الخميس، 16 أبريل 2015

مقفة مع كارل ماركس


وقفة مع كارل ماركس 
( إشكاليات النظام الإقتصادي المعاصر .. عبقرية التشخيص و إشكالية الحل  )


المشاكل الأساسية في النظام الرأسمالي بحسب ماركس هي كالتالي : 


١- العمل الحديث يعطي شعوراً بالإغتراب عن الواقع 
( يقول كارل ماركس .. إن العمل ينبغي له أن يكون ذا منتج ملموس مؤثر في المحيط الإجتماعي حتى تكون له قيمة معتبرة في نفس العامل ، و نظراً لكون الأعمال المؤسسية الكبيرة تجزء العمل إلى الحد الذي يفقد معه العامل الشعور بقيمته في إنتاج المنتج النهائي فإن العمل الحديث يعطي شعوراً بالاغتراب عن الواقع ) 

٢- العمل الحديث غير مضمون 
( في الرأسمالية العامل مادة مستهلكة يمكن التخلي عنها أو تقليلها متى ما توفر البديل التقني أو ارتفعت الأجور .. هذا الشعور لدى العامل باللا مركزية يفقده الإحترام الذاتي ليصبح كياناً متعلقاً ضعيفاً ) 


٣- يتلقى العمال أجراً قليلاً في مقابل اغتناء أصحاب رأس المال 
( كان ماركس يرى بأن أصحاب رأس المال على استعداد دائم لاستغلال حاجة الطبقة العاملة بتخفيض الأجور دون تعاطف طالما أن ذلك يحقق المزيد من الأرباح .. سماه “Premitive Accumulation” و رآه شكلاً من أشكال السرقة نظراً لكون التاجر لا ينتج شيءً غير كسبه لفارق القيمه بين تكلفة الإنتاج و سعر السلعة النهائي و طالما أن العامل لا يحصل على دخله تبعاً لسعر السلعة بل تبعاً لقدرة التاجر على استغلال حاجته و وفرة اليد العاملة سواه فإن ذلك يعد سرقة ) 

٤- النظام الرأسمالي نظام غير مستقر 
( النظام الرأسمالي بطبيعته نظام تضخمي تتخلله سلسلة من الإنهيارات المتتابعة و التي يمكن توقعها و إن كان السياسيون و الإقتصاديون يزعمون غير ذلك .. نظراً لأن الرأسمالية ناتجة أساساً عن القدرة على إنتاج فائض يمكن تسويقه على نطاق واسع فإن طبيعة الإنسان الطامعة و الجزعة تدفعه للتجميع و التنافس على الفائض في مقابل من لا يحصل إلا على الفتات فتتكون طبقة تملك أكثر مما تحتاج بكثير و طبقة أخرى لا تجد وظيفة تمكنها من الحصول على احتياجاتها نظراً لأن المصانع تستغني عن اليد العاملة بالآلة ! و من هنا يصبح الإغتناء لعبة تكهن و مقامرة تؤدي للنمو و التضخم و الاستثمارات خاطئة الناتجة تؤدي للإنهيار في نهاية المطاف و هكذا تتكرر الدورة )

٥- الرأسماليك سيئة لأصحاب رأس المال 
( يقول ماركس .. أصحاب رأس المال ليسوا سيئين لكن حرصهم على جمع المال و الترفع الإجتماعي تبعاً لذلك يجعل علاقاتهم الإجتماعية مبنية على أساس المصلحة المادية الملموسة مما يفقدها الصدق و المتعة الحقيقية ليصبح أصحاب رأس المال حبيسي أدوارهم الإجتماعية المفروضة عليهم تبعاً لمكانتهم التي قررها السوق و الصراع السياسي .. سماه commodity fetishism ) 


إشكاليات الرأسمالية كما يراها ماركس هي في حقيقتها إشكالات إجتماعية و سياسية ناتجة عن حالة النظام الإقتصادي الحديث المبني على ((الوفرة)) ، فالطاقة و الآلة عندما حلا محل اليد العاملة جعلا ضروريات الحياة موفورة و القدرة على احتكارها أمر ميسور فصارت قيمة اليد العاملة محصورة في الأعمال الترفيهية و السياحية و الخدمية التي تعد بطبيعة الحال قطاعات هامشية في الغالب مما دفع بقطاعٍ كبيرٍ من المجتمع إلى هامش معادلة التأثير السياسي و أوكل لمجموعةٍ بسيطةٍ كل القرار السياسي و مصادر القوة اللازمة له .. 

“الشعور باللا مركزية و لا مركزية العمل هما النتيجة الحتمية لولادة نظام إقتصادي ينتج أكثر مما يحتاج و يحتاج للقليل من الأفراد كي ينتج ما يحتاج”

التجارة بطبيعتها حالة من التطفل على عمل الغير و سعيٌ لاجتزاء قيمة العمل النهائية ، لذلك هي حالة مذمومة عند العاملين دائماً وهي شكل من أشكال الإستعباد تظهر بتعالي صاحب رأس المال و تذاكيه ، إلا أن تعقد المنتج النهائي و الحاجة للتخصص جعلا من التجارة فناً خطرً يجب التركيز فيه و تحين الفرص التي تختلف باختلاف المكان و الزمان و المكانة الإجتماعية أو التخلي عنها و عن المتاجرة تماماً في حال رغب الفرد في الرقي بقدراته و التنافس في سوق العمل الذي يعد أكثر ضمانة و أكثر تطلباً لحضور الذهن و تفريغ الوقت .. ظهور الآلة و توفر الطاقة حولا نظام السخرة القديم القائم على القوة و العصبية إلى نظام سخرة جديد قائم على قدرة جماعة بسيطة على احتكار الأصول و موارد الإنتاج و مع التنكر لهذا الوضع القائم بتأميم الأصول و موارد الإنتاج فإن ذلك لا يقضي على السخرة و العبودية إنما يغير وسائل التحصل عليها ، و نظراً لأن الدافع الأممي و المصلحة العامة تأتي غالباً بعد الدافع الفردي و المصلحة الفردية عند عامة الناس فإن هذه الوسيلة في الترقي الإجتماعي و الرفاهية تشل الحركة الإبداعية و تضعف القدرة التنافسية .

عدم استقرار النظام الرأسمالي هو من قدرته على إنتاج الفائض في بنية مجتمعية معقدة جعلت من الصعب التنبؤ بوجود استثمارات غير مجدية و هدر عام إذ العقلية البشرية مبنية على التعميم و قدرتها على استشراف الإستثناء ضعيف و سعي السياسي لإرضاء الرعية يغلب جانب التغافل على جانب الحذر .

إن حرية التصرف في موارد الإنتاج و تملك الأصول يعد حقاً مكفولاً و حالة طبيعية في تعامل البشر نشأت مع نشوء المجتمعات ، إلا أن التفاوت في القوة و الغنا الذي أوجدته الطاقة جعلت حريات البشر الأساسية مثار شك و عرضة للمساءلة إذ يمكن استخدامها لاستعباد الاخر و التطفل على ناتج عمله فاندفع الناس لذلك يحلمون بإيجاد مجتمع يتشارك الفائض و يحترم الفراغ ولا تستعبده التنافسية و الخوف المستمر .. 

إن إشكاليات الرأسمالية لا يمكن تجاوزها بالتنظيم إلا جزئياً ، فموارد الإنتاج العامة التي يحتاج لها الجميع لا يمكن السماح بتخصيصها نظراً للقوة السياسية التي سيمتلكها صاحبها كما أن أساسيات المعيشة من ماء و غذاء أساسي و صحة يعد في ذهن الجميع من مسؤوليات الدولة نظراً لأن هلاك الإنسان من شح في ظل وفرة هذه المواد يعد ظلماً ، إلا أن ازدياد الفارق في الدخل مع ظهور الإستغلالية و التباين الجارح في المعيشة يفتك في النسيج الإجتماعي و يذهب الشعور بالإنتماء و المسؤولية مع الحرية التجارية المسموحة .. إن هذه الحالة لا يتم تجاوزها إلا بخصلتين اثنتين تعقب خصلة الإعتماد على الذات وهي القناعة و الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين بالتصدق و الإهداء و عدم التعالي ، أي محاولة لتجاوز مسؤولية الأفراد تجاه إخوانهم في المجتمع توجد حلولاً حالمة لا تحقق نتائج إيجابية كبيرة ذلك أن توزيع الموارد و الخدمات لا يتم دون حرص الأفراد على تعميم المكاسب الوطنية و الأممية و ذلك لا يتم دون شعور الأفراد بامتداد هويتهم إلى غيرهم ليضعف ذلك جانب الجزع و يحل مكانه هوية حاضرة واضحة المعالم قوية الأركان منتشرة بانتشار أفراد المجتمع .   

السبت، 11 أبريل 2015

وقفة مع ماكس فيبر



وقفة مع ماكس فيبر 

ماكس فيبر عالم الإجتماع الألماني تكلم عن الأسس الإجتماعية و الثقافية لنشوء الرأسمالية التي حققت نتائج إيجابية في المجتمعات الأوروبية ، قام فيبر باختصر هذه الأسس الثقافية و الإجتماعية في الحركة البروتوستانتية الكالفينية فتكلم عن ما يميزها عن الشكل الكاثوليكي للديانة المسيحية ليظهر كخصوصيتها الثقافية التي سمحت بنشوء الرأسمالية و ما تبع ذلك من إنجازات علمية و اقتصادية و سياسية .. هذه المقالة بالتالي عبارة عن طرح مختصر لفكرته و نقد لاختزاله . 

كانت النظرة العامة ترى أن نشوء الرأسمالة ناتج عن التطور التقني و ظهور الطاقة ((البخارية)) التي يمكن تسخيرها لحاجات الناس لكن فيبر كان يرى أن هذا عَرَضٌ ناتج و أن السبب الأساس لنشوء الرأسمالية هي تلك الأفكار الدينية الحديثة ((البروتوستانتية)) التي ظهرت في الدعوة الكالفينية .

تميزت البروتوستانتية الكاثوليكية التقليدية كما يرى فيبر بالتالي : 

١) البروتوستانتية تتركك تشعر بالذنب .
بعكس الكاثوليكية التي تمكنك من الإعتراف بالذنب و الحصول على الغفران لتشعر بالراحة و الرضى عن النفس فإن البروتوستانتية تقول بأن الله هو وحده القادر على غفران الذنوب و أن الله لا يُظهِر قراره إلا يوم الحساب ، و بالتالي فإن هذا الموقف الديني يشعر الفرد بالقلق الدائم و الحاجة المستمرة لإثبات استحقاق هذه النفس للخلاص و العلي عند خالقها .

٢) الله يحب العمل .
الشعور بالذنب و القلق الدائم الناتج عن عدم القدرة على استخلاص المغفرة في الدنيا تجعل الفرد البروتوستانتي مهووساً بعمله إذ هو يؤمن أن العمل وحده و المنفعة التي يحققها الفرد للآخرين وحدها القادرة على احتواء الذنوب و استجلاب المغفرة . لهذا فإن أوقات الراحة و الإحتفال توجد بشكل أقل في المجتمعات البروتوستانتية نظراً للشعور بأن الله لا يحب الراحة و أن العمل وحده هو طريق الخلاص.

٣) كل الأعمال مقدسة.
بخلاف النظرة الكاثوليكية التي تحصر العمل المقدس في الأنشطة الكنسية تقول البروتوستانتية بأن العمل كله مقدس حتى التجارة و فروعها مما زاد الشعور الفردي بأهمية العمل و الإتقان.

٤) المجتمع هو المهم وليست العائلة.
بالنسبة للمجتمعات الكاثوليكية فإن العائلة هي كل شيء تقريباً بعكس البروتوستانتية التي تنظر للعائلة على أنها سببٌ من أسباب الأنانية و الفساد المضر بتناغم المجتمع و بالتالي فإن الأعمال المتجردة و التطوعية يجب أن تصرف للمجتمع لا للأسر التي قد يعمل تضخمها على امتصاص قدرات و موارد المجتمع ( لا تفضل القبيلة على الأمة ).

٥) ليست هناك معجزات. 
البروتوستانتية و نتاجها الرأسمالي لم يعطيا للمعجزات قيمة بل تحولت العقلية معها من الإنبهار بالعالم إلى المنطق العملي كما يسميه فيبر The Disenchantment of the world . و بالتالي فإن التنمية ليست قدراً إلاهياً خفياً يقضي بتحول الحالة العامة للمجتمع دون جهد بشري عاقل مدرك بل هي نتاج التفكير المنطقي المتسلسل و الصادق و نتاج العمل المؤسسي المنظم على مدى سنوات طويلة . بدون الإيمان بالمعجزات يتحول الناس للبحث العلمي ليجدوا الإجابة على أسئلتهم القديمة مما يؤدي لقفزات تقنية و تنمية إقتصادية و إجتماعية حقيقية .

هذه النقاط الخمس بحسب ماكس فيبر كانت الأعمدة الضرورية لنشوء الرأسمالية ، فبعكس نظرة كارل ماركس الذي كان ينظر للدين على أنه أفيون يزرع في عامة الناس القبول للعبودية في النظام الرأسمالي كان فيبر ينظر للرأسمالية على أن نشأتها أساساً كطبقية تفصل الرأسماليين عن الطبقة الكادحة كانت بسبب انتشار هذه المعتقدات وليس العكس.

هذه النظرة مع ما تحمله من منطق تفشل في تفسير تخلف بقية المجتمعات إقتصادياً إذ هي تضفي على الجانب الإجتماعي و الثقافي كل القيمة و تغفل الجوانب الجغرافية و الديموغرافية و السياسية . المجتمعات الأخرى عموماً في نظر فيبر تأسرها المعجزات و تفتقد للشعور بالذنب و الحاجة لإثبات استحقاقها للخلاص و تجد في الكيانات الأسرية وسيلة لقبول السرقة من المجتمع و تبريرها كما أنها تحب الإحتفال الآني عوضٍ عن الإستثمار في المستقبل . فيبر و أتباعه ينظرون للمجتمعات الأخرى على أنها تتخلف ثقافياً و اجتماعياً في تركيبتها و أن الوسيلة الوحيدة لدفع هذه المجتمعات للنهوض هو بغزوها فكرياً و تشكيكها في صحة تركيبتها الإجتماعية و المنطلقات الدينية التي بنت نفسها عليها دون إدراك لسبب تكون هذا النظم الإجتماعية و هذه البنية الفكرية في الغرب تحديداً دون سواه ! 

الطبيعة الخصبة و التضاريس الصعبة للقارة الأوروبية سمحت بنمو عدد سكانها و تعدد كياناتها السياسية و تشكل ثقافتها على أساس بنية تعددية مرنة في رقعة جغرافية صغيرة ، و ما أن وجدت هذه القارة وسيلة للإنعتاق من محيطها الجغرافي المحصور - تبعاً لاتساع رقعة العالم الإسلامي القريبة - بالتحول لقارتين قريبتين مليئتين بالموارد الطبيعية و الأراضي الخصبة حتى تحولت تلك الأفكار و الصور و الطموحات المكبوتة إلى مشاريع سياسية يمكن تحقيقها و تطويرها على الطريق لبناء الصورة المثالية لهذه الحضارة التي لا زالت حبيسة العقول . تميز هذه الصور لدى عامة الناس و التحول التدريجي للمنطق العملي في فهم الدين أتى مع المكاسب المادية الحاصلة من الإنتشار الجغرافي ، فالمجتمع الذي يشعر بإمكانية بناء مستقبله و يجد في نفسه صورة واضحة واعية لما هو جميل وما هو قبيح و ما هو صحيح و ما هو خاطئ تتحول نفوس أفراده عن التعلق بالمعجزات و يميل بالتدريج لتقديم قيمة العمل على العبادات المحضة و يصبح التنوع في تجاربه عائقاً أمام القبول  بالمسلمات القديمة و يجد في الإنتشار و التجربة و المعاينة وسيلة أصح و أنفع لبناء التصورات الصحيحة عن الوجود و الأهداف و القيم. 

لا تعوز المجتمعات الأخرى أسساً ثقافية و اجتماعية قادرة على بناء حاضر إقتصادي متطور ، واقع المجتمعات السياسي و مصادر القوة المحدودة لديها بالمقارنة مع الغرب تقف في وجه تحقيق ميول إجتماعي عام لاكتساب الخصال الحميدة و بناء هيكلة ثقافية و اجتماعية متناغمة تنطلق نحو تحقيق الصورة الجمالية في أذهان عامة الناس . لن تحقق المجتمعات الأخرى تنمية حقيقية بمجرد الشك في عاداتها الإجتماعية و الثقافية الخاطئة و لكنها تحتاج لأن تشعر أنه بإمكانها في ضوء هذا الواقع السياسي أن تجسد رسالتها الحضارية الأصيلة فتكون مصدراً علمياً و عملياً عوض عن كونها كيان مستقبل و مقلد. 

بالعودة لهذه الأسس الخمسة فإن الإنسان يجد أن المجتمعات المسلمة كانت تتذبذب في تمسكها بها و شعورها بقيمتها و انطلاقها منها تبعاً للمرحلة الحضارية و عمر الدولة ، فالحقيقة هي أن الحركات الدينية و إن كانت تظهر كمعتقدات مجردة إلا أنها تتأثر بعمر الحضارة القائمة و قدراتها السياسية و مصالحها فلا تعدوا تلك القيم عن كونها حالة مزاجية عابرة تزول بتغير تلك الظروف القائمة .. الدين يعد عاملاً مؤثراً بكل تأكيد لكنه يتأثر بالمحيط الموجود كذلك . 

(( لا تقدم العقيدة الإسلامية أي وسيلة لضمان المغفرة في الدنيا كما أن قيمة العمل تصبح ظاهرة في المجتمع المسلم كلما كانت البنية السياسية و الهدف السياسي الإستراتيجي متناغم مع عقائد الناس ولا يعد ميول الناس للذوبان في القبيلة إلا وسيلة للخلاص من الواقع السياسي الكئيب أو نتيجة لاتساع الرقعة الجغرافية الجافة التي يصعب إدارتها و استصلاحها ، و قس على ذلك تراجع العقلانية و التفكير المنطقي في وجه التعلق بالمعجزات عندما تقل الموارد و تقل معها حيلة الناس في تغيير واقعهم )).