما سبق من مسلمات و مبادئ عند الحضارات الأخرى و خصوصاً الحضارة الإسلامية ( الحضارات التي انهزمت في أمريكا الشمالية و الجنوبية بطبيعة الحال كانت أقل مناعة إذ انكشفت على أفكار و عقائد جديدة و صناعات حديثة تتميز عن صناعتها الأكثر بدائية  و تركيبها السياسي و العقدي الأكثر بساطة ) بل كان تمدداً إحتلالياً “إستعمارياً” مفهوماً يقوم به الجميع. لكن القوة الغربية هذه عندما نجحت في احتلال البعيد ( الأراضي الجديدة المعروفة بأمريكا ) ثم نجحت بعد ذلك في إبقاء ميزان تجاري موجب مع تلك مستعمراتها تيسر لها الدول أن تحقق هذين الهدفين الذين ذكرتهما بشكل أكبر و أكبر مع الزمن ( أي تؤكد هيمنتها على تلك الأراضي و تتبعها لها ككيان طرفي في كيانها السياسي الكبير )، فقد كبرت أسواق الدول الغربية هذه بما اغتنت به من موارد و يد عاملة تطورت على إثرها صناعاتها و تعقدت، ثم زاد تركيبها الفكري تعقيداً وبناؤها العلمي تقدماً بما ازدادته به أسواقها نمواً و تركيباً. و هكذا نشأت مدارس فكرية و فلسفية يظهر فيها التباين و إن كانت في الحقيقة أسيرة لتلك النقطتين السابقتين، و نظراً للمجاورة الواضحة بين تلك الكيانات السياسية الغربية ( الأوروبية ) فإن الهوية القومية ظهرت بشكل أوضح عما ظهرت عليه في المجتمعات الأخرى، فنجحت هذه الكيانات مع توسعها الجغرافي في زيادة عدد أفرادها ووعيها بنفسها و عملها على التناسق في حركة أفرادها عن طريق سياسات و قوانين داخلية تحقق المصلحة العامة، ولكن هذه الزيادة كان لا بد لها أن تصل إلى حد جغرافي يتولد معه تصادم و صراع كبير على النفوذ و الأملاك بين تلك الإمبراطوريات . 

هذه المرحلة من الإنتشار الجغرافي الأفقي استمرت بشكل تراكمي بسيط على مدى قرنين من الزمن إلى أن ظهر عامل جديد أثر في ذلك التمدد و زاد من هيمنة تلك القوى الغربية الإستعمارية علي باقي الكيانات السياسية الأخرى، هذا العامل هو (الطاقة) أو المكننة التي نجحت في استخدام المحروقات لتضاعف من القدرة الصناعية و الزراعية و الحربية، و هذه الحالة و إن كان ينظر إليها عموم المؤرخين على أنها ثورة علمية صناعية ساهمت في إمالة عجلة التاريخ و الهيمنة السياسية نحو الغرب إلا أنهم يفشلون في إصابة عين الحقيقة بوضوح عندما يتكلمون بهذه الطريق، فالمكننة و العلم نفسه لا يغلب طرفاً على طرف ، إنما كانت الطاقة الرخيصة بما توفره من قوة فائضة تعمل عمل الأيادي الماهرة فتزيد من قدرة الدولة إنتاج و الضبط السبب الرئيسي و النقطة الأساس في موضوع الصناعة و المكننة التي مكنت الغرب من زيادة نفوذه و هيمنته.  هذه الطاقة Energy ( الطاقة العالية في كثافتها و الصغيرة في حيزها المادي ) ساعدت الغرب على التغلب على القوى المنافسة لها بما حركت من مكائن بخارية و مولدات كربائية كان لها أثر كبير  في توفير الجهد البشري و تحسين كمية و جودة الإنتاج المطلوب، فزادت بذلك القوة المادية كثيراً و إلم يكن عدد الأفراد قد زاد بنفس الدرجة. ولا أأكد أنا هنا على هذه النقطة إلا لكون المكننة و العلوم عديمة القيمة إن فقدت الطاقة الرخيصة، فالأجهزة و وسائل النقل و الإتصال و الأسلحة لا تعمل إلا على تحويل تلك الطاقة لشكل آخر من أشكال الطاقة مطلوب يمكننا من القيام بأعمال لم نكن نقدر على عملها إلى باليد المجردة أو بمصادر أخرى للطاقة أقل غنى و أثر، ولذلك فإنه متى ما زالت هذه الطاقة الرخيصة و عاد الناس لاستخدام الحطب و المياه و الريح عادت حياتهم بشكل كبير إلى البساطة الأولى نظراً لتراجع القدرة على الإنتاج و النقل و الضبط بالسلاح. 

لنعد إلى نقطتنا .. القوى الغربية تمكنت من تسخير الطاقة الرخيصة (المحروقات) فتحقق لها استخراج المزيد من المعادن و المزروعات و من ثم زيادة الإنتاج الصناعي و الضبط السياسي حتى تضخمت هذه القوى السياسية في حجمها الإقتصادي و إلم تكن قد زادت كثيراً في مساحتها الجغرافية و عدد سكانها فصارت بذلك قد استعمرت الأرض أفقياً و عمودياً إن صح التعبير ( أفقياً بالتعمدد الجغرافي و استخدام البشر كعبيد لاستخراج المعادن و حراثة الأرض و زيادة الإنتاج الصناعي، ثم عمودياً باستخدام المحروقات و الإعتماد على المكائن في القيام بما كانت تقوم به الأيادي الرخيصة من عمل، فزادت القوة بذلك أضعافاً مضاعفة )، فلما وصلت الدول الإستعمارية الغربية إلى هذا الحد من القوة صار الصراع محصوراً فيما بينها، و مع ما كانت تملكه الدول الأخرى من تاريخ و إرث حضاري و استعداد للقتال إلا أنها كانت عاجزة عن المواجهة مواجهة حقيقية للسببين الآنفين .. أي أن الدول الغربية كانت قد وصلت إلى حد من الكبر في حجمها و مواردها و قدرتها على استنزاف الأرض و تحقيق فائض من الإنتاج و كفاءة في المنتج جعل أي محاولة من القوى الأخرى للمقاومة تتسم بالعبث و اليأس، و قد ظهرت هذه الحالة بجلاء عندما صارت الدول الغربية تحتل أراض لم تكن هدفاً لها أساساً و إنما وسيلة لحماية طرقها البحرية من القوى الأخرى ( كما رأينا في احتلال بريطانيا لمصر ).

بعد ما ذكرنا من سباق محموم بين الدول الغربية على التمدد و الإحتلال وصل العالم إلى حالة من الإستقرار و التفاهم على شكل من أشكال المحاصصة بين تلك الإمبراطوريات الغربية، فالدول الغربية التي تميزت بهوياتها القومية مع نجاحها في احتلال الأراضي و تمييز كياناتها السياسية صارت بالتدريج إمبراطوريات بمركز و طرف مهم و طرف أقل أهمية، فالمركز يكون عادة الأرض الأولى التي خرجت منها القوافل العسكرية لتحتل البلاد و تضمن وجود فائض تجاري مع أطرافها، أما الأطراف المهمة فهي تلك التي تملك من الموارد و اليد العاملة ما يغني تلك الإمبراطورية عن طلب أراض أخرى لمواردها و أسواقها، أما الأطراف الأقل أهمية فهي تلك التي احتلت لموقعها فقط دون تميز في مواردها و تعداد سكانها و حجم سوقها. و لأن حجم المواد المجلوبة و حجم السوق المستهدف في التصدير يؤثر في حجم الإمبراطورية وقوتها فإن تلك الإمبراطوريات تمايزت في قوتها بمقدار النجاح الذي حققته في السيطرة على تلك الأراضي و الأسواق. و لما وصلت تلك الإمبراطوريات لتلك الحالة من القبول و الهدوء فيما بينها صارت الهرمية الإقتصادية السياسية أكثر وضوحاً في المبراطوريات المبنية ( من مركز و طرف مهم و طرف أقل أهمية ) و التباين في الغنى أكثر جلاءً بين المركز و من يعيش فيه و الكيانات الطرفية الواضحة في تلك الإمبراطوريات، و هكذا استمر الوضع إلى أن استنزفت الأطراف و صارت أسواقها غير مستهدفة بقدر ماهي ضمانة للموارد و الهيمنة، إذ أن السوق الشحيحة في أموالها لا تطلب و إنما تعد اليد الرخيصة فيها وسيلة للحفاظ على رفاهية المعيشة للطبقة الحاكمة و الوسطى في الدول المتغلبة. 

قامت الحرب العالمية الأولى و الثانية بين القوى الغربية نتيجة لعدم القبول بالحصص التي حصلت عليها بعض الدول ( و خاصة ألمانيا اللتي كانت تطلب المزيد من الموارد المضمونة و الأسواق لتحقق لنفسها تلك الضمانة الطبقية و تمنع عنها القوى الأوروبية الأخرى التي تملك أوراقاً للضغط تبعاً لموقعها الجغرافي )، فلما تمكنت الدول الأكثر استعماراً (بريطانيا و فرنسا) من كبح جماح ألمانيا و إرغامها على القبول بحجم أصغر من قدراتها أحالت القضية للمستقبل دون أن تتمكن من حلها فعلياً نظراً لأن القوي لا يقبل بالتبعية والإنقياد لمن يراه نداً له أو أضعف منه. 

ويهمنا هنا أن نركز على نقطتين ..

١- وجود استقلالية و سيادة فعلية لتلك الدول الغربية عن بعضها البعض (أي عدم وجود عولمة بسوق مفتوحة و منظمة تراقب الدول لتفتح جماركها)، وبطبيعة الحال فإن هذه الحالة من الإستقلالية تعني أن احتمالية الإحتراب واردة جداً. 

٢- وجود طبقية حقيقية في الكيانات السياسية تتعامل بشكل أكثر حداثة مع الواقع كوسيلة للإبقاء على سيادتها و تميزها في ظل نشأة الديموقراطية الحديثة، هذه الطبقة الحاكمة و الأرستقراطية سعت إلى الحفاظ على أصولها الكثيرة في سوق رأسمالية عوض عن المحافظة على حالة الإحتكار التي كانت تمارسها إقتصادياً و سياسياً فعملت أصولها الأساسية من أراض إستراتيجية و مناجم و مزارع وقطاع مصرفي على الحفاظ على علويتها و مكانتها مع الطبقة البرجوازية الحديثة والتي سمح لها بالمنافسة سياسياً و المشاركة في اتخاذ القرار .. لكن هذه المنافسة بطبيعة الحال لم توصل البرجوازيين للثبات في أعلى الهرم كما كان للطبقة الحاكمة إنما مكنتهم من استعباد الشعوب الأخرى و تسخيرها و استخدام فائض الإنتاج و الربح لمجاراة الطبقة الحاكمة و منافستها. 

من النقطتين السابقتين يتبين لنا أن الكيانات السياسية في الغرب ظلت إلى حد ما هرمية صلبة بمرونة جيدة تحصلت عليها من احتلال الأراضي الأجنبية و تسخير عمالها و استنزاف مواردها لتغتني الشعوب الغربية باحتلالها فتصير طبقة متوسطة عريضة فوقها طبقة برجوازية تنافس الطبقة الحاكمة الأرستقراطية .. و يستثنى من ذلك فرنسا و ألمانيا التان قضتا على الطبقة الحاكمة تماماً و سمحتا لطبقة برجوازية أن تنشأ و تتصالح من العوائل الحاكمة في الدول الأخرى.