الخميس، 3 ديسمبر 2015

صناعة الأمارة .. (١)



صناعة الأمارة .. (١) 
( الرجولة قرينة الأمارة


كنت قدر قرأت قبل عدة سنوات كلاماً للدكتور محمد حامد الأحمري في كتابه “الديموقراطية .. الجذور و إشكالية التطبيق” و لا يزال بعض كلامه هذا عالقاً في ذهني إلى اليوم ، إذ كان يتكلم عن العلاقة بين البناء الديموقراطي للدولة و بين ثاقفة الفرد ، فالشعور بالمسؤولية و الإعتماد على ذات و الشجاعة هي من سمات الفرد في المجتمعات الديموقراطية إذ تصبح المسؤولية السياسية مسؤوليةً عامة فيما تظل القضايا الشخصية شخصيةً إلى حدٍ بعيد نظراً لأن العقد الإجتماعي القائم يزرع مبدأ الإضافة لا الإتكال و المنافسة لا المراعاة ، إلا أن سيادة العوام بكل صورها الثقافية و السياسية و الإقتصادية تأخذ طولها على الذوق العام و ثقافة المجتمع ولو على المدى البعيد تبعاً لطريقة تبني البناء الديموقراطي الحديث و سرعته ، فالدول حديثة النمو  كما ذكر الكاتب انتقلت في بنيتها السياسية و الإجتماعية من سيادة النخبة لسيادة العامة في ظرف زمني قصير وهي في طريق تحررها هذا تحررت من الكثير من النظم و العادات الإجتماعية و السياسية الضابطة التي كانت تضبط أخلاق الناس و ترعى هممهم فصار البناء الإجتماعي و الثقافي في كثير من تلك الدول بناءً فوضوياً قبيحاً ، فيما شهدت المجتمعات الغربية تماسكاً ثقافياً و اجتماعياً و رعايةً واضحةً للذوق العام نظراً لتدرج النمو و التحول في بنيتها السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية . و فيما يتبع أدرس شكل التركيبة السياسية و الإجتماعية التي تحقق أكبر قدرٍ ممكنٍ من النجاح سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً ، و الحقيقة أن هذه الدراسة تأكيد على أهمية صياغة شخصية الفرد و إثبات لقيمة الأمارة الإجتماعية فيه إذ تضبط المجتمع و ترفع ذوقه و تحفاظ على مستقبله . 

عندما انهارت الدولة العثمانية أصبحت الدولة التركية دولةً بوليسيةً إلى حد بعيد و لم تكن محاولات التغريب السياسي و الثقافي لتجدي نفعاً في تطوير المجتمع و تنميته إذ احتاج مصطفى كمال أتاتورك للقيام بنفسه برفع المسدس في وسط البرلمان و الوعد بتصفية كل من يحاول الوقوف في وجه علمنة الدولة و تغريبها و تبع ذلك العديد من السياسات التي صادرت الكثير من الحريات باسم الحرية نفسها و التقدم ، و فرضت العديد من التقاليد الحديثة باسم الحرية و التقدم أيضاً حتى صارت صورة الحكم الغربي نفسه وسيلةً لتحقيق الإستعباد لا الحرية و التبعية لا الإستقلال ، ولكن ما تبع ذلك كله كان أشد خطورةً ، فالمجتمعات التي تعرضت لذلك الحد من الأسر و المصادرة أنجبت قايداتٍ بليدةً ذهنياً و خُلُقياً إذ هي فرضت روحاً غير روح الدولة و حكّمت شريعةً لا تمثل قناعات الشعب و قضت على كل رموزه الإجتماعية التي وجدت أن وجودها يساهم في تعزيز هذه الثقافة و قيمها و أهدافها . و كذلك الأمر في كل من مصر و الشام و العراق و بلاد المغرب العربي التي وجدت شعوبها أن شخصيةً غير شخصيتها قد فُرضت عليها و مبادئً غير مبادئها قد صارت تحكمها فشُلّت حركة قياداتها الفكرية و السياسية و صارت المجتمعات أسيرةً على نفس أراضيها و بنفس عرقها تُمَارَسُ ضدَها الوصاية بكل أشكالها ، و مع ما كانت ترنو إليه هذه القيادات السياسية الجديدة من تقدم على النموذج الغربي إلا أن النتيجة كانت أبعد ما تكون عن الصورة الغربية ، لتنتقل بعدها هذه القيادات السياسية و الفكرية من ذم الإسلام و الشريعة لذم هذه الشعوب المسلمة نفسها . 

