السبت، 11 أبريل 2015

وقفة مع ماكس فيبر



وقفة مع ماكس فيبر 

ماكس فيبر عالم الإجتماع الألماني تكلم عن الأسس الإجتماعية و الثقافية لنشوء الرأسمالية التي حققت نتائج إيجابية في المجتمعات الأوروبية ، قام فيبر باختصر هذه الأسس الثقافية و الإجتماعية في الحركة البروتوستانتية الكالفينية فتكلم عن ما يميزها عن الشكل الكاثوليكي للديانة المسيحية ليظهر كخصوصيتها الثقافية التي سمحت بنشوء الرأسمالية و ما تبع ذلك من إنجازات علمية و اقتصادية و سياسية .. هذه المقالة بالتالي عبارة عن طرح مختصر لفكرته و نقد لاختزاله . 

كانت النظرة العامة ترى أن نشوء الرأسمالة ناتج عن التطور التقني و ظهور الطاقة ((البخارية)) التي يمكن تسخيرها لحاجات الناس لكن فيبر كان يرى أن هذا عَرَضٌ ناتج و أن السبب الأساس لنشوء الرأسمالية هي تلك الأفكار الدينية الحديثة ((البروتوستانتية)) التي ظهرت في الدعوة الكالفينية .

تميزت البروتوستانتية الكاثوليكية التقليدية كما يرى فيبر بالتالي : 

١) البروتوستانتية تتركك تشعر بالذنب .
بعكس الكاثوليكية التي تمكنك من الإعتراف بالذنب و الحصول على الغفران لتشعر بالراحة و الرضى عن النفس فإن البروتوستانتية تقول بأن الله هو وحده القادر على غفران الذنوب و أن الله لا يُظهِر قراره إلا يوم الحساب ، و بالتالي فإن هذا الموقف الديني يشعر الفرد بالقلق الدائم و الحاجة المستمرة لإثبات استحقاق هذه النفس للخلاص و العلي عند خالقها .

٢) الله يحب العمل .
الشعور بالذنب و القلق الدائم الناتج عن عدم القدرة على استخلاص المغفرة في الدنيا تجعل الفرد البروتوستانتي مهووساً بعمله إذ هو يؤمن أن العمل وحده و المنفعة التي يحققها الفرد للآخرين وحدها القادرة على احتواء الذنوب و استجلاب المغفرة . لهذا فإن أوقات الراحة و الإحتفال توجد بشكل أقل في المجتمعات البروتوستانتية نظراً للشعور بأن الله لا يحب الراحة و أن العمل وحده هو طريق الخلاص.

٣) كل الأعمال مقدسة.
بخلاف النظرة الكاثوليكية التي تحصر العمل المقدس في الأنشطة الكنسية تقول البروتوستانتية بأن العمل كله مقدس حتى التجارة و فروعها مما زاد الشعور الفردي بأهمية العمل و الإتقان.

٤) المجتمع هو المهم وليست العائلة.
بالنسبة للمجتمعات الكاثوليكية فإن العائلة هي كل شيء تقريباً بعكس البروتوستانتية التي تنظر للعائلة على أنها سببٌ من أسباب الأنانية و الفساد المضر بتناغم المجتمع و بالتالي فإن الأعمال المتجردة و التطوعية يجب أن تصرف للمجتمع لا للأسر التي قد يعمل تضخمها على امتصاص قدرات و موارد المجتمع ( لا تفضل القبيلة على الأمة ).

٥) ليست هناك معجزات. 
البروتوستانتية و نتاجها الرأسمالي لم يعطيا للمعجزات قيمة بل تحولت العقلية معها من الإنبهار بالعالم إلى المنطق العملي كما يسميه فيبر The Disenchantment of the world . و بالتالي فإن التنمية ليست قدراً إلاهياً خفياً يقضي بتحول الحالة العامة للمجتمع دون جهد بشري عاقل مدرك بل هي نتاج التفكير المنطقي المتسلسل و الصادق و نتاج العمل المؤسسي المنظم على مدى سنوات طويلة . بدون الإيمان بالمعجزات يتحول الناس للبحث العلمي ليجدوا الإجابة على أسئلتهم القديمة مما يؤدي لقفزات تقنية و تنمية إقتصادية و إجتماعية حقيقية .

هذه النقاط الخمس بحسب ماكس فيبر كانت الأعمدة الضرورية لنشوء الرأسمالية ، فبعكس نظرة كارل ماركس الذي كان ينظر للدين على أنه أفيون يزرع في عامة الناس القبول للعبودية في النظام الرأسمالي كان فيبر ينظر للرأسمالية على أن نشأتها أساساً كطبقية تفصل الرأسماليين عن الطبقة الكادحة كانت بسبب انتشار هذه المعتقدات وليس العكس.

هذه النظرة مع ما تحمله من منطق تفشل في تفسير تخلف بقية المجتمعات إقتصادياً إذ هي تضفي على الجانب الإجتماعي و الثقافي كل القيمة و تغفل الجوانب الجغرافية و الديموغرافية و السياسية . المجتمعات الأخرى عموماً في نظر فيبر تأسرها المعجزات و تفتقد للشعور بالذنب و الحاجة لإثبات استحقاقها للخلاص و تجد في الكيانات الأسرية وسيلة لقبول السرقة من المجتمع و تبريرها كما أنها تحب الإحتفال الآني عوضٍ عن الإستثمار في المستقبل . فيبر و أتباعه ينظرون للمجتمعات الأخرى على أنها تتخلف ثقافياً و اجتماعياً في تركيبتها و أن الوسيلة الوحيدة لدفع هذه المجتمعات للنهوض هو بغزوها فكرياً و تشكيكها في صحة تركيبتها الإجتماعية و المنطلقات الدينية التي بنت نفسها عليها دون إدراك لسبب تكون هذا النظم الإجتماعية و هذه البنية الفكرية في الغرب تحديداً دون سواه ! 

الطبيعة الخصبة و التضاريس الصعبة للقارة الأوروبية سمحت بنمو عدد سكانها و تعدد كياناتها السياسية و تشكل ثقافتها على أساس بنية تعددية مرنة في رقعة جغرافية صغيرة ، و ما أن وجدت هذه القارة وسيلة للإنعتاق من محيطها الجغرافي المحصور - تبعاً لاتساع رقعة العالم الإسلامي القريبة - بالتحول لقارتين قريبتين مليئتين بالموارد الطبيعية و الأراضي الخصبة حتى تحولت تلك الأفكار و الصور و الطموحات المكبوتة إلى مشاريع سياسية يمكن تحقيقها و تطويرها على الطريق لبناء الصورة المثالية لهذه الحضارة التي لا زالت حبيسة العقول . تميز هذه الصور لدى عامة الناس و التحول التدريجي للمنطق العملي في فهم الدين أتى مع المكاسب المادية الحاصلة من الإنتشار الجغرافي ، فالمجتمع الذي يشعر بإمكانية بناء مستقبله و يجد في نفسه صورة واضحة واعية لما هو جميل وما هو قبيح و ما هو صحيح و ما هو خاطئ تتحول نفوس أفراده عن التعلق بالمعجزات و يميل بالتدريج لتقديم قيمة العمل على العبادات المحضة و يصبح التنوع في تجاربه عائقاً أمام القبول  بالمسلمات القديمة و يجد في الإنتشار و التجربة و المعاينة وسيلة أصح و أنفع لبناء التصورات الصحيحة عن الوجود و الأهداف و القيم. 

لا تعوز المجتمعات الأخرى أسساً ثقافية و اجتماعية قادرة على بناء حاضر إقتصادي متطور ، واقع المجتمعات السياسي و مصادر القوة المحدودة لديها بالمقارنة مع الغرب تقف في وجه تحقيق ميول إجتماعي عام لاكتساب الخصال الحميدة و بناء هيكلة ثقافية و اجتماعية متناغمة تنطلق نحو تحقيق الصورة الجمالية في أذهان عامة الناس . لن تحقق المجتمعات الأخرى تنمية حقيقية بمجرد الشك في عاداتها الإجتماعية و الثقافية الخاطئة و لكنها تحتاج لأن تشعر أنه بإمكانها في ضوء هذا الواقع السياسي أن تجسد رسالتها الحضارية الأصيلة فتكون مصدراً علمياً و عملياً عوض عن كونها كيان مستقبل و مقلد. 

بالعودة لهذه الأسس الخمسة فإن الإنسان يجد أن المجتمعات المسلمة كانت تتذبذب في تمسكها بها و شعورها بقيمتها و انطلاقها منها تبعاً للمرحلة الحضارية و عمر الدولة ، فالحقيقة هي أن الحركات الدينية و إن كانت تظهر كمعتقدات مجردة إلا أنها تتأثر بعمر الحضارة القائمة و قدراتها السياسية و مصالحها فلا تعدوا تلك القيم عن كونها حالة مزاجية عابرة تزول بتغير تلك الظروف القائمة .. الدين يعد عاملاً مؤثراً بكل تأكيد لكنه يتأثر بالمحيط الموجود كذلك . 

(( لا تقدم العقيدة الإسلامية أي وسيلة لضمان المغفرة في الدنيا كما أن قيمة العمل تصبح ظاهرة في المجتمع المسلم كلما كانت البنية السياسية و الهدف السياسي الإستراتيجي متناغم مع عقائد الناس ولا يعد ميول الناس للذوبان في القبيلة إلا وسيلة للخلاص من الواقع السياسي الكئيب أو نتيجة لاتساع الرقعة الجغرافية الجافة التي يصعب إدارتها و استصلاحها ، و قس على ذلك تراجع العقلانية و التفكير المنطقي في وجه التعلق بالمعجزات عندما تقل الموارد و تقل معها حيلة الناس في تغيير واقعهم )). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق