مهزلة الديموقراطية (٣)
عندما يصير حكم الضعيف عقيدة ..
إن مما يدل على ما ذكرته في المقالين السابقين أن رؤساء الدول الغربية المنتخبون ليسوا أصحاب القوة السياسية النافذة في بلادهم، فهم مع أنهم يملكون قوة سياسية وصلاحيات حقيقية لا يملكها غالبية الناس إلا أن وصولهم إلى الحكم مع عدم تغير السياسات الداخلية و الخارجية تغيراً جذرياً في كل مرة يأتي مرشح يدعي بأنه سيقلب الطوالة يدل على أن هناك قوة خفية تضع الخطوط الحمراء لهؤلاء المرشحين، هذه القوة ليست قوانيناً و أعرافاً ضابطة ـو إن كنا لا ننكر وجودها و أهميتها- ولكنها قوة فعلية على أرض الواقع تظهر كما تظهر أي قوة سياسية في أي دولة من دول العالم ( عن طريق تراكم الثروة و اتحاد العصبية بيد مجموعة عائلات بسيطة عبر أجيال متعاقبة، فيؤدي هذا الجمع للأصول و السيطرة على البنوك لتحقيق اجتماع بشري يؤثر على الديناميكية السياسية و العادات الإجتماعية في ذلك المجتمع و بالتالي فإن البنية الهرمية للبناء السياسي و قواعد التعامل فيما بين القوى تتحرك تبعاً لهذه القوى، أو أنها على الأقل لا تخالفها ).
إذا أردت أن تعرف أصحاب الأمر في الدول الغربية فما عليك إلا مراجعة قائمة صغيرة من العوائل إغتنت قبل ١٠٠ سنة تقريباً أو يزيد ولا يزال المال يسري في نسلهم، هذه العوائل لا تذكر في مجلة فوربز بطبيعة الحال نظراً للآثار السياسية التي قد تحدثها مثل هذه التقارير، لكن عدم ذكر الإعلام لهم يجب ألا يشكك الإنسان في قدرة مالكي الأراضي الكبيرة و المحورية و مالكي البنوك و شركات الإتصال و المواصلات و الإعلام على التحكم في نتائج الإنتخابات و صلاحيات الرئيس المنتخب .. وهنا قائمة بأسماء العوائل المؤثرة في الغرب :
١- العوائل المالكة في غرب أوروبا ( إن ما يجهله غالبية الناس أن أغلب الملوك في أوروبا الغربية يعودون في أصلهم لعائلة نبيلة واحدة وهي عائلة ألمانية، هذه العائلة تعود في أصلها للدوق السادس أرنست الثالث الذي كان دوق ساكس كوبرغ سالفريد من عام ١٨٠٦ إلى عام ١٨٢٦ ، و من هذه العائلة يخرج لنا ملوك بلجيكا و البرتغال و المملكة المتحدة، كما ترتبط هذه العوائل بصلات قرابة مع عوائل ملكية أخرى كالعائلة المالكة في هولندا، ولعل القارئ لا يستغرب بعد ذلك وجود إدارة الإتحاد الأوروبي في بلجيكا و وجود تعاون و تفاهم يفوق التفاهم الإجتماعي الحاصل بين هذه المجتمعات .. “كما رأينا في الموجة العصبية القومية في الغرب” )
٢- العوائل الغنية التي توارثت الغنى و بنت لنفسها علاقات مع تلك العوائل الحاكمة خلال القرن المنصرم، هذه العوائل تملك المال و القوة لكنها لا تملك البعد التاريخي و عصبية الناس لذلك فإنها تبقي نفسها في الخفاء و تتفاهم مع الملوك و السياسيين على شكل القوانين و السياسات التي ترضيها .. مثل ( عائلة روثشايلد اليهودية، وعائلة روكفيلر الأمريكية، وعائلة ج.ب. مورقان الأمريكية، و عائلات أخرى كعائلة كارنيقي و غيرها ) .. أي عائلة تسيطر على نسبة كبيرة من قطاع تجاري مهم و تورث هذه السيطرة لجيلين فإنها تصبح قوة سياسية خفية حتى و إن أنكرت ذلك.
٣- الشركات العملاقة التي تتجاوز حدود البلاد و توظف نسبة كبيرة من الناس تملك من القوة ما يفوق قوة الرئيس نفسه، لكن لكونها كيانات ظاهرة و نفعية طارئة فإنها لا تستطيع أن تدخل في السياسة دخولاً مباشراً وإنما تتحالف مع شركات أخرى و تتفاهم مع سياسيين مقبولين ليحموا مصالحها و ليؤكدوا حضورها.
كل هذه الشرائح المذكورة ( العائلات المالكة الغربية، العائلات الثرية المتوارثة للأصول الرئيسية في البلاد، الشركات الكبرى ) تشكل رأس الهرم في المجتمع الغربي، فهي الضابط لتعاملاته السياسية و الإقتصادية ، والمشكل لعقيدته الإيمانية ، والموجه لاستراتيجيته المستقبلية ، والمتلاعب في تاريخه حرصاً على بناء ذاكرة تاريخية منتقاه ومتفق عليها .. هذه الشرائح هي الملأ وهي التي إن تم التفاوض و التفاهم معها فقد تم السلام.
٩- إذاً كيف يحقق الإنسان رغبته في المشاركة السياسية و الأمارة ؟
أولاً يجب علينا أن ندرك أن طلب السلطة و خلود الذكر غريزة عند الجميع ، و بالتالي فإن الناس يحبون الأمارة و يسعون لها ونادراً ما تجد حركة إلا وهي تخفي في جنباتها شيئاً من هذه الغريزة ( طلب الأمارة أو نفي العبودية و المهانة )، لذلك فإن الإهتمام بالسياسة و طلب التمثيل و الحرص على جمع القوة و النفوذ شيء عام منتشر يجعل البناء الإجتماعي و السياسي دائماً كالقدر الذي يغلي على نار هادئة يوشك أن يفور.
لأجل كل ما ذكرت فإن طلب الأمارة مذموم، يقول النبي عليه السلام لعبدالرحمن ابن سمرة :( لا تسأل الأمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، و إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ) ، كما يقول عليه الصلاة و السلام : ( إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه ) ، فلا يمدح أحد على انشغاله بالسياسة ولا على خوض غمارها حتى يثبت أنه حالة إستثنائية وُكِل إليه أمر فقام بحقه ولم يحرص بعد ذلك على البقاء فيه و تخليد ذكره و مصلحته، فمَن مِن الناس تراهم يشتغلون بأمور السياسة وهم على هذه الحال ؟!
إن طلب خلود الذكر و ظهور الأثر مذموم عموماً بل هو أساس فساد الأعمال الصالحة إذ يسمى في الإسلام ((رياء)) ويؤكد ذلك قول الله تعالى : ( إنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد )، و يستثنى من ذلك طلب الذكر و الأثر في أمور الخير كتعظيم الله و تطبيق شرعه و منع الظلم ، يقول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : ( رب هب لي حكماً و ألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة نعيم )، فطلب الحكم و الأثر هنا أتى في سياق المدح، لكن الحكم نفسه الذي وهبه الله تعالى لإبراهيم لم يأتي كالملك الذي يعرفه عموم الناس، لذلك فإن طلب الأثر و الحكم يجب ألا يكون بالمطالبة المباشرة المعهودة، كما أن الملك الذي يحصل عليه الإنسان يجب ألا يكون كالملك المعهود وإلا كان مذموماً ..
ولكن كيف ؟
إن الوصول لخلود الذكر و ظهور الأثر مقبول إذا أتى من طرقه المشروعة، وهي :
١- المال
( التجارة مشروعة و منظمة في الإسلام و النبي عليه الصلاة و السلام لم ينهى عنها بل قال : “نعم المال الصالح للمرء الصالح” ، و قال في حديث ضعيف يستأنس به : “تسعة أعشار الرزق في التجارة” .. و المال تستجلب به اليد العاملة و الصناعات و تحمى به النفوس لذلك فإنه لا يهمل ولا يهدر ولا يذم، يقول الله تعالى : “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها و اكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفا” ، فإذا أدركت هذا أدركت أنه مظلة يستظل بها الناس وبالتالي فإن مالكه يصير له شأناً بين الناس، إن لم يأخذ برأيه فإنه لا يهمل ولا يستخف به )
٢- الولد
( بكثرة العدد واتحاد العصبية و الإتفاق على الأخلا العامةق يكون للجماعة أثر، لأجل ذلك فإن الذرية تطلب و زيادة العدد تزيده قوةً بروز النسب و كرامة المنبت، يقول النبي عليه الصلاة و السلام : “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة” ، وقال الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام : “يابني لا ندخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء” وكذلك قرأنا في سير الأنبياء و الصحابة فإنه يندر أن تجد نبياً أو صحابياً بارزاً إلا وقد عدد و طلب الذرية )
فالأثر السياسي يأتي نتاجاً عن هذين الإثنين ، يقول الله تعالى : ( و تكاثر في الأموال و الأولاد ) ، و يقول : ( المال و البنون زينة الحياة الدنيا ) ، ويقول على لسان بني المشركين : ( وقالوا نحن أكثر أموالاً و أولاداً وما نحن بمعذبين ) ، و قال حكاية عن بني إسرائيل : ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم و أمددناكم بأموال و بنين و جعلناكم أكثر نفيرا ). من ذلك كله نقول بأننا إذا علمنا أن طالب الشيئ عليه أن يتحرى مظانه فإن طالب الأثر و الذكر عليه أن يدخل من هذا الباب، فإذا قدر الله تعالى لذريته من بعده مزيداً من المال و الولد و الذكر الحسن و الشجاعة على الحق و طيب النفس عن المال فبذل للمستحقين فإن الإمارة تكون قريبة من هذا النسل، وحتى وقتها فإن الرئاسة لا تطلب وإنما توهب، لأن الطالب أبداً ما كان إلا مشكوكاً في نيته و قصده، و أما الذي يتحمل أعباء الغنا و الوجاهة و يقوم في الناس بسيرة حسنه ثم يقدمونه فيهم فإنهم يكونون له عوناً ولأخطائه متجاوزين.
هذا يتعارض تماماً مع منطق المطالبة الآنية التي يحاول فيها الفرد أو الجماعة الإلتفاف على هذه السنة الإلهية، فالذين يسعون من خلال الأحزاب السياسية للوصول للحكم إنما يقدمون أنفسهم ككبش فداء و ورقة سياسية يستخدمها أصحاب المال و النفوذ من خلفهم لتحقيق مصالحهم السياسية، و أما ؤلائك الذين يسعون بقوة السلاح لفرض الأمر الواقع فإنهم يقضون على الديناميكية الحيوية في المجتمع التي تلفظ البلداء في الحياة الإقتصادية و الإجتماعية، هذه الإنقلابات العسكرية و الحركات الشيوعية إنما تعمل على الهدم و الإعتراض على سنن الله في الخلق أكثر من أن تهتم حقيقة بتحقيق المصلحة العامة و فرض القانون على الجميع .. هذه الحركات تقضي على كل ماهو أصيل وتجعل المجتمع في صراع مع تاريخه و تقاليده مما يؤدي لانحدار الذوق العام و انحدار القدرة التنافسية في شتى المجالات . التنافس و التصارع من خلال السوق و التزاوج يؤدي لديمومة حركة المال و ازدهار البلدان، فحتى العائلات الغنية عندما يعدد أفرادها في الزواج فإن ذلك يكون سبباً في تعدد العصبية بعد جيلين أو ثلاثة وهذا بدوره يؤدي لانتشار المال إذ أنه يتقسم بين الفرقاء، هكذا يعود الناس للتنافس التجاري و الإجتماعي عن طريق الزواج مما يحافظ على ديناميكية قوية تبقي النباهة و الحلم في الناس و تمنعهم من الوقوع عبيداً لبعضهم .. يقول تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) ، ومن ذلك تتضح خطورة كنز الذهب و الفضة و احتكار الأراضي الحية و اتجاه الوجهاء و الأغنياء للزواج من واحدة ثم التفاخر و التباهي بالمظاهر و الأموال ، هؤلاء يرسخون للطبقية الشديدة ومن ثم العبودية للبشر.
يقول الله تعالى : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ).