الأربعاء، 31 أغسطس 2016

عودة الإقطاع (٢)




عودة الإقطاع (٢) 
 غاية السوق الوصول لحالة من السكون حيث تترسب جميع الأصول للقاع .. حيث يوجد الأثرياء 


عندما استنفذت القوى الغربية قدرتها على على التمدد (لم تعد هناك أراض كثيرة صالحة للإحتلال و الإستعمار) و انتهى بها الحال لخوض حربين عالميتين فيما بينها أودت بحياة الملايين إنتقلت القوى المنتصرة من التفكير بمنطق الدولة الوطنية المستقلة بقوميتها للتفكير بنظام عالمي جديد يحكم العالم و يتجاوز القوميات و الحدود الجمركية، تكون لتلك الدول بشركاتها مكان مميز سيادي ولمن تبعها من دول العالم إستقلال شكلي و تبعية إقتصادية و عسكرية متوغلة، هنا ظهرت الحرب بين الرأسمالية و الشيوعية. 

تم التسويق لهذين المشروعين على أنهما مشروعان متباينان في أصلهما الفلسفي و مقاصدهما المستقبلية، و مع أن التنظير يختلف إلا أن التنظير كثيراً ما يصطدم بالواقع فيجرده من رونقه و يعيده لأصله، و أصل الصراع بين الغرب الرأسمالي و الشرق الشيوعي صراع على النفوذ و الموارد و الأسواق، و مهما اختلفت البنية السياسية و درجة الحرية المكفولة في التعاملات التجارية فإن الأصل يبقى هذا. 
عندما تتعارض المصلحة الإقتصادية للأفراد في المجتمع (و خصوصاً رجال الأعمال) مع المصلحة العامة السياسية وعندما يحتاج عموم الناس للدفع القوي من قبل الحكومة المركزية لمنافسة القوة الأجنبية فإن الحكومة ستسعى لتقييد حريات الناس السياسية و الإقتصادية و الفكرية و ستستخدم كل الوسائل لتبرير تدخلها و تقييدها، بل قد تسمي هذا التعدي حماية للحرية و دعماً للديموقراطية !! 

عندما كانت أمريكا و الدول الغربية تواجه روسيا و الصين في كوريا و فيتنام لم تكن تهدف لزيادة درجة الحرية الممنوحة لعموم الناس في تلك الدول على رغم ما كانت تزعم، بل كانت تسعى لتقليل سلطة تلك الدول و قوانينها على أراضيها حتى تتمكن هي و الدول الغربية من شراء أصول تلك الدول و احتكارها و تحويلها لسوق إستهلاكية، فتصير بطبيعة الحال أراض تابعة للنفوذ الغربي و بعيدة عن المعسكر الشرقي. و العكس صحيح، فالدول الشرقية ( الإتحاد السوفيتي خصوصاً ثم صين ) لم تكن تسعى لرفع الطبقات المستضعفة في تلك الدول الأجنبية عنها عن طريق نشر الشيوعية إنما كانت تسعى لاحتلالها و جعلها تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر لها. لكن الذي دعم أمريكا و المعسكر الغربي أنها كانت تملك من الموارد و الشركات و الحركة الإبداعية ما يسر لها أن تستميل الكثير من الدول وتدفع بها للإنغماس في فلكها، كما يسر لها أن توضح بمقدار الرفاهية التي وفرتها لمجتمعها مقدار العبودية التي كانت شعوب الشرق (و خصوصاً الإتحاد السوفيتي و الصين) تعيش فيها، فانتهى الصراع لصالحها و ظن الناس أن حرية السوق و الديموقراطية هي التي انتصرت وهي التي يجب أن تنشر للناس حتى تعم الرفاهية جميع العالم، متجاهلين أن حرية السوق و الديموقراطية عوارض لوجود سببين أساسين وهما قوة العصبية و اتفاق المصلحة الخاصة مع العامة

النظام العالمي الجديد كان نظاماً سطره الغرب بعيد الحرب العالمية الثانية و ظل يتمدد بكل اتجاه ليشمل الدول الأخرى كلما نجح الغرب في تحقيق نمو وتمدد إقتصادي على حساب المعسكر الشرقي، وهكذا تمددت تلك القوة الغربية إلى حد سقط معه الإتحاد السوفيتي و صارت معه أمريكا القطب الأوحد الذي يدور بفلكه كل شيء، فالمال العالمي صار يمر من خلال بنوكها، و المعلومات الرقمية تمر من خلال معالجاتها و حواسيبها، و الطرق البحرية محمية ببارجاتها و سفنها، و هكذا صارت مع حلفائها الغربيين تحكم العالم بدعوى حماية العالم و نشر الديموقراطية، و مع حكمها للعالم ضمنت مركزية شركاتها و أولوية عمالها و مواطنيها في الفرص الوظيفية و السوق العالمية. 

البرنامج العالمي الذي دعت إليه أمريكا العالم جعلها تدفع فاتورة باهضة على المدى البعيد، فأمريكا كانت تطلب من الأسواق الناشئة و الدول المنافسة فتح أسواقها و إزالة التعريفات الجمركية و تيسير نقل البضائع و المعلومات و الناس بدعوى الحرية و سيادة الأكفأ و أن ذلك يؤدي لتساوي الفرص إلى حد ما و إبقاء الأنفع للناس !! دون أي التفاتة لمسؤولية الحكومات وما تنتظره منها شعوبها .. وهي :
١- التمثيل ( التمثيل العرقي و العقدي الثقافي ) 
٢- و الحماية ( رعاية المصلحة العامة للمجتمع )  

هنا كانت تتعامل أمريكا و الدول الغربية مع الدول الأجنبية عنها بنفاق و خداع، فالتفوق العلمي و الصناعي و الوفرة المالية التي تملكها تعطيها ميزة على الدول الأخرى مما يجعل العولمة تعمل لصالحها لترسخ هيمنتها، و بطبيعة الحال فإن الدول الأخرى عندما تقاوم أو تنجح في المنافسة فإن أمريكا و الدول الغربية تلجأ للحيل القذرة و التدخل السياسي و العسكري فتثير الفوضى في تلك البلاد و تعيد الكفة لصالحها. لكن دوام الحال من المحال و طول الهيمنة الغربية مع الرفاهية التي دامت كثيراً أضعفت العصبية الجامعة و زادت من التنافس الداخل على حساب التنافس الخارجي.

الطبقة البرجوازية صارت بالتدريج أكثر حرصاً على الإبقاء على علويتها و نفوذها من الإهتمام لمصلحة البلد ككل واستخدمت لهذه الغاية الإنفتاح الإقتصادي “العولمة” فقامت بالتالي :

1- الإستثمار الخارجي و تصدير الوظائف 
( قام الأغنياء بنقل مصانعهم للدول الفقيرة و استخدموا قلة أنظمة الحامية والضرائب لصالحهم، فصاروا يصنعون في تلك الدول الفقيرة و يصدرون صناعتهم لدولهم هم و الدول الأخرى، بهذه الطريقة حافظوا على هامش ربح أعلى و ضمنوا قدرة تنافسية أعلى .. لكنهم أيضاً طعنوا الطبقة المتوسطة في بلادهم إذ هم أضعفوا قدرتها على التفاوض بستخدام الأيادي العاملة الرخيصة و المدربة فصارت مدخولاتهم أقل و منافستهم لتلك المنتجات الخارجية أصعب، فحصل إغراق للبلد من قبل تجاره زادت على إثره حدة التفاوت الطبقي و الهيمنة السياسية ). 
٢- التجنيس و استقدام الأيادي الرخيصة 
( كانت قد بقيت لليد العاملة المحلية وسيلة واحدة للإغتناء و المحافظة على الدخل و رفاه المعيشة تلك الوسيلة هي العمل في قطاع الخدمات التي تحتاج ليد محلية قريبة، لكن هذه أيضاً صارت صعبة على اليد المحلية نظراً لسهولة الهجرة للبلاد الغربية و استغلال الشركات لبعض الفراغات في أنظمتها القانونية، إذ تقوم الشركة بتوضيف الأرخص و الأقل مطالبة و اعتراض من الأيادي الأجنبية لتحقق المزيد من الربح و تقلل التكلفة و المشاكل الداخلية). 

هنا أصابت العولمة أراضي المنشأ في مقتل فمع أن النظام الرأسمالي كان يفترض به أن يحقق المصلحة لتلك الدول الغربية الإستعمارية وهو ما فعله بالفعل لبضعة عقود إلا أنه قام بالتدريج بعض تلك الدول من الخلف وإنهاكها حتى صارت الطبقة البرجوازية و الحاكمة المستفيد الأوحد تقريباً من هذا النظام والراغب الأكبر في ثباته و تأكيده. لذلك فإننا نقول بأن العولمة الحديثة التي كان الغرب يستخدمها وسيلة للإستعمار صارت وسيلة لاستعمار الطبقة الحاكمة فقط، لذلك فإنها ستعجز عن إرضاء المجتمعات الغربية كما قد عجزت سابقاً عن إرضاء المجتمعات الأخرى، و سيؤدي هذا التمايز الكبير في الدخل لانهيار إقتصادي كبير “نتيجة لاستنزاف الطبقة الوسطى التي كانت المحرك الأكبر للإقتصاد باستهلاكها الهائل” يتبع هذا الإنهيار الإقتصادي تمايز سياسي شديد وواضح بين من يملك ومن لا يملك، ومن يدير كل شيء ومن تسهل إدارته باللقمة و المنصب و الكلمة .. المجتمعات الغربية هنا إنتهى شهر العسل بالنسبة لها. 

ماهي نهاية السوق الحرة “الرأسمالية” ؟ 

في البداية يجب أن ندرك نقطة مهمة كنت قد ذكرتها في مقال سابق عن الرأسمالية وهي أن العملية التجارية ( البيع و الشراء ) حالة طارئة على المجتمعات البشرية، ذلك أنها وإن كانت أكثر غريزية و بدهية لدى عموم الناس من العمل التطوعي الخيري الذي يعد أكثر عرضية إلا أن العدل و القبول و الرضى بنتائج المنافسة التجارية خلق غير أصيل في النفس البشرية، لذلك فإن السوق لا تنشط وتكبر إلا في بيئة إجتماعية يسودها الرضى و التراحم و تقديم المصلحة العامة أو أن قوة خاريجة طاغية تفرضها على عموم الناس فرضاً .. لكن لماذا ؟ 

 نظراً لكون السوق تمايز بين الناس ولكون الناس معترضون على التمايز بطبعهم إلم يكن ذلك التمايز لصالحهم فإن القبول الجمعي بنتائج السوق يبنى على عقد إجتماعي غير معلن أساسه : 
١- مساواة أرض اللعب ليحصل المتنافسون جميعاً على فرص متقاربة. 
٢- إنهاء هذه الطريقة في التعامل بين أفراد المجتمع “العملية التجارية” عندما تصبح المصلحة الفردية متعارضة تماماً مع المصلحة الجماعية .. مثل وقت الأزمات عندما ينتظر الناس من الغني أن يعين الفقير و من القوي أن يسخر قوته لنصرة الضعيف. 
هاتين النقطتين أساسيتين لقبول الناس منطق السوق واحترامهم لنتائجه، فمتى ما أخل التجار و الساسة بهذين الإلتزامين مارس عموم الناس السرقة و الإحتيال و الكذب و الثورة كوسيلة للإعتراض على النظام القائم.

الحرية المطلقة في السوق لا تؤدي لنشوء طبقة وسطى عريضة كما يقول آدم سميث، و استنتاجات آدم سميث هذه ما كان لها أن تكون أصلاً لولا عيشه في قلب الدولة الإستعمارية الكبرى وسط تمددها و انتشارها، فتحرر السوق في عهده كان يعني التوسع على حساب الأمم الأخرى و تصدير الفقر لتلك الأراضي الأجنبية كوسيلة لإغناء العامة في الدولة المستعمرة ! ولولا هذه الحالة من تصدير الفقر و استيراد الموارد و المزروعات برخص ما كان لحرية السوق أن تنتج شيئاً غير العبودية .. لكن كيف ؟ 

كنت قد ذكرت في مقال سابق الأسباب التي تؤدي لنشوء العبودية و انهيار حرية السوق من خلال السوق الحرة نفسها لكني سأعيد هذه النقاط في هذا المقال باختصار : 

١- معدلات النمو في الأعمال التجارية أعلى من معدل نمو الدولة ككل .. هذا يؤدي لتكدس الأصول عند الأغنياء بالتدريج على حساب عموم الناس. 
٢- الأصول الأساسية في أي سوق محدودة ( الأصول تتفاوت في مركزيتها بالنسبة للأسواق ) و نظراً لكون الأغنياء أول الناس امتلاكاً واحتكاراً لها فإن أي نمو في أي مجال آخر من مجالات الإقتصاد لا يؤدي لحصول المستثمرين في تلك المجالات على مركزية توازي مركزية الممتلكين للأصول الأساسية فمتى ما حصل إنهيار إقتصادي أو ضعف في النمو فإن الأمور تعود واضحة بجلاء، فالذي يملك الأساسية ليس كمن يملك الأصول الطرفية. 
٣- المال و النفوذ يجلب المزيد من المال و النفوذ .. أي أن النمو في الثروة عند الأغنياء يصير بالتدريج نمواً إظطرادياً لا نمواً تراكمي. 

أخذاً بهذه النقاط الثلاث نستنتج أن أي بلد و مجتمع يمارس فيه النشاط التجاري بحرية فإنه معرض لنشوء الطبقية الصلبة ( الحاكم و الإقطاعيين و التجار و أصحاب المهن ثم أخيراً العمال و المزارعين بهذا الترتيب من القوة و النفوذ و الغنى ) بالتدريج متى ما ضعف النمو أو توقف. ذلك أن النمو السريع و القوي يعمل عمل الهرم المقلوب، فالفرص في هذه البيئة تكون كثيرة و منوعة مما ييسر للعديد من الناس أن يرتقوا لمصاف الإقطاعيين فينافسوهم و يرفعوا من شأن عوائلهم كما رفع ؤلائك من شأنهم في السابق، و طالم كانت الفرص كثيرة و متاحة فإن عموم الناس يظلون قابلين مطيعين للنظام الرأسمالي القائم أملاً في الصعود لمصاف ؤلائك. و أما الإنكماش فإنه يعمل عمل الهرم الصحيح فيزيل تلك الشريحة الهائلة التي كانت تظن نفسها موازية للطبقة الحاكمة و الأرستقراطية و البرجوازية القديمة فتنهار نظراً لانهيار القطاعات التي تعمل فيها وهي أسواق الترفيه و السياحة و كثير من الصناعات الغالية المترفة و الإعلانات و الخدمات حتى لا يبقى من القطاعات إلا الضروري في الحياة البشرية ( الغذاء و الدواء و التعليم و المواصلات  العامة و الإتصال و الأمن و القضاء ) فيتركز المال بيد القليل الممتلكون لتلك الأصول الرئيسية ويصبح البقية عالة عليهم، و كذلك هي الحال عندما يضعف النمو فإن المالكين لهذه الأصول يسهل عليهم بالتدريج إحتكار السوق و شراء الأصول الأخرى الضعيفة و المعرضة للإفلس و التي لم تكن في حوزتهم.

الحروب و الأزمات عندما تواجه أمة لا تزال العصبية و العقيدة الجمعية فيها قوية فإنها تدفعها للتكاتف و إهمال العملية التجارية النفعية البحتة، هذه الحالة تؤجل ظهور الطبقية الصلبة و الإقطاع كما أن التمدد و النمو يفعل ذلك، و بالتالي فإن هاذين الظرفين عندما ينتفيان فإنه من الطبيعي أن يبقى التاجر والمستثمر على رأس الهرم في العملية التجارية حتى يستنزف القدرة الشرائية و تصبح اليد العاملة في البلد لا تأمل بأن تتملك أي أصل من الأصول المادية وإنما تفاوض بإنتاجها اليدوي اليومي و تعيش على أجر عملها ( أي أنها تستعبد ). 


نظرة في موضوع الأصول و اختلافه ..

الأصول تختلف بحسب مركزيتها في الإقتصاد كما ذكرت و إن كنت لم أقرأ لأي اقتصادي في هذا الموضوع إلا أني أرى أثره جلياً في البناء الإقتصادي و السياسي .. 

١- أصل الأصول و أساسها ( الأرض ) 
الأرض هي الثروة أساساً نظراً لأن كل شيء يخرج منها، فمن امتلك الأرض وما عليها امتلك الثروة. لكن هذا يبسط الموضوع كثيراً فالأراضي تحصل على قيمتها من عدة نقاط مختلفة تختلف على أساسها قيمتها.. 
أ- الأرض الزراعية  ختلف عن  ب- الأرض التي تحوي المياه العذبة (البحيرات) وتختلف عن  ت- الأرض التي تحوي مناجم و معادن ضرورية   ث- وفي الأخيد الأرض الإستراتيجية في موقعها 
و نظراً لما ذكرنا من كون الأرض هي أصل كل الثروات و نظراً لسهولة استثمارها و استغلالها مادياً إذ يستطيع الشخص أن يؤجرها بمبلغ معلوم أو نسبة ربحية معينة دون الحاجة لبذل أي جهد و تفكير فإن الأرض تقترن كثيراً بالعوائل الحاكمة و الطبقة الأرستقراطية لكونها وسيلة سهلة لتوريث المال و تثبيت الغنى و التعالي في النسل ولأنها كما ذكرنا لا تحتاج لجهد أو ذكاء و إنما تحتاج لعصبية وقوة عسكرية تحميها.

٢- الذهب و الفضة ( المال الذي يدوم ) 
ذكرت هذا الأصل بعد الأرض مباشرة نظراً لكون المعاملات البنكية من أكثر المعاملات التجارية بلادة في الفكر و الجهد، فهي كما سبق في الأصل السابق (الأرض) لا تحتاج لجهد بدني ولا فكري إنما يحتاج الشخص لامتلاك الكثير من هذا الأصل و ضمان قوة عسكرية تعيد له ماله إذا فشل المقترض في تسديد دينه أو الفائدة التي عليه أو أداء الأصول التي رهنها للبنك عندما قام بالإقتراض .. لذلك فإننا نجد أن الطبقة الأرستقراطية و الحاكمة تنشط في هذين المجالين و تحتكرهما تقريباً نظراً لكونها تملك ميزة سابقة على المنافسين في مجال العقار و المصرفية، كما أنها أقل الشرائح كفاءة من حيث الإنتاج و الإبداع. 
المزاوجة بين الإحتكار العقاري و المصرفي يضمن للطبقة العليا بقائها في أعلى هرم السلطة دائماً و يؤدي بالتدريج لتكدس المال بيدها مهما طال الزمن. 

٣- المهن الضرورية في المجتمع 
( في مجال الغذاء و الدواء و اللباس و الأمن و التعليم و القضاء ) 
هذه الأعمال المعنية بتحويل المواد الخام ألى منتجات ضرورية لا يستغني عنها المجتمع، و معها شريحة مهمة من موظفي الدولة معنية بالضبط و الإصلاح .. هذه الشريحة تبقى في عملها و يبقى دخلها محفوظاً لحد ما وقت الأزمات و الإنكماش الإقتصادي نظراً لعدم قدرة الناس عن الإستغناء عنها ( الدخل قد يتأثر نظراً لتغير القدرة الشرائية و درجة المنافسة في هذه القطاعات ) .. هذه الشريحة تؤجر لها الشريحة الأولى أراضيها و تبيع لها موادها الأولية و تقرضها، فهي تابعة للشريحة الأولى مهما زادت أموالها حتى تملك الأصول المذكورة سابقاً ما يغنيها. 

٤- الحرف الكمالية و الجمالية 
( الترفيه و التجميل و السياحة و الفنون .. ) 
هذه القطاعات تكون مربحة جداً في الإقتصادات القوية و النامية، لكن بمجرد أن ينكمش الإقتصاد أو يضعف نموه فإن هذه القطاعات تضعف بشكل كبير و يواجه موظفوها الفصل مما يزيد تبعيتهم للشريحتين المذكورتين سابقاً بالديون و الإعالة. 

الأصول الأساسية محدودة جداً لذلك فإن تثبيت السلطة باحتكارها يعد أمراً سهلاً، كما أن الحرف الأساسية قليلة إذا ما قورنت بالحرف التكميليلة لذلك فإنك ستجد شريحة كبيرة من الناس هامشية ضعيفة و تابعة متى ما واجه الإقتصاد أي أزمة حقيقية إذ تصبح هامشية هذه الطبقة واضحة بجلاء و مع إدراك هذه الطبقة لقلة أهميتها وعجزها عن تحديد مصيرها و الحصول على شيء من الإعتبار فإنها تتحول للثورة و الإعتراض على كل شيء. 

(( كل الأسواق تسعى ببطء للوصول لحالة من السكون و هذه الحالة أشبه ما تكون بترسب السكر أو الملح في أسفل الكأس عندما تطول حالة البرودة و السكون في الكأس، حتى نصل لحالة من الإستقرار يكون الماء فيها عذباً في الأعلى و مالحاً أو حالياً جداً في الأسفل … بمعنى أن الأسواق تتجه طبيعياً لبناء طبقة تملك كل شيء و طبقة أخرى لا تملك إلا يدها العاملة لتكسب قوت يومها و بين هذه وتلك طبقة متوسطة صغيرة مبدعة تحقق الرفاهية للطبقة الغنية )) 


و أخيرا كنت قد ذكرت في المقال الذي عنونته بـ (إنهيار العولمة) أربعة نقاط مهمة أحب أن أعيد شرحها و الإنطلاق منها للتكلم عن الأحداث الحاصلة و المستقبلية :

١- تباطؤ النمو و انهيار الإقتصاد 
٢- إستنزاف الموارد ( و أهمها الطاقة ) 
٣- تباين معدلات الإنجاب و النمو السكاني 
٤- التغير المناخي 


( النمو ) .. يعمل عمل الهرم المقلوب كما ذكرت سابقاً فالأسواق النامية بسرعة و قوة توجد فرصاً جديدة و كثيرة للإغتناء مما ييسر لعامة الناس التحرك عمودياً في سعيهم الطبيعي للتعالي و الغنى، و العكس بالعكس فالإقتصادات الراكدة و المنكمشة تعمل عمل الهرم القائم على قاعدته يصعب على من لا يملك مالاً و نفوذاً أن يرتقي فيه و يسهل على من ارتقى أن يفقد رأس ماله نتيجة لصعوبة المنافسة و البقاء .. الحالة الإنتقالية بين النمو و الإنكماش تظهر على شكل انهيار أو انهيارات إقتصادية متتالية، فحالة النمو تحمل معها التفاؤل بالمستقبل فيسهل الإقراض و الإستثمار و ترتفع الأسعار و يصير المجهود البسيط  كافياً للإغتناء و الكسب، ولكن ما إن تتجه الأسواق للركود حتى تتراجع الكثير من الإيرادات فتفشل تلك الشركات التي كانت قد بنيت على قروض و تلك التي كانت تعمل على وجود طلب عال في قطاعات طرفية، و هكذا تقل الوظائف ويقل معها دخل الحكومة وتصبح الدولة نفسها معرضة للإضطرابات السياسية و الإنقسامات. 
هذه هي أول مراحل التحولات المستقبلية فالإقتصاد الغربي وصل إلى حالة متقدمة من الركود و الإستنزاف للطبقة المتوسطة كما شرحت مما يجعل الحركة السياسية و الإدارية في المستقبل صلبة صعبة، و هذا يجعل احتمالية حدوث انقسامات و حروب أهلية في الكيانات السياسية الغربية إحتمالاً وارداً جداً، و بالطبع فإن ذلك إذا حصل يزيد من سرعة انتقال القوة و النفوذ للدول المنافسة ليتغير مع ذلك النظام العالمي. 


( الموارد ) .. سيد الموارد الطاقة الرخيصة كما ذكرت سابقاً في هذا المقال، فالطاقة الرخيصة “ أي تلك التي يكون فيها العائد من الطاقة على المستنزف لإخراجها كبير جداً” تزيد من قوة البلد إذ هي توفر عليه عدداً هائلاً من اليد العاملة و درجة كبيرة من المسايسة و الإرضاء الذي يحصل عند التفاوض مع البشر، و نظراً لكون النمو العالمي نمو إظطرادي “أي تضاعفي” فإن وصول العالم لمجرد استنزاف نصف الموارد الضرورية يعني أن العالم قد وصل إلى حالة حرجة من الشح في الموارد “إذ أن الإظطراد يعني بالضرورة الحجاة لمضاعفة الإستهلاك كلما مر عقد أو عقدين من الزمن” وما لم ينجح الناس في إيجاد بدائل لتلك الموارد فإن مجرد الثبات على الإستهلاك نفسه يعني حدوث انهيارات إقتصادية و صراعات سياسية كبيرة. و لأن الطاقة “المحروقات خصوصاً” ضرورية لاستخراج و إنتاج بقية المواد و الحاجيات فإن الوصول لقمة الإنتاج النفطي Peak Oil تعني أننا قد وصلنا لقمة الإنتاج في كل شيء، و بالتالي فإن النمو يتباطأ بالتدريج في كل المجالات ويقف في تلك الدول التي لا تملك من الموارد “الطاقة خصوصاً” ما تستقل به و تحافظ به علي نسبة النمو المظطردة المطلوبة، و العكس صحيح فالدول التي تملك من النفط و الطاقة الشيء الكبير “ومن اليورانيوم و الفضة و غيرها من المواد الضرورية النادرة” تصبح قوية و متنفذة في محيطها والعالم على حساب أصحاب اليد العاملة  في بقية الدول إذ أن اليد العاملة كثيرة و قدرتها التفاوضية قليلة. 


( تباين معدلات الإنجاب ) .. هذه النقطة لها علاقة بالتغير القفاي نتيجة الرفاهية و حالة التعالي التي وصلت إليها المجتمعات الغربية بالخصوص، فالمجتمعات عندما تصل إلى درجة عالية من التعالي على سائر المجتمعات و الرفاهية حتى ما تعود متطلعة إلى شيء بعد ذلك تصبح مفارقة للمنطق الذكوري في التعالي و الغلبة "المنطق الذي يعتمد على القوة و الكفاءة" لتستبدله بالمنطق الأنثوي الذي يعتمد على المظهر و الإغراء و محاولة الحصول على قبول الناس و رضاهم .. هذه المجتمعات في هذه المرحلة تسعى خلف المثاليات و الشكليات، كما تكون جبانة و بخيلة، فيقل الإلتزام بالزواج و تقل الزواجات و يقل الإنجاب و تنهار الأسر و تنحل عصبية المجتمع. 
التباين الكبير في معدلات الإنجاب سيؤدي بالتدريج لتغيير موازين القوة و انهيار القوى التي كانت متربعة على هرم السلطة العالمية لتنافسها قوى أخرى صاعدة. 


 ( التغير المناخي ) ..  هذه النقطة هي أقل النقاط وضوحاً و أصعبها إستقراءً ولولا الأحاديث النبوية الدالة على تغير الوضع الجغرافي في آخر الزمان و كثرة الكلام عن التغيرات المناخية الحاصلة من قبل الإعلام و التعليم الغربي ما ذكرته .. لكن هذا لو حصل في المستقبل القريب فإنه سيغير الكثير من التوازنات السياسية في المنطقة و العالم كما سيغير الكثير من الطباع و العوائد الإجتماعية عند الناس، ولعل هذه التغيرات و زيادة الموارد و القدرات عند العالم العربي و الإسلامي هي ما سيدفع هذه الأمة للتغلب على الأمم المحاربة لها و نشر عقيدتها في آخر المطاف. 


في آخر هذا المقال نصل للنقاط المستقبلية التي تنبأت بها في بداية هذا المقال و علاماتها في واقعنا المعاصر .. 

(عودة الوطنية و انهيار العولمة ) 

شهدنا خلال السنتين الفائتة موجة من الإنفصالات السياسية لبعض الدول عن تحالفاتها الدولية و قيام تحالفات جديدة و صراحة شديدة في تقديم المصلحة و تنحية المجاملات و ادعاء المبادئ، ظهر هذا الأمر بجلاء في انفصال بريطانيا عن الإتحاد الأوروبي و مطالبة اليونانيين و بعض الدول الأوروبية الأخرى بالإنفصال أيضاً كما شهدنا الموجة الوطنية الشديدة في أمريكا والتي يتزعمها دونالد ترامب و تقوم على معادات كل ما هو أجنبي و نافذ في السوق الأمريكية ( كاليد العاملة المكسيكية و المنتجات الصناعية الصينية و النفط العربي الرخيص ) و الدعوة لإعداة مناقشة الإتفاقيات السابقة و التنصل من الإلتزامات التي كانت أمريكا قد وقعت عليها و محاولة إستنزاف الحلفاء و كل من لأمريكا مصلحة معه. هذا كله يعود لتراجع الإقتصاد العالمي كما ذكرنا سابقاً، و تراجع الإقتصاد العالمي له علاقة باستنزاف الموارد و النفط خصوصاً لكن هذا ليس هو السبب الأساسي، السبب الأساسي هو العولمة التي مكنت أصحاب رأس المال من تجاوز الحدود عن طريق وسائل النقل الحديثة و الإتصال دون تعريف جمركي يذكر أو إلتزام سياسي و اجتماعي تجاه المجتمعات المستنزفة، كما أعطت التجار القدرة على امتصاص المال من الشعوب الغنية خاصة “مع إفادة الدول الناشئ و المصنعة إلى حد ما” و القضاء على الطبقة الوسطى، كما أن النظام المالي القائم على الإقراض السهل و الطباعة السهلة للمال مكنت أصحاب رأس المال و الساسة من إخفاء الآثار الجانبية لهذه السياسة فترة طويلة أدت لاستعباد العامة و إنتاج فقاعات إقتصادية عديدة سيذهب ضحيتها صغار المستثمرين مع عدد هائل من الوظائف التي يضمنونها. 


الحركة الوطنية الحديثة ستعمل عملين مهمين بنظري : 
١- ستضعف نفوذ الطبقة الغنية الحاكمة العالمية و التي تعمل من وراء الستار و تتحكم بالظروف الإقتصادية و العلاقات السياسية العالمية دون محاسبة أو مراقبة .. هذه الطبقة ستصبح بالتدريج تحت المجهر و سيرفض الناس علويتها و سيتم تجريدها من العديد من مصادر النفوذ التي تحضى بها لصالح الدول المعنية و لصالح سيادة حقيقية و مساءلة حقيقية تستطيع أن تمارسها الشعوب “الغربية خاصة” على حكامها. 
٢- إنهيار الرأسمالية و الشيوعية كفلسفات و قيام المصلحة القومية و العصبية العرقية بصراحة كوسيلة لتجاوز الأزمات الإقتصادية المقبلة .. الفلسفات تضعف و تتلاشى وقت الأزمات ولا يبقى حقيقة إلا عصبية الناس و تجاربهم السابقة و عاداتهم و مصلحتهم، و لأن المصلحة العامة للعرق المعني ستوضع فوق كل اعتبار أثناء هذه الأزمات فإن فكرة حرية السوق و التسامح ستتراجع في مقابل الإستئثار و التعالي، كما أن أي طرح مثالي و حالم “فلسفي” يتكلم عن واقع مثالي سيتراجع في مقابل التطهير و التعاون و التجاوز للمرحلة الحرجة .. هذا سيؤدي لانقسام الدول ذات المكونات العرقية و العقدية المختلفة إن أمكن الإنقسام أو فشلها و ضعفها كما سيؤدي لزيادة السلطة الممنوحة للحكومة من قبل العامة في مقابل قيامها هي بتفضيلهم و رعاية مصالحهم و التعدي على غيرهم . 

لكن بطبيعة الحال كون الدول الوطنية كلها غير قادرة على الإكتفاء بالموارد التي تملكها و القوة التي تجمعها فإن التحالفات التي ستقام ستكون بالتدريج أكثر صدقاً و عمقاً و عصبية، كما أنها ستوكن أسواقاً حرة إلى حد ما فيما بينها و تستثني الكيانات الأخرى التي ستحاول ممارسة السياسة المركنتالية معها و إفقارها، ولكن هذه الحالة ستتبع الحركة الوطنية الأولى برأيي و إن كانت بعض مظاهرها تتزامن مع الحركة الوطنية. 

إذا نشأت هذه الأسواق المنفصلة بين الدول ذات الحضارة الواحد فإن العالم سيصير منقسماً على أساس حضاري عقدي أكثر منه عرقي صرف أو مناطقي مصلحي، هنا نكون قد وصلنا لحالة مختلفة و مخيفة. 

عودة الإقطاع (١)



عودة الإقطاع (١) 
 غاية السوق الوصول لحالة من السكون حيث تترسب جميع الأصول للقاع .. حيث يوجد الأثرياء 


كنت قد كتبت مقالاً سابقاً عنونته بـ( نهاية العولمة ) و هذا المقال الحاضر تفصيل أكبر لما ذكر في ذلك المقال و متابعة زمانية لسير الأحداث و تعاقبها، فقد بدأت خلال العقد الماضي تتجلى بوادر الإنفصال و التغير في النظام العالمي خصوصاً في دول العالم الثالث إذ قد كانت أكثر المناطق تضرراً من الأزمة الإقتصادية التي حصلت في عام ٢٠٠٨ لكن آثار تلك الأزمة لم تقف عند تلك الدول بل ظلت الأزمات الإقتصادية تتراكم و التململ السياسي الناتج يزداد في المجتمعات المتقدمة على شكل أزمات و تحركات سياسية كبيرة ومن كل ذلك بدا جلياً أن العولمة تواجه مقاومة شرسة و انتقاد حاداً من نفس المجتمعات و الدول التي كانت السبب الأول في نشأة ذلك النظام و رسوخه، و لأن عموم الناس لا يفهمون أساس نشأة العولمة ولا ركائزها الأساسية فإن انهيار النظام سيعد صدمة كبيرة للعموم الناس كما كانت النشأة الأولى صادمة، و من هنا فإن هذا المقال يتحدث عن الأسس التي بنيت عليها العولمة و عن سبب انهيارها المتوقع و عن الشكل المبدأي الذي يمكن أن يظهر . 

بحسب الظروف المتوفرة و الحالة العقدية السائدة لدى المجتمعات تسلسلت الأحداث و البناء السياسي العالمي في القرن الخمسة الماضية بهذه الطريقة : 

١- التنافس الغربي على بناء الإمبراطوريات (الإستعمار).
٢- وصول التوسع الإمبراطوري الغربي لأقصى مداه و بدء الصراع الغربي الداخلي.
٣- تراجع الإحتلال المادي الصريح و قيام الرأسمالية كوسيلة للإحتلال و الهيمنة. 
٤- الوصول لأقصى حد من استنزاف الدول الأخرى و من ثم العودة لاستنزاف الداخل الغربي. 

النتائج المستقبلية المتوقعة لسير الأحداث السابقة : 

٥- إنهيار العولمة المطلقة و ظهور الحركات الوطنية و قوانين الحماية الجمركية الشديدة.
٦- إنهيار حالة الإنفتاح الثقافي و الحضاري و قيام التكتلات الحضارية على شكل أسواق كبيرة منفصلة.
٧- صراعات عسكرية و اقتصادية كبيرة بين الحضارات المختلفة.
.. لا يمكن الجزم بهذه النتيجة ولا التنبؤ بما بعدها فعدد العوامل المؤثرة في الأحداث المستقبلية كبير جداً يجعل من حساب أثر كل منها أمراً مستحيلاً. 


عودة للتفصيل في النقاط السابقة .. 
إن من أكثر الأوهام انتشاراً هي الإعتقاد بأن الأفكار الفلسفية قد لعبت دوراً أساسياً في تشكيل الأنظمة السياسية و الصراعات الدولية خلال القرنين الفائتين، و مع أننا نعترف بوجود تباين في البنى السياسية و تبن لأفكار فلسفية مختلفة من قبل الأنظمة الحاكمة إلا أن هذه الأفكار لم تلعب دوراً محورياً في الحياة العامة و الخاصة، كما أنها لم تحرف الناس بشكل كبير عن السعي في إشباع غرائزهم و التعالي على أقرانهم بل كانت تلك الفلسفات والله تعالى أعلم وسيلة لتحقيق المصالح و استيفاء الأطماع الغريزية التي ادعت تلك الفلسفات أنها تضبطها و تنظمها، فالغرائز الأساسية في البشر لا تهذبها الفلسفات ولا الفنون بل تتهذب بغرائز أكثر علوية و ارتقاءً منها، كما أن الأنانية لا تضعف بالخطابات الرنانة و القصص العاطفية بل تضعف عندما تغمرها أنانية من شكل آخر، تطلب الذكر من العلي الكبير الذي يهم ذكره و الخلود الأخروي الكامل الذي يتجاوز الخلود الدنيويفي حقيقته و معانيه، و لذلك فإني عندما تكلمت عن الدولة في المقال السابق ( الدولة و الناس ) ذكرت القاعدتين الأهم التي برأيي تلعب الدور المحوري في نشأة الدول و ثباتها: 

١- التعدي أصل في الطبيعة البشرية .. به تقوم الهرمية التي تنشئ كيان الدولة
٢- الحضارة منتج ديني .. به يتجاوز الناس مصالحهم الفردية ويجد المجتمع لنفسه هوية تتجاوز المكان و الزمان

و مع أن الدول يمكن أن تنشأ و تعمر بعقيدة ضعيفة و عقائد متنوعة نتيجة لوفرة العوامل المادية اللازمة و سهولة الضبط من قبل القوة المركزية الضاربة إلا أن هاتين النقطتين تظلان نقطتان رئيسيتان مؤثرتان يهمنا استحضارهما قبل الخوض في النقاط السابقة و التفصيل فيها .. لكن لماذا ؟ 

لأن كل ما حصل من نمو إقتصادي و تفوق حضاري كان ناشئاً عن هاتين النقطتين بالتحديد، فالقصة بدأت برأيي بنهاية القرن الخامس عشر و بداية القرن السادس عشر عندما انتقلت الأوروبا ككل من الدفاع و التقوقع إلى التمدد و الإحتلال (ما يسمى بالإستعمار) و البناء القومي، هذه الحركة السياسية و الإجتماعية كانت واضحة و بدائية في دوافعها لكنها بالتدريج تسمت بمسميات أخرى و ادعت أنها تملك دوافع أكثر تعقيداً و رقياً مما سبق ، فما هي هذه الدوافع البسيطة حقيقةً ؟ 

١- الإغتناء 
٢- التعالي 

و مع أن الإغتناء عن الناس يعد دافعاً أكثر بدائية و قبولاً إلا أنه إذا أضيف إلى الدافع الثاني صار موقفاً واحداً يختزل في كلمة واحدة .. “التعدي” ، و لأن التعدي لا يعهد غالباً إلا ممن وجد في نفسه قوة و غلبة فإن هذا التوجه لا يستغرب منه أن يزيد كلما حققت تلك المجتمعات تقدماً على الصعيد العسكري و السياسي. 

ملحوظة .. “أول الدول انتشاراً و سعياً لبناء إمبراطورية كانت البرتغال و أسبانيا اللتان نجحتا في إخراج المسلمين من شبه جزيرة أيبيرا و تبعتهما في ذلك دول أوروبا الغربية فرنسا و بريطانيا و هولندا.. وقد كان لنجاحهم في ذلك التمدد الجغرافي أثر كبير على إقتصاداتهم هم و اقتصادات الدول الأوربوبية ككل بعد ذلك فزاد التزامهم بعقيدتهم و مبادئهم و حثهم ذلك على العودة للتعمق في تاريخهم و الإستنباط لمستقبلهم”

هذه الدوافع دوافع بسيطة غريزية مفهومة لذلك فإن النجاح العسكري و السياسي الأول في بداية القرن السادس عشر لم يشكل صدمة حضارية ولا تحدياً فكرياً ملحوظاً لكل ما سبق من مسلمات و مبادئ عند الحضارات الأخرى و خصوصاً الحضارة الإسلامية ( الحضارات التي انهزمت في أمريكا الشمالية و الجنوبية بطبيعة الحال كانت أقل مناعة إذ انكشفت على أفكار و عقائد جديدة و صناعات حديثة تتميز عن صناعتها الأكثر بدائية  و تركيبها السياسي و العقدي الأكثر بساطة ) بل كان تمدداً إحتلالياً “إستعمارياً” مفهوماً يقوم به الجميع. لكن القوة الغربية هذه عندما نجحت في احتلال البعيد ( الأراضي الجديدة المعروفة بأمريكا ) ثم نجحت بعد ذلك في إبقاء ميزان تجاري موجب مع تلك مستعمراتها تيسر لها الدول أن تحقق هذين الهدفين الذين ذكرتهما بشكل أكبر و أكبر مع الزمن ( أي تؤكد هيمنتها على تلك الأراضي و تتبعها لها ككيان طرفي في كيانها السياسي الكبير )، فقد كبرت أسواق الدول الغربية هذه بما اغتنت به من موارد و يد عاملة تطورت على إثرها صناعاتها و تعقدت، ثم زاد تركيبها الفكري تعقيداً وبناؤها العلمي تقدماً بما ازدادته به أسواقها نمواً و تركيباً. و هكذا نشأت مدارس فكرية و فلسفية يظهر فيها التباين و إن كانت في الحقيقة أسيرة لتلك النقطتين السابقتين، و نظراً للمجاورة الواضحة بين تلك الكيانات السياسية الغربية ( الأوروبية ) فإن الهوية القومية ظهرت بشكل أوضح عما ظهرت عليه في المجتمعات الأخرى، فنجحت هذه الكيانات مع توسعها الجغرافي في زيادة عدد أفرادها ووعيها بنفسها و عملها على التناسق في حركة أفرادها عن طريق سياسات و قوانين داخلية تحقق المصلحة العامة، ولكن هذه الزيادة كان لا بد لها أن تصل إلى حد جغرافي يتولد معه تصادم و صراع كبير على النفوذ و الأملاك بين تلك الإمبراطوريات . 

هذه المرحلة من الإنتشار الجغرافي الأفقي استمرت بشكل تراكمي بسيط على مدى قرنين من الزمن إلى أن ظهر عامل جديد أثر في ذلك التمدد و زاد من هيمنة تلك القوى الغربية الإستعمارية علي باقي الكيانات السياسية الأخرى، هذا العامل هو (الطاقة) أو المكننة التي نجحت في استخدام المحروقات لتضاعف من القدرة الصناعية و الزراعية و الحربية، و هذه الحالة و إن كان ينظر إليها عموم المؤرخين على أنها ثورة علمية صناعية ساهمت في إمالة عجلة التاريخ و الهيمنة السياسية نحو الغرب إلا أنهم يفشلون في إصابة عين الحقيقة بوضوح عندما يتكلمون بهذه الطريق، فالمكننة و العلم نفسه لا يغلب طرفاً على طرف ، إنما كانت الطاقة الرخيصة بما توفره من قوة فائضة تعمل عمل الأيادي الماهرة فتزيد من قدرة الدولة إنتاج و الضبط السبب الرئيسي و النقطة الأساس في موضوع الصناعة و المكننة التي مكنت الغرب من زيادة نفوذه و هيمنته.  هذه الطاقة Energy ( الطاقة العالية في كثافتها و الصغيرة في حيزها المادي ) ساعدت الغرب على التغلب على القوى المنافسة لها بما حركت من مكائن بخارية و مولدات كربائية كان لها أثر كبير  في توفير الجهد البشري و تحسين كمية و جودة الإنتاج المطلوب، فزادت بذلك القوة المادية كثيراً و إلم يكن عدد الأفراد قد زاد بنفس الدرجة. ولا أأكد أنا هنا على هذه النقطة إلا لكون المكننة و العلوم عديمة القيمة إن فقدت الطاقة الرخيصة، فالأجهزة و وسائل النقل و الإتصال و الأسلحة لا تعمل إلا على تحويل تلك الطاقة لشكل آخر من أشكال الطاقة مطلوب يمكننا من القيام بأعمال لم نكن نقدر على عملها إلى باليد المجردة أو بمصادر أخرى للطاقة أقل غنى و أثر، ولذلك فإنه متى ما زالت هذه الطاقة الرخيصة و عاد الناس لاستخدام الحطب و المياه و الريح عادت حياتهم بشكل كبير إلى البساطة الأولى نظراً لتراجع القدرة على الإنتاج و النقل و الضبط بالسلاح. 

لنعد إلى نقطتنا .. القوى الغربية تمكنت من تسخير الطاقة الرخيصة (المحروقات) فتحقق لها استخراج المزيد من المعادن و المزروعات و من ثم زيادة الإنتاج الصناعي و الضبط السياسي حتى تضخمت هذه القوى السياسية في حجمها الإقتصادي و إلم تكن قد زادت كثيراً في مساحتها الجغرافية و عدد سكانها فصارت بذلك قد استعمرت الأرض أفقياً و عمودياً إن صح التعبير ( أفقياً بالتعمدد الجغرافي و استخدام البشر كعبيد لاستخراج المعادن و حراثة الأرض و زيادة الإنتاج الصناعي، ثم عمودياً باستخدام المحروقات و الإعتماد على المكائن في القيام بما كانت تقوم به الأيادي الرخيصة من عمل، فزادت القوة بذلك أضعافاً مضاعفة )، فلما وصلت الدول الإستعمارية الغربية إلى هذا الحد من القوة صار الصراع محصوراً فيما بينها، و مع ما كانت تملكه الدول الأخرى من تاريخ و إرث حضاري و استعداد للقتال إلا أنها كانت عاجزة عن المواجهة مواجهة حقيقية للسببين الآنفين .. أي أن الدول الغربية كانت قد وصلت إلى حد من الكبر في حجمها و مواردها و قدرتها على استنزاف الأرض و تحقيق فائض من الإنتاج و كفاءة في المنتج جعل أي محاولة من القوى الأخرى للمقاومة تتسم بالعبث و اليأس، و قد ظهرت هذه الحالة بجلاء عندما صارت الدول الغربية تحتل أراض لم تكن هدفاً لها أساساً و إنما وسيلة لحماية طرقها البحرية من القوى الأخرى ( كما رأينا في احتلال بريطانيا لمصر ).

بعد ما ذكرنا من سباق محموم بين الدول الغربية على التمدد و الإحتلال وصل العالم إلى حالة من الإستقرار و التفاهم على شكل من أشكال المحاصصة بين تلك الإمبراطوريات الغربية، فالدول الغربية التي تميزت بهوياتها القومية مع نجاحها في احتلال الأراضي و تمييز كياناتها السياسية صارت بالتدريج إمبراطوريات بمركز و طرف مهم و طرف أقل أهمية، فالمركز يكون عادة الأرض الأولى التي خرجت منها القوافل العسكرية لتحتل البلاد و تضمن وجود فائض تجاري مع أطرافها، أما الأطراف المهمة فهي تلك التي تملك من الموارد و اليد العاملة ما يغني تلك الإمبراطورية عن طلب أراض أخرى لمواردها و أسواقها، أما الأطراف الأقل أهمية فهي تلك التي احتلت لموقعها فقط دون تميز في مواردها و تعداد سكانها و حجم سوقها. و لأن حجم المواد المجلوبة و حجم السوق المستهدف في التصدير يؤثر في حجم الإمبراطورية وقوتها فإن تلك الإمبراطوريات تمايزت في قوتها بمقدار النجاح الذي حققته في السيطرة على تلك الأراضي و الأسواق. و لما وصلت تلك الإمبراطوريات لتلك الحالة من القبول و الهدوء فيما بينها صارت الهرمية الإقتصادية السياسية أكثر وضوحاً في المبراطوريات المبنية ( من مركز و طرف مهم و طرف أقل أهمية ) و التباين في الغنى أكثر جلاءً بين المركز و من يعيش فيه و الكيانات الطرفية الواضحة في تلك الإمبراطوريات، و هكذا استمر الوضع إلى أن استنزفت الأطراف و صارت أسواقها غير مستهدفة بقدر ماهي ضمانة للموارد و الهيمنة، إذ أن السوق الشحيحة في أموالها لا تطلب و إنما تعد اليد الرخيصة فيها وسيلة للحفاظ على رفاهية المعيشة للطبقة الحاكمة و الوسطى في الدول المتغلبة. 

قامت الحرب العالمية الأولى و الثانية بين القوى الغربية نتيجة لعدم القبول بالحصص التي حصلت عليها بعض الدول ( و خاصة ألمانيا اللتي كانت تطلب المزيد من الموارد المضمونة و الأسواق لتحقق لنفسها تلك الضمانة الطبقية و تمنع عنها القوى الأوروبية الأخرى التي تملك أوراقاً للضغط تبعاً لموقعها الجغرافي )، فلما تمكنت الدول الأكثر استعماراً (بريطانيا و فرنسا) من كبح جماح ألمانيا و إرغامها على القبول بحجم أصغر من قدراتها أحالت القضية للمستقبل دون أن تتمكن من حلها فعلياً نظراً لأن القوي لا يقبل بالتبعية والإنقياد لمن يراه نداً له أو أضعف منه. 

ويهمنا هنا أن نركز على نقطتين ..

١- وجود استقلالية و سيادة فعلية لتلك الدول الغربية عن بعضها البعض (أي عدم وجود عولمة بسوق مفتوحة و منظمة تراقب الدول لتفتح جماركها)، وبطبيعة الحال فإن هذه الحالة من الإستقلالية تعني أن احتمالية الإحتراب واردة جداً. 

٢- وجود طبقية حقيقية في الكيانات السياسية تتعامل بشكل أكثر حداثة مع الواقع كوسيلة للإبقاء على سيادتها و تميزها في ظل نشأة الديموقراطية الحديثة، هذه الطبقة الحاكمة و الأرستقراطية سعت إلى الحفاظ على أصولها الكثيرة في سوق رأسمالية عوض عن المحافظة على حالة الإحتكار التي كانت تمارسها إقتصادياً و سياسياً فعملت أصولها الأساسية من أراض إستراتيجية و مناجم و مزارع وقطاع مصرفي على الحفاظ على علويتها و مكانتها مع الطبقة البرجوازية الحديثة والتي سمح لها بالمنافسة سياسياً و المشاركة في اتخاذ القرار .. لكن هذه المنافسة بطبيعة الحال لم توصل البرجوازيين للثبات في أعلى الهرم كما كان للطبقة الحاكمة إنما مكنتهم من استعباد الشعوب الأخرى و تسخيرها و استخدام فائض الإنتاج و الربح لمجاراة الطبقة الحاكمة و منافستها. 

من النقطتين السابقتين يتبين لنا أن الكيانات السياسية في الغرب ظلت إلى حد ما هرمية صلبة بمرونة جيدة تحصلت عليها من احتلال الأراضي الأجنبية و تسخير عمالها و استنزاف مواردها لتغتني الشعوب الغربية باحتلالها فتصير طبقة متوسطة عريضة فوقها طبقة برجوازية تنافس الطبقة الحاكمة الأرستقراطية .. و يستثنى من ذلك فرنسا و ألمانيا التان قضتا على الطبقة الحاكمة تماماً و سمحتا لطبقة برجوازية أن تنشأ و تتصالح من العوائل الحاكمة في الدول الأخرى. 

الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

المنطق الأنثوي في التعالي




المنطق الأنثوي في التعالي 
عندما يسعى الكائن الملائكي اللطيف للتعالي .. ماذا يفعل ؟ 

هذه خاطرة أكثر منها مقال، وقفة تأملية و نظرة شمولية لطريقة تصرف النساء في أي مجتمع، كما أنها نظرة تحليلية للفلسفة الأخلاقية التي تضعها النساء عموماً و تنطلق منها غريزياً في تعاملها مع ظروفها الإقتصادية و الإجتماعية التي تحيط بها، هذه الخاطرة لا تلتفت كثيراً للمؤثرات التربوية و الدينية ولكنها تلتفت للغرائز و المنطق الغريزي فعلى القارئ أن يلغي هذه النقطة قبل أن يتعمق في المقال. 

“المرأة هي موضوع الحب و الحب وسيلتها للإرتقاء في المجتمع و الإرتقاء هدف لدى كل المخلوقات”

الحب يفترض به أن يكون حالة عفوية طارئة من الشعور بنكران الذات و الإستعداد لإهلاك النفس من أجل المحبوب، و نظراً لكون التضحية حالة طارئة عند البشر عموماً فإن الحب يعد حالة طارئة أيضاً تستحث الإنسان لأن يعمل ما لا يتوقع منه أن يعمل عادةً، لكن الحب ذاته يختلف بحسب الطرفين كم هو الحب بين الجنسين و حب الشخص لذريتة و أهله و حب الشخص لأجداده الذين سبقوه ؟ 

لكن لماذا أتكلم عن هذا الموضوع أساساً ؟ .. أتكلم فيه لأني قبل يومين لفت نظري موقف لعائلة غير سعودية كانت خارجة للغداء في مطعم غالي نسبياً، لم يصدر من العائلة أي شي خارج عن المألوف غير أن هذه العائلة الصغيرة وهي خارجة للغداء مع عائلة أخرى يظهر أنها من نفس الجنسية كانت تتفاعل بطريقة تختلف عن الطريقة الإعتيادية الظاهرة عند العائلات السعودية و التي يظهر فيها الرجل بجلاء ممسك بالسلطة و القرار العائلي وأفراد الأسرة كلهم ينتهون عنده، هذه العائلة كما هي عائلات عربية أخرى كثيرة تتشارك فيها المرأة السلطة مع الرجل إلى حد ظاهر كانت فيها الزوجة بأنوثتها وجمال خلقتها تأمر وتستعرض جمالها ومكانتها بشكل كان يبدو لي مستهجناً، و لأن هذا الأمر صار يغزوا المجتمع السعودي كما يبدو فإني بدأت أتساءل عن الأسباب التي تجعل الرجل يرضا بمشاركة صلاحياته شخصاً آخر لا يبدوا أنه يضيف مادياً للعلاقة ما يضيفه الأول ولا حتى ينشغل بالإنجاب و التربية كما كان معتاداً في السابق ؟!! فما الذي جعل المرأة تمتلك كل هذه القوة و تجد لنفسها مهابة في قلب الرجل تفرض من خلالها كثيراً من قراراتها و رأيها و تجبره على أن يتنازل و يتعايش مع تلك المواقف ؟!  

عودة لموضوع الحب .. حب الإنسان لأبناءه تتجلى فيه أكثر درجات التضحية، نظراً لكون الإنسان بطبيعته يشعر بامتداد حياته في حياة هؤلاء الأبناء، فيقوم لا شعورياً بالتصرف وفق مصالحهم، فيطمح نيابة عنهم و يخاف نيابة عنهم و يتشارك معهم لحظات الفرح و الحزن دون أن يجد في ذلك كلفة كبيرة، ومع أن هذه المواقف تدل على الحب إلا أنها لا تتطابق بالتمام مع الحب الذي يطلقه الناس على علاقة الإنسان بأهله و أجداده، ذلك أن الآباء تعد حياتهم قد انقطعت أو قصر امتدادها، والإنشغال كما نعلم بما قد انقطع لا يكون عادة كالإنشغال بما هو قائم و ممتد إلا عند اليائسين من المستقبل المتعصبين الفرحين بما قد صار، لذلك فإن حب الوالدين و الإنشغال بهما يتطلب تربية و مجاهدة بعكس الذرية التي يعد حبها غريزة، أما حب الأهل من إخوة و أعمام و أقارب فإنهم عصبية تقترن محبتهم كثيراً بمقدار الفخر و المصلحة التي يجلبونها أو على أقل تقدير المشاركة التي تظفي على الحياة سعادة و فرح لا يتحقق إلا بمشاركة الناس. ومع أن درجات الحب و التعلق القلبي تختلف عند الحديث عن الأبناء و الأهل إلا أنها كلها يمكن أن تجمع في سياق واحد وهي العصبية الواحدة والهوية الواحدة التي تكونها هذه العائلة و تسعى لإبقائها و إحيائها عبر الزمن. أما حب المرأة على الطرف الآخر فهو مبني على أساس يختلف إلى حد كبير عن الأساس الذي بني عليه حب الأهل و الذرية كما ذكرنا، فالحب هنا بين الجنسين مبني أساساً على الإعتماد المتبادل و هذه النقطة غريزية جداً تتعدى في مركزيتها و أولويتها أياً من النقاط الأخرى المعدودة عند الجنسين وقت الزاوج، لكن السؤال هنا يجب أن يكون عن الإضافة التي يقدمها الجنسان و التي سيؤثر حجمها على تراتبية العلاقة بين الزوجين ؟

 إحتكار المرأة للإنجاب و تفاوت النساء في دلالات الخصوبة الجسدية يجعلهن متفاوتات في قيمتهن التزاوجية "أي في سوق الزاوج" و من ثم في قيمتهن الإجتماعية، وهذه نقطة أساسية إذ أن القيمة التزاوجية للمرأة تجلب القيمة الإجتماعية بعكس الرجل الذي يحتاج لتكوين قيمة إجتماعية يتمكن من خلالها من الحصول على قيمة تزاوجية، بمعنى آخر قدرة الرجل علي إنتاج فائض مادي يزيد عن حاجته وقدرته على استعمال رجال آخرين و تسخيرهم لإنتاج فائض و بناء أثر يخلد من بعده تجعله متمايزاً عن سائر الرجال مما يكسبه قيمة إجتماعية يتحصل من خلالها على قيمة تزاوجية "أي في سوق الزاوج". هذا التزاوج بين الجمال "دلائل الأنوثة و الخصوبة" و النفوذ "النفوذ الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي في البلد" هو الدافع لتقارب الجنسين و تزاوجهما، وهو موقف غريزي إلى حد بعيد مستمد من المنفعة الجسدية المباشرة التي يحصل عليها الفرد والتي تختلف عن تلك المنفعة المستجلبة من التأكيد على علاقات القرابة، فالبشر و إن كانوا في كل حالات الحب المذكورة سابقاً يتصرفون بأنانية و مصلحة فردية إلا أن الأنانية تتفاوت بحسب العلاقة التي نتحدث عنها، فعلاقة الحب بين الجنسين هي أكثر حالات الحب أنانية سواءً أدرك المتحابون ذلك أم لم يدركوه، و نظراً لكون الجنسين ينطلقان من منطلق الإعتماد المتبادل فإن اجتماعهما يدفعهما للتصرف بمنطق المصلحة المشتركة بعد الإتحاد فيستخدمان وسائل الغلبة هذه لتأكيد مكانتهما و علويتهما، أي أن الرجل يستخدم علاقاته الإجتماعية و أملاكه و أمواله لتأكيد نفوذه و سلطته و مكانته و المرأة تستخدم مظهرها و دلالات أنوثتها و جمالها و نعومتها لتظهر تفوقها و تعاليها على محيطها أيضاً، وهكذا تجدهما يفعلان ذلك و يتحركان بطريقة متجانسة لرفع إسم العائلة و يورثان هذا النهج للأبنائهما فيستخدمان جمال البنت للتعالي على الغير كما يورث الوالد لولده تجارته و يقربه من زملاءه. 

 عودة للموقف المذكور سابقاً .. العلاقة الزوجية كما يبدو علاقة تطبعها حالة من التجاذب و التنازع لا يخف إلا بمقدار تقوى الزوجين و طمعهم فيما عند الله كما هي أي علاقة بشرية، و لأن هذه هي حالة البشر عموماً فليس من الغريب أن تتصرف المرأة على نفس المنوال مستغلة إضافتها المادية و الإجتماعية للحصول على أكبر قدر ممكن من مطامعها و رغباتها في هذه العلاقة، و لأن السيادة و الصلاحيات مطمع عام عند البشر ( النساء و الرجال سواسية ) فإن الذي يشعر بأن إضافته في العلاقة أكبر سيطلب من الصلاحيات أكثر مما هو مستعد لأن يتنازل عنه للآخر، و لذلك فإن سيادة الرجل أو قوامته لا تتحقق في كثير من الأحيان إلا بغلبته للأنثى، و غلبته للأنثى لا تتحقق إلا إن كان مصدر دخلها الوحيد أو الأساسي أو كان قد حقق غلبة كبيرة في المجتمع المحيط بها أو كان المجتمع بالعموم معين له على فرض سيادته عليها، وهذا كله قد لا يكون حاصلاً في هذه العلاقة التي رأيت علاماتها الخارجية. 

 لكن ما الذي قد يبرر دعم المجتمع للرجل في فرض سيطرته على زوجته ؟؟ 

  يقول الله تعالى في سورة المؤمنون : ( ما اتخذ الله من ولد و ما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما  يصفون ) .. هذه الآية فيها دلالة عميقة و قاعدة تستنبط تفرق بين السنن التي تحكم المخلوقات المحدودة و منطق اللا المحدود الذي يتلازم مع وجود الخالق سبحانه، فمحدودية الكائنات الزمانية و المكانية تعني بالضرورة حداثتها في الوجود "أي أنها شيء طارئ"، و لأن هذه هي حال المخلوقات فإنها ستسعى غريزياً للإحتماء و التعالي كوسيلة للبقاء و تجاوز حدود المكان و الزمان الذي تجد نفسها محصورة فيه، هذه الحالة من طلب التعالي لا تنطبق على البشر فحسب و إنما تنطبق على جميع المخلوقات دون استثناء، ولا يمنع جمود الجمادات و بطؤ حركة النباتات من الوصول لهذا الإستنتاج فالمخلوقات تختلف بحسب امتلاكها للروح و درجة العقل و الحرية التي أعطاها الله لها. فإن نحن وصلنا لهذه النتيجة و وضعناها كقاعدة فإننا سننطلق من منطلق أن التعالي مطلب بشري عام، لكن هذه الطبيعة تختلف في نتائجها وأثرها الإجتماعي إذ أن طريقة الحصول على تلك المكانة الرفيعة تختلف بين الجنسين وكذلك حدود الترفع الذي يسمح به المجتمع، لذلك فإن الموضوع يظل موضوعاً قابلاً للإختلاف يمكن أن تبنى حوله مبادئ و مواقف إجتماعية و قوانين، ولذلك فإننا نهتم لمعرفة كيفية تعالي المرأة و اختلاف أسلوبها عن أسلوب الرجل و مآلاته. 

يستخدم كلاً من الجنسين المزايا التي يملكها للتعالي على الآخر و للتمايز بين أقرانه، و لأن هذه هي الحالة فإن المرأة تختلف اختلافاً كبيراً في طريقة تمايزها مما يؤثر على المجتمع إن هو اتبع نفس النسق و الأسلوب في التمايز، فدلائل الخصوبة و الضعف عند المرأة تميزها و ترفع مكانتها الإجتماعية تبعاً لعلو قيمتها الجنسية، و هذه الحقيقة تجعل المجتمع أحياناً يستخدم نساءه كوسيلة للترفع و التعالي إن هو وجد في نساءه جمالاً و فتنةً يستطيع بها أن يلفت أنظار الآخرين، و بطبيعة الحال فإن هذه الوسيلة تزيد من قيمة المرأة إلى أن تجعلها مهيمنة على محيطها نظراً للقيمة المضافة التي أتت بها، ولذلك تجد المرأة في هذه الحالة متطلبة و متأمرة تتوقع من محيطها الكثير تبعاً للقيمة التي تراها لنفسها، ولكن الحقيقة هي أن الفتاة هنا ليس لها فضل حقيقي عملي تستحق به هذه القيمة، هي لم تخلق جسدها ولا أوجدت جنينها بعبقرية منها كما أن القدرة على حمله و إرضاعه و رعياته لا تعني الإستعداد لفعل هذا الأمر حقيقة وهي يتلك الدرجة من السطحية و الأنانية و الطمع، و نظراً لأن هذه هي الحقيقة فإن التوصيف الحقيقي للواقع هو أن المجتمع يميل بالتدريج مع الغنى و الأمن لأن يستسلم للمرأة فتستعبده خلقتها وما يتبع ذلك الإستعباد من تتبع للمنطق الأنثوي في معظم نواح الحياة حتى يصبح المنطق الذكوري السليم قد زال تماماً و حلت مكانه مثاليات وشكليات لم يكن المجتمع يتصور أنها قد تترسخ يوماً ما وهو يعيش حاجةً وخوفاً يدفعه لإقصاء مظاهر النفاق و الأنانية هذه. 

إن الحقيقة المهمة التي يستفيد الجميع من إدراكها هي أن الرجل لا يملك قيمة تذكر في حد ذاته “أي في جسده”، بل إن قيمته كلها تقريباً مكتسبة، و لأن هذا هو الواقع فإن قيمة الرجل مرتبطة بالإنتاج و الكفاءة و التعايش مع الظروف القاسية، لذلك فإن الرجل عندما يقترن بالمرأة فإنه عملياً يكون قد قدم لها ما يثبت تميزه عن الشريحة المستعضفة من الرجال و إن كانت من علية القوة فإن عليه إثبات تميزه في تلك الشريحه و استحقاقه لذلك التميز، و هذه النقطة تعني بأن الرجل قد حقق نفوذاً و مادة وأنه مستعد لصرف تلك المادة عليها نظير إعلان ارتباطها به وامتلاكه لجسدها وما ينتجه. إن سيطرة المنطق الذكوري في التعالي و الإحتماء تعني لذلك سيطرة المنطق العملي الذي لا يعتمد على إمتيازات خَلْقية ولا توقعات نفعية من الآخرين، كما أنه منطق يفترض التكافؤ بشكل أكبر من المنطق الأنثوي و يتقبله نتيجة للحاجة العامة لدى الرجال أن يقدموا ما يعطيهم قيمة و هيبة. 

عندما تطول حالة الوفرة و الأمن في المجتمع فإن قيمة الرجولة تتراجع لأن الرجولة ترتبط بالإنتاج و الشجاعة و الثبات و هي صفات تقل أهميتها في حالة الوفرة و الأمن، و لأنهذه الحالة ترتبط أيضاً بزيادة عدد الذكور و زيادة التفارت بين الأغنياء و الفقراء فإن التمييز بين عامة الذكور و الأغنياء منهم “والذين يكتسبون صورة الرجول عند النساء” يصبح جلياً واضحاً، كل هذا يدفع بالمنطق الأنثوي للواجهة فالرجال القادرين على الزواج و التعدد يجدون في ارتباطهم بالنساء اللاتي أصبحن أكثر انتقاءً و اشتراطاً وسيلة للتعالي و تميز “مجرد الزواج يصبح وسيلة للتعالي”، فتظهر النساء جملهن و يتفاخر بذلك الرجال ومع هذا الوضع تصبح عموم النساء أكثر إدراكاً لقيمتهن و قيمة جمالهن في هذه العملية التنافسية فينشغلن بالتجمل و الشراء و مطالبة الرجل بالصرف و التكفل ليظهرن بمظهر فاتن وليصنعن لأنفسهن قيمة تتجاوز قيمة عموم الرجال .. هذا المجتمع بهذا المنطق العام الذي صار منتشراً يصير بالضرورة مجتمعاً مشغولاً بالمظاهر فاقداً القدرة على الإستقرار نتيجة لهذا التحدي البصري الدائم و فاقداً القدرة على إبصار ما هو نافع فعلاً و عملي وعادل. 

المرأة ليست كياناً ملائكياً مستعداً لإنكار نفسه من أجل الآخرين، المرأة كائن أناني مثل الرجل تماماً يستخدم ما أعطاه الله من ميزات كوسيلة لتحقيق رغباته و مطامعه كما أن الرجل يستخدم قدراته الجسدية و العقلية و النفسية لإيجاد منتجات و خلق ظروف يتعالى ويحتمي بها. هذا الفرق هو الفرق الأساس و إلا فالتصور الغريزي لدى الرجل بأن المرأة الضعيفة في الجسدها و المتغنجة في حركتها تشعر بالضعف و تستنجده كي يحميها و يهيمن عليها هو في الحقيقة تصور سطحي يجهل حقيقة إدراك المرأة الجميلة و الضعيفة في شكلها لقوتها وقيمتها الإجتماعية .. و المرأة نتيجة لهذا الأثر الإجتماعي و قدرتها على غزو الرجل و إشغال تفكيره تشعر بالغبطة و العشق لأنوثتها فتنافسه على الهيمنة و إن كانت تتظاهر بعكس ذلك.

الأربعاء، 6 يوليو 2016

في مسألة النسب (٢)




في مسألة النسب ( ٢ )
لا تحفظ الأنساب إلا لمصلحة سياسية 



القبيلة .. دولة بسيطة : 

القبيلة كيان سياسي خفيف الحركة بسيط التركيب بسيط الأهداف ينشأ في بيئة قليلة الموارد كثيرة المخاطر مكشوفة الأرض، لذلك فإن أفراد المجتمع في تلك اللبيئة ينحون للمحافظة على أنسابهم لما في القرابة و الرحم من معاني العصبية ما يهذب النفس و يضبطها، إذ الإنسان يجد في نفسه غضاضة أن تصاب رحمه بأذى نظراً لكون الإنسان يجد أن رحمه تمثله، و إدراك هذه النقطة يوصلنا للنتيجة البدهية وهي أن القبيلة و الرحم كانت أول الكيانات الإجتماعية المتحضرة ظهوراً ( و أنا هنا أعني بالتحضر النظام و رعاية المصلحة العامة و التعايش السلمي الناتج عن الهذه الرعاية، و لست أعني بها منتجات الحضارة المادية و تركيبها الطبقي و بنائها الإداري البيروقراطي .. ). و لأن الإلتزام و رعاية مصالح الآخرين تعد حالة طارئة عند الإنسان فإنه من البدهي أن تكون أول الكيانات السياسية نشوءً هي تلك الكيانات التي ترتبط بالدم و تتشابه في الخلقة و تتفق على تاريخها و مستقبلها، هذه الكيانات كايانات بسيطة بدائية قليلة التنوع كثيرة التشابه عظيمة التنافع بين أفرادها، كل فرد منها يؤدي وظيفة واضحة و مهمة في المجتمع ، فوظائف الذكور ( كالصيد و الزراعة و الحماية و الإستكشاف و ضبط المجتمع داخلياً ) يتميز بها الذكور فعلاً و تعد وسيلة للتفاضل بينهم ، أما وظائف الإناث فإنها متشابهة و أكثر أماناً و انصياعاً و ترابطاً من وظائف الذكور ( كالحمل و الرضاع و الرعاية و القيام بخدمة الأسرة و الحفاظ على العلاقات الإجتماعية لها ) و من كل ذلك يشكل الكيان وحدة متماسكة صلبة ، فالعصبية القوية المحفوظة بالمشاركة الكبيرة في الموارد و الحفظ الشديد للنسب و الشعور الجماعي بالمخاطر الخارجية يجعل من جميع أفراد القبيلة أطرافاً فاعلين في هذا الكيان، إنتاجاً و حماية و انضباطاً ، و لذلك فإن القبيلة في البادية تشكل أعلى درجات التجانس و الوحدة و الكفاءة الإدارية ليس لشيء إلا لاتحاد عصبيتها و توقد جذوتها و قلة التكلف في العلاقات الإجتماعية بين أفرادها، لكن ما الذي يجعل بعض فروع القبيلة تعلو على بعضها الآخر ؟ و ما الذي يجعل بعض القبائل قادرة على السيادة و إخضاع القبائل الأخرى ؟ 

إنتقال مجتمع قبلي من حالته الإدارية و الإجتماعية البسيطة إلى الحالة الهرمية المركبة التي يتطلبها بناء الدولة الغنية المستقرة يحدث صراعاً و مواجهة تُكْسَر فيها الكثير من العادات القديمة لتُبْنى عادات أخرى أكثر عملية و نفعاً في هذه البيئة الجديدة، و لأن العادات القديمة كثيراً ما تكون متجانسة مع بيئتها يعضد بعضها بعضاً لتتحقق المصلحة العامة ( كالزواج من الأقارب يهدف لحفظ النسب و الشجاعة و القضاء على الملكية الفردية بين أفراد القبيلة يهدف للقضاء على التمايز بين أفراد القبيلة للحفاظ على العصبية و توقدها ) فإن القضاء على بعض تلك العادات مما يضر بمصلحة الدولة ( كالتعدي على الملكية الفردية و القدح في الأعمال المهنية في مقابل العمل العسكري و التطلع الدائم للسيادة السياسية ) يؤدي للإضرار بعادات أخرى ذات نفع عظيم للدولة ( كالكرم و الشجاعة و العفة ) إذ أن العصبيات القديمة تهدم في مقابل عصبية جديدة يفترض بها أن تنمو لتستبدلها . 


عندما ينتقل المجتمع من الحالة البدوية الخالصة ( حيث يكون فيها النسب محفوظاً تماماً دون أي اختلاط بغريب أو اندماج في كيان سياسي أجنبي ) إلى الإستقرار و التحضر ( عن طريق المعاشرة و المتاجرة ) و عندما تزداد فروع القبيلة و يكثر عددها حتى تصير من عداد الدول فإن أفرع القبيلة و عائلاتها تتسابق للوجاهة طلباً للسيادة و يصير التعالي فيها و التمييز الطبقي ظاهراً بعد أن كان معيباً و محارباً،  في هذه الحالة و غيرها من الحالات المشابهة ( عندما تتلاقى القبائل من ذات العرق الواحد ) فإن الفخر بالأحساب يصبح ذا قيمة أعلى إذ هو يمايز بين الأنساب المتقاربة و يساهم في تعبيد الناس بعضهم لبعض، و هذه الحالة من السعي لبلوغ نسيج طبقي تمثل حالة انتقالية غير مستقرة، فهي ليست حالة إجتماعية بدوية خالصة ولا هي حضرية واضحة بل موقف منتصف بين حالتين، يحاول المجتمع فيها أن ينظم نفسه في بناء طبقي هرمي يتوافق مع المصلحة العامة للدولة كما يحاول أن يحافظ على بعض تقاليده و نقاوة عرقه إذ أن ذلك يمثل الإمتداد التاريخي لهذا المجتمع و الكيان السياسي الحاضر. و لأن هذه الحالة قد تطول كما أن الظروف قد تتبدل من الوفرة إلى الندرة (القحط) و الهجرة إلى البراري فإن الناس قد يخلطون بين أسبقية الطرفين ( الفخر بالأحساب و الطعن في الأنساب ) . 

النسب يسبق الحسب إذ هو ارتباط جماعي و رحم يقصد بها النصرة و التعاون ، أما الحسب فهو فخر ناتج عن و جود كيانات إجتماعية و سياسية منافسة يسعى أصحاب النسب الواحد أن يميزوا بها أنفسهم عن غيرهم أملاً في سيادة أو امتناعاً عن اتباع، ولا يعني هذا أن الأصل في الناس التراحم بل إن التباين الطبقي بين القبائل أو الطبقات الإجتماعية لا يحصل إلا بتراحم حقيقي واضح بين أفراد القبيلة أو الطبقة المعنية، ذلك أن حجم الثروة و القوة العسكرية تزداد بازدياد الأفراد المتشاركين و بالتالي فإن فارق القوة و الثروة يصبح أكثر جلاء كلما كانت مقارنة في جماعات كبيرة. 

لذلك فإنه يمكن اختصار ما سبق في هذه العبار .. (( النسب قرين الحسب و يقصد بهما السيادة ))

و لنوضح ما سبق في نقاط بسيطة ما هية الخصال التي ترشح الفرد للوجاهة في قومه و لسيلدة القبيلة على سائر القبائل : 
١- نقاوة العرق .. وهي تؤكد مفهوم الأصالة. 
٢- شرف النسب .. وهو يؤكد مفهوم العظمة. 
٣- الهيمنة المادية .. وهي تؤكد الكفاءة و ارتباط المصلحة. 

  • نقاوة العرق تؤكد ارتباط الفرد بمجتمعه ارتباطاً حيوياً، فهو منهم وحدهم ليست له ارتباطات عرقية أخرى أو نسب يجعله يتعصب لغير قومه، لذلك فإن انتصاراته إنتصار لهم كما أن عاداته تكون من صميم عاداتهم و ذاكرته التاريخية مستمدة من ذاكرتهم .. هذه الأصالة التي يراها العامة يراها هو أيضاً تجعل من العلاقة بين الحاكم و محكوم ارتباطاً دينياً إذ هي في عداد صلة الأرحام و من بدهيات التعصب في العلاقة الإجتماعية. 
  • شرف النسب له علاقة بشرعية التعالي ، فمن ارتبط نسبه ( أي فرعه من القبيلة ) بالشرف التاريخي ( أي الإنتصارات السياسية و العسكرية و السيادة على قومه يفيض عليهم من ماله و يساهم في حل مشاكلهم ) كان نسبه ممثلاً لتاريخ المجتمع ككل، إذ أن إنجازات المجتمع يمكن اختزالها إلى حد ما بما قام به أجداد هذا الشخص و أقرباءه و أقران أجداد، فتستخدم سيرة جده و من عاشره كوسيلة لحفظ تاريخ المجتمع و تصور أمجاده . 
  • لا يسيد من لا يستطيع ضمان مصالح الناس ، و لأن أصحاب العقار و الأملاك الكثيرة (الأصول) يملكون من فائض المال ما يستطيعون به أن يوظفوا شرطة و أمناً مستقلاً ، كما يستطيعون أن يوظفوا في أعمالهم و يقرضوا من أموالهم ما يحرك عجلة الإقتصاد و يقلل من الخصومات و النزاعات التجارية فإن صاحب المال غالباً ما ينتهي به الأمر أن يصحب ذا مكانة سياسية بارزه، وهو إن اتفقت له الخصلتين السابقتين صار مرشحاً للملك في قومه. 

مما سبق نلحظ أنه و إن كان عموم الناس يسعون للسيادة إلا أن السيادة لا تكون إلا من نصيب أوسع الناس أثراً في المكان و الزمان، أي أن الشخص وسيع الأثر مكاناً ( بامتلاكه للمادة و السلطة العسكرية الناتجة عنها ) بحاجة لأن يكون وسيع الأثر زماناً أيضاً ( أي أنه بحاجة لأن يكون منتمياً لنسب ممتد عبر التاريخ طولاً و آثراً كما هو ممتد عبر المكان في أثره المادي )، و هذا الإمتداد للفرد في إحداثيات الزمان و المكان و إن كان الناس يعترضون عليه فإنهم لا ينكرون أثره خصوصاً بتفاعلهم اليومي الذي ينقاضونه بأقوالهم. 

أخيراً يجب أن نلحظ أثر الخلقة على حركة البشر صعوداً و هبوطاً في التفاعل الإجتماعي، فبالإضافة لكون المادة و التاريخ و عدد الجماعة التي ينتمي إليها الإنسان مهمة فإن الخلقة مهمة أيضاً، فالجماعات التي يظهر فيه جمال خلقي تجد لنفسها فرصة في التعالي تتفوق على تلك الجماعات ذات العيوب الخلقية أو المتواضعة في هيأتها، و ذلك لسببين : 

١- جمال الخلقة هي الخصلة الأولى التي يهتم لها عامة الرجال عند الزواج، فنعومة المرأة و دقة ملامحها و بياض بشرتها يغري بها الرجال، و بالتالي فإن المجتمع الذي يملك من هذه الخصال ما يغري به المجتمعات الأخرى الشريفة يصبح مناسباً لهذه المجتمعات وبالتالي مستفيداً من شرفها و مكانتها ( أي أن الجمال يؤدي بالتدريج عن الطريق التزاوج للسايدة و الشرف ). 

٢-  السيادة و الرياسة من معانيها النظام و الكمال، و الجمال يفيد ذلك نظراً لما يحمله من معاني الإنتظام و التناسق بعكس القبح الذي يقترن بالفوضى و الدناءة، و لذلك فإن الجماعات التي تحسن خلقتها تجد لذلك أثراً على نفس أصحابها فيحرصون على إتمام الجمال في ملابسهم و مراكبهم و تفاعلهم و ما سوى ذلك، و هذا كله ييسر الأسباب لتسيد تلك الجماعة، كما أن غيرهم يقدمونهم في الوظائف نظراً لأن الناس يحسنون الظن بجميل الخلقة و يتفائلون به.  


من أسباب حديثي في هذا الموضوع تلك القصص المتكررة لحالات الطلاق في مجتمعنا تحصل بدعوى عدم التكافؤ في النسب ، و لأن هذا الموضوع كثيراً ما يطرح ليجد الناس في إثارته غصة، كما يسعون للتفاعل معه بطريقة تبدو ساذجة أحياناً ( إذ تجد بعض الناس يسعى للتأكيد على أمجاد و تاريخ لا يذكره الناس أو للتزوج بمن يجلهم في أنسابهم و يمتنع عن تزويج من لا يحترمهم و إن كان المجتمع لا يقر له بتعاليه عليهم )، كله هذه المواقف تعود للحرص الكامن في أفراد المجتمع على التعالي و التمايز ( وهذا نقيض التواضع و التراحم التي أمر بها الإسلام ) كما يعود للجهل بأسباب الشرف التي تختص بها بعض العوائل ، فالشرف تصنعه أجيال متتابعة لا جيل واحد ، أي أنه يحتاج لأجيال من السيادة و خصالها ( الغنى مع الكرم و الشجاعة و العفة و الحكمة و إنكار النفس ) ، فالجد الذي يملك من ذلك الكثير لا يتميز كثيراً عن قومه لكنه ييسر لابنه أن يزيد بعد أن كان تعلم من أبيه خصاله ، ثم ابن الإبن بعد ذلك ، ثم ابن الحفيد ، فإن تكررت السيادة و خصالها في عائلة من العوائل حتى ارتبطت الأحداث التاريخية بهم كان في ذلك تمييز لهم و لنسبهم، فالناس لا تذكر التاريخ البعيد و قدرتها على معرفة ماكان عليه الناس بوضوح قبل قرنين من الزمن محدود جداً ، لذلك فإن الأنساب تعلو و تهبط بظهور خصال الخير في الناس و الغنى ، كما أن إقبال الناس على التمايز في حال الوفرة لا يعني صحة التمييز ولا كفاءته ، و بمجرد تغير أحوال المعيشية و ظهور الحاجة تنهار تلك المعايير ليسيد أناس لم يكن لهم في السيادة نصيب.

مختصر المقال في نقاط :

  • حفظ الأنساب يكون أساساً لحفظ كيان المجتمع.
-   إذ ظهر الغنى حفظت الأنساب الأكثر شرفاً (الحسب) و أهملت الأخرى. 
-   إذا استقرت الدولة و طبقاتها على مدى قرون إختصت الطبقة الحاكمة نفسها بحفظ النسب و الحسب و استعبدت الطبقة الدنياً إستعباداً حرفياً (كما حصل في أوروبا). 
-   عبر القرون تتغير الكيانات السياسية (القبائل و الشعوب) بحركة المال و الناس فتتغير الذاكرة التاريخية ( إذ أن ذاكرة عامة الناس لا تمتد عميقاً في التاريخ ) مع مرور الزمن لتظهر فئة أرستقراطية جديدة و طبقة محتقرة جديدة بحسب وفرة المال و العدد و تاريخ الشرف الذي يدونه الناس خلال هذه المدة الجديدة ( غالباً ما تكون المدة أربعة أجيال كما ذكر ابن خلدون .. فمن عرف في قومه بخصال الشرف و السيادة ثم رؤيت تلك الخصال في ابنه و حفيده أيضاً صار لابن حفيده نسب يبتغى و لتاريخ أجداده هيبة يتمثل بها الناس ).
-    للجمال أثر في مستقبل الجماعة كما للمال و الكفاءة و التاريخ و إن كان أثره يتأخر أحياناً إلا أن جمال الخلقة ينحو للزاوج بالمال و العلم و الشرف.