الأحد، 18 أكتوبر 2015

مسايسة الجماعات في الإسلام



مسايسة الجماعات في الإسلام 


عندما تتميز الأهداف و تتضح القيم ذات الأولوية فإن حركة الجماعة تسهل و كذلك التعامل مع الإختلافات و المصالح المتعارضة , ذلك أن إقناع الناس و تنظيمهم يصبح أمراً ممكناً متى ما تميزت القيم و ترتبت في أذهان الجميع بشكل متطابق . 

إن الدولة الإسلامية نجحت فيما لم تنجح فيه دولة أخرى ، متكئة على عقيدة رسخت قيماً تراتبيةً أعطت الفرصة للفرد و الجماعة لتحقيق هويتها و إرضاء دوافعها دون أن تُقطّع الجماعة السياسية و تُفَتت هويتها على الرغم الإتساع الجغرافي و التباين العرقي و تفاوت الموارد . 

إن الإسلام على رغم إدراكه لتميز الفرد في شخصيته و طموحه ينحو للتعامل معه على أنه عضو في جماعة قبل أن يكون كياناً مستقلاً وهو بذلك يركز على أهمية الواجبات الملقاة على كل طرف في المجتمع و على أهمية تحمل المسؤولية التي تعني بالضرورة تجاهلاً جزئياً للتمايز الفردي و للمصلحة الفردية لحساب مصلحة الجماعة ، و هذا لا يظهر في التعامل مع القبائل و العوائل الكبيرة ككيانات سياسية تتحمل عن أفرادها بعضاً من المهام فحسب ولكنه يظهر أيضاً في التعامل مع الأسر النووية المتكونة من زوج و زوجة و أبناء فيخاطبها ككيان واحدٍ متجاهلاً أيضاً بعض المصالح الفردية و التفاوت الطبيعي مقدماً وحدة الأسرة على مصلحة الأفراد المكونين لها . 

إن هذه الطريقة في التعامل قائمة على إدراك عدة حقائق : 

١- المصلحة العامة لا تتحقق إلا عند تقديمها على المصلحة الخاصة بالعموم . 
٢- المصلحة العامة قائمة على السخرة و الطبقية التي تقوم فيها جماعة عريضة عامة بالإنقياد لجماعة بسيطة متميزة .
٣- البشر كائنات إجتماعية تذوب في جماعاتها الصغيرة حد الإمتزاج .. و نظراً لأن ما ينطبق على الأفراد بالعموم ينطبق على الجماعات فإن مسايسة الجماعات الصغيرة و مخاطبتها خير من تجاهلها . 
٤- لا يوجد عرق يحتكر التميز و لا يظهر التميز إلا بمقدار الإنكشاف على المخاطر و بالتالي فإنه يُترَك للظروف ما لا يمكن أن يحله إلا الظروف . 

إن أي مكينة تعمل تحتاج للتميز الوظيفي الذي تنشغل به أطرافها حتى يصبح مجموع العمل منتجاً واحداً واضحاً مفيداً ، و نظراً لأن أطراف أي مكينة تختلف في مقدار أهميتها و مركزيتها في هذه العملية الجماعية فإن التراتبية تصبح هوية واقعية تميز أطراف المكينة عندما يكون النظر من الداخل ، و نظراً لأن المنتج النهائي يحتاج لتعاون هذه الأطراف و تناغمها عند العمل فإن هذا المنتج النهائي يحتاج لأن تطغى قيمته على قيمة التراتبية و المركزية في داخل هذه المكينة عند أطرافها . 

الحصول على التناسق و التناغم أمر لا يقل في أهميته عن أهمية التركيب الأول ، و نظراً لأن طلب المركزية أمر طبيعي و تميز الإمكانات لا يظهر إلا بالمواجهة فإن وصول الأفراد ذوو القدرة المتميزة لا يمكن أن يُحسَب و يُدار بل يُترك و يُراعا مراعاة المصلحة العامة ، و قس على ذلك الجماعات إذ هي في عصبياتها تتحرك تحرك الأفراد . 

إذا نظرنا إلى القواعد السابقة إستثنينا منها التميز الجنسي عند الجنسين إذ هي حقيقة خَلقية ثابتة ( و إن كانت تتعرض للتشكيك في كل مرة قلت الدواعي المادية للتمييز بين الجنسين ) ، ولكنها لا تلبث أن تظهر كلما تعرضت هذه الكيانات السياسية و الإجتماعية للتحديات التي تشكك الناس في جدوى ثقافتها الخاطئة ( غير العملية ) .


سأتكلم في عدة نقاط متسلسلة حسب الإتساع الديموغرافي و الأثر السياسي لكل نقطة عن طريقة تعامل الدين الإسلامي و نظرته لهذه القضاياالإجتماعية/السياسية : 

  • الرجل و المرأة و الأسرة النووية : 
يعطي الإسلام الرجل ميزات قانونية تفضله على المرأة و تمنحه القدرة على السيطرة عليها و تسخيرها لما يرى فيه مصلحة للأسرة ككل ، و كانت هذه القوانين ولا تزال محل انتقاد المجتمعات الأخرى و تجريحها و طعنها في هذا الدين إذ هي ترى فيها تمييزاً و استحقاراً لجنس كامل لا يمكن الإستغناء عنه و لكن ضعفه وقف حائلاً أمام مطالبته بما يرونها حقوقاً مشروعة ! 
إن وعي الشارع في الإسلام بالإختلاف الطبيعي القائم بين الجنسين ظاهر في تشريعه و ظاهر في تأكيده على الوظائف التقليدية المنوطة بكلا الجنسين ، فالمرأة التي كانت ولاتزال خلقتها متمحورة حول إبقاء النسل البشري و تنشئته تختلف في قدرتها و هشاشة بنائها النفسي و العقلي عن الرجل الذي عني منذ نشأته الأولى بإيجاد بيئة آمنه و وافرة و قادرة على استقراء المستقبل و الصمود في وجهه مما يجعل القوة الجسدية و النفسية و العقلية قرائن منطقية لازمة لوجوده.
إن تأييد الشارع لسيادة الرجل و تمكينه من مفاصل القوة في العلاقة قائم على إدراك حقيقتين مهمتين هما : ١- أن الرجل الذي تعوز جسده القيمة التي يحظى بها جسد المرأة يجد في نفسه الحاجة الدائمة لبذل جهده و ممتلكاته من أجل الحصول على هذه القيمة و الهوية المحترمة ، و بالتالي فإن إرخاء الحبل للرجل في موضوع العلاقة الزوجية لا يؤدي للإضرار بالمرأة على العموم إذ أن هذا يناقض خلقته و دوافعه الغريزية .  ٢- و كذلك فإن المرأة التي تجد في مجرد خلقة جسدها قيمة عالية و هوية مطمئنة لا تحتاج معها للعمل و التضحية تمتلك القدرة على تقييد النسل إذ هي تحتكر الإنجاب و تقرره ، و متى ما انفصلت قيمتها في نظر المجتمع عن الإنجاب إلتفتت عموم النساء عنه و انهار الكيان الأسري عموماً .. و نظراً لأن الشارع يفضل العقلية التائهة المتألمة التي تبحث عن الأنساق و تستقرئ المستقبل و تبني قيمتها على مقدار عملها و قوتها المجموعة فإنه قام بتمكين الرجل من المرأة جسداً و نفساً إذ أعطاه حق القوامه و زاد عليها بتشريع التعدد فصارت القاعدة في العلاقة الزوجية السيادة و الإتباع لا المساواة و التنازل . 
و لعل التصريح الواضح بما هو مشار إليهه تلميحاً في غير ما آية و حديث يؤذي أكثر مما يغري ، ولكن الحقائق تبقى صارخة في كل زاوية تشهد بأهمية تسخير الأنثى و تطويعها لزوجها ضماناً لمصلحة المجتمع عموماً و خوفاً على فنائه متى ما فقد الرجل مركزيته في العلاقة و علو رأيه و نظرته في عينها . فالرجل أقوى من المرأة و أعقل من المرأة و أهدا من المرأة ويحرص الشارع على تأكيد ذلك و تيسير أسبابه حتى يقع في نفس المرأة ذلك فتستسلم لزوجها حتى يكون جنتها و نارها إلا من أساسيات الدين التي تعرفها فلا تطيعه إن خالفها.

  • القبيلة و العرق كمكونات سياسية لمجتمع متنوع : 
من الخصائص الطبيعية للبشر الضعف ، و الضعف هنا يقصد به الجسد الذي يعجز عن تأمين عيشه و ضمان أمنه و تسخير بيئته دون الإنضباط في جماعة تتقاسم المهام و تنشط كروح واحدة .. هذه الحقيقة الإجتماعية تجعل الكيانات الساسية الكبيرة في صراع دائم مع هذه الجماعات الحيوية الصغيرة التي يستشعر الناس قيمتها المادية و المعنوية و كثيراً ما ينشطون لحمايتها على حساب الكيان السياسي الأكبر ، و لعل الشارع هنا رعى هذه الحقيقة و تجنب مصادمتها و حول الإهتمام عن تذويب المجتمع في قالب واحد صلب إلى تأكيد التساوي أمام الخالق و ربط المثوبة بدرجة التواضع و التراحم و توحيد مصدر التلقي (القران) و طريقة التخاطب (اللغة العربية) و تأكيد الهدف الإستراتيجي الواحد (عبادة الله وحده) .. 
إن الأسس الثلاثة المذكورة ( مصدر التلقي و لغة التخاطب و وحدة الهدف الإستراتيجي ) تعمل كعمود فقري يجمع أطراف الكيانات الإجتماعية المتباينة دون أن يقضي على هويتها الحيوية الضامنة لرزقها و أمنها و حركتها .. و هذاا يفسر إلى حد بعيد قدرة الدولة الإسلامية على جمع الأعراق التي لم  تجتمع قبل مع حفظه للكثير من خصائصها المميزة.

  • الطبقية الإقتصادية : 
لا يمكن لأي مجتمع أن ينمو مالم يسمح للقوي النافع فيه أن يسود و الضعيف الهش أن يتنحى ، و لعل المعاملات التجارية الحرة و قوانين السواق المنطبقة على الجميع من أنجع الوسائل لتمييز الكفاءات و تأكيد قيمة التنافسية . إلا أنها تعمل أحياناً على ترسيخ الطبقية بمعاملات تجارية تشرع للمتعال أن يستعبد الآخرين .. أهم هذه الوسائل ( الربا الذي يحمي صاحب رأس المال و يضمن تبعية المستدينين ، و القمار الذي يعتبر طريقة إستثمارية مضمونة المكسب قليلة النفع كثيرة الغبن ، و البيع على الآجل و ما يلزمه من تكهن يؤدي إلى مخاطر و هلكة ، و أخيراً كل الإستثمارات القائمة على استغلال الغرائز الآولية القوية في جسم الإنسان و التي تدفع المجتمع بعمومه نحو الأنانية و الجزع و الإسترقاق الغريزي ) 
إن الشارع في الإسلام يؤكد أهمية السوق في تمييز الصالح من الطالح و في قدرته على إبراز الكفاءات و حماية الحريات لكنه لا يغفل أبدا عن التنبيه على المسؤولية الإجتماعية و حدود نفع العقلية التجارية الأنانية إذ هي تتصادم مع تجارة الآخرة التي تستنهض النفوس لتجاوز الغرائز البسيطة و الشعور بما في المحيط من معجزات و آلام تستوجب منا تأملاً و عملاً . 

  • الطبقية السياسية :  
لا أحتاج لإعادة تأكيد أهمية توزيع العمل على نطاق سياسي مهما تدنت مركزية الفرد فيه و الجماعة نظراً لأن المجتمع كلما كبر تركب و كلما تعقد تركيبه و حسن تناغمه قوي و القوة السياسية مطلوبة طالما أن العقيدة و المبادئ الدينية الحاكمة مقدسة و يجب حمياتها ولا يمكن حمايتها إلا بقوة سياسية .. 
إن المجتمع كلما كانت أهدافه الإستراتيجية أهم في نظر العامة كانت عوائقه الإجتماعية الداخلية أضعف و العكس بالعكس ،  و نظراً لكون الإسلام لا يحرم الإنتماء القبلي ولا العرقي و إنما يحده بحدود المصلحة العامة فإنه من المتوقع أن تتمايز الجماعات في مركزها السياسي تمايز الأفراد ولكنه ليس من المقبول أن تصبح للعصبية قيمة تفوق قيمة الدجماعة ولا تنافسها ولا حتى أن تقوم بإثارة الضغائن بتأكيد التمييز و التعالي مما يقتل في النفوس الرغبة في التعاون ، و هذا كله منوط بالشعور بالمسؤولية تجاه هذه الرسالة السماوية و الإنتماء لها و الرضا بقضاء الله فيما قدر من ظروف سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ليس سوا ذلك حام للمجتمع .ے

الأربعاء، 8 يوليو 2015

بين الغزل والزواج



بين الغزل و الزواج 
كلما كانت العلاقة عابرة كانت المقاييس سطحية ..


يظهر في كثير من المقالات الغربية حديث عن مستوى الجاذبية الفردية لدى كل من الجنسين عند الحديث عن الغزل ، هذا الحديث يأتي في كثير من الأحيان على شكل تصنيف طبقي بناءً على المكانة في سوق التزاوج (الجاذبية الجنسية) و مع أن كثيراً من هذه التصنيفات تعطي للمظهر مكانة ظاهرة إلا أن الواقع الملموس يخون كثيراً من هذه التصنيفات مما يجعلها عاجزة عن شرح الواقع كما هو بتفصيله . 

الغزل و العلاقات العابرة تختلف في شكل تفاعلاتها الإجتماعية عن العلاقات الهادفة لبناء مستقبل أسري مستدام ، إذ الأولى موقف نفعي و غروري محض يهدف لإيجاد شعور بالمكانة الإجتماعية بناءً على الغرائز الأولية البدائية التي يخفى على الكثير تنكرها في شكل شهوة جنسية تتصف بالإندفاع الغريزي و غير العقلاني و الثانية موقف إستثماري معني بالناتج النهائي البعيد المترتب على هذه العلاقة .

العقل البشري عضو معقد يظهر تعقيده كلما قورن بالحيوانات الأكثر بساطة في خلقتها و حركتها ، و لعل أكثر ما يظهر من هذا التعقيد في شكل الدماغ في تركيبه التشريحي إذ هو مكون من أجزاء أكثر بدائية تظهر في الفقاريات ( جذع الدماغ - Brain stem ) و أجزاء أكثر تعقيداً تظهر في الثديات ( كالدماغ الأمامي و أجزاء من الدماغ الطرفي كالجسم الصلب) ، إلا أن ما يميز الإنسان هو دماغه الأمامي الكبير لدرجة أنه يغلف كامل الدماغ و تشكل قشرته نسبة كبيرة منه و بالأخص في الفص الأمامي المعني بالتعلم و الإستنباط و بناء الشخصية ، و بالتالي فإن تميز الإنسان عن الحيوان في تعامله و حركته يظهر بمقدار تميز الموقف الذي يخوضه الإنسان عن الموقف الحيواني وهو يتشابه أو يتطابق مع الموقف الحيواني البسيط كلما كانت الظروف متطابقة و كان سعي الإنسان لمعارضة غريزته المحببة أقل .. ( قشرة الدماغ الكبيرة عند الإنسان تعطيه القدرة على السيطرة على غرائزه البدائية بناءً على قدرة أخرى كامنة أيضاً وهي إستشراف المستقبل البعيد و البناء على التجارب البعيدة التي لم يخضها هو ولكنه سمع أو قرأ عنها و حاول بناء نسق عليها و استشف منها غاية و قيمة تفوق الحركة اليومية التابعة للغرائز البسيطة التي يريد الإنعتاق منها ) 

نظراً لأن الحيوانات كائنات أكثر بساطة فإن تفاعلها الإجتماعي أكثر بساطة بالضرورة و تزداد البساطة كلما انحدرنا في سلم الخلقة الحيوانية لنجد أبسط طرق التزاوج و أكثرها وضوحاً ، و بالتالي فإن عقد المقارنات يمكننا من فهم الطبيعة البشرية في أبسط حالتها و البناء على هذا الفهم بإضافة بعض العوامل التي تميز البشر فيتوجب حسابها .. 

إن هدف هذا المقال هو الوصول إلى نتيجة مفادها أن الغزل يمثل أبسط حالات التلاقي بين الجنسين و كذلك هي الكثير من النشاطات الإجتماعية المحببة للنفس والتي تعد ممارستها معلم من معالم المتعة البدائية عبر العالم أجمع ، و اعتماد المقال في تأكيده على هذه النقطة قائم على طبيعة اللذة المستقاة من هكذا حركة و تفاعل  بدائي ظل ثابتاً على مدا العصور وهو يتكرر لدا بقية الحيوانات إذ الإندفاع الطبيعي البدائي يتميز بقوته و بدائيته التي لا تحتاج لتلقين و تربية بل التربية تهدف في الأساس لكبح هذا الإندفاع و ضبطه ليخدم الصالح العام و المصلحه الفردية البعيدة أيضاً في مجتمع إنساني معقد . 

إن الغزل نشاط إجتماعي عفوي مبني على إنكشاف الجنسين لبعضهما البعض دون أهداف علمية أو مصلحية تجمعهم عدا المصلحة الطبيعية من التزاوج ، و بما أن هذه هي الحالة ( أي أن التزاوج هو المحور الأساسي في هذه العلاقة ) فإن بقية المواضيع تعد ذات أهمية نسبية لا يمكن اعتبارها إلا بمقدار إضافتها للقيمة التزاوجية للفرد . من هنا فإن القيمة المعتبرة للطرفين المقبلين على هذه العلاقة قيمة جنسية مستمدة أساساً من الإدراك اللا واعي لدى كل من الطرفين بقيمة جينات الطرف الآخر المستشفة من خلقته و تفاعله مع محيطه و أثره على ذلك المحيط ، فكلما كانت الخلقة دالة على الصفات المحببة اعتياداً في ذلك الجنس و كلما كان شكل التافعل مع المحيط محبباً كانت القيمة الجنسية أكبر . 

الحيوانات تختلف في بنيتها و طريقة تزاوجها إلا أن الثديات بالعموم تتخذ شكلين في التزاوج و في الأدوار الأبوية تجعل من تلاقيهما و تمييزهما لمكانتهما في سوق التزاوج مختلف ، فالثديات التي لا يتميز الذكر فيها عن الأنثى في بنيتة الجسدية كثيراً تكون وظيفته غير متميزة أيضاً عن وظيفة الأنثى بعد الولادة إذ أن خصائصه النفسية تشبه إلى حد بعيد خصائص الأنثى ( فهو قليل الإندفاع ، كثير الحذر و المراعاة ، قليلة قدرته على فرض السيطرة ) فتصير إليه الرعاية غالباً فيما تزداد الأنثى جموحاً و تعدداً إذ لا يملك الذكر القدرة على فرض سيطرته عليها ولا منعها من الرحيل ، و العكس صحيح إذ الحيوانات ذات التمايز الجسدي بين الجنسين يظهر على ذكورها الإندفاع و الإستعداد للصراع و الهلكة في سبيل الظفر ببقية النساء، و الذكر هنا غالباً ما يقوم بتحديد أرضه و تمييزها و فرض سيطرته على الإناث و الصغار فيها فتكون الخصال الجسدية و النفسية الدالة على القوة مثار فتنة عند الثديات هنا ، أما الثديات الأولى فإن البنية الجسدية لا تهم و تبقى الأهمية منصبة على الخصال النفسية الدالة على إستعداد الذكر للرعاية و المحافظة على النسل . 



الطيور و الثديات المتشابهة في الخلقة الجسدية بين الجنسين يقل فيها التعدد عموماً و إن كان الإلتزام بالعلاقة في هذه الحيوانات يختلف في مداه الزمني  إلا أن افتقار الذكر للميزة الجسدية يدفعه للإستثمار المادي و الإسترضاء أكثر مما يعطي الأنثى يداً علوية تسمح لها بالإنسحاب من هذه العلاقة إن أرادت .. ( قرد البنوبو الظاهر في الصورة العلوية مثال على ذلك )





الأنثى عند الحيوانات التي يظهر فيها تمايز جسدي تعد من ممتلكات الذكر إذ هي أرضه التي يزرع فيها بذوره و درجة وفائها وانقيادها له يتعلق كثيراً بمدى قدرته على فرض نفسه و إظهار تميزه في ذلك المحيط البيئي و قدرة الإنثى من ثم على الخروج من هذه العلاقة أو حتى رغبتها تكون في الغالب قليلة ، الذكر هنا يحتفظ بقدرته على التعدد و التعدد هنا يتناسب طردياً مع قوته .. ( قرد الشمبانزي في الصورة العلوية .. يكثر القتال بين ذكوره و تظهر ملكيته على نسائه فهو يعد مثالاً واضحاً على ذلك ) 


إن الطبيعة البشرية في خلقتها المتباينة بين الجنسين تدل على الإختلاف النفسي الذي بدوره يدل على إختلاف الأدوار و على إستعداد كل من الجنسين لتقبل الخصال الجسدية و الشكلية كدلائل على الأهلية النفسية للقيام بالدور المتوقع و أي من الخصال الشخصية و المادية المستنبطة من الحوار العقلاني لا يمكن لها أن تؤثر كثيراً في نفسية المغازل إذ أن الميول الجنسية غريزية بسيطة مندفعة لتقبل الصور الظاهرة كدلالات عميقة منطقية تدفع الفرد للإستثمار في هذا الجسد الذي يبدو ظاهراً في قدرته على حمل الخصائص الجينية المطلوبة القادرة على البقاء ، أما معاني الوفاء و الديمومة في العلاقة الزوجية بين الفردين فهي في الغالب مفاهيم أكثر تعقيداً تدل على الإستثمار البعيد و الإستبصار و الضبط إذ أن المشاهد من الأنثى في الفرقة الأولى من الثديات أنها أميل لتعديد العلاقة الجنسية بعد ضمان النسل عند الذكر الأول  ولا تلتزم بالمكوث معه إلا لضعف يخيفها من الإنتقال غالباً فيما يكون الذكر في الفرقة الثانية أميل للتعدد بقدر قدرته على فرض السيطرة ، و كذلك فإن مفهوم رعاية المصلحة الإجتماعية و الرابطة العرقية هي مفاهيم عقلانية أكثر تعقيداً وهي أظهر في الإنسان منها في الحيوان إذ هي تعارض الميل الطبيعي لدا كل من الجنسين في اختيار الجينات الأفضل (الزوج الأكثر جاذبية) . 

و مع أن البشر يختلفون فيما بينهم و يصعب وضعهم جميعاً في إطار واحد إلا أن وجود نسق يجمع العموم يجعل من المنطقي تعميم القاعدة و قبول الحالات الشاذة كما هي ، فلنقم بطبع هذه الصورة الحيوانية على الحالة البشرية لنوجد نسقاً في طريقة التعامل و الإلتفات عند المغازلة إذا ما استبعدنا العامل الديني (العقدي) في الضبط و استبعدنا الدافع العقلاني و التقليدي في التزاوج .. العوامل الجاذبة في الأنثى تكون ( المظهر الدال على الخصوبة ، و المظهر الدال على البراءة ـ وجه طفولي- ، و المظهر الدال على الضعف -القصر و النحافة- ، و الشخصية الدالة على الضعف و العجز ، و الشخصية الدالة على التعاطف مع محيطها ) هذه المظاهر التي توجد خلقةً و يسهل تصنعها كثيراً عند الغزل تطغى على الخصال الأخرى التي يمكن احترامها ( كالعقلانية و العلم، و التدين ، و المكانة الإجتماعية ، و الدخل الذي قد يكون عاملاً سلبياً أحياناً ) و قدرة هذه العوامل على الجذب مستمدة من الطبيعة البشرية التي تميز الخلقة الذكورية عن الأنثوية لتستمد قيمتها من معاني السكون و العجز و الخصوبة التي تغري الذكر فتشعره بإمكانية زراعة بذوره و مراقبتها و رعايتها في أرضية خصبة و مطواعة ، أما العوامل الجاذبة في الذكر فتكون ( المظهر الدال على القوة -الطول و العرض و العضل- ، و المظهر الدال على الخبرة ، و المظهر الدال المكانة و السيطرة على المحيط -هذا يعني أن الذكر يجب أن يتميز بالضرورة إذ الذكورة ليست فيها قيمة ذاتية ولكن القيمة في الرجولة التي تراها المرأة في تميز الذكر بسيطرته على محيطه-، و الشخصية الدالة على الخبرة و الثقة ) هذه المظاهر كلها تلحظ فيها البدائية إذ المال إختراع بشري غير معدود نظراً لكونه عاملاً ثانوياِ يدل على تعقل الأنثى المنجذبة التي تختار بعقلها دون عاطفتها مصلحتها المادية تحسباً لظروف سيئة أو رغبة في المفاخرة ، بعكس المظهر الدال على المكانة و السيطرة الذي بطبيعة الحال يمكن تصنعه بالمال لكنه -مظهر السيطرة و التميز- هو المؤثر في سوق التزاوج إذ يعطي هيبةً و شعوراً أنثوياً بالعجز أمام هذا الذكر المسيطر فترغب في الإستسلام له و تتمنى لو كانت الأرض الوحيدة الذي يزرعها فتعلو مكانتها تبعاً لمكانته .

تبعاً للتحليل لسابق نستنتج : 
١- أن كلا الجنسين سطحي عند المغازلة إذ المغازلة غريزة حيوانية بسيطة ناتجة عن رغبة المخلوق في إبقاء نسله ، و نظراً لكون الطبيعة بخلقتها الإلهية تدفع باتجاه بقاء الأقوى و الأصلح فإن هذا التفاعل الإجتماعي يبقي و يقدم الأنثى التي يدل مظهرها على أكبر قدر من الخصوبة و اللين فيما يقدم الذكر الذي يدل مظهره على أكبر قدر من القوة و السيطرة على المحيط .
٢- أن المجتمعات التي تعد المغازلة و العلاقات الجنسية خارج الزواج عادة مقبولة تزيد من الإهتمام بالمظاهر إذ أن المغازلة تفاعل غير عقلاني أو عميق ، و نظراً لأن مظهر الذكر يتأثر كثيراً بقدرته على تمييز نفسه و إظهار سيطرته على محيطه و بقية الذكور فإن الغزل يدفع باتجاه الطبقية و الإستعباد في سبيل حصول البعض على كل المعروض من الإناث ، وفي هكذا مجتمع يكون الإهتمام بالمظهر عند الإناث أمر حيوي و محوري إلى الحد الذي تصبح معه حاجات المستضعفين الضرورية أمراً ثانوياً لا يجب التركيز عليه سياسياً .


٣- أن تعقد المجتمعات الإنسانية يجعل من سبل إظهار القوة و السيطرة عند الرجل تتغير و تتكيف ولكنها لا تزال في أصلها تحقق نفس المعاني و تؤدي لبناء طبقي هيكلي صلب ( القوي فيه يستعبد الضعيف ) فسواءً إستخدمت الوظيفة أو المال أو العصبية العرقية في التمييز و إظهار القوة فإن الأصل يظل واحداً ، فالشاب الذي كان يستخدم عضلاته لتمييز نفسه أمام الفتيات أيام الشباب هو نفسه الرجل الذي يستخدم مركزه الإقتصادي و الإجتماعي لتمييز نفسه أمام الفتيات عند الكبر .
٤- أن الإنتشار في التزاوج طبيعة ذكورية أكثر منها أنثوية تبعاً لما ذكر من خصائص التمايز الجسدي بين الكائنات ، إلا أن الذكر عندما يلزم إجتماعياً بتحمل المسؤولية عن نسائه و أطفاله (مملكته) فإن رغبته في المحافظة على نتائج إستثماره تجعل من إندفاعه للتعدد يقل ، و على العكس فإن المسؤولية عندما تُعَوَم و توضع الأنثى في موازاة الذكر فإن قدرته على السيطرة على الأرض التي إستثمر فيها (الأنثى) تقل و بالتالي فإن قدرته على توقع نتائج إستثماره و الإجتهاد في تحصيله يضعف فتقل رغبته في البقاء في هذه العلاقة الخاسرة و يقل معها إحترام الأنثى له فتكتسب من الخصال الذكورية بالتدريج ما يصعب معه تمييزها عنه نفسياً على الأقل .. 
٥- أن عاطفة الأبوة عند الذكر و عاطفة الأمومة عند الأنثى و الرغبة المتبادلة في إغمار كل من الطرفين الآخر بمشاعره المستمدة من دوره دليل على العذرية وقلة العلاقات السابقة إذ أن النفس البشرية غير منفصلة عن غريزتها الجنسية بل هي متممة للغرس و ضامنة للنسل ولا يتم الإنفصال حتى تتعدد العلاقات فتضعف العاطفة المميزة و تصبح العلاقة الجنسية شكل واضح من أشكال السيطرة و التعالي .

ملحوظة .. الأنثى التي لقيت رعاية أبوية جيدة تميل للتعلق بمن يشبه أباها من الذكور فهي ساكنة و متعاطفة و مقدرة لحضوره و سيطرته فيما تميل الأنثى التي نشأت في بيئة بعيدة عن أبيها إلى الثورة و المنافسة و عدم الإنقياد إلا للقسوة الظاهرة الفاتنة وكذلك الذكر الذي يتعلم إحترام الأنثى و رحمتها و الرغبة في حمايتها من تجربته مع أمه و رغبته في العثور على حضن كحضنها و إستشعاره لضعفها. 

الأحد، 5 يوليو 2015

الدولة و الناس

الدولة و الناس 
نقاط تختصر فلسفة التاريخ في نشوء الدول و الحضارات و دوران الأحداث بين الأمم المتجاورة : 

١- التعدي هو الأصل في الطبيعة البشرية ..
 السبب يعود لكون البشر في خلقتهم الأولية دون هداية أو هدف ضعاف طامعون و جزعون يشغلهم طلب الأمان المادي و استمرار النسل ولا يتميزون فيما بينهم إلا بمقدار استعدادهم للتنافس فيما بينهم لنيل المكانة والشرف و المركزية في النسيج الإجتماعي ، أما غير ذلك من معاني الخلود و التناغم مع الخلق و خالق الخلق فإنها مفاهيم دخيلة تزيد وعي الإنسان تركيباً و تعقيداً فتتغير حركته الإجتماعية و السياسية و من ثم مصيره . البشر لذلك بطبيعتهم الأولية ينفرون من المشاركة و تطغى على أذهانهم الشكوك في كل قوة فاعلة خارج ذواتهم ولا يعد التسلط في ذهن الإنسان الأولي (البدائي) إلا وسيلة من وسائل طلب البقاء إما بالقضاء على عدو محتمل أو بزيادة موارد الدخل (المادية و البشرية) ولذلك فإن طبيعة البشر الأولية إقتضت ألا ينضبط البشر عادة في عصبية إلا إذا كانت هذه العصبية أقدر على التعدي و تحقيق المصلحة وهي تزول بزوال هذه المصلحة و تتسع باتساعها ، ولذلك فإن بعض المواقع الجغرافية بمواردها تبرر زيادة سكانها و قوة عصبيتهم و تفوق تنظيمهم الذي دفعتهم إليه هذه الطبيعة فيما تبرر بعض المواقع الجغرافية الأخرى سبب ضعف جماعة أخرى و قلة عددها و تفرق عصبيتها و بساطة هيكليتها السياسية و الإجتماعية إلا أن هذا العامل الطبيعي هو عامل واحد بدائي يظهر تأثيره بشكل واضح كلما كانت دوافع البشر القاطنين بدائية مقتصرة على الرزق و الأمان و يخبو تأثيره كلما تجلت عوامل أخرى أكثر تعقيداً تدفع باتجاه تجاوز هذه العوامل أو تسخيرها فلا يلبث هذا العامل (الجغرافي الطبيعي) أن يتراجع أثره بمجرد بروز العامل الداخلي البشري المعقد مما يعيد شكل البناء السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي .

ملحوظة .. المجتمعات الأولية (البدائية) التي يقل انفتاحها على المجتمعات الخارجية تتصرف بعدائية أيضاً من منطلق الشك المحض و الحرص المحض دون قدرة على رؤية التشابه و المصالح المشتركة ولا تتعلم هذا المنطق إلا بالتدريج مع ازدياد الخلطة و اتفاق المصلحة .



٢- الحضارة منتج ديني ..
 إن قدرة البشر المحدودة على ضبط بعضهم البعض بواسطة الموارد الحسية تجعل بناء الدولة أمراً شاق جداً يتطلب أزمنة عديدة تتراكم فيها الكثير من العادات و العصبيات و القيم التي تساهم في التنظيم الإجتماعي لتحقيق المصلحة الإقتصادية و السياسية المرجوة مما يعني بالضرورة أن الحضارة التي تمثل الدرجة الأعلى في التناغم الإنساني و الحس القيمي و الوعي بالمسؤولية تجاه الغير يستحيل بلوغها بالإعتماد على الوسائل الحسية فحسب إذ هي منتج قيمي خيالي يستحث الأفراد طواعية لتحقيق هدف إستراتيجي مشترك يتجاوز قدرات السلطة المنفردة  .. البناء الحضاري لذلك تحرك بشري داخلي يعتمد في أساس نشأته و تطوره على المورد البشري و فكره أكثر من المورد المادي و وفرته إذ هو وعي جماعي يحرك الناس و يحفز الجميع لبلوغ صورة جميلة سياسية و اجتماعية و اقتصادية و فنية مما يوجد نتيجة مختلفة لهذا البناء السياسي و إن كانت جغرافية أرضه و موارده لم تتغير مع تغير الزمن . هذا المنتج الأخلاقي و التنظيمي المقصود يختلف عن المنتج المادي الناتج عن السعي الحضاري لجماعة من الجماعات إذ أن المنتجات المادية يمكن نقلها و تقليدها و الإضافة عليها في كثير من الأحيان تبعاً للحاجة المادية و ظروف الحياة بعكس التركيبة السياسية و الحركة العلمية و الإقتصادية و الإجتماعية الناشئة عن الحركة البشرية المنتظمة ككل تجاه هدف حضاري ضابط فإنها حبيسة المجتمع الذي آمن به و ضحى لأجله . 


  



٣- العقيدة المؤثرة بضاعة مفيدة في الضبط يحرص السياسي على إبقاء الشكل المطلوب منها ولا يهاجمها ..
 هذه القاعدة تفسر سعي الإنسان لاستحداث عقيدة كما تفسر سعيه لتحوير العقيدة القديمة و الإستفادة منها ..
 (( الفرد الذي لا يؤمن بشيء لا يتحرك لشيء لا يحس بمنفعته المادية القريبة )) ذلك أن الدين يعطي للحياة معنى يتجاوز المادة الملموسة و المتعة القريبة و يعطي للأفعال قيمة خالدة في ذهن العامل مما يزيد استعداد الفرد للتضحية و تحمل الصعاب و الرضى بالقليل و يقلل في النفس معاني الحرص المادي و تبعاتها من طبقية و تفاخر ، هذا الإستعداد للإنضباط الذاتي المستمد من الوعي بالصور الجمالية يكسب الدين قيمة لا تنكر في عقل رجل السياسة إلا أن هذه السلطة في الدين مرهوبة أو مبغوضة نتائجها إذ هي تفوق سلطة رجل السياسة لذلك فإنه غالباً ما يسعى لتحوير الدين و ضبطه أكثر من القضاء عليه حفاظاً على دافع التضحية و الهوية القيمية المميزة ولا تعد الصور المرسومة للعامة من خلاله أكثر من مجسمات خيالية غبية في نظر السياسي لكنها تكتسب قيمتها من خلال قدرتها على تحريك الناس و ضبطهم ولا تختلف عن الأصنام في شيء بل يمكن تجسيد هذه الآلهة على شكل أصنام إن وجد السياسي في ذلك مصلحة ولو حتى زادت الخرافة اللا منطقية حولها فإن المنتج يبرر ذلك الفعل أيضاً ومن هنا تصبح صناعة الخرافة تجارة مربحة سياسياً ولا يلبث التراكم العقدي الخاطىء ( تراكم الخرافة ) كثيراً حتى ينتج مجتمعاً متصلباً تقليدياً منبتاً عن واقعه متغافلاً عن حقوق و حريات أفراده في سبيل المصلحة السياسية القريبة التي لا يمكن لها أن تدوم كثيراً .. إن تراكم الخرافة بهذا الشكل يورث الجهالة و عدم القدرة على الربط المنطقي إذ تصبح الحوادث كلها مرتبطة بإرادة إله أو عدة آلهة دون سنن كونية ثابتة بل هي إرادة الآلهة المنفصلة التي يجب إرضاءها بين حين و آخر تجنباً للحوادث و طلباً للإستقرار و المنفعة الدنيوية ولن يجد القارئ صعوبة في تصور الضعف في هذه الهيكلية السياسية العقدية .



٤- أعظم بناء حضاري بناء عارض يظهر على حدود هويات حضارية متصارعة ، و الدولة نسيج عارض أيضاً يتحلل بتحلل العوامل الخارجية و الداخلية ..
 إن أي بناء إجتماعي بشري هو بناء عارض ( كما هي المركبات العضوية ) يقوى في عصبيته و تركيبته السياسية بقدر تميزه و تصارعه مع العصبيات الخارجية كما أن أي رسالة حضارية هي رسالة مبهمة تظهر تفاصيلها بقدر اختلافها عن الرسالات المجاورة المصارعة لها ، و نظراً لأن الأصل في الطبيعة البساطة و التحلل و الوصول لحالة السكون الذي تتساوا فيه جميع الوحدات في خمول دون تفاعل فإن أي مركب مادي أو عضوي أو اجتماعي هو نتيجة تدخل ما أورث تصادماً و تفاعلاً نتج عنه ذلك المركب المنتظم المعقد وما أن يضعف هذا "التدخل" حتى تعود هذه المركبات إلى طبيعتها الأولية .. التدخل قد يكون عاملاً جغرافياً و سياسياً طارئاً غير محسوب اعتياداً نتج عنه تغيرٌ في الوعي العام و المزاج العام للمجتمع ، أو قد يكون رسالة سماوية تحدت الوعي العام و الأخلاق العامة مما أدى لحركة بشرية مغايرة للحركة القديمة ، ولو أنا تصورنا تصادماً قوياً للرسالات الحضارية (الدين) لكان الناتج أشبه بحركة الموج المتصادم التي ينتج عنها بناءً متراكماً هو حاصل اندفاع الموجتين و لحظة اصطدامهما وتعاليهما تمثل أعلى درجات التحضر الناتجة عن أعلى درجات الأندفاع و التضحية و التعقل و الإستفادة من كل ما هو مفيد . 



٥- يتبنى المجتمع الهوية الأقدر على حماية و تحقيق المصالح المادية عندما تكون الهوية التمثيلية غير ممكنة ..
 إن الحاجة الطبيعية للرزق و الأمان تسبق الحاجة لتمثيل القيم و المعاني ولذلك فإن إحساس الجماعة بعدم توفر الخيارين جميعاً ( ضمان الحاجات الضرورية للبقاء و تمثيل المبادئ و القيم و الصور الجمالية ) يحيلها للقبول بالخيار الأول و تجاهل الهوية التمثيلية طلباً للبقاء ، و ما أن تستقوي الجماعة و تستشعر إمكانية تعبيرها عن نفسها و قيمها فإن استعدادها للهلكة يصبح ظاهراً إذ الهلكة العامة للجماعة أصبحت مستبعدة و من ثم فإن النفوس (المزاج العام) انتقلت في حركتها من دافع البقاء و الإحتماء إلا دافع التعبير و التمثيل (الرسالة الحضارية) وهذان الموقفان في أثرهما على التركيبة السياسية و المزاج الإجتماعي متباينان أشد التباين و نتيجتهما على القدرة الإبداعية تختلفان بقدر اختلاف النفسية الواثقة المندفعة عن النفسية المنكفئة المعتذرة . 



الأحد، 10 مايو 2015

الدولة .. مواقف فلسفية

الدولة .. مواقف فلسفية عبر التاريخ

تشكل مراحل نشوء الدول و تطورها المواقف المتباينة المفكرين المعاصرين لهذه الدول عبر التاريخ ، و لعل نظرة سريعة لمواقف الفلاسفة الغربيين تعطي لمحة عن هذه المواقف المتباينة تباين أعمار الدول و أرواح الشعوب ، و لعل هذه النظرة تبين للقارئ كذلك ملامح التمايز بين الحضارة الغربية و الإسلامية في مواقف المفكرين و العلماء من الدولة و واجباتها و التزامات أفرادها .. 


نظرية العقد الإجتماعي : 
هي نظرية قائمة على أساس تسليم المجتمع قدراته الدفاعية و الأمنية لكيان سياسي واحد يقوم بكفاية الناس في أمنهم نظير مقابل ما حتى يتفرغوا لتحقيق مصالحهم و تأمين رغباتهم



١- تومس هوبز .. يعد رأس قائمة المتكلمين بهذه الفلسفة إذ سبق بها غيره حين طرح على نفسه هذا السؤال في أواخر القرن السادس عشر ( لماذا يجب علينا أن نخضع لسلطة خارجية ؟ ) 
قام هوبز بتصور نفسه يعيش حياة ما قبل المجتمع المتحضر ليقارن تلك الحالة بالمكاسب الإجتماعية المتحققة من الإنقياد لسلطة عليا مستقلة ، سمى تلك الحالة السابقة لمرحلة التعايش الإجتماعي بالحالة الطبيعية أو الأصلية (state of nature) .. هذه الحالة يسعى فيها الفرد لتحقيق مصلحته الذاتية دون اهتمام كبير لمصلحة الآخرين فيتميز ذلك النسيج الإجتماعي بالتفكك و الإعتداء و سيادة المتربص و نظراً لأن الإنسان لا يتمكن في مثل هذه الحالة من بناء أي شيء ذا بال أو تحقيق أي مصلحة كبيرة دون ترك ما يغليه و تعريض ممتلكاته للخطر فإن المجتمع بأكمله يتميز بعدم الإستقرار و عدم القدرة على الإستمرار ، فيكون من الطبيعي وقتها سعي الناس لإيجاد نظم إجتماعية و قواعد حاكمة تظبط الجميع و توكل لشخص ما ذا قوة مستقلة مهمة حفظ هذا النظام و قواعده و العادات التابعة له حتى تتحقق المصلحة العامة ولو أدى ذلك لشيء من طغيان هذه القوة المستقلة نظراً لأن ذلك من طبيعة البشر .



٢- جون لوك .. الفيلسوف الإنجليزي من فلاسفة عصر النهضة الذي يقول (( إذا سألك سائل متى بدأت تفكر فيجب أن تكون الإجابة .. عندما بدأت أحس )) كان من منظري الفلسفة التجريبية مع ديفيد هيوم و إلم يكن يلغ قيمة الدين و التدين كما فعل ذاك بل ترك له حيزه و دوره .. إستخدم لوك نفس منهجية هوبز و انطلق من منطلقاته لكنه اختلف معه في شكل الحالة الطبيعية أو الأصلية فقال بأنها تحتوي على أسس أخلاقية تجعل ذلك النسيج الإجتماعي ممكن تحمله و كان أشد اعتراضاً على السلطة المطلقة عندما تكون غاشمة .


٣- جون جاك روسو .. كان يرى أن التجمع حصل لتعقد وسائل الإنتاج و حاجتها لكثرة اليد العاملة وهو بذلك يعارض سابقيه إذ يرى أن الحالة الطبيعية/ الأصلية كانت حالة هادئة مستقرة و مكتفية ، و أنه لولا هذا الإجتماع المنتج لما ظهرت ثقافة المقارنة ( الحسد و الطمع و المفاخرة .. ) و لما ظهرت الملكية الخاصة التي قسمت الناس و حرفتهم عن طبيعتهم الطاهرة عندما كانوا على حالتهم الأصلية . 



الفلسفة النفعية : 
هي فلسفة أخلاقية تقول بأن القيمة الأخلاقية للعمل مستمدة من قدرة هذا العمل على تحقيق المنفعة العامة ، هذا يعني بالضرورة أن قيمة العمل غير مستمدة من ذاته بل هي قيمة مستمدة من شكل الناتج النهائي المترتب من ذلك العمل (consequentialism) .. أشهر مقولة دالة على هذه الفلسفة (( الغاية تبرر الوسيلة )) 


من هذا المنطلق و تبعاً لهذه الفلسفة فإن الصواب و الخطأ يعدان أمران نسبيان غير مرتبطين بعمل معين بل هما الناتج النهائي لعمل ما أدى لمنفعة عامة أكسبت العمل تبعاً لذلك معنى .. إشتهر بهذا القول ( جون ستيوارت ميل و جيريمي بينثام



فلسفة النفعية (العواقبية) نقيض الأخلاق “الواجبة” بالضرورة إذ أن الآخيرة تعمد إلى الحكم على العمل (السلوك) من خلال أخلاقيته المنفصلة عما ينتج عنه .. و هذا برأيي هو تجسيد لاختلاف الأولويات فالأول يقدم مصلحة الجماعة الكبيرة (السياسية) و الآخر يقدم مصلحة الفرد و الجماعة الصغير (الإجتماعية) و حرية أفرادها متجاهلاً العالم الخارجي  ، و لا تعكس هذه المواقف ميول الأفراد فحسب و لكنها تعكس ميول المجتمع في الدولة ككل تبعاً للشعور العام بالخطر الخارجي من عدمه و الوفرة المادية من عدمها فيسمح لكثير من العادات الإجتماعية بالمرور دون مسائلة حتى يصبح الظرف الإجتماعي المريح غير مستقل فتنتقل العقول للنظرة السياسية و الأخلاقية السياسية ( أي أخلاق العقلية النفعية في مقابل الأخلاق المجردة ) 



الفلسفة المثالية في السياسة : 
المثالية في الفلسفة هي مذهب قائل بأن حقيقة الكون أفكار و صور عقلية و هي بذلك تؤمن بأن العقل مصدر للمعرفة بعكس المادية ، ولا يهمني هنا تأييد هذه الفلسفة أو نقضها بقدر ما يهمني توضيح المنطق القائم على تصور جمال مطلق و حق مطلق لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال العقل المنفصل ، و النتائج المترتبة على تصور حقيقة مطلقة و جمال مطلق يسعى إلى تحقيقه الفرد و المجتمع عوض عن فكرة الإدارة الحكيمة لما هو موجود لتحقيق المصلحة العامة التي بتحققها تتحق القيمة و يستمد العمل مشروعيته و جماله .. 



هذه النظرة انساقت على المجال السياسي عند الفلاسفة الذين انطلقوا من هذه المنطلقات ، أبرزهم ( جورج فيلهلم هيجل ) الذي كان يرى بأن الدولة في حد ذاتها غاية معبرة عن مجموعة القيم و الصور الجمالية التي يجب أن يفني الفرد نفسه من أجلها كونها الفاعل العالمي و الراسم للحضور الدولي لحياة الملايين من البشر الذين انقضوا فكان هذا الكيان السياسي بهيئته نتاج عملهم و تضحياتهم ،  فبدل أن تكون الدولة وسيلة تتحقق بها مصلحة الجماعة كما عند أصحاب العقد الإجتماعي أو الفلسفة النفعية تصبح غاية يفنى الفرد من أجل بقائها و بقاء تاريخها و صوره و يصبح التعدي و الصراع على هذه الهوية بغض النظر عن المصلحة أمر مبرر و مفهوم .  

الحقيقة أن موقف كلاً من هؤلاء الفلاسفة قد يكون معبراً عن مرحلة حضارية (عمراً حضارياً) مختلفة تمر بها مجتمعاتهم ، فمرحلة الوسيلة “هوبز” التي لم تصل فيها الدولة بعد إلى درجة من القوة و الغنى و التاريخ تكون ظاهرة فيها فكرة العقد الإجتماعي و النفعية أحياناً نظراً لهشاشة البنيان السياسي و قيمه و صوره الجمالية و تخوف أفراده على المصالح الفردية التي اجتمعوا من أجلها ، أما المرحلة الثانية “هيجل” فهي ناشئة عن وضوح الصور الجمالية و القيمية و العادات السياسية لمجتمع غالب أصبحت هذه الصور معه و بنيانها السياسي تشكلان قيمة تفوق قيمة الغاية التي من أجلها تشكلت الدولة .. 
تبدأ الدولة من نسيج إجتماعي مفكك يحرص أفراده على مراعات عاداتهم الإجتماعية الضيقة و مصالحهم المستقلة حتى تتكرر تجارب الإخفاق المناطقي و القبلي في وجه التحديات الخارجية لتنهار معها العادات الإجتماعية المجزئة و تذوب في عادات سياسية جامعة متكئة على أفكار سياسية و اقتصادية أكثر عمقاً و صور عقدية أكثر وضوحاً تؤدي لبنيان سياسي أكثر إستقرار و نضج .. هذا البنيان السياسي الناجض يعتمد على مجموعة العادات السياسية و الإجتماعية التي راكمها المجتمع بالتدريج مع تكرر تجاربه المؤلمة حتى صار منقاداً بنفسه دون أن يكون هناك داع لتدخل رجل السياسة بعمق و دون أن يكون هناك حاجة لمصادرة حريات الأفراد الذين يقومون هم ذاتهم بتقديم الكثير من التنازلات حرصاً على ضمان المصلحة العامة التي يجدون بها ضماناً لمصالحهم و ضماناً لاستمرار الهوية المقدسة في نظرهم .. 
إن شكل الدولة المسلمة الأولى عكست هذا الإتجاه و سارت بعكس التسلس التاريخي الطبيعي لنشوء الدول عندما قام النبي عليه الصلاة و السلام ببناء دولة ذات ملامح سياسية و اجتماعية واضحة في ظرف عقدين من الزمن و أعطاها قيمة عقدية تفوق القيمة المادية المتحققة من التنظيم السياسي فكان في هذه الروح وسيلة لخلاص العرب من ظرفهم الجغرافي و الديموغرافي الصعب .. السياق الطبيعي لنشوء دولة يكون عادة بتوفر الأرض الخصبة المتسعة التي تسمح بإنتاج فائض يمكن تداوله و استجلاب مصلحة أخرى بديلة عنه من خلال التبادل التجاري إن كان في داخل ذلك القطر أو خارجه ، هذا كله بالتدريج يظطر المجتمعات لتبني عادات اجتماعية و سياسية معينة تساعد على تحقيق المصلحة العامة المتوفرة شروطها الطبيعية فتكون الدولة وسيلة و حلقة من سلسلة الأحداث الطبيعية المتعاقبة و كيان يرتكز أساساً على منطق المصلحة الإقتصادية و يبني ثقافته حولها ولا تتعارض عقيدته المبنية معها بل تعضدها و تكون منتجاً آخر من منتجات ذلك الظرف و هذا بالظبط ما يجعل العقيدة الإسلامية مختلفة في نشأتها و هويتها السياسية و طريقة تفاعلها عن بقية العقائد ، فهي عقيدة متجاوزة للواقع السياسي المفتت حالمة بمستقبل جامع مختلف تنهار فيه الهويات العرقية و المناطقية و تتخلص فيه النفوس من التعلق بالمادة إلى التعلق بكيان واحد مستقل منفصل مهيمن يجعل الجميع سواسية كأسنان المشط رغم التباين المعيشي و التنظيمي و رغم اختلاف القدرات و المفاخر ، و لذلك فإن هذه العقيدة الجديدة أعطت معنى آخر للتحرر سوغت للأعرابي الإنقياد دون الشعور بالمهانة و جلعت البناء الإجتماعي الإسلامي المثالي المكتفي داخلياً و خارجياً غاية تفوق الغاية البشرية الطبيعية الداعية للسيادة و التعالي .. هذا كله جعل الكيان السياسي في الإسلام و إن كان كياناً مراعياً للمصلحة العامة و طالباً لها إلا أنه غاية في حد ذاته تكتسب أساساته القداسة كام هي مخرجات عمله ولولا ذلك ما تمكن العرب من تجاوز واقعهم الجغرافي القاحل المفتت ولولا ذلك ما كانت الكيانات السياسية في الإسلام متشابهة إلى حد بعيد تشابه تدين أصحابها و لما استطاع الفكر الإسلامي أن يشهد تنمية مستمرة رغم تباعد الأرض ..

كل الأفكار المطروحة طرحت بشكل أو بآخر في الفكر الإسلامي و لكن تمايز الظروف سمحت بانحسار الفكر عن حيز السياسة العملي و تباين الدور للدين جعل من المبادئ السياسية و الإجتماعية علم لا ينفصل عن العلوم الدينية بل هو باب من أبواب الفقه في الدين !! .. من هنا ظرت كلمات كـ ( مقاصد الشريعة ، و المصلحة العامة ، و المصالح المرسلة .. ) و من هنا كان التحايل الإجتماعي و الديني على الظروف القبلية و العرقية المجزئة باحتكار العادات المقبولة سياسياً و اجتماعياً حتى تكون السلطة السياسية محدودة إلا حد ما و القدرة على التجاوز والبغي أضعف ..

متى تهيأت الظروف لترسخ عادات سياسية تحقق المقاصد الشرعية على أتم وجه فإن ذلك الكيان السياسي يصبح كياناً راشداً 

الخميس، 16 أبريل 2015

مقفة مع كارل ماركس


وقفة مع كارل ماركس 
( إشكاليات النظام الإقتصادي المعاصر .. عبقرية التشخيص و إشكالية الحل  )


المشاكل الأساسية في النظام الرأسمالي بحسب ماركس هي كالتالي : 


١- العمل الحديث يعطي شعوراً بالإغتراب عن الواقع 
( يقول كارل ماركس .. إن العمل ينبغي له أن يكون ذا منتج ملموس مؤثر في المحيط الإجتماعي حتى تكون له قيمة معتبرة في نفس العامل ، و نظراً لكون الأعمال المؤسسية الكبيرة تجزء العمل إلى الحد الذي يفقد معه العامل الشعور بقيمته في إنتاج المنتج النهائي فإن العمل الحديث يعطي شعوراً بالاغتراب عن الواقع ) 

٢- العمل الحديث غير مضمون 
( في الرأسمالية العامل مادة مستهلكة يمكن التخلي عنها أو تقليلها متى ما توفر البديل التقني أو ارتفعت الأجور .. هذا الشعور لدى العامل باللا مركزية يفقده الإحترام الذاتي ليصبح كياناً متعلقاً ضعيفاً ) 


٣- يتلقى العمال أجراً قليلاً في مقابل اغتناء أصحاب رأس المال 
( كان ماركس يرى بأن أصحاب رأس المال على استعداد دائم لاستغلال حاجة الطبقة العاملة بتخفيض الأجور دون تعاطف طالما أن ذلك يحقق المزيد من الأرباح .. سماه “Premitive Accumulation” و رآه شكلاً من أشكال السرقة نظراً لكون التاجر لا ينتج شيءً غير كسبه لفارق القيمه بين تكلفة الإنتاج و سعر السلعة النهائي و طالما أن العامل لا يحصل على دخله تبعاً لسعر السلعة بل تبعاً لقدرة التاجر على استغلال حاجته و وفرة اليد العاملة سواه فإن ذلك يعد سرقة ) 

٤- النظام الرأسمالي نظام غير مستقر 
( النظام الرأسمالي بطبيعته نظام تضخمي تتخلله سلسلة من الإنهيارات المتتابعة و التي يمكن توقعها و إن كان السياسيون و الإقتصاديون يزعمون غير ذلك .. نظراً لأن الرأسمالية ناتجة أساساً عن القدرة على إنتاج فائض يمكن تسويقه على نطاق واسع فإن طبيعة الإنسان الطامعة و الجزعة تدفعه للتجميع و التنافس على الفائض في مقابل من لا يحصل إلا على الفتات فتتكون طبقة تملك أكثر مما تحتاج بكثير و طبقة أخرى لا تجد وظيفة تمكنها من الحصول على احتياجاتها نظراً لأن المصانع تستغني عن اليد العاملة بالآلة ! و من هنا يصبح الإغتناء لعبة تكهن و مقامرة تؤدي للنمو و التضخم و الاستثمارات خاطئة الناتجة تؤدي للإنهيار في نهاية المطاف و هكذا تتكرر الدورة )

٥- الرأسماليك سيئة لأصحاب رأس المال 
( يقول ماركس .. أصحاب رأس المال ليسوا سيئين لكن حرصهم على جمع المال و الترفع الإجتماعي تبعاً لذلك يجعل علاقاتهم الإجتماعية مبنية على أساس المصلحة المادية الملموسة مما يفقدها الصدق و المتعة الحقيقية ليصبح أصحاب رأس المال حبيسي أدوارهم الإجتماعية المفروضة عليهم تبعاً لمكانتهم التي قررها السوق و الصراع السياسي .. سماه commodity fetishism ) 


إشكاليات الرأسمالية كما يراها ماركس هي في حقيقتها إشكالات إجتماعية و سياسية ناتجة عن حالة النظام الإقتصادي الحديث المبني على ((الوفرة)) ، فالطاقة و الآلة عندما حلا محل اليد العاملة جعلا ضروريات الحياة موفورة و القدرة على احتكارها أمر ميسور فصارت قيمة اليد العاملة محصورة في الأعمال الترفيهية و السياحية و الخدمية التي تعد بطبيعة الحال قطاعات هامشية في الغالب مما دفع بقطاعٍ كبيرٍ من المجتمع إلى هامش معادلة التأثير السياسي و أوكل لمجموعةٍ بسيطةٍ كل القرار السياسي و مصادر القوة اللازمة له .. 

“الشعور باللا مركزية و لا مركزية العمل هما النتيجة الحتمية لولادة نظام إقتصادي ينتج أكثر مما يحتاج و يحتاج للقليل من الأفراد كي ينتج ما يحتاج”

التجارة بطبيعتها حالة من التطفل على عمل الغير و سعيٌ لاجتزاء قيمة العمل النهائية ، لذلك هي حالة مذمومة عند العاملين دائماً وهي شكل من أشكال الإستعباد تظهر بتعالي صاحب رأس المال و تذاكيه ، إلا أن تعقد المنتج النهائي و الحاجة للتخصص جعلا من التجارة فناً خطرً يجب التركيز فيه و تحين الفرص التي تختلف باختلاف المكان و الزمان و المكانة الإجتماعية أو التخلي عنها و عن المتاجرة تماماً في حال رغب الفرد في الرقي بقدراته و التنافس في سوق العمل الذي يعد أكثر ضمانة و أكثر تطلباً لحضور الذهن و تفريغ الوقت .. ظهور الآلة و توفر الطاقة حولا نظام السخرة القديم القائم على القوة و العصبية إلى نظام سخرة جديد قائم على قدرة جماعة بسيطة على احتكار الأصول و موارد الإنتاج و مع التنكر لهذا الوضع القائم بتأميم الأصول و موارد الإنتاج فإن ذلك لا يقضي على السخرة و العبودية إنما يغير وسائل التحصل عليها ، و نظراً لأن الدافع الأممي و المصلحة العامة تأتي غالباً بعد الدافع الفردي و المصلحة الفردية عند عامة الناس فإن هذه الوسيلة في الترقي الإجتماعي و الرفاهية تشل الحركة الإبداعية و تضعف القدرة التنافسية .

عدم استقرار النظام الرأسمالي هو من قدرته على إنتاج الفائض في بنية مجتمعية معقدة جعلت من الصعب التنبؤ بوجود استثمارات غير مجدية و هدر عام إذ العقلية البشرية مبنية على التعميم و قدرتها على استشراف الإستثناء ضعيف و سعي السياسي لإرضاء الرعية يغلب جانب التغافل على جانب الحذر .

إن حرية التصرف في موارد الإنتاج و تملك الأصول يعد حقاً مكفولاً و حالة طبيعية في تعامل البشر نشأت مع نشوء المجتمعات ، إلا أن التفاوت في القوة و الغنا الذي أوجدته الطاقة جعلت حريات البشر الأساسية مثار شك و عرضة للمساءلة إذ يمكن استخدامها لاستعباد الاخر و التطفل على ناتج عمله فاندفع الناس لذلك يحلمون بإيجاد مجتمع يتشارك الفائض و يحترم الفراغ ولا تستعبده التنافسية و الخوف المستمر .. 

إن إشكاليات الرأسمالية لا يمكن تجاوزها بالتنظيم إلا جزئياً ، فموارد الإنتاج العامة التي يحتاج لها الجميع لا يمكن السماح بتخصيصها نظراً للقوة السياسية التي سيمتلكها صاحبها كما أن أساسيات المعيشة من ماء و غذاء أساسي و صحة يعد في ذهن الجميع من مسؤوليات الدولة نظراً لأن هلاك الإنسان من شح في ظل وفرة هذه المواد يعد ظلماً ، إلا أن ازدياد الفارق في الدخل مع ظهور الإستغلالية و التباين الجارح في المعيشة يفتك في النسيج الإجتماعي و يذهب الشعور بالإنتماء و المسؤولية مع الحرية التجارية المسموحة .. إن هذه الحالة لا يتم تجاوزها إلا بخصلتين اثنتين تعقب خصلة الإعتماد على الذات وهي القناعة و الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين بالتصدق و الإهداء و عدم التعالي ، أي محاولة لتجاوز مسؤولية الأفراد تجاه إخوانهم في المجتمع توجد حلولاً حالمة لا تحقق نتائج إيجابية كبيرة ذلك أن توزيع الموارد و الخدمات لا يتم دون حرص الأفراد على تعميم المكاسب الوطنية و الأممية و ذلك لا يتم دون شعور الأفراد بامتداد هويتهم إلى غيرهم ليضعف ذلك جانب الجزع و يحل مكانه هوية حاضرة واضحة المعالم قوية الأركان منتشرة بانتشار أفراد المجتمع .   

السبت، 11 أبريل 2015

وقفة مع ماكس فيبر



وقفة مع ماكس فيبر 

ماكس فيبر عالم الإجتماع الألماني تكلم عن الأسس الإجتماعية و الثقافية لنشوء الرأسمالية التي حققت نتائج إيجابية في المجتمعات الأوروبية ، قام فيبر باختصر هذه الأسس الثقافية و الإجتماعية في الحركة البروتوستانتية الكالفينية فتكلم عن ما يميزها عن الشكل الكاثوليكي للديانة المسيحية ليظهر كخصوصيتها الثقافية التي سمحت بنشوء الرأسمالية و ما تبع ذلك من إنجازات علمية و اقتصادية و سياسية .. هذه المقالة بالتالي عبارة عن طرح مختصر لفكرته و نقد لاختزاله . 

كانت النظرة العامة ترى أن نشوء الرأسمالة ناتج عن التطور التقني و ظهور الطاقة ((البخارية)) التي يمكن تسخيرها لحاجات الناس لكن فيبر كان يرى أن هذا عَرَضٌ ناتج و أن السبب الأساس لنشوء الرأسمالية هي تلك الأفكار الدينية الحديثة ((البروتوستانتية)) التي ظهرت في الدعوة الكالفينية .

تميزت البروتوستانتية الكاثوليكية التقليدية كما يرى فيبر بالتالي : 

١) البروتوستانتية تتركك تشعر بالذنب .
بعكس الكاثوليكية التي تمكنك من الإعتراف بالذنب و الحصول على الغفران لتشعر بالراحة و الرضى عن النفس فإن البروتوستانتية تقول بأن الله هو وحده القادر على غفران الذنوب و أن الله لا يُظهِر قراره إلا يوم الحساب ، و بالتالي فإن هذا الموقف الديني يشعر الفرد بالقلق الدائم و الحاجة المستمرة لإثبات استحقاق هذه النفس للخلاص و العلي عند خالقها .

٢) الله يحب العمل .
الشعور بالذنب و القلق الدائم الناتج عن عدم القدرة على استخلاص المغفرة في الدنيا تجعل الفرد البروتوستانتي مهووساً بعمله إذ هو يؤمن أن العمل وحده و المنفعة التي يحققها الفرد للآخرين وحدها القادرة على احتواء الذنوب و استجلاب المغفرة . لهذا فإن أوقات الراحة و الإحتفال توجد بشكل أقل في المجتمعات البروتوستانتية نظراً للشعور بأن الله لا يحب الراحة و أن العمل وحده هو طريق الخلاص.

٣) كل الأعمال مقدسة.
بخلاف النظرة الكاثوليكية التي تحصر العمل المقدس في الأنشطة الكنسية تقول البروتوستانتية بأن العمل كله مقدس حتى التجارة و فروعها مما زاد الشعور الفردي بأهمية العمل و الإتقان.

٤) المجتمع هو المهم وليست العائلة.
بالنسبة للمجتمعات الكاثوليكية فإن العائلة هي كل شيء تقريباً بعكس البروتوستانتية التي تنظر للعائلة على أنها سببٌ من أسباب الأنانية و الفساد المضر بتناغم المجتمع و بالتالي فإن الأعمال المتجردة و التطوعية يجب أن تصرف للمجتمع لا للأسر التي قد يعمل تضخمها على امتصاص قدرات و موارد المجتمع ( لا تفضل القبيلة على الأمة ).

٥) ليست هناك معجزات. 
البروتوستانتية و نتاجها الرأسمالي لم يعطيا للمعجزات قيمة بل تحولت العقلية معها من الإنبهار بالعالم إلى المنطق العملي كما يسميه فيبر The Disenchantment of the world . و بالتالي فإن التنمية ليست قدراً إلاهياً خفياً يقضي بتحول الحالة العامة للمجتمع دون جهد بشري عاقل مدرك بل هي نتاج التفكير المنطقي المتسلسل و الصادق و نتاج العمل المؤسسي المنظم على مدى سنوات طويلة . بدون الإيمان بالمعجزات يتحول الناس للبحث العلمي ليجدوا الإجابة على أسئلتهم القديمة مما يؤدي لقفزات تقنية و تنمية إقتصادية و إجتماعية حقيقية .

هذه النقاط الخمس بحسب ماكس فيبر كانت الأعمدة الضرورية لنشوء الرأسمالية ، فبعكس نظرة كارل ماركس الذي كان ينظر للدين على أنه أفيون يزرع في عامة الناس القبول للعبودية في النظام الرأسمالي كان فيبر ينظر للرأسمالية على أن نشأتها أساساً كطبقية تفصل الرأسماليين عن الطبقة الكادحة كانت بسبب انتشار هذه المعتقدات وليس العكس.

هذه النظرة مع ما تحمله من منطق تفشل في تفسير تخلف بقية المجتمعات إقتصادياً إذ هي تضفي على الجانب الإجتماعي و الثقافي كل القيمة و تغفل الجوانب الجغرافية و الديموغرافية و السياسية . المجتمعات الأخرى عموماً في نظر فيبر تأسرها المعجزات و تفتقد للشعور بالذنب و الحاجة لإثبات استحقاقها للخلاص و تجد في الكيانات الأسرية وسيلة لقبول السرقة من المجتمع و تبريرها كما أنها تحب الإحتفال الآني عوضٍ عن الإستثمار في المستقبل . فيبر و أتباعه ينظرون للمجتمعات الأخرى على أنها تتخلف ثقافياً و اجتماعياً في تركيبتها و أن الوسيلة الوحيدة لدفع هذه المجتمعات للنهوض هو بغزوها فكرياً و تشكيكها في صحة تركيبتها الإجتماعية و المنطلقات الدينية التي بنت نفسها عليها دون إدراك لسبب تكون هذا النظم الإجتماعية و هذه البنية الفكرية في الغرب تحديداً دون سواه ! 

الطبيعة الخصبة و التضاريس الصعبة للقارة الأوروبية سمحت بنمو عدد سكانها و تعدد كياناتها السياسية و تشكل ثقافتها على أساس بنية تعددية مرنة في رقعة جغرافية صغيرة ، و ما أن وجدت هذه القارة وسيلة للإنعتاق من محيطها الجغرافي المحصور - تبعاً لاتساع رقعة العالم الإسلامي القريبة - بالتحول لقارتين قريبتين مليئتين بالموارد الطبيعية و الأراضي الخصبة حتى تحولت تلك الأفكار و الصور و الطموحات المكبوتة إلى مشاريع سياسية يمكن تحقيقها و تطويرها على الطريق لبناء الصورة المثالية لهذه الحضارة التي لا زالت حبيسة العقول . تميز هذه الصور لدى عامة الناس و التحول التدريجي للمنطق العملي في فهم الدين أتى مع المكاسب المادية الحاصلة من الإنتشار الجغرافي ، فالمجتمع الذي يشعر بإمكانية بناء مستقبله و يجد في نفسه صورة واضحة واعية لما هو جميل وما هو قبيح و ما هو صحيح و ما هو خاطئ تتحول نفوس أفراده عن التعلق بالمعجزات و يميل بالتدريج لتقديم قيمة العمل على العبادات المحضة و يصبح التنوع في تجاربه عائقاً أمام القبول  بالمسلمات القديمة و يجد في الإنتشار و التجربة و المعاينة وسيلة أصح و أنفع لبناء التصورات الصحيحة عن الوجود و الأهداف و القيم. 

لا تعوز المجتمعات الأخرى أسساً ثقافية و اجتماعية قادرة على بناء حاضر إقتصادي متطور ، واقع المجتمعات السياسي و مصادر القوة المحدودة لديها بالمقارنة مع الغرب تقف في وجه تحقيق ميول إجتماعي عام لاكتساب الخصال الحميدة و بناء هيكلة ثقافية و اجتماعية متناغمة تنطلق نحو تحقيق الصورة الجمالية في أذهان عامة الناس . لن تحقق المجتمعات الأخرى تنمية حقيقية بمجرد الشك في عاداتها الإجتماعية و الثقافية الخاطئة و لكنها تحتاج لأن تشعر أنه بإمكانها في ضوء هذا الواقع السياسي أن تجسد رسالتها الحضارية الأصيلة فتكون مصدراً علمياً و عملياً عوض عن كونها كيان مستقبل و مقلد. 

بالعودة لهذه الأسس الخمسة فإن الإنسان يجد أن المجتمعات المسلمة كانت تتذبذب في تمسكها بها و شعورها بقيمتها و انطلاقها منها تبعاً للمرحلة الحضارية و عمر الدولة ، فالحقيقة هي أن الحركات الدينية و إن كانت تظهر كمعتقدات مجردة إلا أنها تتأثر بعمر الحضارة القائمة و قدراتها السياسية و مصالحها فلا تعدوا تلك القيم عن كونها حالة مزاجية عابرة تزول بتغير تلك الظروف القائمة .. الدين يعد عاملاً مؤثراً بكل تأكيد لكنه يتأثر بالمحيط الموجود كذلك . 

(( لا تقدم العقيدة الإسلامية أي وسيلة لضمان المغفرة في الدنيا كما أن قيمة العمل تصبح ظاهرة في المجتمع المسلم كلما كانت البنية السياسية و الهدف السياسي الإستراتيجي متناغم مع عقائد الناس ولا يعد ميول الناس للذوبان في القبيلة إلا وسيلة للخلاص من الواقع السياسي الكئيب أو نتيجة لاتساع الرقعة الجغرافية الجافة التي يصعب إدارتها و استصلاحها ، و قس على ذلك تراجع العقلانية و التفكير المنطقي في وجه التعلق بالمعجزات عندما تقل الموارد و تقل معها حيلة الناس في تغيير واقعهم )).