الخميس، 3 ديسمبر 2015

صناعة الأمارة .. (٢)



صناعة الأمارة .. (٢)
( إن الطريقة التي تسلكها الأمم للدفاع عن نفسها و الصراع من أجل البقاء تدل على صورة الشخصية الكامنة في أذهان أفرادها ) 


هذا المقال يحاول أن يؤكد نقطة وهو ينطلق منها أيضاً ، وهي أن الإنسان عاملٌ مستقلٌ مؤثرٌ في حركة الزمان و المكان كما هو يتأثر ، يصنع التاريخ كم أن التاريخ يصنعه ، بعكس ما سار عليه عموم الفكر الفلسفي الغربي الذي يرى بأن الإنسان مادة ظروفه و حصيلة صراعه الدائم المرير من أجل البقاء تأسره غرائزه ولا يملك الإنعتاق منها، و سواءً كان الصراع يتخذ شكلاً طبقياً عمودياً أو هو صراع أفقي -عرقي كان أو عقدي-  أو حتى على صعيد التفاعلات الإجتماعية الصغيرة التي يتصارع فيها الأفراد ذكوراً و إناثاً من أجل ضمان النسل و مركزية الذرية و مكانة العائلة الإجتماعية ( صراع التناسل ) فالمقال في عمومه تأكيد لأهمية الشخصية السائدة في الجماعة بغض النظر عن ظروفها و نظرة هذه الجماعة للمحيط من حولها و طريقة تفاعلها معه إذ الموقف الجماعي في نظرته للمحيط و طريقة تفاعله معه موقف محوري يؤثر في شكل المستقبل ، فالجماعات المؤثرة تقف موقف التعالي الأخلاقي المقرر للعموم صحة الفعل من عدمه فيتبع عن ذلك تعال مادي يحقق سيطرةً ماديةً على المحيط و هيمنةً عليه ، تصوغ على إثره الجماعةُ المصيرَ العامَ و تتركُ معالماً على المادة من حولها تدل على حركتها على تلك الأرض بعكس الجماعات المتأثره الساكنة التي يُرى للزمن أثره عليها . 

قبل عدة أيام اطلعت على نظرية إجتماعية أصلها دراسة بيئية مبنية على ملاحظة حركة الحيوانات و طرق تزواجها و صراعها من أجل البقاء و ضمان نسلها . هذه النظرية سميت ب ( r/K selection theory )  أي نظرية “الإختيار بين النوع و الكم” في طريقة التناسل و الصراع من أجل البقاء و قد سميت بهذا الإسم من قبل العالمين (ربورت مكارثر) و (إدوارد أو ويلسون) وهما عالمان بيئيان درسا تفاعل الكائنات و قدرتها على البقاء في محيط معزول  -كالجزر و الحضائر-  لدراسة درجة اغتناء البيئة بالكائنات و أثر اغتنائها بدايةً على الكائنات المهاجرة إليها عندما تكون هذه البيئة معزولة عن البيئة الكبير “الأم” مهما كان شكل هذا الإنعزال الجغرافي .. إذ الإنعزال عن المحيط الكبير يقلل بالضرورة من العوامل المغنية للبيئة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى انقارض بعض الكائنات و بقاء بعضها الآخر .  

البيئة المعزولة سواءً كانت جزراً حقيقية أو بيئات متميزة معزولة بشكل آخر كالواحات و رؤوس الجبال و الغابات الصغيرة المحدودة كلها تشكل ظروفاً قاسية تؤثر في طريقة تفاعل الكائنات و تميزها من حيث قدرتها على البقاء ، و هذا بالضبط ما تقصد الدراسة تسجيله وما نتج عن ذلك من ملاحظة إجتماعية تنطبق على البشر كما هي تنطبق على الكائنات الأخرى و يجد لها الإنسان صوراً يومية في الحياة السياسية و الإجتماعية . 

عدد الكائنات في البيئة المعزولة (التي لم يتدخل الإنسان فيها) يمكن تحديدها بنقطتين : ١- معدل الهجرة .  ٢- معدل الإنقراض . و كلٌ من هذين النقطتين يتأثران بعدة عوامل ، فحجم البيئة المعزولة و درجة بعدها يؤثران في معدل الهجرة و قدرة الكائنات المهاجرة على الوصول إليها ، أما معدل الإنقراض فيتأثر بدرجة غنا هذه البيئة (كبرها)، و مناسبتها للكائن و درجة انعزالها و مدة انعزال الكائنات فيها . و ليس يهمنا هذا الكلام كله ولكن ما يهمنا هي الطرق التي تتخذها الكائنات ( الحيوانات ) في هذه الظروف القاسية للحفاظ على نسلها ، وهي هذه الطرق التي يمكن استخدامها لمقارنة حالة المجتمعات البشرية و قدرتها على البقاء . 


بعد البيئة المعزولة يؤثر في معدل الهجرة 


حجم البيئة المعزولة يؤثر في معدل الهجرة 


الحيوانات في طريقة تناسلها و الحفاظ على جنسها حسب هذه النظرية تنقسم إلى قسمين .. ١- قسم يسعى لإنجاب أكبر قدر ممكن في أقصر وقت ممكن دون بذل جهد كبير في الرعاية و التنشئة . ٢- و قسم آخر يتصف بالتحزب و العصبية للجماعة فينجب قليلاً و يرعى ذريته حتى يشتدوا وهو يحرص على تقوية إنتمائهم و دفعهم للمدافعة عن أقرانهم و ذراريهم .. غالباً ما يُستخدم الأرنب للدلالة على الجماعة الأولى و الذئب للدلالة على الجماعة الثانية و إن كان التقسيم يعم جميع الحيوانات ، فالحيوانات التي تَظهر القوة في خلقتها تميل لتحديد هويتها القبلية بمعزل عن القبائل الأخرى المنافسة لها و إن كانت من نفس الفصيلة الحيوانية وهي تتصارع معها على النفوذ و تحرص على الغلبة فيما تكون الحيوانات من القسم الأول ضعيفةً حريصةً على مجرد البقاء و إبقاء النسل فتتناسلُ بشكلٍ سريعٍ بحسب الموارد المتوفرة دون أن يظهر على أفرادها تحزبٌ وهويةٌ مستقلةٌ يتم التضحية لأجلها ، فالحمير و الغزلان على سبيل المثال لا يقوم فحولها بمدافعة الحيوانات المفترسة و لا يعرضون أنفسهم للخطر وقت الهجرة وهم يقودون القطيع تجاه المراعي الخصبة بل يتدافعون فيما بينهم كلٌ يطلب نجاته .. الصراع بين الذكور هنا لا يكون إلا للتزعم و الإبهار طلباً للتزاوج . 

هذه النظرة لطريقة الإنجاب و الرعاية التي يتخذها كل قسم كوسيلة إستراتيجية لضمان النسل ليست حديثة ولكنها أُغفِلت في مقابل نظرية التطور التي تفسر تركيبَ الكائنات و طريقةَ نموها و تعاشرها تبعاً لتاريخ فصيلتها و أثرَ الإنتقاءِ الطبيعي عليها وعلى نسهلا وهي تصارع من أجل البقاء (Evolutionary Psychology)، و مع أن الإنتقاءَ الطبيعيَ و أثره ظاهر في سيكولوجية الكائنات من حولنا إلا أن طريقة التناسل و درجة الإستثمار في النسل و نوع التركيب الإجتماعي في القطيع لا يمكن إنكار تناسبه مع مقدار القوة التي يتمتع بها ذلك الفصيل ، و بالتالي فإن هذه النظرية لا تتكئ على سراب.  

الصَدَفُ ينتج٥٠٠ مليون بيضة في السنة و بالتالي فهو من أكثر المخلوقات إعتماداً على معدل التوالد لبقائه ، في مقابل القرد الذي ينجب مولوداً واحداً في السنةِ ليكون من أكثر المخلوقات إعتماداً على نوعِ المواليدِ و كفاءتهم ، و بين ذلك و ذاك تتمايز الكائنات فالأسماك بالعموم تتكاثر بكثرة و سرعة إلا المفترس منها , و الثديات تتفاوت تبعاً لحجمها و البيئة التي تصلح لمعيشتها و غذائها .




الكائنات التي تقدم نوعية النسل على كميته 
الكائنات التي تقدم كمية النسل على نوعيته
تعيش غالباً في مناخ ثابت و مستقر .. تميل للسيطرة على بيئتها ولا تتحمل التقلب الكبير في الطقس و الظروف المعيشية
تعيش في الغالب في بيئة متقلبة المناخ و الظروف .. هذه البيئة تناسب هذه الإستراتيجية في البقاء .
معدلات الوفاة تعتمد بشكل كبير على الكثافة السكانية إذ التهديدات الخارجية أقل خطراً عليها منها على نفسها
معدلات الوفاة لا تعتمد غالباً على الكثافة السكانية بل تعتمد على الظروف الخارجية و الإعتداء الخارجي .. زوال المعتدي يؤدي لانفجار في تعدادها .
تميل للتنافس و التمايز
لا تميل للتنافس كثيراً و إظهار التعالي .
تنتقي حسب نوع النسل و كفائته 
تنتقي حسب القدرة على الإنجاب و كميته .. 
معدلات الإنجاب قليلة ، و مدة الحمل طويلة ، و حجم الجسم كبير و متوسط العمر طويل .
معدلات الإنجاب عالية ، و سرعة الإنجاب عالية ، و الأجسام صغيرة و متوسط الأعمار صغير.
الكثافة السكانية تكون ثابتة عبر الزمن و غير متذبذبة عموماً ، متوافقة مع كمية الموارد في البيئة المحيطة .
الكثافة السكانية غير ثابتة ، متذبذبة بشكل كبير وهي غالباً ما تكون دون كثافة القسم الثاني من الكائنات المفترسة المحيطة


لماذا الإهتمام بهذه الدراسة ؟ و ما الذي يمكن أن تدل عليه ؟ 

إنني على كثرة ما سمعت عن هذه النظرية و التحليلات السياسية التي بنيت عليها أرى بأنها تحوي من التفسيرات و الدلالات لكثير من الأسئلة ما يجعل طرحها و مناقشتها أمراً مهماً و مفيداً . تناسب القوة و أثرها على التركيبة الإجتماعية و الطريقة البيولوجية في التعاشر يجعل الكثير من المواقف الإجتماعية و السياسية مفهومة و يؤكد على محورية الكثير من التشريعات الإسلامية التي أُهملت أو بُررت و فُسّرت بشكل خاطئ تبعاً لموقف أخلاقي مسبق لدى الناس . 

البشر بطبيعة الحال أكثر المخلوقات ميلاً نحو اليمين ( أي تقديم نوعية المولود و كفائته و الإستثمار فيه على مجرد العدد ) و هذا الميل البيولوجي الطبيعي يظهر بشكل أكبر على شكل صيغة ثقافية و عادات إجتماعية لدى المجتمعات الغالبة في مقابل المجتمعات الضعيفة ، فالمجتمعات المتغلبة تصرف قواها و طاقتها للتغلب على العدو الخارجي فيما تحرص على الحفاظ على الداخل من خلال نظام يقدم الكفائة و يحافظ على التراتبية بحسبها و يسخر الكثير من جهده و موارده لتنشئة نسله و تقويته ، فيما تعيش المجتمعات المستضعفة مغلوبةٌ على أمرها تحرص على مجرد البقاء و تتخذ التكاثر وسيلة له ولا تصرف من قواها الكثير تجاه من يعاديها بل تنصرف الكثير من هذه القوى للداخل لتصبح وسيلة للتمايز و التدافع من أجل البقاء في بيئة إجتماعية هشة تستشعر الفناء .. المجتمع الغالب واثق من نفسه ، ثابت في نظرته ، قادر على استقراء واقعه و استشراف مستقبله ، يكره التذبذب و لا يستطيع التعايش مع الفوضى ، فيما تكون البنية الإجتماعية و السياسية لدى المجتمعات المغلوبة بنية تكالبية تدافعية تتغذا على الفوضى و تجد في انهزامها وسيلة لتبرير وجودها و تركيبتها و عاداتها . 

و مع أن الإستدلال بطبيعة الكائنات الحيوية للدلالة على التركيبة الإجتماعية و الثقافية لدى المجتمعات البشريه عليه ما عليه إلا أنها تحمل دلالة واضحة على مركزية العامل الحيوي (البيولوجي) في تقرير الأثر و البناء و ترد على متبني فكرة التربية في تقريرها للبناء الإجتماعي و السياسي ، و هذه النقطة مهمة و محورية وهي قادرة على توفير الكثير من الجهد و المال في حال وصلت لأصحاب القوة و المتنفذين حتى تبنى السياسات على ماهو واقعي و على السنن الكنوية لا التمني الذي لا يمكن أن يغير من الطبيعة البشرية و البيئة شيء . 





هنا مجموعة من النقاط التي يجب التأكيد عليها تبعاً لهذا الكلام و تبعاً لما سبقه في مقالات سابقة : 

  • المجتمعات البشرية مجتمعات مصارعة و متصارعة بطبعها تكتسب قيمتها من قدرتها على فرض سيطرتها على محيطها و فرض احترامها ، و كلما تمكنت من تحقيق هذه الغاية سادت روح السيطرة فزادت كفاءة الأفراد و قدرتهم على إستشراف المستقبل “العلم” و الإنتظام في بناءٍ متين لتحقيق المصلحة العامة . 
  • الكفائة و النفع قرينة القيمة و القبول في المجتمعات البشرية (و بالأخص لدى الرجال) ، و الهوية الجماعية محورية أيضاً في المجتمعات البشرية فضعف الأفراد عن حماية هذه الهوية طاعن في قيمتهم و مستجلب لفنائهم ، و بالتالي فإن الجماعات التي لا يستطيع أفرادها الدفاع عنها تنهار أخلاقها و تضعف قدرتها على فرض النظام و إيجاد العلاقات الأسرية و الزوجية المستقرة في الكثير من الأحيان . 
  • القوة السياسية لا تأتي إلا بنظام ، و النظام لا يُضبط إلا بتراتبية ، و التراتبية الصحيحة لا تتم إلا بتقديم الأكفأ و الأقوى ، ولأن إستقرار التراتبية و النظام يتطلب رضاً عاماً عن شكله فإن هذا النظام يجب أن يسمح بالصراع الداخلي المحدود بين المتنافسين على القيادة فيما يُترك الضعافُ و العجزةُ تحت وصايةِ الأقوياءِ و رعايتهم ، و هذا كُلُهُ لا يؤدي لمنفعةٍ عامةٍ مالم يحترمِ الضعيفُ القويَ و يسلمُ له أمره و يلتزمُ القويُ تبعاً لذلك برعايته و رعاية ذريته . 
  • تنمو المجتمعات البشرية عدداً و اقتصاداً حتى تستنفد المواردَ الطبيعيةَ المتوفرة إذ ليس هناك من خطر على الإنسان أكثر من نفسه و لولا الندرة في الموارد لاستمر في التكاثر ، ولذلك فإن كمية الموارد و تنوعها و توزيعها له أثر كبير على البناء الإجتماعي و السياسي و القوة العسكرية لجماعةٍ من الجماعات في مقابل جماعةٍ أخرى .. و المجتمعات القوية التي تغلب جميع أقرانها و تخضع الطبيعة من حولها حد الأمان المطلق و الرفاهية المطلقة تصبح هويتها في خطر أكبر مع الوقت نظراً لأن رجالها ينشغلون بالتمايز فيما بينهم عن مواجهة العدو الخارجي .  


ماهي الأمارة ؟ 

الأمارة في أصلها وصايةٌ و تراتبيةٌ نظاميةٌ مبنيةٌ على وعيٍ بتفاوت القدرات و الكفاءات وما يتبع ذلك من تفاوتٍ في الصلاحيات و المكانة ، و لأن التسليم بالتفاوت و الإنقياد و التنازل خصالٌ غير أصيلةٍ في الطبيعة البشرية فإن أي رسالةٍ تهدف لبناء نظامٍ سياسيٍ صالحٍ قويٍ و متامسكٍ يجب أن تتمكن من زرع الهيبة و الأمل في قلوب أفراد المجتمع مع قدرٍ كبيرٍ من الزهد و الرضا حتى يستطيع الناس أن يُعَبّدوا أنفسهم لعضهم البعض دون جهدٍ عسكريٍ كبير أو هدرٍ كثيرٍ للمال . 
الإسلام يعي بأن عموم الناس لا ينقادون لما هو عقليٌ و منطقيٌ بل تقودهم غرائزهم و عواطفهم بالعموم ، يقول تعالى : ( و قالوا إنا وجدنا آبائنا على أمة و إنا على آثارهم مهتدون ) و يقول : ( و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) ذلك أن أكثر من في الأرض يتبعون غرائزهم و أهوائهم، و لأن هذه الغرائز غرائز أنانية طامعة لا تشبع فإن الأصل انحلال النسيج الإجتماعي و البناء السياسي مالم يكن هناك عامل خارجي مؤثر أو قوة ضابطة ، و أما العاطفة فإنها تتعلق بما ورثته المجتمعات من عقائد دون تحكيم عقلي عميق فتصبح الكثير من العادات الإجتماعية و الممارسات الثقافية متمحورة حول هذه العقائد و التي تكتسب الكثير من الرواسب عبر القرون تبعاً للمصلحة الإقتصادية و الإجتماعية التي يتطلبها الزمان .

الأمارة وصايةٌ يمنحها الإسلام لكفاءات المجتمع التي تتمكن من فرض هيبتها و تأكيد النظام الشرعي فيها لتصبح الهوية الإسلامية و الشريعة متمثلةً في خُلُقهم و هيأتهم ، و لأن هذه العقيدة تكتسب الكثير من قوامها و هيبتها من صور الرجال المهابين في خِلقَتِهم و خُلقِهِم و من تلك الصراعات الفردية و الجماعية التي تحول الصور الذهنية التي يختزلها القرآن إلى أجسامٍ و عاداتٍ مادية يتمكن العامي من ربط نفسه بها و التعصب لها و التعالي على غرائزه من خلالها ، فيكون للأمير دورٌ محوريٌ في تجسيد الدين و تكون لعادات الأمارة و نظمها دورٌ في رفع ذائقة العامة و تكون لشجاعة الأمير و استعداده لخوض الحروب دور في جمع الكلمة و رفع الهمة . و الأمير هنا لا يكون صاحب الدولة و الأمارة السياسية فحسب ، ولكنه رأس القبيلة و رأس العائلة كما هو رأس الأمارة و الوزارة . هذه الطريقة الهرمية في البناء السياسي تقلل تكلفة الحكم على الدولة و تعطي الكثير من التوكيل لرؤوس الجماعات في داخل الدولة كما هي توكل الرجل على بيته و تمتنع عن التدخل في تفاصيل القيادة والعلاقة فيما بين الناس .. هذا الشكل من الأنظمة يصنع عقلية الأمير لدى شريحة واسعة من الناس بسبب الصلاحيات التي يمتلكها أفرادها و القدرة التي يمتلكونها على التأثير و بناء الشخصية العامة ، هذه الشريحة يمكن تسميتها بالشريحة الأرستقراطية العامة إن صح التعبير أو غير ذلك و إن كانت الأرستقراطية قد صارت مرتبطة في الأذهان بالجماعة القريبة من الحاكم والتي تتعالي على المحكومين و تسعي في مصلحتها الذاتية و تستغل الموارد و اليد العاملة دون أن تضيف للمجتمع ما يشرع لها ذلك، وهذا و إن كان صحيحاً إلا أن توارث المرتبة الإجتماعية هذه هو الذي قعد بها عن القيام بدورها وهو دور الضبط و التحفيز ( فهي لا تظبط بالقوة أساساً ولكنها تمتلك المكانة الإجتماعية التي تصوغ من خلالها عادات المجتمع و أخلاقه ، فتكون فيها الهيبة التي تضبط الغرائز و العواطف و تحرك الناس نحو طلب السماء ) .. البناء الهرمي في الدولة الإسلامية بناء صحيح صالح يكتسب صلاحه من صلاح قلوب أفراده أكثر من صلاح النظام نفسه و عبقريته إذ أنه لا يوجد نظامٌ عبقري يحقق النتائج عندما تكون القلوب ميتة ، فالأنظمة مهما ملكت من نظم و ضوابط فإن عصبيات الناس و جهالتهم تقعد بتلك الأنظمة عن بلوغ غايتها فيما تنجح أنظمة أخرى لا تختلف كثيراً في البناء الهيكلي للدولة نظراً لكون أفرادها يملكون هويةً سياسيةً و عقيدةً واضحةً متجسدةً في خلق أمرائها و ههيئتهم و في شكل بنيانها و طبيعة بيئتهم حتى صارت الأخلاق العامة متجاوزة لخلق الأنانية و الجزع . 

العقد الإجتماعي الذي يتنازل فيه عموم الناس عن قدرتهم القتالية و شيء من قرارهم السياسي لأجل ضمان مصالحهم و تجسيد هويتهم لا يكون بين عموم الناس و رأس الدولة فحسب ولكنه يكون بين الأمراء الصغار و من تحت إمرتهم أيضاً ثم من يعلوهم و من يعلوا هؤلاء حتى رأس الدولة ، التسليم هذا هو ما يزيد عدد الأمراء الذين يعرضون للمحاسبة و يملكون الكثير من الموارد حتى يمثلو الهوية العامة ، سواءً كانت هذه الهوية لأسرة صغيرة أو عائلة كبيرة أو منطقة في دولة أو الدولة ككل ، و هكذا فإن هذا الهرم الكبير الذي يتشكل من عدة أهرام داخله هو الذي يدفع الرجال للتخلق بخلق الأمير عوضاً عن خلق الفقير وهو ما يوجد الشعور بالمسؤولية تجاه البيئة الصغيرة المحيطة و القدرة على السيطرة مما يستحث الفكر و ينشط الهمم و يوجد لعموم الذكور فرصة يحصلون من خلالها على صفة الرجولة و أخلاقها . 

الرجولة هوية مكتسبة تعطي الذكور قيمتهم المفقودة و هي تحقق المصلحة العامة للمجتمع من خلال سير العامة لتحقيق هذه الصفة ، كل الأفراد في المجتمع يتنقلون بين الحاجة للإستئمار بأمير يفرض النظام و الحاجة للتعالي علو الأمارة في النفوس حتى تنضبط الأخلاق ، و لأن الأمارة قوة تؤخذ ولا تعطى ولأن الرجولة صفة تستجلب ولا تمنح فإن التركيبة الإجتماعية للمجتمع يجب أن تعطي لكل ذكر الفرصة أن تتسامى نفسه ليستأمر فيضبط غيره و ينضبط ، و هذه الأمارة على تفاوتها تحقق الهدف في إيجاد وسيلة يجد الذكور من خلالها أنفسهم و يجد المجتمع من خلالها وسيلة تظهر فيها كفاءاته ، فهناك أمير بيته “رب البيت” ، و أمير عشيرته ، و أمير منطقته ، و أمير مؤسسته ، و أمير قطاعه “وزارته” ، و أخيراً أمير البلاد .. و هذه الأمارات تيسر من الوسائل ما تحافظ به على مقامات الجميع و تحقق مصالحهم و تضبط أفرادهم . 


صناعة الأمارة .. (١)



صناعة الأمارة .. (١) 
( الرجولة قرينة الأمارة


كنت قدر قرأت قبل عدة سنوات كلاماً للدكتور محمد حامد الأحمري في كتابه “الديموقراطية .. الجذور و إشكالية التطبيق” و لا يزال بعض كلامه هذا عالقاً في ذهني إلى اليوم ، إذ كان يتكلم عن العلاقة بين البناء الديموقراطي للدولة و بين ثاقفة الفرد ، فالشعور بالمسؤولية و الإعتماد على ذات و الشجاعة هي من سمات الفرد في المجتمعات الديموقراطية إذ تصبح المسؤولية السياسية مسؤوليةً عامة فيما تظل القضايا الشخصية شخصيةً إلى حدٍ بعيد نظراً لأن العقد الإجتماعي القائم يزرع مبدأ الإضافة لا الإتكال و المنافسة لا المراعاة ، إلا أن سيادة العوام بكل صورها الثقافية و السياسية و الإقتصادية تأخذ طولها على الذوق العام و ثقافة المجتمع ولو على المدى البعيد تبعاً لطريقة تبني البناء الديموقراطي الحديث و سرعته ، فالدول حديثة النمو  كما ذكر الكاتب انتقلت في بنيتها السياسية و الإجتماعية من سيادة النخبة لسيادة العامة في ظرف زمني قصير وهي في طريق تحررها هذا تحررت من الكثير من النظم و العادات الإجتماعية و السياسية الضابطة التي كانت تضبط أخلاق الناس و ترعى هممهم فصار البناء الإجتماعي و الثقافي في كثير من تلك الدول بناءً فوضوياً قبيحاً ، فيما شهدت المجتمعات الغربية تماسكاً ثقافياً و اجتماعياً و رعايةً واضحةً للذوق العام نظراً لتدرج النمو و التحول في بنيتها السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية . و فيما يتبع أدرس شكل التركيبة السياسية و الإجتماعية التي تحقق أكبر قدرٍ ممكنٍ من النجاح سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً ، و الحقيقة أن هذه الدراسة تأكيد على أهمية صياغة شخصية الفرد و إثبات لقيمة الأمارة الإجتماعية فيه إذ تضبط المجتمع و ترفع ذوقه و تحفاظ على مستقبله . 

عندما انهارت الدولة العثمانية أصبحت الدولة التركية دولةً بوليسيةً إلى حد بعيد و لم تكن محاولات التغريب السياسي و الثقافي لتجدي نفعاً في تطوير المجتمع و تنميته إذ احتاج مصطفى كمال أتاتورك للقيام بنفسه برفع المسدس في وسط البرلمان و الوعد بتصفية كل من يحاول الوقوف في وجه علمنة الدولة و تغريبها و تبع ذلك العديد من السياسات التي صادرت الكثير من الحريات باسم الحرية نفسها و التقدم ، و فرضت العديد من التقاليد الحديثة باسم الحرية و التقدم أيضاً حتى صارت صورة الحكم الغربي نفسه وسيلةً لتحقيق الإستعباد لا الحرية و التبعية لا الإستقلال ، ولكن ما تبع ذلك كله كان أشد خطورةً ، فالمجتمعات التي تعرضت لذلك الحد من الأسر و المصادرة أنجبت قايداتٍ بليدةً ذهنياً و خُلُقياً إذ هي فرضت روحاً غير روح الدولة و حكّمت شريعةً لا تمثل قناعات الشعب و قضت على كل رموزه الإجتماعية التي وجدت أن وجودها يساهم في تعزيز هذه الثقافة و قيمها و أهدافها . و كذلك الأمر في كل من مصر و الشام و العراق و بلاد المغرب العربي التي وجدت شعوبها أن شخصيةً غير شخصيتها قد فُرضت عليها و مبادئً غير مبادئها قد صارت تحكمها فشُلّت حركة قياداتها الفكرية و السياسية و صارت المجتمعات أسيرةً على نفس أراضيها و بنفس عرقها تُمَارَسُ ضدَها الوصاية بكل أشكالها ، و مع ما كانت ترنو إليه هذه القيادات السياسية الجديدة من تقدم على النموذج الغربي إلا أن النتيجة كانت أبعد ما تكون عن الصورة الغربية ، لتنتقل بعدها هذه القيادات السياسية و الفكرية من ذم الإسلام و الشريعة لذم هذه الشعوب المسلمة نفسها . 

لم يكن العالم الإسلامي و العربي وحده من نظر للعالم الغربي نظرة إعجاب و انبهار بل تشاركت معها سائر المجتمعات الأخرى فحاولت إستنساخ تجربة الغرب السياسية و مبادئه الإجتماعية و تصوراته الفكرية أملاً في الوصول إلى نتيجة مشابهة للنتيجة التي وصل إليها، و لكن نتيجة ذلك الإستنساخ كان متبايناً تباين عقائد الناس و مبادئهم و مصالحهم قبل حدوث ذلك الإستنساخ فتحولت بعض المجتمعات الشرقية إلى مجتمعاتٍ ديموقراطيةٍ علمانيةٍ بشكل إنسيابي إلى حد ما فيما وجدت مجتمعاتٌ أخرى ذلك التحول دماراً و انهياراً على جميع الأصعدة . و مع أن نجاح التحول يعد أمراً مرغوباً و محموداً على العموم نظراً لما يحققه من تنميةٍ إقتصاديةٍ و إستقرارٍ سياسيٍ و اجتماعيٍ إلا أن آثاره على المدى بعيد غير محمودةٍ و غير مرئيةٍ مما يدفع لإعادة مناقشتها و نقدها من قبل هذه المجتمعات الناجحة نفسها نظراً للغربة الفردية التي تخلقها بداخلها على المدى البعيد .





تكلم ميكيافيلي في كتابه “الأمير” عن الفرق بين تلك الدول التي تُعد فيها السلطة المركزية سلطةً محدودةً لا تتمكن من إخضاع الأرستقراطية و أمراءَ المناطق إخضاعاً مطلقاً و تضطر في كثير من الأحيان إلى مداهنتها و ضرب بعضها ببعضٍ و احترام مكانتها الإجتماعية و ممارسة البروتوكول معها ؛ و بين تلك الدول التي يكون للسلطة المركزية كل القوة و النفوذ و لا يعد أمراء المناطق فيها إلا موظفينَ و أتباعَ ينقصُهمُ العمق التاريخي و الهيبة الإجتماعية و المركز المالي .. فالدول من النوع الأول بحسب ميكيافيلي هي دول أكثر إنكشافاً على القوى الخارجية و أكثر هشاشةً في بنيانها السياسي على المدى القصير نظراً لصراع وجهائها، ولكنها في الغالب تكون محافظةً على هويتها و تكون تقاليدها و معالم ثقافتها واضحةً في مقابل المجتمع الخارجي الذي و إن نجح في الإعتداءِ فإنه غالباً ما يفشل في فرض سيطرته على هوية المهزوم على المدى البعيد فتكون نهايته أن يلفظه المجتمع نتيجةً لعدم قدرته على تحمل سيطرته المطلقه و فرض ثقافتة و بنائه التراتبي الجديد إذ هو لم يكن يقْبل من سلطةِ بلاده المركزيةِ فكيف يقبل من غيرها . أما الدول التي هي من الطبيعة الثانية و التي تتمتع بسلطة مركزية كبيرة فإنها أقلُ انكشافاً على القوى الخارجية و أكثرُ قدرةً على مدافعتها نظراً لصرامة النظام فيها و قلة الإختلافِ و سرعة الحركة فيها ، إلا أنها عندما تهزم فإن مكونات المجتمع فيها تذوب سريعاً غير قادرةٍ على إعادة لملمة نفسها و فرض هويتها على المعتدي .. هذا الكلام يمكن قبوله على العموم لكن السلطة المركزية في الدولة الإسلامية ظلت محدودة قدرتها على التشريع و القضاء ولذلك فإنه لا يصح ربها بالصورة الثانية كما يحب المؤرخون ، و التاريخ يشهد بأن المجتمعات المسلمة نجحت في تكون أرستقراطيتها و أماراتها التي حاربت الإحتلال ولا تزال .


الدول من الطبيعة الأولى .. ( التي لا تتمتع فيها السلطة المركزية بنفوذ مطلق بل تحتاج لمراعاة القوى الإجتماعية البلاد و تحتاج للحفاظ على العادات و البروتوكولات المتعارف عليها طلباً للإستقرار ) 



الدول من الطبيعة الثانية .. ( التي تكون السلطة المركزية فيها كبيرة فلا تكترث لوجهاء المجتمع ولا تراعي آرائهم ولا تختف عصيانهم لأن كل شيء يبدأ منها و ينتهي إليها ) 


البنائان السياسيان السابقان بنائان تراتبيان “هرميان” ، توجد فيهما سلطة هرمية واضحة و رعية عاملة واضحة ، إلا أن نتاج هذين البنائين يختلف تماماً . فالبناء الأول يحوي الكثير من التوكيل و المراعاة و الإنتظام في مجموعة من العادات و المبادئ التي تحكم حركة القوى في الدولة فتصوغ طريقة تفاعلها و حدود نموها ، فتكون معها الحكومةُ المركزيةُ أسيرةَ هذه العاداتِ و الأعراف مما يقلل من حركتها ، لكن هذا البطء في الحركة و إن كان مكروهاً لدى الساسة إلا أنه يقلل من التكلفة المادية و البشرية للإدارة و يزيد من قدرة الدولة على تحمل الأعباء المستقبلية . أما البناءُ الثاني فهو بناءٌ هرميٌ واحدٌ برأسٍ واحدةٍ وحركةٍ واحدةٍ كبيرة إن تعطلت تعطل كل شيء و إن تحركت أنجزت الكثير ، ولكن لكونها لا تعتمد إلآ على عقل واحد فإن جميع العقول تشل و معها أخلاق المجتمع و كرامة الفرد و معنى المسؤولية و الطموح و الكرامة .

معظم الجمهوريات العربية في الوقت الحاضر دولٌ عسكريةٌ بنيت على شكل بناءٍ هرميٍ صلبٍ  حاربت من خلاله هذه الدولُ عاداتَ المجتمعِ التاريخيةَ و واجهت عقيدته و جعلت من الدولة قسمين ( قيادة منفصلة و شعب منفصل ) ، هذه الدول حاولت أن تتطور “كما تظن” فابتلعت الديموقراطية الغربية على سذاجة و حاولت لبسها كما هي في وقتها دون أن تدرك عيوب تركيبها أو خصوصية مجتمعاتها ، فلم ينتج عن ذلك التقمص نتيجةً مماثلةً أو حتى أثراً إيجابياً ، ذلك أن ما كانت تجهله هذه الأنظمةَ العسكريةَ العربيةَ أن النظم الديموقراطية إما أن تعيدها إلا الشريعة الأسلامية أو أن تتخلخل فيها المؤسسة العائلية نظراً للبناء الفرداني في الديموقراطية الحديثة ، فالديموقراطيات الحديثة بعكس الديموقراطيات القديمة الأكثرِ تديناً تتعامل مع الشعب كأفراد متساويين لا عوائل متمايزين ، فهي تحترم آراء الجميع -وجيههم و وضيعهم- كما يسائلها الجميعُ بغض النظر عن المكانة العقلية و الإجتماعية و بغض النظر عن مقدار الإضافة التي يضيفها ذلك الفرد أو تضيفها جماعته ، فتقف حركة عند أقل أفرادها حركة و أكثرها بلادةً ، كما أن هذه الأنظمة تفتقر إلى عقيدةٍ أخرويةٍ محفزةٍ تدفع إلى تجاوز الشهوات و ضبط النفس في نظام هرمي يقبل فيه الضعيف أن يساد و يقبل فيه القوي أن يحاكم  .. هذه الأنظمةُ الحديثةُ في فلسفتها لا تملك من المحجة ما تستطيع به أن تقنع المجتمعاتِ الضعيفة كيف يمكن لها أن تحافظ على هويتها الثقافية و موازنتها المالية و قدراتها العسكرية عندما يكون للجميع الحق في استخدام وسائل القوة للتأثير سياسياً لتُستَغل تلك الحريات لتحقيق مصالح فرديةٍ تعارض مصلحة الجماعة ، و لإثارة بلبلةٍ إجتماعيةٍ و سياسيةٍ يرضي بها الساخط نفسه ، أو تُستَغلُ بشغلِ الفراغِ الفكري الموجود لتشكيك الناس في رسالتهم الحضارية و مبادئهم الإجتماعية فتصير الفوضى أكبرَ و أعمق . 

الديموقراطيات الغربية ليست نتاج عملية فكرية بحته ، ولا هي حرية مطلقة تفتقد للضوابط العصبية و الأخلاقية الخفية ، بل هي نتاج تسلسلٍ طبيعيٍ لصراعٍ اقتصادي و عسكريٍ قديم بين قوى غربية متكافئة ، كما هي عادات إجتماعية و سياسية تراكمت مع هذه الصراعات و هي بنية فكرية فلسفية تمحورت حول عقيدةٍ تحلم بالخلاص و التحرر من الإستعباد البشري و التبشر بالخلود و هي تسعي للتعالي و تَحملُ تَصوراً واضحاً و عملياً عن الأخلاق و ماهو صحيح منها و خاطئ .. يقول الله تعالى : ( و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون ) ، فطلب الخلود و إبقاء الأثر مقصد سياسي قديم قدم خلق البشر ، و يقول : ( ذلك بأن منهم قسيسين و رهباناً و أنهم لا يستكبرون ) ، فالعقلية الأخلاقية موجودة ولها أسس صحيحة كثيرة قادرة على إنشاء مجتمع قوي متى ما تمكنت هذه الأخلاق من الجميع .  





هذه الدول في تركيبتها السياسية الداخلية تدرجت تدرج ظروفها السياسية و الإقتصادية ، فانتقلت من كياناتٍ سياسيةٍ صغيرةٍ هرميتها ضعيفة ( تكون فيها هوية العائلة و القبيلة و مصلحتها ماحيةً لكل تميزٍ فرديٍ و تفاوت معيشي يخلق طبقية ظاهرة ، فيما عدا شيء من الطبقية الإدارية التي تضمن حركة القبيلة و قوتها السياسية ) ، إلى كيانات سياسية أكبر ولكنها صلبة تكتسب صلابتها من غلبة طرف من أطرافها على الباقين ( إذ تتمكن عائلةٌ من العوائل أو قبيلةٌ من القبائل من فرض سيطرتها على بقية العوائل و تنجح في احتكار موارد الأرض و طرقها فتستغل حاجات الناس الأساسية لتأكد طبقيةً مستحدثةً تحدثُ بها نقلةً نوعيةً في تركيبة المجتمع السياسية و ثقافته الإجتماعية و عقيدته الدنيوية و الأخروية ) ، إلى أن تستقر على شكل كيانات سياسية كبيرة مستقرة إلى حد ما ، فيها طبقة أرستقراطية نافذة تتوزع القوة ليكسب ذلك المجتمع شيئاً من المرونة بحجم التوزع القائم الذي يُحكّم القانون الصلب و الأعراف الصلبة لا الفرد ( يوم كانت الدولة إقطاعية ، هرميتها واضحة ، نبلاؤها يتميزون بوضوح عن فلاح الأرض الذي يقع في أسفل الهرم ) ، ثم تظهر البرجوازية بعدما تقارب الزمان و المكان و صارت قوة الدول مقرونة بقدرتها الإقتصادية و انفتاحها على الشك العلمي و التنافسية في السوق فصار الهرم الإداري أكثر كفاءة و عملية و مرونة ( إذ صارت الأرستقراطية تشترى و تنتقل بحسب كفاءة الفرد الإدارية و الإقتصادية )، و بعيد الحرب العالمية الأولى و مع بدئ المرأة في دخول حلبة الصراع السياسي “و إن كان في البدئ على استحياء” صارت المجتمعات الغربية مجتمعات فردية بامتياز إلى الحد الذي يسخر فيه الإنسان من مفهوم الفردية القديم ، فالأسرة الصغيرة و الممتدة ماتت بالتدريج و أغفل دورها كبنيةٍ أوليةٍ أساسيةٍ لبناء الدولة ، و مع هذا الذوبان ذابت الوجاهات المناطقية و ذابت شخصية المجتمع المثالية التي يستشرفها العوام و تتسامى بها نفوسهم عن العلاقات التجارية المادية البحتة ليصبح المجتمع نفعياً بامتياز ، شكاكاً بامتياز ، و سطحياً بامتياز .

الإنسان ببساطة لا يستطيع أن يستمر في العمل مالم يجد فيه قيمةً مأمولة و مضرة مدفوعة ، وهو بين هذه و تلك يجد نفسه محصوراً كل يومٍ و مدفوعاً للتحرك و متى ما كان مجموع حركة الأفراد في المجتمع تسير في اتجاهٍ واحدٍ كانت الآثار السياسية و الإجتماعية و العلمية قوية و واضحة . و مع أن حاجات الناس الأساسية من غذاءٍ و مسكنٍ و أمان تلعب الدور الأساسي في ضمان انتظام الناس من عدمه إلا أن الأديان بالعموم  -و الإسلام على وجه الخصوص- تقوم على صياغة فكرةٍ و عاطفةٍ تربط الجماعة و تعطي حركتها قيمة ، و لأن عموم الناس يجهلون ما يميزهم ( ذكوراً و أناثاً ، أمراء و مأمورين ) فإنهم يتصورون بأن ذلك التركيب تركيب طبيعي ثابت غير قابل للإنحلال و الإنهيار و التفتت إلى كيانات صغيرة بدائية مترامية و هذا خطأ. 

الصيغة الصحيحة و الأقوى للدول هي الصيغة الهرمية التي تحوي الكثير من الأهرام المتراصة و المتراكمة و تصوغ العلاقة فيما بينها مجموعة من الأعراف و القواعد المقدسة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى قيام كل هرم بنفسه مع مساندته للهرم الأم “الدولة”. هذا البنيان الظرفي يظهر كلما تيسرت الظروف لظهوره ، وهو على ما تظهر فيه من هشاشة إلا أنه أبدعُ البنى و أكثرُها أثراً لما يحويه من توافق مع الطبيعة البشرية و قدرة على ضمان مساحة مناسبة من الحرية و التحفيز لكل فردٍ من أفرادها . 



من طبيعة الرجل حب التملك و السيطرة و التميز ، كما أن افتتان المرأة بالرجل كثيراً ما يكون مبنياً على ما حققه ذلك الرجل من تميزٍ على أقرانه و قدرةٍ على التحكم في بيئته و استحواذه على مواردها ليصنع لها مسكناً آمناً و مريحاً . فإذا ما وضعنا هذه القاعدة منطلقاً لبناء مجتمعٍ مستقرٍ و متعاونٍ أدركنا أن أفضل الكيانات السياسية هي تلك التي تسمح لذكورها باكتساب صفة الرجولة عن طريق التملك و التمايز و اكتساب الوجاهة  عن طريق بناء مجتمعاتها “دويلاتها” الصغيرة داخل الدولة الأم حتى ما تستنفد هذه الحركة المشروعة للرجال في الدولة طاقاتهم فتصبها في المصلحة العامة و تضمن بقاء الذوق العام بالمحافظة على مكانة الرجل في بيته كضابط لأسرته و رمزاً لها و الحفاظ للمجتمع الصغير على ذائقته وكرامته أيضاً بإعطاء وجهاءه الفرصة لتمثيل مجتمعهم في محافظاتهم و قراهم ، و هكذا يحظ الإسلام على الزواج و يحرم الزنا ، و يحلل للرجل التعدد و التملك و الإغتناء لإعالة بيته و أقاربه و جيرانه في نفس الوقت الذي يحرم فيه التعدي على نسل الآخرين و التعدي على ممتلكاتهم و الإقلال من سمعتهم و مكانتهم ( فالتبني محرم في الإسلام ، و الزنا بحليلة الجار من أعظم الكبائر و اقتطاع أرض لا تحل للعبد يطوق الله بها العبد يوم القيامة سبع أراضين .. ) .

إن الصلابة الشديدة في العلاقات الإجتماعية عندما تشل من حركة الأفراد و تمنعهم من الإنتقاد و التجديد و المنافسة تكون مضعفةً للمجتمع ككل و هادمةً لقواه و مانعة له من استبصار الأخطار المحدقة و الإستعداد لها، و العكس صحيح فإن التراتبية الإجتماعية عندما تموت تماماً - كما يبدو أن الديموقراطية الحديثة تتجه لذلك - فإن الرجولة تموت فتموت الأنوثة معها و يموت بالتدريج الإحترام و الأدب بين الجيران و الأقارب لتقل مكانة المعلمين و كل من له أمارة و سلطة ، فيموت الذوق العام و يتعلم الناس خلق أرداهم لتصبح المناصب مغالبةً محضةً لا تراعى فيها مبادئ المنافسة ولا حدود القانون . في المجتمع الأول (الصلب) يكون المجتمع أسير عاداته و نظرة الآخرين له ، و في الثاني يكون المجتمع كالحصى المبعثر الذي يصعب عليه الإمتزاج و التعاون لبناء جدار قوي متماسك ، فهو يستخف بكل شيء و يشكك في كل شيء مما يجعل قدرته على الإلتفاف حول همومه المشتركة أمراً صعباً . 

(( الرجولة أمارة و متى ما سادت الرجولة ساد المجتمع بيئته و جيرانه )) 

الرجولة ليست خلقةً ولكنها صفةٌ مكتسبة يتعلمها ذكور مجتمع ما عندما تظطرهم بيئتهم لأن يكونوا متعقلين في تصرفاتهم ، مستشرفين لمستقبل جماعتهم و مستعدين للهلكة من أجلها و أجل ممتلكاتها . هذه الصفات التي تُستَجلب ولا تَنمو طبيعةً تكون خلقة الذكور أكثر قدرة على احتوائها واستخدامها فتُحْكَم بها مجتمعاتها و تَعْلوا بها الهمم ، وهي وحدها القادرة على استخراج أفضل مافي الإنسان من إبداع فكري و فني و عسكري . هذه الخصال لا تنمو إلا في مجتمع يحترم الرجولة و يبرع في تنميتها و توجيهها للمصلحة العامة و يتمكن من ضبطها و رسم حدودها ، وبما أن الرجولة في أصلها هلكةٌ و سعيٌ للتملك و السيطرة و التعالي و الإستشراف في بيئة متصارعة فإن النظام الذي يسمح لذكوره بالتملك و التوسع و التعالي “اكتساب الوجاهة” ينجح في الإرتقاء بالذائقة العامة و ضبط أفراده و دفع متسلقي السلم الإجتماعي لتحمل مسؤولياتهم عن مجتمعاتهم الصغيرة التي يرعونها ، و هذه الوجاهة التي تتحقق للبعض تكون طاردةً لشريحةٍ أخرى من الذكور بطبيعة الحال و التي ستسعى لاكتساب شيءٍ من المكانة بالهلكة التي تقدمها في القطاع الأمني و العسكري وهو جوهر الإستثمار الصحيح للرجولة في المجتمع وهي الوسيلة الأنفع لاستثارة نسائه و ضمان التزامهن بدور الأمومة و الإنتظام في شكل تراتبي يحفظ أخلاق المجتمع و يضمن تكاثره .. يقول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }البقرة215 ، هذه الآية تحمل دلالة واضحة على شكل الأولويات في المجتمع المسلم و شكل التركيبة الإجتماعية فيه ، فالصحابي الذي سأل النبي عليه الصلاة و السلام عما يتصدق به كان جواب سؤاله من الله تعالى عن ترتيب أوجه الصدقة التي يؤديها للناس عوضاً عن شكلها إذ طريقة صرف الصدقة أهم من نوعها ، فتحمل الرجل للمسؤولية عن أهله و ذويه و توجيهه فائض ماله إلى ما يحتاجونه أهم من نوع الصدقة التي يقدمها إذ في ذلك ضمانٌ لمصلحة الناس عموماً بما أن الأهل دائماً أقربُ لتحمل المسؤولية الكاملة عن ذويهم بعكس الغرباء ، كما أن اتكال الجماعة بعضها على بعض يزيد من حرصها على التناسل و يأكد استقلالها عن تسلط الحكومات المركزية و هذا يحقق المصلحة للحكومة في قلة التكلفة الملقاة عليها و يضمن للمجتمع المحافظة على هويته الثقافية و الدينية و مكانته الإجتماعية بعدم الإعتماد على الغير . 

عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : " بينا نحنُ مع رسولِ اللهِ ﷺ إذ طلع شابٌ من الثَّنيَّةِ , فلما رأيناه رَميْناه بأبصَارِنا , فقلنا : لو أنَّ هذا الشابُ جَعل شبابَه ونشاطَه وقوتَه في سبيلِ اللهِ ! . فَسَمِعَ رسولُ اللهِ ﷺ مقالتَنا فقال : وما سبيلُ اللهِ إلا مَن قُتِلَ ؟! .. مَن سعى على والدَيْهِ ففي سبيلِ اللهِ ، ومَن سعى على عيالِه ففي سبيلِ اللهِ ، ومَن سعى على نفسهِ لِيَعُفَّها فهو في سبيلِ اللهِ ، ومَن سعى مُكَاثِرًا ففي سبيلِ الشيطان " . السلسلة الصحيحة ، الألباني .. هذا الحديث دليلٌ آخر على واقعية الإسلام و حكمته فهو يعطي مساحةً واسعةً للغرائز الإنسانية أن تجد متنفسها و أن تصب في المصلحة العامة ، فالرجل يبني مملكته داخل مملكة الإسلام فيرضي بها غروره و يسهم بها في بناء دولة مسلمة منتظمة .

يقول الله تعالى : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) سورة البقرة ١٥١ ، و يقول النبي عليه الصلاة و السلام عن ابن عمر : ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، -قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))..  فهذه الرسالة أتت مزكية و مطهرة و تزكيتها كانت بسيادة شريعة الله على الحاكم و المحكوم و وفق هذه الشريعة يسود الحاكم أمته و يسود الوزير قطاعه و يسود الأب بيته  و تسود الأم أطفالها و يسود التاجر ممتلكاته و عبيده ، و الكل وفق هذا النظام يسعى لمرضاة ربه و يتجنب التعالي إلا على ما كان شركاً بالله و تحدٍ لإرادته ، فالله وفق شريعته و تنظيمه ينمي في ذكور المجتمع الرجولة و يحفظ للبنات ضعفهم و أنوثتهم التي هي رأس مالهم ولا يتم ذلك كله إلا بالتأمر و الإستئمار وهو جوهر الحضارة و عمودها الأول و ضمان بقائها ، ولذلك فإنه لا يستغرب أن تكون هذه الرسالة قد حولت مجتمعاً قبائلياً مفتتاً إلى مجتمعٍ تراتبيٍ هرميٍ راضٍ و متعاون . 

وليس يتجلى ذلك في أحاديثَ و آياتٍ قليلةٍ بل السنه كلها مبنية حول هذا المفهوم .. فــ ( الأقربون أولى بالمعروف ) و النبي عليه الصلاة و السلام أمر الصحابي بوضع ماله في قرابته عندما سأله على من يتصدق ، و بر الوالدين و صلة الأرحام و كل ما يدور حول معانيها من أدلة في القرآن و السنة تؤكد على مفهوم الكيانات الإجتماعية الصغيرة التي تعول نفسها بنفسها إلى حد كبير ، فمن مقاصد الشريعة أن يجد الإنسان أثر جهده و عمله في الدنيا بالتكاثر في العدد و الإستغناء بالمال و العلو بالذكر .. فالنبي عليه الصلاة و السلام يجاوب الصحابي الذي سأله من أحق الناس بحسن صحابته ؟ قال : ( أمك ثم أمك ثم أمك ) ، و يقول لآخر : ( أنت و مالك لأبيك ) ، و يقول لثالث : ( ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها ) ، و يحرم في الحديث القدسي الجنة على قاطع الرحم ، و غير ذلك كثير من الأدلة التي و إن كانت تلعن اتباع الأجداد على العمى و الأهل على الضلالة إلا أنها تحث على بناء الأسر الممتدة و الحفاظ على علاقات الجوار ليكون عامل المكان مهماً كما هو عامل النسب ..  يقول في الحديث القدسي : ( أنا الله و أنا الرحمن ، خلقت الرحم و شققت لها من إسمي ، فمن وصلها وصلته ، و من قطعها بتته ) صححه الترمذي و الألباني ، و في حديث آخر يقول النبي عليه الصلاة و السلام : ( من أحب أن يبسط له في رزقه و ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ، و هذه الأحاديث واضحة في نظرتها للمجتمع ككيان إجتماعي كبير يحتوي عدة كيانات إجتماعية أصغر و التي بدورها تحتوي كيانات إجتماعية أصغر (الأسرة النووية) ولا يفترض بالفرد أن يعيش بدون عصبة إذ العصبة من أسباب الرزق و هي المديمة للأثر و من لم تكن له عصبة بعد ذلك كانت الدولة عصبته حتى لا يهلك . 


الاثنين، 30 نوفمبر 2015

الخلافة و طبقية المجتمعات



الخلافة و طبقية المجتمعات
عندما تتحرك الطبقات تظهر الصراعات 


تكلم الكثير من علماء الإجتماع عن ضعف الإنسان و اتكاله على غيره و أنه كائن إجتماعي بطبعه، ليس ابتداءً ببن خلدون ولا انتهاءً بعلماء الإجتماع الحديث ، فحاجة الناس إلى بعضهم البعض واضحة وضوح النهار إذ لا تتم صنعةٌ دون اجتماع الفعلة “اليد العاملة” ولا تُستصلح أرض و يُحصد زرعها إلا بتعاون الجماعة ، ولا تُحفظ المساكن و يُرفع بناؤها إلا بنظام محكم يَضبط الناس و يَضمن عدم التعدي . هذه السُخرة في الطبيعة البشرية و الحاجة إليها تجعل من البناء الإجتماعي بناءً معقداً تفاعلياً  درامياً تظهر هشاشته و آلامه ما تعاقبت جماعات حاكمة أو تظاهرت عصبيات فاعلة ، و على هذا فالبناء السياسي التراتبي الطبيعي للدول بناءٌ قامعٌ ضابطٌ بطبعه يتعارض مع غريزة الإنسان التي تأنف التبعية و تتجنب القيود و تحرص أبداً ما كانت على مصلحتها الفردية  ( رزقها و أمنها و نسلها و مكانتها ) ولا تنساق إلا عندما تكون الخيارات الأخرى أقل إرضاءً . 

إن هذه الطبقيةَ و هذا الضبطُ معرضٌ دائماً للإنهيار مع تقادم الزمن متى ما انتفت الظروف القامعة لانتفاض الناس ، فقرب العدو الخارجي و قلة موارد الرزق و صعوبة ضبط تقلبات الطبيعة يدفع الناس للإتنظام في اجتماع بشري كبير يضمن من المصالح أكثر مما يوقع من المضار ، و مع ما قيل بأن الإنسان إجتماعي بطبعه إلا أن أنسه بالناس لا يكفي لتحمل ظروف الإجتماع الكريهة و المجحفة عندما لا يكون هناك ما يُقنع ، و لذلك فإن الهجرات البشرية كانت ولا تزال ظاهرةً منذ فجر التاريخ ، ولولا غلبة حاجة الإنسان للرزق و الأمن و الإستقرار ما نشأت القرى و امتدت البلدان و انتشرت الأعراق و هذا كله ظاهر ..  يقول الله تعالى على لسان الملائكة رداً على المتعذرين بالإستضعاف : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها .. ) سورة النساء . 

إن الصراعات البشرية كلُها عبارةٌ عن صراعاتٍ دفاعيةٍ من أجل البقاء أو صراعاتٍ توسعيةٍ من أجل التعالي ولا يوجد استثناء لذلك ، فالمجتمعات التي تشهد جغرافيتَها انحساراً في الموارد و ازدياداً في عدد السكان تصبح المواجهة فيها مسألة وقتٍ لا أكثر ،  فيما تكون المواجهةُ في الحالة الثانية مدفوعةً بدافع التعالي و التكاثر ، وفي هذا يقول الله تعالى : ( إعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) ، و يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) ، و مع أن عموم المفسرين يفسرون الآية الأولى بحركة الزمان و مراحل عمر الإنسان  إلا أني أرى الآية أعمق من ذلك بكثير فهي تأتي في سياق التكاثر - في الأموال و الأولاد - و هذا التكاثر إن تم فإن أثره أعمقُ من أثر الفرد و حركةُ الزمان عليه أبطأ من حركته على الفرد و مواجهة الأمم للرسالة بدافع المكاثرة في المال و الولد أظهر من مواجهة الأفراد لها و لذلك فإن تتمةَ الآية تصويرٌ لحركة الزمان و أثرهها على الأمم بما تحويه من زينة و مفاخرة و مكاثرة ، فهذا كله يكون على أشده بادئ الأمر في شباب الدولة و عنفوانها ، حتى إذا ما استوى البنيان و أعجب عماله  ( أعجب الكفار نباته ) صار إلى هياجٍ و اصفرار ، إذ الإعجاب يقتضي الرضا و الراضي عن المجهود لا يسعى لاستكمال  مجهوده ، فإذا استُكمِل العمل سكن العامل  و متى ما سكن العامل صدئ المعمول و لا يعود بعد الصدء غير الحطام ، و في الآخرة عذاب شديد لكل من بنى بنياناً أساسه مفاخرةٌ و مكاثرةٌ و قهرٌ و استعباد .

هذا التفسير يتوافق مع الكثير من نصوص القرآن ومن يقرأ القرآن بوعي بحركة المجتمعات و طرق الصراع فإن الأدلة القرآنية و استدلالاتها تصبح أكثر اتساقاً و معنى في نظره و يصبح استشراف مقصود الشارع أكثر وضوحاً ، فالله تعالى عندما شرع الجهاد شرعه تبعاً لظروف سياسيةٍ و طلباً لتحقيق ظروف سياسيةٍ أخرى ، و كذلك هو عندما نظم العلاقات البشرية فإنه بنى هذه الأنظمة و التشريعات على أساس وعي بحركة الجماعات البشرية و تقلباتها و بالتالي فإن الأنظمة المشروعة كانت يجب أن تكون أنفع الأنظمة و أقواها ، لا ألينها و أحلاها ، و كما أن مقصود الشارع يمكن أن يوصل إلى شرعه فإن الأحكام الشرعية الواضحة يمكن الإستدلال بها لمعرفة مقصود الشارع  . 

يقول الله تعالى في سورة الأنعام : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك لسريع العقاب و إنه لغفور رحيم ) ، و يقول في سورة الزخرف : ( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا و رحمة ربك خير مما يجمعون ) ، فالله تعالى يقرر في هاتين الآيتين حقائق سياسية و اجتماعية ليبني عليها المجتمعُ المسلمُ نظرةً واقعيةً و قيميةً تمكنه من بناء دولةٍ عادلةٍ راسخة الأركان كما يحب الله و يرضا، فالحقيقة هي أن الله قد أوكل هذه الأرضَ و شؤونها إلى الإنسان يسخر مواردها كيف يشاء و يسوس مخلوقاتها كما يحب فيصير الإنسان خليفةً عليها وهو لخلافته هذه مسؤول و محاسب يوم القيامة ، و لم تقف الآية عند هذا التقرير بل أكدت حقيقة الطبقية في المجتمعات البشرية و سخرة الناس بعضهم لبعض وهو في  هذا التقرير في هذا السياق يفيد تمام الإبتلاء إذ ليس السائس كالمسوس و ليست تتجلى أعظم معاني الإيمان و الحكمة كما تتجلى في أمة تقارع الأمم من أجل تعظيم إله غائب عن الحس و إسقاط شريعتة الغيبيه على واقع رافض، و الأمة المسلمة المستسلمة لربها تستعبد نفسها بنفسها لخالقها طواعيةً وهي عنه محجوبةٌ و تخوض من المحن في سبيل إعلاء كلمته على سائر الكلام الشيء الكثير مما يميزها عن سائر الأمم و يجعل الجنة إرثاً لها على حسن انقيادها ، يقول تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله ) ، والله تعالى يعلم أن هذه البنى السياسية و الإقتصادية لا تستقر أبداً و أن الإنسان لطبعه الجزوع المنوع لا يُتم بناءً إلا ليهدمه ، ولا تسود فيه جماعة إلا لتخلفها أخرى حتى يَبتلي الله العباد بعضهم ببعض ( ولنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات و بشر الصابرين ) ، ( و لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين و نبلو أخباركم ) ، وهو سبحانه و تعالى يقسم الأرزاق و يسوق الظروف ليتم هذا الإبتلاء ( و ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين ) . 

و هذا الكلام في الحقيقة يفسر أحداث الصراع التي نشاهدها يومياً و يرد على معظم الأباطيل التي تلقى باتجاه الإسلام و المسلمين ، فهم كما يحاول الكفار أن يصوروهم متطرفون يسعون لإبادة الخليقة و القضاء على حريات الناس و فرض الدين عليهم بالإكراه ، فيما الحقيقة كانت ولا تزال صراعاً طبقياً ، تارةً طبقيةً عرقيةً ليس فيها من الدين شيءٌ و تارةً طبقيةً دينيةً تسود فيها كلمةٌ مقابل أخرى ، ولذلك فإن الصراع يظل دائماً صورةً من صور التعالي ، فلا الإسلام معني بالقضاء على بقية الأديان ولا بقية الأديان أشغلت نفسها بالقضاء المبرم على الأديان الأخرى ، فالصراع كله كان دائماً صراعاً حول من يعلوا صوته .. يقول النبي عليه الصلاة و السلام : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) ، و يقول الله تعالى على لسان المشركين : ( أآلهتنا خير أم هو ، ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ) ، ولكن سيادة الإسلام و ظهوره على بقية الأديان خير للبشر و لغير البشر ، فيقول : ( إن هذا القران يهدي للتي هي أقوم .. ) .

يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام مخاطباً قومه : ( قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) ، فشكل الصراع كما هو ظاهرٌ في الآية كان طبقياً ولا يزال يستخلفُ الله به جماعةً على أخرى لينظر كيف تعمل ، و حالة الصراع هذه لا تظهر إلا مع حركة الطبقات الإجتماعية في سعيها لتحقيق مكانة أفضل أو تثبيت مكانة تحققت ، و لذلك فإن حركة الناس اليومية في حقيقتها صراع ولكن هذا الصراع لا يأخذ شكلاً سياسياً واضحاً حتى تكون جل مصادر القوة قد تحولت من يد جماعة لأخرى ، و لهذا فإن الصدقة و الوقف من أشكال التنازل عن القوة التي يجزي الله عليها أجراً عظيماً و يحمي بها الأمم من الإنهيار والتقاتل فيقول : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني و أنتم الفقراء و إن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ففي هذه الآية ربط بين التولي عن أمر الله بالإنفاق في سبيل الله و بين تبدل الأحوال و سيادة الأمم الأخرى الأكثر رحمةً و عدلاً ، و في آيةٍ أخرى يقول : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .. ) و في هذه الآية أيضاً دلالةٌ واضحةٌ على سنةٍ كونيةٍ تناقض المنطق الرأسمالي الذي يرى بعموم المنفعة عند تحرر الأسواق دون التأكيد على أهمية الشعور بالمسؤولية الإجتماعية والعمل الخيري ، فهذه الآية تقرر أن فرص الرزق لدى البشر غير متكافئة و أن الله قد أوكل “إستخلف” حال الضعفاء في هذه الأرض إلى الأقوياء الأغنياء وهو سائلهم عما قدموه من مال و معونه لهم ، وكذلك هي الآيات في الإنفاق كثيرة لكن من أهم الدلالات على صدق هذا الإستنباط ورود آيات الربا و تحريمها بعد ١٣ آية تكلمت عن الإنفاق و الصدقة - منها آية مثل الله بها المنفق في سبيله بالجنة التي إن أصابها وابل آتت أكلها ضعفين إذ هي قد انتفعت و نفعت غيرها وإلم يصبها وابل فقد أصابها طلٌ خفيف فظلت جنةً جميلة - مما يؤكد ارتباط الربا باظطراب حركة المال الطبيعية  و انحسارها عن العاملة لتتكدس بيد الأغنياء من المجتمع . 

يقول الله تعالى في آية أخرى : ( ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ) ، و هذه الآية من الآيات التي تؤكد الحكمة الإلهية في تقدير الصراع و التنازع بين البشر إذ التعظيم للخالق لا يتجلى بأبهى صوره إلا وسط المحن ، و الأعمال بالعادة لا تكتسب قيمةً تذكر متى ما كان العامل مكرهاً على القيام بها ، أما المختار فهو شخص مهاجر إلى محبوبه طالباً قربه و مستذل النفس له طالباً مرضاته بكل ما يملك وهذا هو قصد الإبتلاء و مراد الخلقة البشرية و الإستخلاف ، يقول الله تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) ، و يقول : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم مافي قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحاً قريبا ) ، و يقول : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ) . 

و في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدنيا حلوة خضرة و إن الله مستخلفكم عليها لينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) رواه مسلم . و ليس غريباً أن يؤكد النبي عليه الصلاة و السلام على النساء و يخصصهم بالتحذير بعد أن عمم ذكر الدنيا ، فالأنثى بخلقتها غالية وهي أكثرُ ما يعجبُ الرجلَ و أكثرُ ما يطلبهُ ، وهي و إن كان العقل الواعي للرجل العاقل غيرَ مدركٍ لأسباب الإفتتان إلا أن تعامله معها و تعامل المجتمع معها كان ولا يزال كتعامله مع الذهب الذي يحوي قيمته في ذاته دون أن يكون مطلوباً لإنتاج ما ، و كذلك فإن المرأة تتصرف على هذا الأساس دون وعي و كأنها مادة تستشعر قيمتها مما يصرف عليها و يبذل لها و تتوقع من الناس الحب و الإحترام دون أن تشعر هي أو يشعر المجتمع بأن عليها أن تقدم نظير هذا الحب و الإحترام ما يبرره ، و إن كان هذا كله لا يكفي فإن الأنثى كذلك لا تحب الذكور و لا تفتتن بهم أبداً إذ أن ضعفها و هشاشة خلقتها الجسدية و النفسية لا يوائمها إلا القوة التي هي مجموعة من الصفات النفسية و العقلية و المادية التي يمكن اختزالها كلها في كلمة واحدة (( الرجولة )) ، و لأن الرجولة في أصلها هلكة جسدية و مادية يكتسب صاحبها قيمة إجتماعية و مادية من مجموع الخصال و الممتلكات التي تكون قد تحققت له بعد تعرضه لها فإنه لا يُستغرب أن تميل معظم النساء إلى فئة قليلة من الرجال ، ولا يُستغرب أن يزيد هذا الميل كلما زاد الإختلاط و كثر المال إذ الرجال المتميزون برجولتهم وقوتهم قلة بين الذكور في هذه الظروف و العكس صحيح عندما يمنع الإختلاط و يُساعد الذكور على الإغتناء ليكتسبوا رجولتهم و عندما تقوم الحروب و تكون ظروف الحياة أشد تكون قيمة الذكور أكبر إذ يسهل في هذه الظروف اكتساب خصال الرجولة و إشعار النساء بحاجتهم للرجال ، و هذا كله يؤكد نقطةً واحدةً وهي أن النساء يكونون كالذهب تماماً في أثرهم و تأثرهم في مجتمعاتهم فيُستخدمون كوسيلةٍ للتعالي و القهر في المجتمعات المترفة ، واتقاء النساء و حجب مظاهر التعالي بهن و تجنب قهر الرجال بهن يقي من التحاسد و الأثرة التي تهلك بالأمم . 

ختاماً يقول الله تعالى : ( و إذ قالت الملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ) .. أي إني أعلم ما سيكون منهم من تعظيم و تضحية و صبر تجعلهم في مقام عالٍ عندي يعلوا غيرهم من المخلوقات .   

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

عن روح الحضارة



عن روح الحضارة 
( يعجز معظم من الناس عن تمييز أثر الروح الإجتماعية و السياسية عند العامة عن أثر السياسة الحكيمة للحكومات ) 


كنت أنوي كتابة هذا المقال منذ مدة نظراً للمغالطات الكثيرة التي أسمعها في شرح سبب تقدم الحضارات و الدول و سبب تراجعها و لكني تكاسلت عن الكتابة و لم أجتهد في تحديد نقاط الفكرة و توضيح صورها و لكني الآن بعد قراءة كتاب ( التحلل العظيم ) لنيل فرغسون أجد أن ما طرحه مفيدٌ عموماً كمعلومات و يفيد بشكل أكبر كوسيلة في قيادة الكتابة لتحديد نقاط الكلام و هذا بالضبط ما أنوي فعله .

الكتاب يدور في مجمله حول محورين اثنين .. المحور الأول محور تاريخي يتكلم فيه الكاتب عن أهم التطبيقات التي أدت لسيادة الغرب على بقية العالم و كيف أن تبني بقية العالم لهذه التطبيقات يقود بالتدريج لتعديل موازين القوة و حلحلة السيطرة الغربية المطلقة على العالم و أنه بالتالي إذا ما أراد الغرب المحافظة على شيء من مكانته فإن عليه أن يحافظ على هذه التطبيقات ، أما المحور الثاني فهو محور يتكلم عن معالم إنهيار البناء المؤسسي الغربي الذي كان يدل يوماً ما على انسياسبية المجتمعات الغربية و إبداعها و حريتها وهو ما بدأ يتآكل في العقود الأخيره بحسب الكاتب وهذا برأيه السبب الأساس لتراجع المجتمعات الغربية و تضعضعها .

( المحور الأول ) التطبيقات الأساسية التي أدت لسيادة الغرب كما هو مذكور في الكتاب :
١- التنافسية . 
٢- الثورة العلمية . 
٣- حقوق الملكية . 
٤- التطور الطبي . 
٥- المجتمع الإستهلاكي . 
٦- أخلاقيات العمل . 

و أما ( المحور الثاني ) فهو يتكلم عن معالم إنهيار البناء المؤسسي في الغرب بناءً على ملاحظات الكاتب : 
١- إنهيار العقد الإجتماعي بين الأجيال . 
٢- زيادة تعقيد الأنظمة . 
٣- سيادة المحامين لا سيادة القانون . 
٤- تراجع المجتمع المدني . 


إن مجموعة النقاط التي أغفلها الكاتب هي نفسها النقاط التي كنت أنوي التكلم عنها و كذلك الملاحظات التي ذكرها تعد من الدلائل المؤشرة على صحة الإستنباطات التي ذكرتها سابقاً كقوانين حاكمة لحركة المجتمعات و التاريخ .. لذلك فإن ربط النقاط السابقة بما ذكر من ملاحظات يساعد على إحياء هذه النقاط و توضيحها . 

الكتاب كما ذكرت في مجمله تأكيد على هذه النقاط الست التي رفعت الحضارت الغربية حتى صارت في موضع القيادة و مع أنه لا يشرح سبب تملك الغرب وحده لهذه التطبيقات مجتمعةً إلا أنه يؤكد على قدرة المجتمعات الأخرى على تبنيها و الإستفادة منها و أن هذا ما يتم بالفعل في الوقت الحاضر وهو ما سيؤدي لتراجع النفوذ الغربي في نهاية المطاف ، ولكن ما يثير حفيظة الكاتب هي مجموعة من الأمور التي لاحظها على النسيج الإجتماعي في شكله المؤسسي وهو يتآكل مخلخلاً الحركة السياسية و الإقتصادية الحرة و مرسخاً لمزيدٍ من التنظيم و البيروقراطية التي لا يبدو أن الكاتب يدرك أسبابها بل يعزوا التراجع في الحركة الإقتصادية و النفوذ السياسي لها أكثر من كونها وسيلة دفاعية لمشكلات أعمق يبدو أن الكاتب يجهلها أو يتجاهلها . 

من خلال هذا الكتاب و غيره من الكتب يظهر جلياً أن الغرب بالعموم يجهل سبب تقدمه الحقيقي أو يتجاهله وهو في طرحه يدور حول جوهر الموضوع لكنه لا يصيبه و كل ما يفعله هو الحديث عن وسائل التيسير و ضمانات الحرية و قيمتها و عن أثر تشكلها في الأذهان من عمل مؤسسي و حقوقي و مسؤولية إجتماعية و فردية و كل هذا ببساطة لا يمكن نسبته للعمل المؤسسي إذ العمل المؤسسي نفسه عرض لا سبب و الحقيقة التي ستظل ثابته أن المجتمع الذي لا يضحي لا يبني ولا يتعلم التراتبية و النظام و أن الطمع و الجزع اللتان تقترنان بالكفر تفسدان كل بناء . 

  • التطبيقات التي ذكرها الكاتب في موضوع السيادة و التقدم تتراوح بين أسباب مؤدية للتقدم و أعراض ناتجه عن هذه الأسباب زادت من التقدم و منحت المزيد من القوة . حق التملك و حرية المنافسة و أخلاقيات العمل سبقت في تكوينها و صعوبتها نتائج هذه النقاط وهي النهضة الصناعية و التطور الطبي و ثقافة الإستهلاك ، ولولا ترسخ العصبيات و توازن القوة في القارة الأوروبية لما كان بالإمكان ترسيخ مبدأ التنافسية الإقتصادية التي لا تأتي إلا تبعاً للتنافسية السياسية التي تقتل العصبيات الداخلية و تحولها للخارج فتخلق وعياً جماعياً بالمسؤولية و الإقتدار تتمحور حوله العقيدة و القانون و السوق و هذا بالضبط ما تم في القارة الأوروبية . 
  •   من الطبيعي و المنطقي إستيراد منتجات الحضارة قبل استيراد قواعدها نظراً لأن منتجات الحضارة تغير موازين القوة على المدى القصير وهي سهلة الإستيراد إذ هي لا تلزم القيادة بمواجهة مسلمات المجتمع الثقافية و السياسية و العقدية ، ولكن استيراد هذه المنتجات يغير البيئة الداخلية في المجتمع و يغير درجة الإنكشاف الذي بدوره يؤدي لتغير الوعي و تغير الثقافة فتصير القواعد التاريخية مهلهلة بالتدريج و مع الزمن يصبح تغييرها و إصلاحها ضرورة ملحة هي الأخرى . 
  • القواعد لا يمكن تأكيد بنيانها طالما أن الفرصة لم تتح للبناء ، فالبناء الكبير الناجح هو وحده ما يؤكد صحة هذه القواعد و يرسخها في نفوس الناس ولولا أن الأوروبيين وجدوا وسيلة للخروج من سجن القارة الأوروبية الصغيرة و وجدوا موارداً للإستهلاك و النمو لما صار المستقبل أكثر جمالاً في ذهن العامة ولما تحركت الجموع في شكل جديد لهدف جديد عوضاً عن المواجهة الداخلية . الوفرة الجديدة في الموارد مع صعوبة العائق و كثرة المنافسة و علو الهدف توجد ثقافة عملية طامحة مبادرة تصادر من الحاكم اندفاعه و توفر عليه و على الحكومة مطالب الرعاية و تنجح دائماً في صياغة واقعٍ جديدٍ أكثر إبداعاً و غناً من قدرة الحاكم نفسه على التصور . 
  • تصور لو أن القارتين الأمريكيتين ما وجدت، و تصور لو أن الطاقة الرخيصة ( الوقود الأحفوري ) ما وجدت أيضاً كيف كان بالإمكان لسكان المجتمعات الغربية أن يخوضوا في تفاصيل بناء الحضارة الغربية وهم أساساً لا يملكون كفايتهم من المادة و لا يملكون ضمان أمنهم ناهيك عن توفير المواد اللازمة و الرقة الجغرافية الزائدة التي تدعم النمو في عدد السكان و تطوير الصناعة و استجادتة البناء و تحقيق السيطرة المنقطعة على باقي المجتمعات .. إن تجاهل هذين العاملين في بروز الغرب يعد خطأً فادحا و إن كانا تطبيقين لا يمكن استيرادهما و تطبيقهما على بقية المجتمعات إلا أن لهما من الأهمية ما يبرر تغير موازين القوة . 





  • العمل المؤسسي معلم واضح يدل على تميز المجتمعات من حيث النمو الحضاري و القوة الحضارية و ما ذكره الكاتب من حيث تراجع العمل المؤسسي و التطوعي يدل على حقيقة واحدة مغفلة تتحدث من وراء هذه النقاط وهي أن الميل للعمل المؤسسي و التطوعي الشفاف ميل أخلاقي ثقافي يدل على درجة الإندماج الحاصل بين أفراد المجتمع و توحد العصبية فيه و توافق الأهداف الإستراتيجية و قوة العاطفة الكامنة في عموم الناس لتحقيق هذه الأهداف ، إذ أن أي نقطة من هذه النقاط لا يمكن تفسيرها بوجود أيد خفية تتآمر على بناء المجتمع بل تدل على أن المجتمع نفسه يتحلل ثقافياً و عقدياً و عاطفياً ولا تعمل الإجراءات القانونية إلا كوسيلة للحماية من آثار هذا التحلل ولا يستأسد المحامون و يكثرون إلا دلالةً على بروز المصلحة الفردية و الإستعداد لاستغلال الثغرات القانونية لتحقيق مكاسب مادية على حساب المجموع ولا تزداد الإستدانة و يقل العمل التطوعي و يقل الإنجاب إلا دلالةً على تراجع الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع في حاضره و مستقبله عندما يظطر أبناءه و أحفاده لسداد ديون أجداده .
  • إن أكثر الوصفات التي يعطيها الإقتصاديون و السياسيون للتقدم الإقتصادي هي وصفات تقنية سياسية تتعامل مع حركة الناس ولا تحركهم فهي في كثير من الأحيان تجهل أو تتجاهل أسباب تحركهم المنسجم تارة و التصادم تارة أخرى ولذلك فإن كثيراً من الوصفات لا تحقق النتائج المرجوه إذ هي تغفل المشكلة الحقيقية الكامنة في المجتمع ، فالمجتمعات لا تبنى على الحرية و ادعاء ذلك جهالة لأن ذلك إن صح فإن أكثر المجتمعات فوضوية هي أكثرها حرية و تقدماً !! و نظراً لأن ذلك لا يصح فإن الحرية لا يمكن أن تكون سبباً ، ولو أننا استعظنا عن هذه الكلمة بعبارة ( سيادة القانون ) لكانت الثانية أكثر منطقية لكنها هي أيضاً عاجزة عن تبرير سيادة القانون معنوياً و مادياً على مجتمع من المجتمعات و عجزه عن آخر و تقدم معدلات الفساد التي هي ببساطة "تحايل على القانون و تعديه" في مجتمع من المجتمعات و تراجعه في آخر ولوصلنا في نهاية المطاف لاستنتاج أنا القرارات السياسية لا تبني إلا بشكل محدود و دورها الفاعل لا  يظهر إلا بقدر كفاءتها في إدارة الموارد التي تملكها لا أكثر    و من ثم فإن قلوب الناس و عواطفهم و أحلامهم و عصبياتهم و ثقافتهم هي العمود الفقري الذي يبنى عليه كل شيء . 
  • الرجال الأقوياء في المجتمع ثلاثة ( رجل السياسة "قائد الجيش" ، و رجل المال ، و رجل الدين ) .. المجتمعات الغربية شهدت في العقود الأخيرة تراجعاً في التدين بشكل كبير نظراً لقلة المعقول من الدين و جهالة رجاله و فشله في إقناع العامة بأهدافه الإستراتيجية ، و لذلك فإن رجل الدين صار ضعيفاً في الغرب و ضعفه يدل على قلة الإندفاع و الحركة في المجتمعات الغربية و ميلها للسكون و اقتصارها في حركتها السياسية على المقايضة لتحقيق المصالح المادية دون أهداف إستراتيجية بعيدة المدى ( و هذا ظاهر في المحاضرات المذاعة و الأفلام و الروايات أيضاً ) ، أما رجل المال فهو يفقد قوته يوماً بعد يوم بازدياد تطفل الحكومة على ممتلكاته و مصادرته لها و التشكيك في حركته و تقييد حريته و هذا بالتالي يقودنا إلى الحلقة الأقوى وهو رجل السياسة الذي صارت قوته في ازدياد مع ازدياد اتكال العامة على الحكومة و حركتها و قلة الدافع الداخلي عند العموم للعمل للمصلحة العامة التي لا يبدو أن أحداً يتفق على شكلها .. مالا يدركه الكثير بأن تراجع نفوذ رجل السياسة و اقتصار صلاحياته على الإدارة و الحماية يدل على صحة البناء الإجتماعي الكامن في المجتمع إذ أن المجتمع الذي يقل فيه التعدي تقل فيه الحاجة لاستخدام القوة مما يقلل من شرعية الحكومة الكبيرة المتنفذة فتصير المطالبة بإضعاف القوة المركزية أمراً مشروعاً و وسيلة لتحقيق المزيد من النمو الإقتصاديو تيسيره ، أما رجل المال فهو الرجل الواقعي الذي يسعى في مصلحته هو و سعيه هذا إن كان بكفاءة و مسؤولية فإن المؤسسات الإقتصادية الكبرى تقوم حوله و نموها بعد ذلك داعم لنمو المجتمع ككل إذ هي تعيد الفائض للناس في شكل خدمات و صناعات و أموال و علم ينتفع به ولا تبخل بذلك إلا عندما يتوقف رجل المال عن التأثر برجل الدين فرجل الدين هو العقل الأخلاقي و القيمي و صاحب النظرة الإستراتيجية التي تلامس قلوب العامة و تحركها و تنظمها دون إكراه بل تستحثها و تنمي فيها الخيال و تعلمها معاني التضحية و التنكر للذات وهي بقدر نجاحها في تحقيق ذلك الهدف تنجح في تحريك رجال المال ليعيدوا للمجتمع شيئاً مما أخذوا و لتؤدي هذه الحركة في نهاية المطاف لمصادرة الكثير من القوة السياسية من يد الحاكم و رجل الأمن .
  • إنا مهما درسنا فإنا نعود دائماً إلى نقطة البداية وهي أن أصل البناء الحضاري الإنسان ، عقيدته و مبادئه و عصبيته و أن هذه الأمور عندما تتغير فإن أكفأ السياسيين و العلماء و التجار لا يستطيعون أن يبنوا من موتى القلوب حضارة .. يقول الله تعالى : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) و يقول : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض .. ) و يقول : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) 
  • إن مؤسسات الدولة الديموقراطية تعمل على حماية الضعيف من تعدي القوي و تسعى لجعل عمل الدولة بإداراتها أكثر شفافية و عرضة للمساءلة لكنها على كفاءتها لا تحمي من الإنحلال و الفوضى و الحكم الفردي لأن القانون عندما يصبح مجرد حبر على ورق و القيم عندما تفقد قداستها و قدرتها على تحريك الناس فإن الإنضباط الذاتي يضعف و معه يصبح الناس أكثر اتكالاً على الحكومة لحمايتهم فتصبح الدولة أكثر مركزية و الناس أكثر قبولاً لمصادرة حرياتهم في سبيل ضمان أمنهم حتى تعود الدولة جمهوريةً شوهاء تحكمها جماعة متنفذة عسكرية تدعي العلم بالأصلح و تشرع استخدام القوة للمصلحة العامة ، يقول تعالى : ( و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) . 
  • إن صلاح الإنسان عماد يدعمه صلاح القانون الحاكم ، و شعور المحكوم بقداسة القانون لا قداسة منفذية و مراقبية تضمن صلاح النظام ككل إذ هي تنزع من البشر حق التشريع و تؤكد على أن الحكم في القضايا يوكل للأعلم و الأصلح فلا يعود هناك مجال للتلاعب بالنظام السياسي إلا من خلال السيطرة على القوة التنفيذية التي لا تستطيع مصادرة روح الأمة و وعيها فتكون الشريعة الإسلامية في نهاية المطاف هي الوسيلة الأصلح و الأقدر على حماية الهويات و ضمان القوة و الثبات و تحقيق التنظيم و العدل .