لم يكن العالم الإسلامي و العربي وحده من نظر للعالم الغربي نظرة إعجاب و انبهار بل تشاركت معها سائر المجتمعات الأخرى فحاولت إستنساخ تجربة الغرب السياسية و مبادئه الإجتماعية و تصوراته الفكرية أملاً في الوصول إلى نتيجة مشابهة للنتيجة التي وصل إليها، و لكن نتيجة ذلك الإستنساخ كان متبايناً تباين عقائد الناس و مبادئهم و مصالحهم قبل حدوث ذلك الإستنساخ فتحولت بعض المجتمعات الشرقية إلى مجتمعاتٍ ديموقراطيةٍ علمانيةٍ بشكل إنسيابي إلى حد ما فيما وجدت مجتمعاتٌ أخرى ذلك التحول دماراً و انهياراً على جميع الأصعدة . و مع أن نجاح التحول يعد أمراً مرغوباً و محموداً على العموم نظراً لما يحققه من تنميةٍ إقتصاديةٍ و إستقرارٍ سياسيٍ و اجتماعيٍ إلا أن آثاره على المدى بعيد غير محمودةٍ و غير مرئيةٍ مما يدفع لإعادة مناقشتها و نقدها من قبل هذه المجتمعات الناجحة نفسها نظراً للغربة الفردية التي تخلقها بداخلها على المدى البعيد .





تكلم ميكيافيلي في كتابه “الأمير” عن الفرق بين تلك الدول التي تُعد فيها السلطة المركزية سلطةً محدودةً لا تتمكن من إخضاع الأرستقراطية و أمراءَ المناطق إخضاعاً مطلقاً و تضطر في كثير من الأحيان إلى مداهنتها و ضرب بعضها ببعضٍ و احترام مكانتها الإجتماعية و ممارسة البروتوكول معها ؛ و بين تلك الدول التي يكون للسلطة المركزية كل القوة و النفوذ و لا يعد أمراء المناطق فيها إلا موظفينَ و أتباعَ ينقصُهمُ العمق التاريخي و الهيبة الإجتماعية و المركز المالي .. فالدول من النوع الأول بحسب ميكيافيلي هي دول أكثر إنكشافاً على القوى الخارجية و أكثر هشاشةً في بنيانها السياسي على المدى القصير نظراً لصراع وجهائها، ولكنها في الغالب تكون محافظةً على هويتها و تكون تقاليدها و معالم ثقافتها واضحةً في مقابل المجتمع الخارجي الذي و إن نجح في الإعتداءِ فإنه غالباً ما يفشل في فرض سيطرته على هوية المهزوم على المدى البعيد فتكون نهايته أن يلفظه المجتمع نتيجةً لعدم قدرته على تحمل سيطرته المطلقه و فرض ثقافتة و بنائه التراتبي الجديد إذ هو لم يكن يقْبل من سلطةِ بلاده المركزيةِ فكيف يقبل من غيرها . أما الدول التي هي من الطبيعة الثانية و التي تتمتع بسلطة مركزية كبيرة فإنها أقلُ انكشافاً على القوى الخارجية و أكثرُ قدرةً على مدافعتها نظراً لصرامة النظام فيها و قلة الإختلافِ و سرعة الحركة فيها ، إلا أنها عندما تهزم فإن مكونات المجتمع فيها تذوب سريعاً غير قادرةٍ على إعادة لملمة نفسها و فرض هويتها على المعتدي .. هذا الكلام يمكن قبوله على العموم لكن السلطة المركزية في الدولة الإسلامية ظلت محدودة قدرتها على التشريع و القضاء ولذلك فإنه لا يصح ربها بالصورة الثانية كما يحب المؤرخون ، و التاريخ يشهد بأن المجتمعات المسلمة نجحت في تكون أرستقراطيتها و أماراتها التي حاربت الإحتلال ولا تزال .


الدول من الطبيعة الأولى .. ( التي لا تتمتع فيها السلطة المركزية بنفوذ مطلق بل تحتاج لمراعاة القوى الإجتماعية البلاد و تحتاج للحفاظ على العادات و البروتوكولات المتعارف عليها طلباً للإستقرار ) 



الدول من الطبيعة الثانية .. ( التي تكون السلطة المركزية فيها كبيرة فلا تكترث لوجهاء المجتمع ولا تراعي آرائهم ولا تختف عصيانهم لأن كل شيء يبدأ منها و ينتهي إليها ) 


البنائان السياسيان السابقان بنائان تراتبيان “هرميان” ، توجد فيهما سلطة هرمية واضحة و رعية عاملة واضحة ، إلا أن نتاج هذين البنائين يختلف تماماً . فالبناء الأول يحوي الكثير من التوكيل و المراعاة و الإنتظام في مجموعة من العادات و المبادئ التي تحكم حركة القوى في الدولة فتصوغ طريقة تفاعلها و حدود نموها ، فتكون معها الحكومةُ المركزيةُ أسيرةَ هذه العاداتِ و الأعراف مما يقلل من حركتها ، لكن هذا البطء في الحركة و إن كان مكروهاً لدى الساسة إلا أنه يقلل من التكلفة المادية و البشرية للإدارة و يزيد من قدرة الدولة على تحمل الأعباء المستقبلية . أما البناءُ الثاني فهو بناءٌ هرميٌ واحدٌ برأسٍ واحدةٍ وحركةٍ واحدةٍ كبيرة إن تعطلت تعطل كل شيء و إن تحركت أنجزت الكثير ، ولكن لكونها لا تعتمد إلآ على عقل واحد فإن جميع العقول تشل و معها أخلاق المجتمع و كرامة الفرد و معنى المسؤولية و الطموح و الكرامة .

معظم الجمهوريات العربية في الوقت الحاضر دولٌ عسكريةٌ بنيت على شكل بناءٍ هرميٍ صلبٍ  حاربت من خلاله هذه الدولُ عاداتَ المجتمعِ التاريخيةَ و واجهت عقيدته و جعلت من الدولة قسمين ( قيادة منفصلة و شعب منفصل ) ، هذه الدول حاولت أن تتطور “كما تظن” فابتلعت الديموقراطية الغربية على سذاجة و حاولت لبسها كما هي في وقتها دون أن تدرك عيوب تركيبها أو خصوصية مجتمعاتها ، فلم ينتج عن ذلك التقمص نتيجةً مماثلةً أو حتى أثراً إيجابياً ، ذلك أن ما كانت تجهله هذه الأنظمةَ العسكريةَ العربيةَ أن النظم الديموقراطية إما أن تعيدها إلا الشريعة الأسلامية أو أن تتخلخل فيها المؤسسة العائلية نظراً للبناء الفرداني في الديموقراطية الحديثة ، فالديموقراطيات الحديثة بعكس الديموقراطيات القديمة الأكثرِ تديناً تتعامل مع الشعب كأفراد متساويين لا عوائل متمايزين ، فهي تحترم آراء الجميع -وجيههم و وضيعهم- كما يسائلها الجميعُ بغض النظر عن المكانة العقلية و الإجتماعية و بغض النظر عن مقدار الإضافة التي يضيفها ذلك الفرد أو تضيفها جماعته ، فتقف حركة عند أقل أفرادها حركة و أكثرها بلادةً ، كما أن هذه الأنظمة تفتقر إلى عقيدةٍ أخرويةٍ محفزةٍ تدفع إلى تجاوز الشهوات و ضبط النفس في نظام هرمي يقبل فيه الضعيف أن يساد و يقبل فيه القوي أن يحاكم  .. هذه الأنظمةُ الحديثةُ في فلسفتها لا تملك من المحجة ما تستطيع به أن تقنع المجتمعاتِ الضعيفة كيف يمكن لها أن تحافظ على هويتها الثقافية و موازنتها المالية و قدراتها العسكرية عندما يكون للجميع الحق في استخدام وسائل القوة للتأثير سياسياً لتُستَغل تلك الحريات لتحقيق مصالح فرديةٍ تعارض مصلحة الجماعة ، و لإثارة بلبلةٍ إجتماعيةٍ و سياسيةٍ يرضي بها الساخط نفسه ، أو تُستَغلُ بشغلِ الفراغِ الفكري الموجود لتشكيك الناس في رسالتهم الحضارية و مبادئهم الإجتماعية فتصير الفوضى أكبرَ و أعمق . 

الديموقراطيات الغربية ليست نتاج عملية فكرية بحته ، ولا هي حرية مطلقة تفتقد للضوابط العصبية و الأخلاقية الخفية ، بل هي نتاج تسلسلٍ طبيعيٍ لصراعٍ اقتصادي و عسكريٍ قديم بين قوى غربية متكافئة ، كما هي عادات إجتماعية و سياسية تراكمت مع هذه الصراعات و هي بنية فكرية فلسفية تمحورت حول عقيدةٍ تحلم بالخلاص و التحرر من الإستعباد البشري و التبشر بالخلود و هي تسعي للتعالي و تَحملُ تَصوراً واضحاً و عملياً عن الأخلاق و ماهو صحيح منها و خاطئ .. يقول الله تعالى : ( و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون ) ، فطلب الخلود و إبقاء الأثر مقصد سياسي قديم قدم خلق البشر ، و يقول : ( ذلك بأن منهم قسيسين و رهباناً و أنهم لا يستكبرون ) ، فالعقلية الأخلاقية موجودة ولها أسس صحيحة كثيرة قادرة على إنشاء مجتمع قوي متى ما تمكنت هذه الأخلاق من الجميع .  





هذه الدول في تركيبتها السياسية الداخلية تدرجت تدرج ظروفها السياسية و الإقتصادية ، فانتقلت من كياناتٍ سياسيةٍ صغيرةٍ هرميتها ضعيفة ( تكون فيها هوية العائلة و القبيلة و مصلحتها ماحيةً لكل تميزٍ فرديٍ و تفاوت معيشي يخلق طبقية ظاهرة ، فيما عدا شيء من الطبقية الإدارية التي تضمن حركة القبيلة و قوتها السياسية ) ، إلى كيانات سياسية أكبر ولكنها صلبة تكتسب صلابتها من غلبة طرف من أطرافها على الباقين ( إذ تتمكن عائلةٌ من العوائل أو قبيلةٌ من القبائل من فرض سيطرتها على بقية العوائل و تنجح في احتكار موارد الأرض و طرقها فتستغل حاجات الناس الأساسية لتأكد طبقيةً مستحدثةً تحدثُ بها نقلةً نوعيةً في تركيبة المجتمع السياسية و ثقافته الإجتماعية و عقيدته الدنيوية و الأخروية ) ، إلى أن تستقر على شكل كيانات سياسية كبيرة مستقرة إلى حد ما ، فيها طبقة أرستقراطية نافذة تتوزع القوة ليكسب ذلك المجتمع شيئاً من المرونة بحجم التوزع القائم الذي يُحكّم القانون الصلب و الأعراف الصلبة لا الفرد ( يوم كانت الدولة إقطاعية ، هرميتها واضحة ، نبلاؤها يتميزون بوضوح عن فلاح الأرض الذي يقع في أسفل الهرم ) ، ثم تظهر البرجوازية بعدما تقارب الزمان و المكان و صارت قوة الدول مقرونة بقدرتها الإقتصادية و انفتاحها على الشك العلمي و التنافسية في السوق فصار الهرم الإداري أكثر كفاءة و عملية و مرونة ( إذ صارت الأرستقراطية تشترى و تنتقل بحسب كفاءة الفرد الإدارية و الإقتصادية )، و بعيد الحرب العالمية الأولى و مع بدئ المرأة في دخول حلبة الصراع السياسي “و إن كان في البدئ على استحياء” صارت المجتمعات الغربية مجتمعات فردية بامتياز إلى الحد الذي يسخر فيه الإنسان من مفهوم الفردية القديم ، فالأسرة الصغيرة و الممتدة ماتت بالتدريج و أغفل دورها كبنيةٍ أوليةٍ أساسيةٍ لبناء الدولة ، و مع هذا الذوبان ذابت الوجاهات المناطقية و ذابت شخصية المجتمع المثالية التي يستشرفها العوام و تتسامى بها نفوسهم عن العلاقات التجارية المادية البحتة ليصبح المجتمع نفعياً بامتياز ، شكاكاً بامتياز ، و سطحياً بامتياز .

الإنسان ببساطة لا يستطيع أن يستمر في العمل مالم يجد فيه قيمةً مأمولة و مضرة مدفوعة ، وهو بين هذه و تلك يجد نفسه محصوراً كل يومٍ و مدفوعاً للتحرك و متى ما كان مجموع حركة الأفراد في المجتمع تسير في اتجاهٍ واحدٍ كانت الآثار السياسية و الإجتماعية و العلمية قوية و واضحة . و مع أن حاجات الناس الأساسية من غذاءٍ و مسكنٍ و أمان تلعب الدور الأساسي في ضمان انتظام الناس من عدمه إلا أن الأديان بالعموم  -و الإسلام على وجه الخصوص- تقوم على صياغة فكرةٍ و عاطفةٍ تربط الجماعة و تعطي حركتها قيمة ، و لأن عموم الناس يجهلون ما يميزهم ( ذكوراً و أناثاً ، أمراء و مأمورين ) فإنهم يتصورون بأن ذلك التركيب تركيب طبيعي ثابت غير قابل للإنحلال و الإنهيار و التفتت إلى كيانات صغيرة بدائية مترامية و هذا خطأ. 

الصيغة الصحيحة و الأقوى للدول هي الصيغة الهرمية التي تحوي الكثير من الأهرام المتراصة و المتراكمة و تصوغ العلاقة فيما بينها مجموعة من الأعراف و القواعد المقدسة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى قيام كل هرم بنفسه مع مساندته للهرم الأم “الدولة”. هذا البنيان الظرفي يظهر كلما تيسرت الظروف لظهوره ، وهو على ما تظهر فيه من هشاشة إلا أنه أبدعُ البنى و أكثرُها أثراً لما يحويه من توافق مع الطبيعة البشرية و قدرة على ضمان مساحة مناسبة من الحرية و التحفيز لكل فردٍ من أفرادها . 



من طبيعة الرجل حب التملك و السيطرة و التميز ، كما أن افتتان المرأة بالرجل كثيراً ما يكون مبنياً على ما حققه ذلك الرجل من تميزٍ على أقرانه و قدرةٍ على التحكم في بيئته و استحواذه على مواردها ليصنع لها مسكناً آمناً و مريحاً . فإذا ما وضعنا هذه القاعدة منطلقاً لبناء مجتمعٍ مستقرٍ و متعاونٍ أدركنا أن أفضل الكيانات السياسية هي تلك التي تسمح لذكورها باكتساب صفة الرجولة عن طريق التملك و التمايز و اكتساب الوجاهة  عن طريق بناء مجتمعاتها “دويلاتها” الصغيرة داخل الدولة الأم حتى ما تستنفد هذه الحركة المشروعة للرجال في الدولة طاقاتهم فتصبها في المصلحة العامة و تضمن بقاء الذوق العام بالمحافظة على مكانة الرجل في بيته كضابط لأسرته و رمزاً لها و الحفاظ للمجتمع الصغير على ذائقته وكرامته أيضاً بإعطاء وجهاءه الفرصة لتمثيل مجتمعهم في محافظاتهم و قراهم ، و هكذا يحظ الإسلام على الزواج و يحرم الزنا ، و يحلل للرجل التعدد و التملك و الإغتناء لإعالة بيته و أقاربه و جيرانه في نفس الوقت الذي يحرم فيه التعدي على نسل الآخرين و التعدي على ممتلكاتهم و الإقلال من سمعتهم و مكانتهم ( فالتبني محرم في الإسلام ، و الزنا بحليلة الجار من أعظم الكبائر و اقتطاع أرض لا تحل للعبد يطوق الله بها العبد يوم القيامة سبع أراضين .. ) .

إن الصلابة الشديدة في العلاقات الإجتماعية عندما تشل من حركة الأفراد و تمنعهم من الإنتقاد و التجديد و المنافسة تكون مضعفةً للمجتمع ككل و هادمةً لقواه و مانعة له من استبصار الأخطار المحدقة و الإستعداد لها، و العكس صحيح فإن التراتبية الإجتماعية عندما تموت تماماً - كما يبدو أن الديموقراطية الحديثة تتجه لذلك - فإن الرجولة تموت فتموت الأنوثة معها و يموت بالتدريج الإحترام و الأدب بين الجيران و الأقارب لتقل مكانة المعلمين و كل من له أمارة و سلطة ، فيموت الذوق العام و يتعلم الناس خلق أرداهم لتصبح المناصب مغالبةً محضةً لا تراعى فيها مبادئ المنافسة ولا حدود القانون . في المجتمع الأول (الصلب) يكون المجتمع أسير عاداته و نظرة الآخرين له ، و في الثاني يكون المجتمع كالحصى المبعثر الذي يصعب عليه الإمتزاج و التعاون لبناء جدار قوي متماسك ، فهو يستخف بكل شيء و يشكك في كل شيء مما يجعل قدرته على الإلتفاف حول همومه المشتركة أمراً صعباً . 

(( الرجولة أمارة و متى ما سادت الرجولة ساد المجتمع بيئته و جيرانه )) 

الرجولة ليست خلقةً ولكنها صفةٌ مكتسبة يتعلمها ذكور مجتمع ما عندما تظطرهم بيئتهم لأن يكونوا متعقلين في تصرفاتهم ، مستشرفين لمستقبل جماعتهم و مستعدين للهلكة من أجلها و أجل ممتلكاتها . هذه الصفات التي تُستَجلب ولا تَنمو طبيعةً تكون خلقة الذكور أكثر قدرة على احتوائها واستخدامها فتُحْكَم بها مجتمعاتها و تَعْلوا بها الهمم ، وهي وحدها القادرة على استخراج أفضل مافي الإنسان من إبداع فكري و فني و عسكري . هذه الخصال لا تنمو إلا في مجتمع يحترم الرجولة و يبرع في تنميتها و توجيهها للمصلحة العامة و يتمكن من ضبطها و رسم حدودها ، وبما أن الرجولة في أصلها هلكةٌ و سعيٌ للتملك و السيطرة و التعالي و الإستشراف في بيئة متصارعة فإن النظام الذي يسمح لذكوره بالتملك و التوسع و التعالي “اكتساب الوجاهة” ينجح في الإرتقاء بالذائقة العامة و ضبط أفراده و دفع متسلقي السلم الإجتماعي لتحمل مسؤولياتهم عن مجتمعاتهم الصغيرة التي يرعونها ، و هذه الوجاهة التي تتحقق للبعض تكون طاردةً لشريحةٍ أخرى من الذكور بطبيعة الحال و التي ستسعى لاكتساب شيءٍ من المكانة بالهلكة التي تقدمها في القطاع الأمني و العسكري وهو جوهر الإستثمار الصحيح للرجولة في المجتمع وهي الوسيلة الأنفع لاستثارة نسائه و ضمان التزامهن بدور الأمومة و الإنتظام في شكل تراتبي يحفظ أخلاق المجتمع و يضمن تكاثره .. يقول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }البقرة215 ، هذه الآية تحمل دلالة واضحة على شكل الأولويات في المجتمع المسلم و شكل التركيبة الإجتماعية فيه ، فالصحابي الذي سأل النبي عليه الصلاة و السلام عما يتصدق به كان جواب سؤاله من الله تعالى عن ترتيب أوجه الصدقة التي يؤديها للناس عوضاً عن شكلها إذ طريقة صرف الصدقة أهم من نوعها ، فتحمل الرجل للمسؤولية عن أهله و ذويه و توجيهه فائض ماله إلى ما يحتاجونه أهم من نوع الصدقة التي يقدمها إذ في ذلك ضمانٌ لمصلحة الناس عموماً بما أن الأهل دائماً أقربُ لتحمل المسؤولية الكاملة عن ذويهم بعكس الغرباء ، كما أن اتكال الجماعة بعضها على بعض يزيد من حرصها على التناسل و يأكد استقلالها عن تسلط الحكومات المركزية و هذا يحقق المصلحة للحكومة في قلة التكلفة الملقاة عليها و يضمن للمجتمع المحافظة على هويته الثقافية و الدينية و مكانته الإجتماعية بعدم الإعتماد على الغير . 

عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : " بينا نحنُ مع رسولِ اللهِ ﷺ إذ طلع شابٌ من الثَّنيَّةِ , فلما رأيناه رَميْناه بأبصَارِنا , فقلنا : لو أنَّ هذا الشابُ جَعل شبابَه ونشاطَه وقوتَه في سبيلِ اللهِ ! . فَسَمِعَ رسولُ اللهِ ﷺ مقالتَنا فقال : وما سبيلُ اللهِ إلا مَن قُتِلَ ؟! .. مَن سعى على والدَيْهِ ففي سبيلِ اللهِ ، ومَن سعى على عيالِه ففي سبيلِ اللهِ ، ومَن سعى على نفسهِ لِيَعُفَّها فهو في سبيلِ اللهِ ، ومَن سعى مُكَاثِرًا ففي سبيلِ الشيطان " . السلسلة الصحيحة ، الألباني .. هذا الحديث دليلٌ آخر على واقعية الإسلام و حكمته فهو يعطي مساحةً واسعةً للغرائز الإنسانية أن تجد متنفسها و أن تصب في المصلحة العامة ، فالرجل يبني مملكته داخل مملكة الإسلام فيرضي بها غروره و يسهم بها في بناء دولة مسلمة منتظمة .

يقول الله تعالى : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) سورة البقرة ١٥١ ، و يقول النبي عليه الصلاة و السلام عن ابن عمر : ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، -قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))..  فهذه الرسالة أتت مزكية و مطهرة و تزكيتها كانت بسيادة شريعة الله على الحاكم و المحكوم و وفق هذه الشريعة يسود الحاكم أمته و يسود الوزير قطاعه و يسود الأب بيته  و تسود الأم أطفالها و يسود التاجر ممتلكاته و عبيده ، و الكل وفق هذا النظام يسعى لمرضاة ربه و يتجنب التعالي إلا على ما كان شركاً بالله و تحدٍ لإرادته ، فالله وفق شريعته و تنظيمه ينمي في ذكور المجتمع الرجولة و يحفظ للبنات ضعفهم و أنوثتهم التي هي رأس مالهم ولا يتم ذلك كله إلا بالتأمر و الإستئمار وهو جوهر الحضارة و عمودها الأول و ضمان بقائها ، ولذلك فإنه لا يستغرب أن تكون هذه الرسالة قد حولت مجتمعاً قبائلياً مفتتاً إلى مجتمعٍ تراتبيٍ هرميٍ راضٍ و متعاون . 

وليس يتجلى ذلك في أحاديثَ و آياتٍ قليلةٍ بل السنه كلها مبنية حول هذا المفهوم .. فــ ( الأقربون أولى بالمعروف ) و النبي عليه الصلاة و السلام أمر الصحابي بوضع ماله في قرابته عندما سأله على من يتصدق ، و بر الوالدين و صلة الأرحام و كل ما يدور حول معانيها من أدلة في القرآن و السنة تؤكد على مفهوم الكيانات الإجتماعية الصغيرة التي تعول نفسها بنفسها إلى حد كبير ، فمن مقاصد الشريعة أن يجد الإنسان أثر جهده و عمله في الدنيا بالتكاثر في العدد و الإستغناء بالمال و العلو بالذكر .. فالنبي عليه الصلاة و السلام يجاوب الصحابي الذي سأله من أحق الناس بحسن صحابته ؟ قال : ( أمك ثم أمك ثم أمك ) ، و يقول لآخر : ( أنت و مالك لأبيك ) ، و يقول لثالث : ( ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها ) ، و يحرم في الحديث القدسي الجنة على قاطع الرحم ، و غير ذلك كثير من الأدلة التي و إن كانت تلعن اتباع الأجداد على العمى و الأهل على الضلالة إلا أنها تحث على بناء الأسر الممتدة و الحفاظ على علاقات الجوار ليكون عامل المكان مهماً كما هو عامل النسب ..  يقول في الحديث القدسي : ( أنا الله و أنا الرحمن ، خلقت الرحم و شققت لها من إسمي ، فمن وصلها وصلته ، و من قطعها بتته ) صححه الترمذي و الألباني ، و في حديث آخر يقول النبي عليه الصلاة و السلام : ( من أحب أن يبسط له في رزقه و ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ، و هذه الأحاديث واضحة في نظرتها للمجتمع ككيان إجتماعي كبير يحتوي عدة كيانات إجتماعية أصغر و التي بدورها تحتوي كيانات إجتماعية أصغر (الأسرة النووية) ولا يفترض بالفرد أن يعيش بدون عصبة إذ العصبة من أسباب الرزق و هي المديمة للأثر و من لم تكن له عصبة بعد ذلك كانت الدولة عصبته حتى لا يهلك . 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق