الجمعة، 14 أبريل 2017

مهزلة الديموقراطية (٣)



مهزلة الديموقراطية (٣) 
عندما يصير حكم الضعيف عقيدة .. 


إن مما يدل على ما ذكرته في المقالين السابقين أن رؤساء الدول الغربية المنتخبون ليسوا أصحاب القوة السياسية النافذة في بلادهم، فهم مع أنهم يملكون قوة سياسية وصلاحيات حقيقية لا يملكها غالبية الناس إلا أن وصولهم إلى الحكم مع عدم تغير السياسات الداخلية و الخارجية تغيراً جذرياً في كل مرة يأتي مرشح يدعي بأنه سيقلب الطوالة يدل على أن هناك قوة خفية تضع الخطوط الحمراء لهؤلاء المرشحين، هذه القوة ليست قوانيناً و أعرافاً ضابطة ـو إن كنا لا ننكر وجودها و أهميتها- ولكنها قوة فعلية على أرض الواقع تظهر كما تظهر أي قوة سياسية في أي دولة من دول العالم ( عن طريق تراكم الثروة و اتحاد العصبية بيد مجموعة عائلات بسيطة عبر أجيال متعاقبة، فيؤدي هذا الجمع للأصول و السيطرة على البنوك لتحقيق اجتماع بشري يؤثر على الديناميكية السياسية و العادات الإجتماعية في ذلك المجتمع و بالتالي فإن البنية الهرمية للبناء السياسي و قواعد التعامل فيما بين القوى تتحرك تبعاً لهذه القوى، أو أنها على الأقل لا تخالفها ).

إذا أردت أن تعرف أصحاب الأمر في الدول الغربية فما عليك إلا مراجعة قائمة صغيرة من العوائل إغتنت قبل ١٠٠ سنة تقريباً أو يزيد ولا يزال المال يسري في نسلهم، هذه العوائل لا تذكر في مجلة فوربز بطبيعة الحال نظراً للآثار السياسية التي قد تحدثها مثل هذه التقارير، لكن عدم ذكر الإعلام لهم يجب ألا يشكك الإنسان في قدرة مالكي الأراضي الكبيرة و المحورية و مالكي البنوك و شركات الإتصال و المواصلات و الإعلام على التحكم في نتائج الإنتخابات و صلاحيات الرئيس المنتخب .. وهنا قائمة بأسماء العوائل المؤثرة في الغرب : 

١- العوائل المالكة في غرب أوروبا ( إن ما يجهله غالبية الناس أن أغلب الملوك في أوروبا الغربية يعودون في أصلهم لعائلة نبيلة واحدة وهي عائلة ألمانية، هذه العائلة تعود في أصلها للدوق السادس أرنست الثالث الذي كان دوق ساكس كوبرغ سالفريد من عام ١٨٠٦ إلى عام ١٨٢٦ ، و من هذه العائلة يخرج لنا ملوك بلجيكا و البرتغال و المملكة المتحدة، كما ترتبط هذه العوائل بصلات قرابة مع عوائل ملكية أخرى كالعائلة المالكة في هولندا، ولعل القارئ لا يستغرب بعد ذلك وجود إدارة الإتحاد الأوروبي في بلجيكا و وجود تعاون و تفاهم يفوق التفاهم الإجتماعي الحاصل بين هذه المجتمعات .. “كما رأينا في الموجة العصبية القومية في الغرب” )
٢- العوائل الغنية التي توارثت الغنى و بنت لنفسها علاقات مع تلك العوائل الحاكمة خلال القرن المنصرم، هذه العوائل تملك المال و القوة لكنها لا تملك البعد التاريخي و عصبية الناس لذلك فإنها تبقي نفسها في الخفاء و تتفاهم مع الملوك و السياسيين على شكل القوانين و السياسات التي ترضيها .. مثل ( عائلة روثشايلد اليهودية، وعائلة روكفيلر الأمريكية، وعائلة ج.ب. مورقان الأمريكية، و عائلات أخرى كعائلة كارنيقي و غيرها ) .. أي عائلة تسيطر على نسبة كبيرة من قطاع تجاري مهم و تورث هذه السيطرة لجيلين فإنها تصبح قوة سياسية خفية حتى و إن أنكرت ذلك.
٣-  الشركات العملاقة التي تتجاوز حدود البلاد و توظف نسبة كبيرة من الناس تملك من القوة ما يفوق قوة الرئيس نفسه، لكن لكونها كيانات ظاهرة و نفعية طارئة فإنها لا تستطيع أن تدخل في السياسة دخولاً مباشراً وإنما تتحالف مع شركات أخرى و تتفاهم مع سياسيين مقبولين ليحموا مصالحها و ليؤكدوا حضورها. 

كل هذه الشرائح المذكورة ( العائلات المالكة الغربية، العائلات الثرية المتوارثة للأصول الرئيسية في البلاد، الشركات الكبرى ) تشكل رأس الهرم في المجتمع الغربي، فهي الضابط لتعاملاته السياسية و الإقتصادية ، والمشكل لعقيدته الإيمانية ، والموجه لاستراتيجيته المستقبلية ، والمتلاعب في تاريخه حرصاً على بناء ذاكرة تاريخية منتقاه ومتفق عليها .. هذه الشرائح هي الملأ وهي التي إن تم التفاوض و التفاهم معها فقد تم السلام.


٩- إذاً كيف يحقق الإنسان رغبته في المشاركة السياسية و الأمارة ؟

أولاً يجب علينا أن ندرك أن طلب السلطة و خلود الذكر غريزة عند الجميع ، و بالتالي فإن الناس يحبون الأمارة و يسعون لها ونادراً ما تجد حركة إلا وهي تخفي في جنباتها شيئاً من هذه الغريزة ( طلب الأمارة أو نفي العبودية و المهانة )، لذلك فإن الإهتمام بالسياسة و طلب التمثيل و الحرص على جمع القوة و النفوذ شيء عام منتشر يجعل البناء الإجتماعي و السياسي دائماً كالقدر الذي يغلي على نار هادئة يوشك أن يفور. 

لأجل كل ما ذكرت فإن طلب الأمارة مذموم، يقول النبي عليه السلام لعبدالرحمن ابن سمرة :( لا تسأل الأمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، و إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ) ، كما يقول عليه الصلاة و السلام : ( إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه ) ، فلا يمدح أحد على انشغاله بالسياسة ولا على خوض غمارها حتى يثبت أنه حالة إستثنائية وُكِل إليه أمر فقام بحقه ولم يحرص بعد ذلك على البقاء فيه و تخليد ذكره و مصلحته، فمَن مِن الناس تراهم يشتغلون بأمور السياسة وهم على هذه الحال ؟! 

إن طلب خلود الذكر و ظهور الأثر مذموم عموماً بل هو أساس فساد الأعمال الصالحة إذ يسمى في الإسلام ((رياء)) ويؤكد ذلك قول الله تعالى : ( إنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد )، و يستثنى من ذلك طلب الذكر و الأثر في أمور الخير كتعظيم الله و تطبيق شرعه و منع الظلم ، يقول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : ( رب هب لي حكماً و ألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة نعيم )، فطلب الحكم و الأثر هنا أتى في سياق المدح، لكن الحكم نفسه الذي وهبه الله تعالى لإبراهيم لم يأتي كالملك الذي يعرفه عموم الناس، لذلك فإن طلب الأثر و الحكم يجب ألا يكون بالمطالبة المباشرة المعهودة، كما أن الملك الذي يحصل عليه الإنسان يجب ألا يكون كالملك المعهود وإلا كان مذموماً .. 

ولكن كيف ؟ 

 إن الوصول لخلود الذكر و ظهور الأثر مقبول إذا أتى من طرقه المشروعة، وهي : 

١- المال 
( التجارة مشروعة و منظمة في الإسلام و النبي عليه الصلاة و السلام لم ينهى عنها بل قال : “نعم المال الصالح للمرء الصالح” ، و قال في حديث ضعيف يستأنس به : “تسعة أعشار الرزق في التجارة” .. و المال تستجلب به اليد العاملة و الصناعات و تحمى به النفوس لذلك فإنه لا يهمل ولا يهدر ولا يذم، يقول الله تعالى : “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها و اكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفا” ، فإذا أدركت هذا أدركت أنه مظلة يستظل بها الناس وبالتالي فإن مالكه يصير له شأناً بين الناس، إن لم يأخذ برأيه فإنه لا يهمل ولا يستخف به ) 

٢- الولد 
( بكثرة العدد واتحاد العصبية و الإتفاق على الأخلا العامةق يكون للجماعة أثر، لأجل ذلك فإن الذرية تطلب و زيادة العدد تزيده قوةً بروز النسب و كرامة المنبت، يقول النبي عليه الصلاة و السلام : “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة” ، وقال الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام : “يابني لا ندخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء” وكذلك قرأنا في سير الأنبياء و الصحابة فإنه يندر أن تجد نبياً أو صحابياً بارزاً إلا وقد عدد و طلب الذرية ) 

فالأثر السياسي يأتي نتاجاً عن هذين الإثنين ، يقول الله تعالى : ( و تكاثر في الأموال و الأولاد ) ، و يقول : ( المال و البنون زينة الحياة الدنيا ) ، ويقول على لسان بني المشركين : ( وقالوا نحن أكثر أموالاً و أولاداً وما نحن بمعذبين ) ، و قال حكاية عن بني إسرائيل : ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم و أمددناكم بأموال و بنين و جعلناكم أكثر نفيرا ). من ذلك كله نقول بأننا إذا علمنا أن طالب الشيئ عليه أن يتحرى مظانه فإن طالب الأثر و الذكر عليه أن يدخل من هذا الباب، فإذا قدر الله تعالى لذريته من بعده مزيداً من المال و الولد و الذكر الحسن و الشجاعة على الحق و طيب النفس عن المال فبذل للمستحقين فإن الإمارة تكون قريبة من هذا النسل، وحتى وقتها فإن الرئاسة لا تطلب وإنما توهب، لأن الطالب أبداً ما كان إلا مشكوكاً في نيته و قصده، و أما الذي يتحمل أعباء الغنا و الوجاهة و يقوم في الناس بسيرة حسنه ثم يقدمونه فيهم فإنهم يكونون له عوناً ولأخطائه متجاوزين. 

هذا يتعارض تماماً مع منطق المطالبة الآنية التي يحاول فيها الفرد أو الجماعة الإلتفاف على هذه السنة الإلهية، فالذين يسعون من خلال الأحزاب السياسية للوصول للحكم إنما يقدمون أنفسهم ككبش فداء و ورقة سياسية يستخدمها أصحاب المال و النفوذ من خلفهم لتحقيق مصالحهم  السياسية، و أما ؤلائك الذين يسعون بقوة السلاح لفرض الأمر الواقع فإنهم يقضون على الديناميكية الحيوية في المجتمع التي تلفظ البلداء في الحياة الإقتصادية و الإجتماعية، هذه الإنقلابات العسكرية و الحركات الشيوعية إنما تعمل على الهدم و الإعتراض على سنن الله في الخلق أكثر من أن تهتم حقيقة بتحقيق المصلحة العامة و فرض القانون على الجميع .. هذه الحركات تقضي على كل ماهو أصيل وتجعل المجتمع في صراع مع تاريخه و تقاليده مما يؤدي لانحدار الذوق العام و انحدار القدرة التنافسية في شتى المجالات . التنافس و التصارع من خلال السوق و التزاوج يؤدي لديمومة حركة المال و ازدهار البلدان، فحتى العائلات الغنية عندما يعدد أفرادها في الزواج فإن ذلك يكون سبباً في تعدد العصبية بعد جيلين أو ثلاثة وهذا بدوره يؤدي لانتشار المال إذ أنه يتقسم بين الفرقاء، هكذا يعود الناس للتنافس التجاري و الإجتماعي عن طريق الزواج مما يحافظ على ديناميكية قوية تبقي النباهة و الحلم في الناس و تمنعهم من الوقوع عبيداً لبعضهم .. يقول تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) ، ومن ذلك تتضح خطورة كنز الذهب و الفضة و احتكار الأراضي الحية و اتجاه الوجهاء و الأغنياء للزواج من واحدة ثم التفاخر و التباهي بالمظاهر و الأموال ، هؤلاء يرسخون للطبقية الشديدة ومن ثم العبودية للبشر.


يقول الله تعالى : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ).

مهزلة الديموقراطية (٢)




مهزلة الديموقراطية (٢) 
عندما يصير حكم الضعيف عقيدة .. 


٧- إذاً ماهو النظام السياسي الأمثل ؟ وكيف نستطيع أن نجار الغرب ؟ 

“ لا يوجد نظام سياسي يضمن الصلاح و التقدم .. لذلك فإنه لا يوجد نظام سياسي مثالي“

الأنظمة السياسية عبارة عن قوانين جامدة باردة من صنع البشر يفترض بها أن تنظم حركة الناس وتضع لهم القواعد الأساسية التي يعملون من خلالها لتحقيق مصالحهم الشخصية، لذلك فإنها لا تضمن شيئاً لوحدها إذ أن المقارب للموضوع السياسي بهذه النظرة يجهل أو يتجاهل أن أساس الإنتظام قبول و رضى عام في القلب يتبعه تضحية تقلل من انتشار منطق الربح في مجالات الحياة، لذلك فإن الدول بعكس ما يقال في الوقت الحاضر لا تثبت ويقوى عودها إذا كان عموم الناس فيها يعتمدون في كل مصالحهم على مبدأ المقايضة المادية الصرفة و المشاحة، بل إنه كما يصح قول الرأسماليين بأن الحكومة الصغيرة دليل على قوة الدولة فإنه يجب تبيين القاعدتين الأساسيتين التي تقوم عليها هذه الحقيقة قبل أن نأخذ هذا الكلام على إطلاقه : 

١- أن القوى السياسية عليها أن ترضى بمن يفرزهم السوق كقوة إقتصادية تشارك إلى حد ما في القرار السياسي و التوجيه ( والمشاركة هنا قد لا تكون مشاركة واضحة و إنما مجرد الحساب و التشاور و التفاهم يعد مشاركة مهمة وإن أغفلها الكثير من المراقبين نظراً لما للمال و المؤسسات التجارية من قوة وأثر على البناء السياسي لا يحسب حسابه العامه إلا في مجال الترف والمباهاة المادية ). 
٢- أن القوة السياسية عليها ألا تحتاج للتدخل كثيراً في مجال الضبط و الحماية و الرعاية إذ أن نشاط عموم الناس في مجال الأعمال التطوعية و الأوقاف يقلل من استنزاف الدولة فتقل لذلك الضرائب والحاجة لتضخيم القطاع الحكومي . 

( هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين، و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) 

لا يمكن أن تجد دولة قوية تتدخل في جميع مجالات الحياة نظراً لكون ذلك يستنزف مواردها، كما أن الإحجام عن التدخل لا يعني بالضرورة قوة الدولة إذ أن الإنتظام و التعاون و الإكتفاء العام للدولة ضروري لاستقلال الكيان السياسي و قوته. كل ذلك يعني أن الدولة تشبه الإنسان في أن لها هوية واضحة و قيم و هيئة مميزة حاضرة في الأذهان تنظم الجميع و تحركهم للمصلحة العامة، و نظراً لكون هذه الأمور كلها لا تتم بقرارات بشرية بل هي نتاج عقيدة متوارثة مع حوادث وتجارب تاريخية و ظروف متشابهه و مصالح مشتركة فإن هذا يعني أن الله تعالى هو الذي يقدر هذه الأمور، يقول تعالى : ( يعز من يشاء و يذل من يشاء بيده الخير )،  و يقول :( وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين )

لذلك فإنه من الأفضل إعادة صياغة السؤال بطريقة أفضل .. وهي : 
 ماهي الدلالات المادية على صحة النظام القائم و شرعيته ؟ 
وما هي الظروف التي ستؤدي بعد مشيئة الله تعالى لمعادلة الكفة في هذا الصراع الحضاري ؟ 


الدلالات بحسب تقديري هي : 

١- أن المبدأ الحاكم للدولة ككل يجب أن يكون “الإستقلال النفسي و المادي عن أي شيء غير الله” ومن ثم تتحقق العبودية لله ( و أنا هنا أقصد الدولة ككل أي أن هذا المبدأ يعد الأساس الذي تبنى عليه التشريعات الداخليه و القرارات السياسية الخارجية وهو الأساس الذي تبنى عليه أخلاق المجتمع و يستمد منه الشعور العام بما هو صحيح و جميل وما هو خاطئ و قبيح ). 

٢- أن السوق (حرية التبايع في المنتجات و الأصول ) و حرية الناس في الإختيار عند التزاوج تحكم بين الناس في من يرتفع و ينخفض في السلم الإجتماعي، و أن التدخل من قبل أي شخص أو كيان لتقييد هذه الحركة وضبط نتائجها يعد أمراً محرماً و مرفوضاً من قبل عموم الناس مالم تكن تلك النتائج التي يميل باتجاهها السوق تشير لبروز قوة إقتصادية و سياسية تهدد المبدأ الأول .. ( بطبيعة الحال فإن التسليم بنتائج السوق لا يكون إلا في مجتمع متماسك في عصبيته، رضي في أخلاقه، بعيد في نظرته ). 

٣- أن عموم المجتمع “رعية” و عموم الوجهاء “رعاة”، و بالتالي فإن الرعية مسؤولون عن التزام الطاعة وإكرام ولاة الأمر والإمتثال للقانون مالم يكن فيه نقض صريح لشرع الله، و أما الرعاة فإنهم مسؤلون عن إقامة القانون على أنفسهم و غيرهم على حد سواء كما أنهم مسؤولون عن رعاية الضعيف و حمله وإرشاد الرعية لما فيه صلاحها في الدنيا و الآخرة و يكون ذلك بالتبيين تارة و الإكراه تارة أخرى. 

٤- يصعد بعض من الرعية مع الزمن لمكان الوجاهة و الأمارة وينزل آخرون بقدر الله تعالى وذلك ناتج عن كثرة المال و الولد و الذكر الطيب و اجتماع العصبية لفرع من فروع المجتمع و انحلالها عن فرع آخر، ومتى ما حصل ذلك فإن المسؤولية تقع على هذه القوة الجديدة كما هي واقعة على القوى السابقة الباقية في أن يحلوا خلافاتهم فيما بينهم مما هو من أمور الدنيا (المصالح) و يلتزمو بتحقيق المصلحة العامة بقدر المستاطع و إعلاء كلمة الله و شرعه حتى ولو كان ذلك يعارض الرغبة الكامنة في النفوس بالتفرد بالحكم والوجاهة.

٥- من كانت له الغلبة واجتمعت له الكلمة فإنه يُبَايَع حتى و إن كان مفضولاً، ذلك أن اجتماع الكلمة على رجل بسيط أو حتى ضعيف خير من تشتت الكلمة على رجال أقوياء .. هنا يعتد بالأصوات و الإنتخاب ولا يصح أن يعمم الإنتخاب و الرأي على عموم الناس كوسيلة للتشريع في جميع الأمور. 

هذه برأيي النقاط الأساسية المهمة في الحكم على دولة ما بأنها راشدة تمثل النهج النبوي في الخلافة والمنطق الإسلامي في التعامل مع القضايا السياسية و الإقتصادية، ومع أن هذه النقاط مهمة إلا أن عدم توفرها بالتمام في دولة مسلمة لا يشرع لرعيتها أن يثوروا أو يسعوا للتغير الهيكلي مباشرة عن طريق الحشد و المواجهة الجماهيرية نظراً لكون التغيرات السريعة عن طريق الحشود لا تؤدي للحصول على المرغوب، كما أن الظروف و القوى النافذة المتصارعة نادراً ما يحسب لها عموم الناس حساباً صحيحاً فتنتهي هذه الحركات الجماهيرية للإضرار بمن كانت قد خرجت لأجلها. 

أما الظروف التي ستؤدي لموازنة القوة العالمية فهي برأيي على وجهين : ١- ظروف محسوسة يمكن قياسها ٢- ظروف أخرى يقدرها الله تعالى هي فوق قدرتنا على الحساب، أما الظروف المحسوسة فهي برأيي كالآتي : 

١- تحلل العصبية الغربية و انهيار الموازنات المالية لتلك الدول نتيجة لهذا التحلل في البناء الإجتماعي و الإقتصادي.
٢- إنفراجة إقتصادية ومن ثم آثار سياسية تسمح للمجتمعات المسلمة أن تتنفس مرة أخرى و أن تشعر بإمكانية تحويل الأحلام لمشاريع وبنى محسوسة أمامها.
٣- عدم انقضاء العوائق الخارجية بالتمام، بل تستمر المجتمعات المسلمة تواجه الخطر على حدودها و التهديدات على إستثماراتها مما ينقي النظام الداخلي ككل "بنية سياسية و اجتماعية و ثقافية".

أما الذي يقدره الله و يصعب حسابه فهو :
مقدار عودة الناس للدين ليستمدوا من كتاب الله وسنة نبيه وحركة سلفهم صورتهم الأساسية و هويتهم التاريخية التي تحرك اقتصادهم و تضبط أفرادهم و تؤدب أصحاب النفوذ فيهم. 


على الإنسان أن يذكر دائماً أن البناء و الإنضباط طارئ على البشر و أن القوانين لا تكتسب قيمة مالم يكن عدد المعتدين عليها قليل و البلد الذي يحويهم غني يستطيع أن يدفع المال لإيجاد قوة رادعة أو أن عموم الناس يتكرمون بأموالهم و أنفسهم فيوفرون بذلك القوة اللازمة للبناء. أما أساس الإنضباط فهو إيمان و عصبية و حلم، لذلك فإن أكثر الدول حداثة و بداوة قادرة على التغلب على أكثر الدول تعقيداً و أثراً طالما أنها تملك من الروح و الإنضباط في نفوس أفرادها ما يفوق في أثره تلك الدول الراسخة في قوتها المادية و العسكرية، ولذلك فإن الإستراتيجيا و الخطط تموت على أعتاب ثقافة المجتمعات و عقيدتها، وصراخ أصحاب الحداثة المتكرر بأن العالم مقبل على نمو وازدهار لمجرد أن المرأة ثارت على زوجها والعامل ثار على مديره والمجتمع ثار على حكامه و حالته البائسة سخافة و سطحية لا يصدقها إلا أنصاف المتعلمين. 

سأكمل الكلام في المقال التالي .. 

مهزلة الديموقراطية (١)



مهزلة الديموقراطية (١) 
عندما يصير حكم الضعيف عقيدة .. 


سأحوال أن أختصر كلامي في هذا المقال بقدر الإمكان لسببين : ١- أن الكثير من جوانب هذا المقال مذكور بشكل أو بآخر في مقالات سابقة، فليست لي رغبة في تكرار كلامي ولا إشغال القارئ ٢- أني لا أزال مشغولاً بدراستي و عملي مما يمنعني من إكمال سلسة “التعالي و الخلود”  و يضر بمستوى الكتابة وعمقها ( أي ما تحويه من أدلة و إستشهادات ) .. لذلك فإن هذا المقال من المفترض أن يكون نقاطاً مباشرة تظهر انتاقدي للعملية الديموقراطية الغربية بناءً على التحليل المنطقي، وتظهر جنون العقلية الليبرالية و الإسلامية المتطرفة “الخوارج” الذين يبدون على اختلافهما الظاهري متشابهين في المفاهيم والأصول التي تدفعهم للتحرك و الإعتراض. 
سأجعل هذا المقال على شكل أسئلة و أجوبة سريعة حرصاً على الإختصار و تيسيراً للقارئ.


١- ما هو عيب الديموقراطية الغربية الرئيس ؟ 

عيبها عيب أساسي واضح برأيي، وهو عيب مستمد من نظرة خاطئة للحياة تفترض أن البشر متساوين في القدرات و القوة و المكانة الإجتماعية و أن الشيء الوحيد الذي يعوق تقدمهم هو التمييز في الفرص و المعاملة !! ، هذه النظرة جعلت المجتمعات التي تسعى “للحداثة و التقدم” تقوم بصياغة قوانين و تشريعات مبنية على أساس المساواة التامة في الصلاحيات بين جميع أفراد المجتمع بغية الوصول إلى النتيجة المفترضة سلفاً وهي التساوي في النتائج، و نظراً لكون ذلك هو الأساس الأخلاقي فإن النتائج الطبيعية التي يفرزها السوق عندما تكون قواعده (التنافسية) مطبقة على الجميع دون تمييز تصبح مجحفة في النظر العام و بالتالي فإن الدولة و المجتمع المعترض من خلفها سيسعى بكل قوته لحرف نتائج السوق هذه لتخرج النتيجة المرغوبة .. وبالتالي فإننا نستطيع أن نقول أن الديموقراطية بتمكينها للضعفاء و الجهلة تحفر قبرها بنفسها إذ أنها سلمت السلاح لمن لا يعرف كيف يستخدمه و متى يستخدمه وما الذي يريده منه. 


٢- ماهي النتائج المطلوبة في الديموقراطية الغربية، و التي تعد سبب فشله ؟ 

  • التسواي بين الجنسين في الدخل و المناصب و التمثيل و الإنجازات 
  • التساوي بين الأعراق في الدخل و المناصب و التمثيل و الإنجازات 
  • إلغاء التمايز الطبقي تقريباً، ليس من حيث التمثيل فقط ولكن من حيث الإمتلاك للموارد التي تتيح التمثيل و النفوذ ..  حتى ولو كان عموم الناس و فقرائهم يعيشون بحال مستورة إقتصادياً، وحتى لو أدى ذلك التدخل للقضاء على حرية الناس في التملك و المقايضة والإستثمار فإن منطق الإعتراض و المساواة يطغى ليقضي عاجلاً أو آجلاً على السوق كما كان قد قضى على المسؤولية السياسية و الإجتماعية.

٣- لماذا جعلت هذه النقاط مقاصداً للديوقراطية الغربية مع أنها كانت قد حققت كل المقاصد سابقاً ولم تقع فيما ذكرت ؟ 

لأن الديموقراطية الغربية تغيرت في العقود الأخيرة عما كانت عليه، هذه المقاصد صارت هدفاً مقدساً يحمي هدفاً أقدس وهو الحفاظ على سيادة القادة و أصحاب رأس المال في هذا الكيان الإمبراطوري الذي يدار من الغرب، و نظراً لأن سيادة الفئة المتنفذة هذه صارت مقدمة على سيادة الشعوب و عقيدتها فإن المساواة و إذابة الهوية التي خرجوا منها أول مرة يمكن أن تعينهم على الإبقاء على ملكهم و سيادتهم، فالناس في غالبيتهم عوام بسطاء في الدخل و الإدراك وليس من شيء أكثر إغراءً لهم من التكلم عن معاناتهم و إعطائهم الكثير من الخدمات و المال دون مقابل، وكذلك التكلم عن مساواتهم بالأغنياء ممن لا ينتمون للطبقة الحاكمة يثير عواطفهم (هذه الطبقة الغنية التي لم تصل في غناها لحد الضغط و السيطرة على الحكومة ) ، و لذلك فإن قادة الديموقراطية الغربية في العقود الأخيرة كرسوا أنفسهم للرأسمالية العالمية “العولمة” كوسيلة لتعويم الهويات القومية و الدينية و زيادة أموالهم هم مع تحريك الناس بحلم المساواة و الرخاء للجميع .. و لأن هذه العبارات تصدر من عواصم القرار الغربي الغنية فإنها اكتسبت أثراً كبيراً يشكك عموم الناس فيما هو صحيح و ممكن و يؤدي لحدوث الفتن في كثير من المناطق في هذا العالم. 

٤- ألم تكن الديموقراطية سبباً في نهضة الغرب ؟ وإذا لم تكن كذلك فما الذي كان سبباً في
تقدم الغرب إذاً ؟ 

على القارئ أن يدرك نقطة مهمة جداً في العمل الديموقراطي ( أو في موضوع المشاركة و التصويت بالعموم )، وهي أن أي جماعة تسعى لضم الجميع عند اتخاذ القرار فإنها بالضرورة تقرر أن تنزل نفسها على الرأي الضعفاء وتقعد بحركتها لمواكبة إيقاع أبطأ الناس فيها حركة، وليس ذلك إلا لكون الضعف و الجهل أصيل في الناس وسابق على القوة و العلم وهو في أي مجتمع كان يعم إذا ما قورن بعدد العقلاء وأصحاب العزائم، و لذلك فإن العملية الديموقراطية ( إشراك الجميع في التخاذ القرار ) عندما تفرز حالة من النمو و الإستقرار فإن الناظر إلى ذلك النموذج عليه أن يدرس تلك الحالة بعينها نظراً لكونها استثناء طارئ.

شكل النظام لا يمكنه أن يكون السبب في بناء، قد يكون سبباً في دمار البناء و إعاقة التقدم لكنه حتماً لا يمكنه أن يبني شيئاً من لا شيء إذ أن البناء ينتج عن عاطفة و إرادة بشرية حرة لا عن أنظمة جامدة يمكن أن تطبق و تستنسخ من مجتمعات أخرى، لذلك فإن النمو الإقتصادي و الصناعي و الثقافي الذي حصل في الغرب يعود لنفس الشخصية الغربية التي كانت قد عاشت في ظروفاً معينة و آمنت بعقيدة معينة و انتهى بها المآل للإنتظام بقناعة في هرم واضح إلى حد بعيد يسمح لقيادات جديدة أن تظهر من عموم الناس و تشارك القيادات القديمة النفوذ دون أن يكون لتلك المشراكة أثراً سلبياً ملحوظاً، وهذا كله لا يمكن أن يتم لولا إتفاق الملأ (أصحاب النفوذ) على نقطتي رئيسيتين، وهي : 

١- العقيدة و المبادئ الحاكمة و التي تعد عقيدةً للجيش و المجتمع ككل، تحكمه ولا يحق لأي فرد أن يصوت عليها أو يلغيها. 
( أي وجود نظرة تاريخية واحدة يتفق من خلالها الناس على ماهو صحيح و ماهو جميل و ماهو مطلوب في المستقبل )
٢- التشارك في المصلحة العامة 
( وهذه ما كانت ممكنة لولا الإنتصارات العسكرية المتلاحقة التي مكنت العموم من تحقيق مكاسب إقتصادية على حساب مجتمعات أخرى في العالم لا على حساب الطبقة الأرستقراطية داخل المجتمع .. في مرحلة لاحقة عملت الدول الغربية على إغراق الأسواق الأجنبية بالمنتجات فغزت أسواقها كما كانت تغزو أراضيها بالسلاح فصارت “المركنتالية” قرينة الديموقراطية الغربية، و بذلك تمكن الغرب من زيادة العصبية للهوية القومية وتقليل الخلافات الداخلية مع ارتباط الغنى بالعمل و الإنجاز .. لذلك فإن الإهتمام بالمصلحة العامة عائد للفخر الذي تحقق ولارتباط مصلحة الجميع بعضهم ببعض بعكس الدول الفقيرة التي تتعارض فيها مصلحة الطبقات ).

إذا ما نظرنا لهذا التاريخ الغربي وجدنا أن الديموقراطية الغربية القديمة كانت محدودة التمثيل و المواضيع، فلم يكن متاحاً للجميع أن يصوتوا أو يقرروا ولم تكن هناك مواضيع كثيرة مفتوحة للنقاش و الرفض داخل قبة البرلمان، مما عنى أن الدول الغربية كانت مضبوطة في أهدافها و قراراتها و قدرتها على الصرف، كما أنها كانت على استعداد دائم للمحاسبة المالية حرصاً على المصلحة و الفخر القومي. 

٥- ما الخطأ في أن يسيد الضعفاء والعامة ؟ 

الصلاحيات يجب أن تكون مقترنة دائماً بالمسؤلية، كما أن القرارات و التوجيهات لا تُقبل غالباً من عموم الناس بل تُقبل ممن سبقت له فضيلة و تميز عن الناس بحكمة و مآثر و ترسخت له في أذهانهم هيبة، لأجل كل ذلك فإن تحيكم الضعيف وعامة الناس مهزلة ومدعاة للهلكة و الفوضى أكثر من أن يكون مدعاة للعدل و الشفافية. 
إن سرقة شريحة ضيقة من الناس لبعض أموال الدولة أهون من قيام عموم الناس بلي ذراع الحكومة لتقوم بالصرف عليهم من أموال لا تملكها أو التعهد لهم بعهود لا تستطيع الوفاء بها أو المزايدة على الأمناء فيها بتحقيق أحلام الناس و رفاهيتهم الغير ممكنة على أرض الواقع، عموم الناس لا ينضبطون بالتعليم و الموعظة بل يحتاجون للوقوع في ضائقة ما حتى يدركوا أهمية الإنضباط و الرضا وتجنب التحولات السريعة، و إذا أضفنا لكل ذلك حقيقة أن قيادة الفرد خير من قيادة الجماعة (إذ أن الأخيرة لا تجتمع على شيء إلا في الحالات الإستثنائية) فإن الديموقراطية تعني في أحسن الحالات قلة الكفاءة و هدر المال. 

٦- إذا كان كل هذا الكلام صحيحاً فلماذا لا نزال نرى المجتمعات الغربية تسبق بقية المجتمعات في جميع المجالات تقريباً ؟ .. لماذا لم تحصل فوضى إلى الآن ؟ 

ببساطة لأن السائل يستعجل .. و السائل يفترض أن السبب الرئيسي وهو روح المجتمع و عاداته و عصبيته قد زالت في المجتمعات الغربية تماماً

حقيقة الأمر هي أن هناك قدراً من الحرية يجب أن تمنح و قدراً عالياً من سيادة القانون و مساواة الجميع أمامه يجب أن يضمن قبل أن تشهد أي بلاد نمواً و تفوقاً إقتصادياً، لكن لاحظ أن هذين الإثنين لا يشترطان وجود نظام ديموقراطي مشابه للنظام الغربي الحالي، بل يمكن القول أن النظام الديموقراطي الغربي الذي حقق القفزات الكبيرة في مجالات العلم و الصناعة و الإقتصاد كان يحوي نقاطاً أساسية مهمة هي التي لا يمكن أن يتم النمو  إلا بها، وهذه النقاط ليس لها علاقة بالإنتخابات الشعبية. 

لنعد إلى الأساسات .. كلمة السر في أي عمل سياسي ضخم هي الجماعة القيادية المحركة، أي أصحاب المال و الوجاهة و النفوذ الذين يسميهم الله تعالى في القرآن  “الملأ” ، فيقول عز من قائل : 

( ياأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ) 
( قالت ياأيها الملأ أفتوني في أمري ) 
( وانطلق الملأ منهم أن امشوا و اصبروا على آلهتكم ) 
( ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلي فرعون و ملئه فظلموا بها ) 
( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون و ملئهم أن يفتنهم )
( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة و أمولا ) 
( قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) 
( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ) 
( وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون ) 
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب ) 
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا ) 

فدلت هذه الآيات و غيرها كثير على أن الناس في المجتمع ليسوا سواسية، و أن عمومهم يتبعون فريقاً صغيراً يتمتع بقدر عال من النفوذ الإجتماعي و المال و النسب “التاريخ المحفوظ في أذهان الناس لذلك العرق منهم”، وهذا بدوره يؤدي لتوجه الناس نحو أهداف قد لا تكون معلنة أو مدركة من قبلهم ولكنها مخططة و مقصودة من قبل أصحاب الأمر فيهم، ولذلك فإن الملأ من أي قوم يكونون سبباً في الضلالة أو الهدى بحسب عقيدة ذلك الملأ و أهدافه، يقول الله تعالى عن ملأ آخرين في القرآن : 

 ( لا يسمعون إلى الملأ الأعلى و يقذفون من كل جانب ) 
( ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون )
( قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ) 

ولكن لكون الغنى و الشهرة و المكانة إذا دامت في الناس تؤدي للفسق و الكفران -إذ أن الترف قرين الكفر- فإن كلمة ملأ إقترنت بالعناد و الكفر أكثر مما اقترنت بالإيمان و الصلاح في القرآن الكريم ، و ليس أدل على ذلك من قول الله تعالى : 

( قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون، قالوا نحن أولو قوة و أولو بأس شديد و الأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ) 

لكن الآيات تدل دلالة واضحة على اقتران حال الناس و موقفهم بحال الملأ منهم و موقفهم من شتى القضايا، فالدين يرسخ في الناس إذا كان الملأ منهم متدينين، و العلم يظهر فيهم إذا كان الملأ منهم يهتمون به و يرفعون شأن أهله، و المال يكثر إذا كان للتجارة عندهم شأن و للصناعة عندهم قيمة، و أخيراً فإن العدل ينتشر إذا كان العدل سجية أهل الأمر فيهم “الملأ” و إذا كانوا يصلون إلى ما وصلوا إليه بالتنافس الشريف و الكفائة العملية و النسب غير المدعى، و أساس العدل و أصله يكون في عدل الإنسان مع ربه بالخضوع والطاعة لينتج عن ذلك فيما بعد عدل في العلاقات البشرية. 

سبقت المجتمعات الغربية غيرها من المجتمعات في مجالات العلم و الصناعة و التنظيم و الحقوق و في شتى المجالات البشرية عموماً لتحقق تلك المعاني في الملأ منهم خصوصاً ثم في عموم الناس، وما كانت تلك المعاني و القيم لترسخ لولا إرادة الله تعالى بأن يتمسكوا بشيء أصيل في دينهم ( التعاليم الصحيحة في النصرانية ) و أن تتطهر البنية السياسية و الإدارية مع الحروب الكثيرة و التنافس الإقتصادي الشرس أثناء التوسع الإستعماري “الإمبراطوري” لتلك الكيانات السياسية. و ما يؤكد هذا الكلام هو تاريخ نشأة النظام الديموقراطي أساساً، إذ كانت مجلساً يتناقش فيه الملأ ( أصحاب العقار و المال و النفوذ الإجتماعي و السياسي ) في المواضيع ذات الخلاف و التي يهم الإتفاق عليها لتحقيق المصلحة العامة، ولولا تحقق شرطين أساسيين لما كانت لتلك المجالس فائدة ترجى : 

١- إجتماع العصبية  
( هؤلاء الناس كانوا يشعرون بأنهم ينتمون لهوية واحدة يقدمونها في كثير من الأحيان على الهويات الأخرى المجزئة، و مع أن الهويات المجزئة كان لها دور في تعطيل الكثير من الأعمال و إفساد الإتفاق و إهدار المال إلا أن العموم كانوا في نهاية المطاف يجبرون الأقلية المعاندة و المستأثرة على التراجع و القبول بحل وسط، ولولا الإتفاق على تلك الهوية و مبادئها الحاكمة وأهدافها الإستراتيجية ما كان لتلك المجالس أن تحقق أي فائدة .. لأن القلوب عليها أن تجتمع قبل أن يتمكن الناس من الإجتماع على أرض الواقع ). 

٢- قداسة الحرية الفردية 
( هذه النقطة أسيئ تفسيرها في الوقت الحاضر، فالحرية الفردية في القرن المنصرم لم تكن تسمح بممارسة السفاح ولا تغيير الدين و السخرية من العقيدة ولا الإستهزاء بالرموز و القادة السياسيين الأوائل، الحرية كانت تعني حرية التملك و التجارة و امتلاك السلاح و الإمتناع عن دفع الضرائب غير المبررة و تدخل الدولة في تعاليم الدين و فرض المناهج الدراسية .. هذه القوانين كانت تهدف لحماية المجتمع من حكومته أن يؤدي تركز القوة فيها لبطر الحكام والتعدي على الناس والإستخفاف بهم و استتباعهم دون وجه حق ولمصالح شخصية لا يمكن أن تبرر .. بمعنى أن الدولة هي عبارة عن إرادة حرة مجتمعة من مجموعة من القوى السياسية المستقلة المعتدة بنفسها والتي أرادت أن تبني كياناً سياسياً يحميها و ينظمها دون أن يسيرها و يشكلها بالطريقة التي يريد ) 


هذه المجتمعات الغربية تقدمت في شتى المجالات السياسية و الإقتصادي نتيجة لهذه المبادئ الأصيلة و التي تتفق مع تعاليم الدين الإسلامي ( بل هي في صلب الإسلام )، كما أنها تمكنت من تضخيم نجاحاتها و قهر كل منافسيها من الحضارات الأخرى عندما احتلت القارتين الأمريكيتين و استراليا و الهند و تمكنت من جمع مواردها و تنظيم اليد العاملة فيها، فكبرت أسواقها لذلك وتعقدت معها الصنائع و تقدم العلم نتيجة لذلك كله إذ أن العلم صنعة من ضمن الصنائع. 

التتمة في المقال القادم