الأربعاء، 6 يوليو 2016

في مسألة النسب (١)



في مسألة النسب ( ١ )
لا تحفظ الأنساب إلا لمصلحة سياسية 

قبل عدة أيام دخلت في نقاش ماتع مع أحد الأخوة المقيمين (غير السعوديين) عن أحوال الأمة العربية و الإسلامية عموماً وعن مستقبل منطقة الشرق الأوسط خصوصاً و قد كان مما دار النقاش حوله مسألة الهوية القبلية و المناطقية، فقد ذكر الأخ المتحدث أن الإسلام كان قد ألغى هذه الهويات المجزئة و أتى بهوية واحدة جامعة لكل المسلمين، وقد كانت وجهة نظره هذه تقتضي أن الهويات الجزئية لا ينبغي لها أن توجد أساساً، كما أن الإحتفاظ بالأنساب و ما يتبعه من طعن فيها و تمييز في الزاوج على أساسها يعد من أمور الجاهلية التي أتى الإسلام بنقضها و استشهد بقوله تعالى :( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) كما استشهد بزواج بلال و غيره مما جرى في السنة النبوية، و مع أن هذا الكلام ليس جديداً إلا أن إعادة طرحه و الصورة التي يريدها المتحدث بطرحه أعادت هذا الموضوع إلى واجهة فكري لينشغل بالي به و ليحرضني على التأمل في الموضوع بشكل أكبر ، إذ أني و إن كنت أفهم شيئاً من طبيعة البشر و أفهم بداهة وجود هذه الهويات الجزئية - والتي يمكن أن توصف بأنها مقسمة في أحيان كثيرة - إلا أن سبب تعالي بعض هذه الهويات في الذهن الجمعي لا يزال يحيرني إلى حد ما، فالتعالي هذا هو الذي يثير الأضغان و يؤدي للفرقة السياسية التي تضر بالمصلحة العامة ، كما أن المفارقة بين النظرة المثالية للمجتمع المسلم - والتي ذكرها أخونا آنف الذكر -  و النظرة الواقعية تؤدي لنشوء صراعات إجتماعية و سياسية نظراً لأنها تنقض شرعية القيادة و الوجاهة في المجتمع و تكسب الحركات الإجتماعية الطبقية المعترضة و الساخطة ( على قسمة الله و تقديره و ليس على الظلم و التعدي ) شيئاً من الشرعية و القوة ، و لذلك فإن هذا المقال يتكلم عن أسباب التعالي و التباين بين الناس و يهدف للوصول إلى نظرة شرعية موضوعية للمجتمع يصح تطبيقها و يمكن التدليل عليها بما جاء في الكتاب و السنة، إذ أن الإسلام بقدر ما قارب بين المسلمين ( مثل المسلمين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى و السهر )  أكد على وجود طبقية في الخلقة و الظروف وأن ذلك يؤدي لهرمية تحقق الغاية الإلهية من التباين وهي السخرة، يقول تعالى : ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليّتخذ بعضهم بعضاً سخريّاً )، و كذلك فإن من مقاصد الطبقية التي أوجدها الله الإبتلاء، يقول تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ).


الحديث قد يطول إن عمم لذلك فإني سأجعل المقال على شكل إجابة لسؤال : ما هي الأنساب ؟ و ما قيمتها ؟ و لماذا يحافظ عليها مجتمع دون آخر ؟ و ما الذي يجعل بعض الأنساب تتفوق على بعض ؟ 

النسب انتساب أو ارتباط نفسي يقوم به الإنسان رغبة في ضمان مصلحة لا تتحقق إلا باجتماع عصبي  يهلك أفراده أنفسهم له و يستنزفون مواردهم أملاً في حمايته و إعلاء ذكره، و الإنتساب لا يشترط أن يكون لهوية قبلية بل الهويات تتعدد فقد تكون عرقاً لا يحفظ أنسابه أو منطقة يتميز سكانها بخلقة و ديانة و تاريخ أو حرفة و طبقة اجتمعاية معينة، ولأن هذا الكلام يطول و يكرر ما قد تم ذكره في مقالات سابقه فإنه لا يخدم موضوعنا كثيراً  ، فالهويات المكانية و الطبقية الإقتصادية يسهل تغييرها ولا يتعذر على الناس المنتسبين إليها التنقل إما صعوداً طبقياً أو انتقالاً مكانياً كما يتعذر عليهم تغيير هويتهم العرقية و أنسابهم. الرحم على الطرف الآخر وما ينتج عنها من شعوب و قبائل تعد وحدة أكثر تماسكاً وصلابة فلا يظهر تفاعلها مع محيطها إلا بعد مضي زمن طويل و تعاقب الكثير من الأجيال، و لأن هذا التذبذب و التحول في الأنساب و العصبيات و ظهور الأقوام و الشعوب يخفى على الكثير من الناس فإن هذا الموضوع جدير بالدراسة و التأمل منفصلاً عن بقية الهويات.

أصل النسب رحم و أهمية الرحم تكمن في العصبية و لأن الأنساب الطويلة المحفوظة تربط أكبر عدد ممكن من الناس برابط الدم فإنها بذلك تبني كيانات سياسية (القبائل) و هذه القبائل تقوم بدورها بتحقيق الهدف المرجو من وجودها وهي مصلحة هذا الكيان (القبيلة) و تكون مصلحة القبيلة غالباً في الإستقلال عن الهيمنة الخارجية أو السعي لنيل سيادة سياسية على المحيط، و لأن الظروف تتغير فإن عادات الناس تتبدل، لكن القبيلة ككيان قوي مربوط ثباتها غالباً بديمومة حالة الفقر و الندرة التي تبقي الناس على درجة عالية من التراحم و الإنتظام و التعصب . 

مما ذكرنا يصح أن نربط إلى حد كبير بين كلمة الرحم و العصبية، كما أننا نفهم مقصد الإسلام من تأكيده على صلة الرحم و بر الوالدين و حق الزوجة على زوجها، الإسلام يسعى لحفظ العصبية التي تعد هدفاً أساساً للزواج و الخلفة، ولأن العائلة النووية (الأسرة الصغيرة) تعد أصغر الكيانات الإجتماعية و من ثم السياسية فإن فهم حركتها و تفاعلها مع محيطها يساعد على فهم الكيانات الأكبر و كيفية تفاعلها و تأثرها بمحيطها، ولعلي أقف عند موضوع الأسرة النووية قليلاً لأني أشك في أن القارئ يتفق معي على أن المقصود من الزواج الخلفة و الجماعة الصغيرة المتراحمة التي تنتج عنه، ولذلك فإني سأوضح هذه النقطة في سطور قبل أن أنتقل إلى التي تليها. 

يجد الرجل في نفسه غريزة جنسية قوية أودعها الله أساسها النفسي وفرة الحيوانات المنوية في الرجل الواحد وعلى مدى العمر و وفرة الرجال المستعدين للجماع (التلقيح)، أما أساسها الفيسيولوجي فإنه مربوط إلى حد كبير بكمية هرمون التيستيستيرون في الدم، أما المرأة على الطرف الآخر فإنها بالإضافة لكونها تملك عدداً قليلاً من البويضات فإنها تحتكر الإنجاب و الرضاع و القدرة على الرعاية، و لذلك فإنها لا تجد موضوع الجماع (التلقيح) مثيراً لها كثيراً إذ المعروض أكثر من المطلوب و التكلفة التي ستتحملها غالية جداً ( هذا بالإضافة لكون هرمون التيستيستيرون قليل عندها ) و إنما تجد في نفسها الحاجة للإحتماء و الإرتباط بمن هو أقوى منها و بعدد غير قليل من الناس تضمن حبهم و قدرتهم على الإهتمام بها إذ هي ضعيفة جسداً و آيلة للذبول الجسدي خلال عقدين من الزمن لتجد نفسها فاقدة لأي قيمة كبيرة مضافة يمكن أن تفاوض بها في عالم الرجال، هذا الإختلاف بين الرجل و المرأة في حاجاتهم ( الحاجة الغريزية عند الرجل للتلقيح و الغريزية عند المرأة لطلب الأمان ) يجذب الجنسين و يغريهم بالتزاوج لكنه يخفي عنهم حقيقة وهي أن الزواج التزام دائم بعلاقة تذهب جذوتها غرائزية ليحقق الطرفين غاية أعظم من مجرد المصلحة الفردية التي دفعتهما أول الأمر للتقارب،  فنحن إن استثنينا هذه الرغبة في المعاشرة عند الرجل ( وهي كما أسلفنا لا تدل على استعداد للإلتزام بالعلاقة، إنما هي غريزة بدائية تدفع الرجل دون وعي لطلب كل امرأة ذات قوام أنثوي دقيق ليلقحها فيكثر بذلك نسله و يعلو على أقرانه ) و ركزنا على السبب الذي يدعوا الرجل للإلتزام بعيالة زوجته و المرأة لتسليم جسدها وما ينتجه لزوجها وجدنا أن استمرار العلاقة و تراحم طرفيها حرص الطرفين على تخليد الذكر و عمارة الأرض (خصوصاً من قبل الرجل) و طلب الأمان (خصوصاً من قبل المرأة) ، و بالتالي فإن العلاقة الزوجية الملتزمة ( التي تتجاوز الرغبة الجنسية العابرة و تدوم مدى طويلاً ) أساسها طلب الأمن و الإستقرار بالإضافة لطلب امتداد الهوية الإجتماعية عبر الزمان و المكان ( أي أن هذه الهوية لا تموت بموت الشخصين ) و لأنها كذلك موقف محافظ أساسه التأمين للمستقبل و الحرص على البناء للأجيال التالية ( أي أنه موقف غير أناني ) فإن هذه الكيانات الصغيرة تتأثر بما تتأثر به الكيانات الكبيرة حال وجود وفرة مادية و رخاء إقتصادي ، إذ أن الرخاء كما ذكرت في مقالات سابقة يدعو الناس لطلب الكمال و المفاخرة مما يزيد التصنع و يقلل الصدق و التضحية في العلاقات.

لنعد لنقطة حديثنا و لنرى كيف تندثر الأنساب و تثبت بحسب البيئة الجغرافية و الكيان السياسي الجامع، فالظروف البيئية كلما كانت أكثر صعوبة و الإنتاج أقل وفرة كانت سوق البلد أصغر حجماً و الكيان السياسي الناتج عنه أقل انفصالاً عن ذلك السوق و أقل بيروقراطية إذ أن الفائض عن السوق لا يكفي لعيالة مؤسسة سياسية مستقلة ببيروقراطيتها ولا تحمل تكلفة جيش متفرغ للقتال و أسبابه، هذه المجتمعات تعتبر لذلك مجتمعات بدائية ( أو بدوية )، أي أنها بادية في سلم الحضارة تسبق في حالها حال الدول و الأمصار التي تعقدت في بنائها بوفرة الإنتاج. و لأن الدول بطبيعتها كيانات هرمية من حيث البناء الإقتصادي ( الطبقات الإقتصادية في المجتمع ) فإنها تؤدي لظهور هرمية أخرى سياسية و اجتماعية، ولأن طول الزمن يؤدي بالتدريج إلى محو آثار الماضي فإن الدولة المركبة في بنائها الهرمي إن طال بها عمر نتج عن ثباتها اضمحلال للأنساب و تباين طبقي و هوية شعوبية ( قومية ) راسخة تستبدل الهوية القبلية القديمة. لكن حركة الطبقات عبر الزمن تختلف بين الدول بحسب ظروفها الجغرافية و المادية، كما أن رأس الهرم معرض للسقوط و الإستبدال من قبل الهجمات الداخلية و الخارجية، لذلك فإنه يصح التفريق بين حالتين : 

الحالة الأولى - أن تُحْكم الدولة من قبل عائلة واحدة أو عوائل متقاربة يطول حكمها ليرتبط تاريخها بتاريخ ذلك البلد فتحفظ أنساب هذه العائلة و إنجازاتها دون سواها من بقية المجتمع ( أي أن النسب و الحسب تحتكره عائلة واحدة لها الملك و للعوائل القريبة من شرفها شيء من النسب و الحسب مثلها وهؤلاء يسمون طبقة أرستقراطية، بعكس بقية المجتمع الذي لا تحفظ أنسابه ولا يمتنع عن التزاوج فيما بينه على هذا الأساس نظراً لعدم امتداد تاريخ عوائله في التاريخ إمتداداً مميزاً بل إن المعيار الأهم في التمييز بين الناس في طبقات الأدنى هو المال و الأملاك التي ترفع الإنسان في طبقته الإقتصادية ). 

الحالة الثاني - أن تُحْكم الدولة من قبل عوائل خارجية غازية أو حتى داخلية طارئة لكن هذا الحكم لا يدوم طويلاً فلا تجد لتلك العوائل ارتباطاً تاريخياً بهوية الدولة ولا تاريخ الدولة يقف عند تلك العوائل، فهذه العوائل نظراً لقصر مدة الحكم و السيادة يكون تاريخها مقطوعاً و شرفها مصطنعاً و لذلك فإن الكثير من أفراد المجتمع يتطلعون إلى ما وصلت إليه فيسهل سقوطها ) أي أن هذه الحالة لا توجد فيها طبقة أرستقراطية عميقة مالكة للأراضي و ممتدة عبر التاريخ لدرجة يصير معها تاريخها ممثل لتاريخ الدولة و منجزاتها). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق