الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

عن روح الحضارة



عن روح الحضارة 
( يعجز معظم من الناس عن تمييز أثر الروح الإجتماعية و السياسية عند العامة عن أثر السياسة الحكيمة للحكومات ) 


كنت أنوي كتابة هذا المقال منذ مدة نظراً للمغالطات الكثيرة التي أسمعها في شرح سبب تقدم الحضارات و الدول و سبب تراجعها و لكني تكاسلت عن الكتابة و لم أجتهد في تحديد نقاط الفكرة و توضيح صورها و لكني الآن بعد قراءة كتاب ( التحلل العظيم ) لنيل فرغسون أجد أن ما طرحه مفيدٌ عموماً كمعلومات و يفيد بشكل أكبر كوسيلة في قيادة الكتابة لتحديد نقاط الكلام و هذا بالضبط ما أنوي فعله .

الكتاب يدور في مجمله حول محورين اثنين .. المحور الأول محور تاريخي يتكلم فيه الكاتب عن أهم التطبيقات التي أدت لسيادة الغرب على بقية العالم و كيف أن تبني بقية العالم لهذه التطبيقات يقود بالتدريج لتعديل موازين القوة و حلحلة السيطرة الغربية المطلقة على العالم و أنه بالتالي إذا ما أراد الغرب المحافظة على شيء من مكانته فإن عليه أن يحافظ على هذه التطبيقات ، أما المحور الثاني فهو محور يتكلم عن معالم إنهيار البناء المؤسسي الغربي الذي كان يدل يوماً ما على انسياسبية المجتمعات الغربية و إبداعها و حريتها وهو ما بدأ يتآكل في العقود الأخيره بحسب الكاتب وهذا برأيه السبب الأساس لتراجع المجتمعات الغربية و تضعضعها .

( المحور الأول ) التطبيقات الأساسية التي أدت لسيادة الغرب كما هو مذكور في الكتاب :
١- التنافسية . 
٢- الثورة العلمية . 
٣- حقوق الملكية . 
٤- التطور الطبي . 
٥- المجتمع الإستهلاكي . 
٦- أخلاقيات العمل . 

و أما ( المحور الثاني ) فهو يتكلم عن معالم إنهيار البناء المؤسسي في الغرب بناءً على ملاحظات الكاتب : 
١- إنهيار العقد الإجتماعي بين الأجيال . 
٢- زيادة تعقيد الأنظمة . 
٣- سيادة المحامين لا سيادة القانون . 
٤- تراجع المجتمع المدني . 


إن مجموعة النقاط التي أغفلها الكاتب هي نفسها النقاط التي كنت أنوي التكلم عنها و كذلك الملاحظات التي ذكرها تعد من الدلائل المؤشرة على صحة الإستنباطات التي ذكرتها سابقاً كقوانين حاكمة لحركة المجتمعات و التاريخ .. لذلك فإن ربط النقاط السابقة بما ذكر من ملاحظات يساعد على إحياء هذه النقاط و توضيحها . 

الكتاب كما ذكرت في مجمله تأكيد على هذه النقاط الست التي رفعت الحضارت الغربية حتى صارت في موضع القيادة و مع أنه لا يشرح سبب تملك الغرب وحده لهذه التطبيقات مجتمعةً إلا أنه يؤكد على قدرة المجتمعات الأخرى على تبنيها و الإستفادة منها و أن هذا ما يتم بالفعل في الوقت الحاضر وهو ما سيؤدي لتراجع النفوذ الغربي في نهاية المطاف ، ولكن ما يثير حفيظة الكاتب هي مجموعة من الأمور التي لاحظها على النسيج الإجتماعي في شكله المؤسسي وهو يتآكل مخلخلاً الحركة السياسية و الإقتصادية الحرة و مرسخاً لمزيدٍ من التنظيم و البيروقراطية التي لا يبدو أن الكاتب يدرك أسبابها بل يعزوا التراجع في الحركة الإقتصادية و النفوذ السياسي لها أكثر من كونها وسيلة دفاعية لمشكلات أعمق يبدو أن الكاتب يجهلها أو يتجاهلها . 

من خلال هذا الكتاب و غيره من الكتب يظهر جلياً أن الغرب بالعموم يجهل سبب تقدمه الحقيقي أو يتجاهله وهو في طرحه يدور حول جوهر الموضوع لكنه لا يصيبه و كل ما يفعله هو الحديث عن وسائل التيسير و ضمانات الحرية و قيمتها و عن أثر تشكلها في الأذهان من عمل مؤسسي و حقوقي و مسؤولية إجتماعية و فردية و كل هذا ببساطة لا يمكن نسبته للعمل المؤسسي إذ العمل المؤسسي نفسه عرض لا سبب و الحقيقة التي ستظل ثابته أن المجتمع الذي لا يضحي لا يبني ولا يتعلم التراتبية و النظام و أن الطمع و الجزع اللتان تقترنان بالكفر تفسدان كل بناء . 

  • التطبيقات التي ذكرها الكاتب في موضوع السيادة و التقدم تتراوح بين أسباب مؤدية للتقدم و أعراض ناتجه عن هذه الأسباب زادت من التقدم و منحت المزيد من القوة . حق التملك و حرية المنافسة و أخلاقيات العمل سبقت في تكوينها و صعوبتها نتائج هذه النقاط وهي النهضة الصناعية و التطور الطبي و ثقافة الإستهلاك ، ولولا ترسخ العصبيات و توازن القوة في القارة الأوروبية لما كان بالإمكان ترسيخ مبدأ التنافسية الإقتصادية التي لا تأتي إلا تبعاً للتنافسية السياسية التي تقتل العصبيات الداخلية و تحولها للخارج فتخلق وعياً جماعياً بالمسؤولية و الإقتدار تتمحور حوله العقيدة و القانون و السوق و هذا بالضبط ما تم في القارة الأوروبية . 
  •   من الطبيعي و المنطقي إستيراد منتجات الحضارة قبل استيراد قواعدها نظراً لأن منتجات الحضارة تغير موازين القوة على المدى القصير وهي سهلة الإستيراد إذ هي لا تلزم القيادة بمواجهة مسلمات المجتمع الثقافية و السياسية و العقدية ، ولكن استيراد هذه المنتجات يغير البيئة الداخلية في المجتمع و يغير درجة الإنكشاف الذي بدوره يؤدي لتغير الوعي و تغير الثقافة فتصير القواعد التاريخية مهلهلة بالتدريج و مع الزمن يصبح تغييرها و إصلاحها ضرورة ملحة هي الأخرى . 
  • القواعد لا يمكن تأكيد بنيانها طالما أن الفرصة لم تتح للبناء ، فالبناء الكبير الناجح هو وحده ما يؤكد صحة هذه القواعد و يرسخها في نفوس الناس ولولا أن الأوروبيين وجدوا وسيلة للخروج من سجن القارة الأوروبية الصغيرة و وجدوا موارداً للإستهلاك و النمو لما صار المستقبل أكثر جمالاً في ذهن العامة ولما تحركت الجموع في شكل جديد لهدف جديد عوضاً عن المواجهة الداخلية . الوفرة الجديدة في الموارد مع صعوبة العائق و كثرة المنافسة و علو الهدف توجد ثقافة عملية طامحة مبادرة تصادر من الحاكم اندفاعه و توفر عليه و على الحكومة مطالب الرعاية و تنجح دائماً في صياغة واقعٍ جديدٍ أكثر إبداعاً و غناً من قدرة الحاكم نفسه على التصور . 
  • تصور لو أن القارتين الأمريكيتين ما وجدت، و تصور لو أن الطاقة الرخيصة ( الوقود الأحفوري ) ما وجدت أيضاً كيف كان بالإمكان لسكان المجتمعات الغربية أن يخوضوا في تفاصيل بناء الحضارة الغربية وهم أساساً لا يملكون كفايتهم من المادة و لا يملكون ضمان أمنهم ناهيك عن توفير المواد اللازمة و الرقة الجغرافية الزائدة التي تدعم النمو في عدد السكان و تطوير الصناعة و استجادتة البناء و تحقيق السيطرة المنقطعة على باقي المجتمعات .. إن تجاهل هذين العاملين في بروز الغرب يعد خطأً فادحا و إن كانا تطبيقين لا يمكن استيرادهما و تطبيقهما على بقية المجتمعات إلا أن لهما من الأهمية ما يبرر تغير موازين القوة . 





  • العمل المؤسسي معلم واضح يدل على تميز المجتمعات من حيث النمو الحضاري و القوة الحضارية و ما ذكره الكاتب من حيث تراجع العمل المؤسسي و التطوعي يدل على حقيقة واحدة مغفلة تتحدث من وراء هذه النقاط وهي أن الميل للعمل المؤسسي و التطوعي الشفاف ميل أخلاقي ثقافي يدل على درجة الإندماج الحاصل بين أفراد المجتمع و توحد العصبية فيه و توافق الأهداف الإستراتيجية و قوة العاطفة الكامنة في عموم الناس لتحقيق هذه الأهداف ، إذ أن أي نقطة من هذه النقاط لا يمكن تفسيرها بوجود أيد خفية تتآمر على بناء المجتمع بل تدل على أن المجتمع نفسه يتحلل ثقافياً و عقدياً و عاطفياً ولا تعمل الإجراءات القانونية إلا كوسيلة للحماية من آثار هذا التحلل ولا يستأسد المحامون و يكثرون إلا دلالةً على بروز المصلحة الفردية و الإستعداد لاستغلال الثغرات القانونية لتحقيق مكاسب مادية على حساب المجموع ولا تزداد الإستدانة و يقل العمل التطوعي و يقل الإنجاب إلا دلالةً على تراجع الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع في حاضره و مستقبله عندما يظطر أبناءه و أحفاده لسداد ديون أجداده .
  • إن أكثر الوصفات التي يعطيها الإقتصاديون و السياسيون للتقدم الإقتصادي هي وصفات تقنية سياسية تتعامل مع حركة الناس ولا تحركهم فهي في كثير من الأحيان تجهل أو تتجاهل أسباب تحركهم المنسجم تارة و التصادم تارة أخرى ولذلك فإن كثيراً من الوصفات لا تحقق النتائج المرجوه إذ هي تغفل المشكلة الحقيقية الكامنة في المجتمع ، فالمجتمعات لا تبنى على الحرية و ادعاء ذلك جهالة لأن ذلك إن صح فإن أكثر المجتمعات فوضوية هي أكثرها حرية و تقدماً !! و نظراً لأن ذلك لا يصح فإن الحرية لا يمكن أن تكون سبباً ، ولو أننا استعظنا عن هذه الكلمة بعبارة ( سيادة القانون ) لكانت الثانية أكثر منطقية لكنها هي أيضاً عاجزة عن تبرير سيادة القانون معنوياً و مادياً على مجتمع من المجتمعات و عجزه عن آخر و تقدم معدلات الفساد التي هي ببساطة "تحايل على القانون و تعديه" في مجتمع من المجتمعات و تراجعه في آخر ولوصلنا في نهاية المطاف لاستنتاج أنا القرارات السياسية لا تبني إلا بشكل محدود و دورها الفاعل لا  يظهر إلا بقدر كفاءتها في إدارة الموارد التي تملكها لا أكثر    و من ثم فإن قلوب الناس و عواطفهم و أحلامهم و عصبياتهم و ثقافتهم هي العمود الفقري الذي يبنى عليه كل شيء . 
  • الرجال الأقوياء في المجتمع ثلاثة ( رجل السياسة "قائد الجيش" ، و رجل المال ، و رجل الدين ) .. المجتمعات الغربية شهدت في العقود الأخيرة تراجعاً في التدين بشكل كبير نظراً لقلة المعقول من الدين و جهالة رجاله و فشله في إقناع العامة بأهدافه الإستراتيجية ، و لذلك فإن رجل الدين صار ضعيفاً في الغرب و ضعفه يدل على قلة الإندفاع و الحركة في المجتمعات الغربية و ميلها للسكون و اقتصارها في حركتها السياسية على المقايضة لتحقيق المصالح المادية دون أهداف إستراتيجية بعيدة المدى ( و هذا ظاهر في المحاضرات المذاعة و الأفلام و الروايات أيضاً ) ، أما رجل المال فهو يفقد قوته يوماً بعد يوم بازدياد تطفل الحكومة على ممتلكاته و مصادرته لها و التشكيك في حركته و تقييد حريته و هذا بالتالي يقودنا إلى الحلقة الأقوى وهو رجل السياسة الذي صارت قوته في ازدياد مع ازدياد اتكال العامة على الحكومة و حركتها و قلة الدافع الداخلي عند العموم للعمل للمصلحة العامة التي لا يبدو أن أحداً يتفق على شكلها .. مالا يدركه الكثير بأن تراجع نفوذ رجل السياسة و اقتصار صلاحياته على الإدارة و الحماية يدل على صحة البناء الإجتماعي الكامن في المجتمع إذ أن المجتمع الذي يقل فيه التعدي تقل فيه الحاجة لاستخدام القوة مما يقلل من شرعية الحكومة الكبيرة المتنفذة فتصير المطالبة بإضعاف القوة المركزية أمراً مشروعاً و وسيلة لتحقيق المزيد من النمو الإقتصاديو تيسيره ، أما رجل المال فهو الرجل الواقعي الذي يسعى في مصلحته هو و سعيه هذا إن كان بكفاءة و مسؤولية فإن المؤسسات الإقتصادية الكبرى تقوم حوله و نموها بعد ذلك داعم لنمو المجتمع ككل إذ هي تعيد الفائض للناس في شكل خدمات و صناعات و أموال و علم ينتفع به ولا تبخل بذلك إلا عندما يتوقف رجل المال عن التأثر برجل الدين فرجل الدين هو العقل الأخلاقي و القيمي و صاحب النظرة الإستراتيجية التي تلامس قلوب العامة و تحركها و تنظمها دون إكراه بل تستحثها و تنمي فيها الخيال و تعلمها معاني التضحية و التنكر للذات وهي بقدر نجاحها في تحقيق ذلك الهدف تنجح في تحريك رجال المال ليعيدوا للمجتمع شيئاً مما أخذوا و لتؤدي هذه الحركة في نهاية المطاف لمصادرة الكثير من القوة السياسية من يد الحاكم و رجل الأمن .
  • إنا مهما درسنا فإنا نعود دائماً إلى نقطة البداية وهي أن أصل البناء الحضاري الإنسان ، عقيدته و مبادئه و عصبيته و أن هذه الأمور عندما تتغير فإن أكفأ السياسيين و العلماء و التجار لا يستطيعون أن يبنوا من موتى القلوب حضارة .. يقول الله تعالى : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) و يقول : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض .. ) و يقول : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) 
  • إن مؤسسات الدولة الديموقراطية تعمل على حماية الضعيف من تعدي القوي و تسعى لجعل عمل الدولة بإداراتها أكثر شفافية و عرضة للمساءلة لكنها على كفاءتها لا تحمي من الإنحلال و الفوضى و الحكم الفردي لأن القانون عندما يصبح مجرد حبر على ورق و القيم عندما تفقد قداستها و قدرتها على تحريك الناس فإن الإنضباط الذاتي يضعف و معه يصبح الناس أكثر اتكالاً على الحكومة لحمايتهم فتصبح الدولة أكثر مركزية و الناس أكثر قبولاً لمصادرة حرياتهم في سبيل ضمان أمنهم حتى تعود الدولة جمهوريةً شوهاء تحكمها جماعة متنفذة عسكرية تدعي العلم بالأصلح و تشرع استخدام القوة للمصلحة العامة ، يقول تعالى : ( و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) . 
  • إن صلاح الإنسان عماد يدعمه صلاح القانون الحاكم ، و شعور المحكوم بقداسة القانون لا قداسة منفذية و مراقبية تضمن صلاح النظام ككل إذ هي تنزع من البشر حق التشريع و تؤكد على أن الحكم في القضايا يوكل للأعلم و الأصلح فلا يعود هناك مجال للتلاعب بالنظام السياسي إلا من خلال السيطرة على القوة التنفيذية التي لا تستطيع مصادرة روح الأمة و وعيها فتكون الشريعة الإسلامية في نهاية المطاف هي الوسيلة الأصلح و الأقدر على حماية الهويات و ضمان القوة و الثبات و تحقيق التنظيم و العدل . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق