الثلاثاء، 24 يناير 2017

ثنائية التعالي و الخلود (٢)


ثنائية التعالي و الخلود (٢) 
الدافعان الأساسيان لحركة المخلوقات كلها بعد أن تأمن على حياتها (التعالي و الخلود)

 إن أصعب مافي الإيمان بالله أنه إيمان بقوة غائبة مادياً حاضرة أثراً، قوة مستقلة لا يمكن التفاوض معها ولا مقايضتها واستغلالها ولا ضمان تجاوبها بالطريقة التي يطلبها السائل، ولذلك فإن رجاء هذه القوة و الإعتماد عليها لا يكون إلا بموقف عقلي وحالة نفسية متجاوزة لإحداثيات الزمان و المكان الآنية، موقف يعيش الإنسان من خلاله على أنه نقطة في قصة بشرية طويلة لها منشأ سابق على هذا الوجود و وجود تال له، كما أنه موقف يرى أن الإعتماد على الله مضمون النتائج، كما أن نتائجه المضمونة تظهر بحسب إرادة الطرف المطلق "الله" متى أراد و كيفما أراد فلا يستعجلها ولا يرى في بطئها دليل على إخلاف الموعود، و لأن أغلب الناس لا تتجاوز تصوراتهم الوجود الحالي ولا تتطلع إلى ما وراءه فإنه ليس بمستغرب ألا تتعلق بقوة لا تضمن تفاعلها بالطريقة المحددة المرسومة سلفاً ولا تستطيع استعجال مثوبتها في هذا الوجود الحاضر ولا استخدامها لتعال قريب ولا خلود محسوس، فالنفس كما أسلفنا نظراً لحداثة وجودها و استشعار هلكتها و ضعفها تسعى جاهدة مالم يمن الله عليها بالهداية لتعجيل النتائج، فهي تريد التعالي المادي الآن و الخلود في هذه الحياة التي تراها و تلامسها وهذا لا يتطابق مع موعود الله الذي لا توجد فيه أي ضمانة غير كلامه.




 نقطة أخرى .. وحدانية الله و تعاليه المطلق تعني أنه لا يمكن للكيانات الإجتماعية أن تتمايز به وبما أن التمايز مطلب غريزي فإن الإله الذي يمكن أن يكون مخصوصاً لقوم سيُقَدم على الإله الذين يتجاوز الهوية القومية، و الإله الذي يزيد على اختصاصه لذلك القوم بتلبية مطالبهم المادية الآنية سيقدم على الإله الذي يؤجل المثوبة إلى يوم آخر و هكذا يقارب الناس الدين مقاربة المقايضة و يتعاملون مع الله تعالى تعامل التاجر و يجدون أن لأنفسهم مصلحة في وجود عيب محدد في إلههم الذي يعبدونه فيبتكرون العيب و يعلمونه أبنائهم حرصاً على النتائج المادية التي يمكن أن يحصلوا عليها من هكذا معاملة، يقول الله تعالى في سورة الأعراف موضحاً هذا السعي عند البشر  : ( و جاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إله كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون )، فإذا أضفنا لوحدانية الله و نسبية المخلوقات إليه (أي أنهم متساوون أمامه) وحدة التشريع و انطلاق ذلك التشريع من هذا المبدأ المذكور وجدنا كيف أن الإيمان بالله يعارض غريزة قوية في البشر وهي طلب العلو و ديمومته ( أي اجعل لنا إله خاصاً و ديناً خاصاً مستمداً من ذلك الإله نضمن به علويتنا دائماً في الواقع وفي أذهان الناس ).


يقول الله تعالى في سورة طه حكاية عن بني إسرائيل و قصتهم مع السامري و العجل : ( فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسي )، أي أنهم قالوا أن موسى نسي وجهل فدلكم على إله غير صحيح، بل هذا هو إلهكم أنتم -بزعمهم- الذي يحبكم أنتم و القريب منكم والذي يريد متعتكم ولا يكرهكم على تجاوز شهواتكم، ونحن الأعرف و الشرفاء الذين نصلكم بهذا الإله .. هكذا يشرح الله نشأة الأديان وكيف أن الشهوات دائماً ما تكون أساساً لها.

و كل هذا متكرر و مستفيض في كتاب الله، يقول تعالى حكاية عن اليهود أيضاً و جدالهم هذه المرة مع عيسى عليه السلام : ( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين
 وكذلك رد الله تعالى على المشركين عندما طلبوا النبي عليه الصلاة و السلام أن يطرد الضعفاء و المساكين من أصحابه حتى يكون هذا الدين مخصصاً لهم و مؤكداً على تميزهم فقال : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين
وفي هذا التعامل المادي مع الله سبحانه وتعالى فتنة، فالله تعالى يزين للظالم المشرك شركه و عقيدته الباطلة بإفاضة المال عليه و تمكينه في الدنيا حتى ينتهي يوماً إلى الهلاك فتهلك عقيدته معه و يصير عبرة لمن يريد أن يعتبر، خذ على سبيل المثال صاحب الجنتين إذ قال : ( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قامة ولإن رجعت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا )، فصاحب الجنتين هنا يشك في الله و قدرته، يظن أن الجنتين أجمل و أعقد من أن يدمرها الله ليعيد إنشاءها أو ينشئ غيرها، ذلك أن هذا كله متعب و تحصيله صعب، لذلك فإن هذه الجنة بجمالها و قيمتها لا يمكن أن تُسَلّم إلا لشخص يحبه الله (وهو كما ذكرنا يشك في وجود أصلاً)، و الحب الذي يقصده هو الحب البشري الذي أساسه ضعف و طلب مؤانسة و قرب، ولهذا فإن حب الله و قربه و نصرته مقترنة في نظر الكافر بالمكاسب المادية التي يقدرها الله لذلك الكافر، فالله يحبه أي يريد قربه و يسترضيه فيعطيه من المال و النفوذ ولذلك فإن القيامة إن قامت فإن هذا الغني الوجيه حتماً سيكون من المقربين من الله -في نظره-، ومن هنا نفهم أيضاَ قول الله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة و معارج عليها يظهرون )، فالله يثبت هنا أن تكدس الثروة و دوامها في يد مجموعة بسيطة من الناس  فتنة لا يتحملها عموم الناس نظراً لما ذكرنا من ميل البشر الطبيعي لتحصيل المال و التعالي به و استخدام المادة و القوة لتخليد الذكر، ولما في أذهان الناس من الربط الساذج بين الغنى و رضا الله.

  

لكن لماذا الإدعاء بأن هذه الغريزة تنطبق على المخلوقات كلها ؟ أليست ملاحظاتك كلها مستمدة من قراءتك لحركة الناس ؟ 


الحقيقة أن جواب هذا السؤال يأتي من كتاب الله، فالآيتان اللتان ذكرتهما في أول المقال تشرح هذه النقطة بكل وضوح، يقول الله تعالى في سورة المؤمنون : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض سبحان الله و تعالى عما يصفون )، و يقول في سورة الإسراء : ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ). هاتان الآيتان تدلان على أن الإشراك يتناقض مع المنطق، ذلك أن وجود الله الخالق يتناقض أساساً مع مفهوم الشراكة، فالشراكة تقتضي المحدودية و المحدودية تقتضي الضعف و الضعف يؤدي إلى التصارع طلباً لما كنا قد ذكرناه سابقاً (التعالي و الخلود) .. فالله تعالى يقول بعبارة أخرى : ( لو أنه كان معي إله آخر لانطبق علي وعلى الآلهة الأخرى ما ينطبق عليكم أيها المخلوقات -تعالى الله عن ذلك-، فالشراكة تقتضي المحدودية و المحدودية تقتضي الضعف والضعف يؤدي للخوف وهذا هو أصل الشح الذي سيدفع بكل إله للذهاب بما يخلق بعيداً عن الآلهة الأخرى سعياً في الإكثار من الخلق و جمعاً للقوة أملاً في التعالي على الآلهة الأخرى، و هذه بالطبع حالة غير مستقرة لا يمكن أن يطول فيها خلق أو يتركب فيها بناء)، و كذلك هي الآية الأخرى تفيد نفس المعنى، فالله تعالى يقول بعبارة أخرى :( لو كان معي آلهة كما تقولون لوجدتم إلي طريقاً و منفذاً تؤذونني به و تتفاوضون معي من خلاله  ـتعالى الله عن ذلك علواً كبيرا-، فالشراكة تقتضي النقص و الحاجة وهذا بدوره يعني أن هناك وسيلة يمكن الدخول بها إلي وهي تلك النقطة التي تزعمون أني أكون ضعيفاً فيها). 

فإذا كان الله تعالى يطبق هذا المنطق على نفسه العلية فإن هذا دليل على أن هذه هي حال الكائنات عموماً مالم يسكنها الله و يهديها و يصرفها عن بعضها البعض، فالحيوانات كما نشاهدها في الطبيعة تتقاتل فيما بينها ليس من أجل الرزق فحسب بل من أجل الحصول على أكبر قدر من الأزواج لضمان الخلفة القوية و الكثيرة و من أجل السيادة على القطيع ومن أجل السيادة على الأرض وهكذا يستمر الصراع و التدافع من أول الأمر عندما تتصارع المخلوقات على المراعي لأجل البقاء إلى أن تتصارع على التزاوج و الإنجاب و الإنتماء للجماعة إلى أن تتصارع على التعالي في الجماعة و التعالي بالجماعة على الجماعات الأخرى. 



هرم ماسلو أصلاً يمكن تقسيمه على هذا الأساس وهو أصلا يتوافق تماماً مع ما أذكره، فالهرم مكون من خمسة خانات كما هو معروف .. من القاعدة إلى الرأس على النحو التالي :

١- الحاجات الفيسيولوجية (الغذاء و الهواء و الدواء)
٢- الحاجة للأمن (من الأخطار الخارجية) 
٣- الحاجة للإجتماعية (للإنتماء لجماعة) 
٤- الحاجة للتقدير  
٥- الحاجة لتحقيق الذات 

وهذه النقاط يمكن اختصارها في ثلاثة نقاط جامعة هي : 

١- الحاجات الأساسية .. التي يصارع فيها الإنسان لكي يبقى (أي الأكل و النوم و الأمن المادي و الإجتماعي ) 
٢- الحاجة للتعالي .. وهي الخانة الرابعة المذكورة في هرم ماسلو التي يسعى فيها الإنسان لنيل التقدير من مجتمعه، أو دفع المجتمع لتحقيق الهيمنة و التقدير من المجتمعات الأخرى. 
٣- الحاجة للخلود .. أي السعي لتجاوز المصلحة الآنية وتخليد الأثر أو الخلود بشكل من الأشكال ( هنا يأتي الدين ومن هذه النقطة تلعب العقيدة دوراً محورياً في تحريك الناس و دفعهم لتحمل المصاعب و العقبات ).

             

  يقول الله تعالى :( أتبنون بكل ريع آية تعبثون ، و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون )، أي ترفعون البناء و تتركون الآثار لعلكم تخلدون في هذه الأبنية وفي أذهان الناس. 


حتى الآن تكلمت عن الدلالات الإقتصادية و الدينية لهذه الغريزة الطبيعية ( أي كيف يتفاعل الإنسان مع موضوع الإقتصاد و قوانينه وكيف يتفاعل مع موضوع الدين و العقائد الغيبية منطلقاً من هذه الغريزة ) و بقي أن أفصل أكثر في أثرها و دلالاتها على الحياة الإجتماعية (أي كيف يتفاعل الزوج مع زوجته و أولاده و كيف تتفاعل العائلة مع العوائل الأخرى) و الحياة السياسية ( وهذه لأن موضوعها المال و العدد فإنها ستعيدنا للحديث عن الإقتصاد في نفس الوقت الذي نتحدث فيه عن العلاقات السياسية التنظيمية بين الناس كمجتمع كبير) .. هذا كله سأجعله في المقال التالي، كما أني سأذكر أدلة على كلامي من خلال الإستدلال بالديانات الرئيسية القائمة في العالم و كيف نشأت و أثرت في مجتمعاتها.   

ثنائية التعالي و الخلود (١)


ثنائية التعالي و الخلود (١)
الدافعان الأساسيان لحركة الكائنات كلها بعد أن تكون قد أمنت على حياتها (التعالي و الخلود)



درجت الرأسمالية على تأكيد أهمية الحرية و التنافسية في السوق كوسيلة لتحقيق النمو الإقتصادي و الرفاهية، وهذه النظرة وإن كانت صحيحة من ناحية أن الدول و الأمم لا تبنى إلا بإرادة حرة و فاعلة من عموم أفرادها إلا أنها نظرة سطحية تتجاهل الدوافع الأساسية في النفس البشرية و تفترض أن الفردانية و الحرية البحتة يمكنها أن تكون ضامناً وحيداً لنمو إقتصادي دائم (زيادة المال) ومن ثم قوة سياسية (زيادة المال و العدد) و تطور علمي، والحقيقة هي أن أفضل ما في الأعمال التجارية الحرة أنها تمثل بالبيانات الرقمية حركة الناس الحرة و سعيهم الفردي و الجماعي لتحقيق الإكتفاء ومن ثم التعالي و الخلود بما يبنونه و يكتبونه و يعزفونه، ولأن الناس قد يكونون منقسمين في هوياتهم التي يقدمونها و يدافعون عنها بحركتهم فإن البيانات التي يظهرها السوق الحر قد تدل على الصيرورة إلى الإنقسام و الإقتتال أو إلى البناء و الإتحاد مع تقادم الأيام في السوق الحرة، ولذلك فإن المجتمع بالعموم وهو يبني هذا كله لا يحتاج بالضرورة للإيمان بحرية السوق وإزالة القوانين المنظمة للتعاملات التجارية بل إنه يتصرف بحرية على أساس تعاقد ضمني من تلقاء نفسه (عقيدة و عصبية)، ومن ثم فإن أثر هذه الحركة البشرية الحرة في هذه الصراعات على المال إقتصاداً و التمثيل سياسةً (أي التعالي و الخلود) يتجلى حتى عندما تتراجع التعاملات التجارية الفردانية النفعية لتستبدل بحركة جماعية قومية أو أممية، فتتفاعل الجماعات البشرية مع الجماعات الأخرى المنازعة لها كما لو أنها جسد واحد متجانس و متناسق يلغي الكثير من حرية أفراده وتنافسهم الفردي الداخلي دون أن يؤثر ذلك كثيراً على نمو الجماعة إقتصادياً و ثقافياً و سياسياً على المدى البعيد نظراً لميل عموم الناس داخل تلك الجماعة لتحقيق الإستقلال والتعالي الجمعي ومن ثم الخلود، ومن الواضح أن هذا كله يعتمد على المشاحة و الصراع في طلب النمو الإقتصادي (التعالي بالمال و العدد) و من ثم التمثيل السياسي (الخلود)، وهذه هي الملاحظة التي يلحظها كل إنسان متمعن متجرد يهدف للإستفادة من سنن الله و العمل بمقتضاها.


هذا المقال بني على هذه الملاحظة ، وقد تأكدت الملاحظة عندي عندما رأيت النص القرآني يتوافق معها و كيف أنه قد أوضح أساسياتها فأحببت أن أكتب المقال لأصل هذه الفكرة و أشرحها.

يقول الله تعالى : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون
و يقول تعالى : ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا
و يقول تعالى : ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون، و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون
و يقول تعالى : (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون
و يقول تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين
و يقول تعالى : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله 
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع و صلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ..


سؤعلق على هذه الآيات أثناء التفصيل في المقال لكني بداية أحب أن أبدأ بالقول أن أساس الإعتداء و الكفر و الإختلاف قائم على نقطتين أساسيتين :

١- إستشعار استثنائية الحياة (أي أن الأصل الفناء). 
٢- إستشعار استثنائية التعالي (أي أن الأصل الهامشية و الضعف).

وأن هاتين النقطتين بدورهما تؤديان لحركتين مهمتين تُرى آثارهما في حياة المجتمعات عبر التاريخ :

١- السعي للتعالي وتبرير التمايز الطبقي الشديد (تشريع الظلم و الإستعباد لأن ذلك هو التعالي الطويل).
٢- السعي للخلود عن طريق الإرتباط بما يُظَن أنه خالد و قريب (التعاقد مع هذا الخالد المادي القريب أو التأثير و النقش فيه). 

فإذا كان القارئ لهذه الكلمات متفقاً معي مبدأياً على محورية هاتين النقطتين في حياة المجتمعات فقد وصلنا أنا وإياه إلى استنتاج مفاده أن الحركة السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية (أي الحركة البشرية كلها) تتمحور حول هاتين النقطتين. 


تفصيل : 

إن حداثة المخلوق على الوجود (أي أنه طارئ) تقتضي بالضرورة خوفه من الزوال، وعدم مركزيته في هذا الوجود (نظراً لكونه موجُود لا مُوجِد، ولكونه محدود القدرات محاطاً بقوى كثيرة تفوقه قوة وتستطيع إهلاكه) أيضاً يدفعه لطلب المركزية حرصاً على البقاء، وبما أن البقاء غاية عند كل موجود كما أسلفنا (إذ الوجود خير من الفناء يستشعر ذلك كل مخلوق من أول يوم له في الحياة) فإن أي موجود يوقن بأنه زائل لا محالة سيعمل بالموارد التي يملكها على تخليد ذكره ليبقي أثره بعد أن يزول و تبقى هويته بشكل  أو آخر، ومن هذا الوجه أيضاً فإن الإنسان إذا آمن بوجود آخر غير هذا الوجود الذي هو كائن فيه فإنه قد يسعى للعلو في ذلك الوجود على حساب هذا الذي هو كائن فيه، وهكذا تنشأ الأعمال البشرية صغيرةً كانت أو كبيرة  على أساس “الصراع من أجل البقاء” ولكن بأشكال مختلفة.   




إن الله عندما خلق الخلق مايز بينهم في القدرات و الوظائف لكنه لم يمايز بينهم من حيث نسبية الضعف و الحداثة إلى ذاته العلية إذ أن ذلك مستحيلاً، فالله تعالى الواحد المطلق في وجوده و قدرته و غناه و علمه إن كان قد أوجد الخلائق متباينين في القوة و العظمة إلا أن ذلك التباين لا يعني شيئاً إذا أضيفت الذات العلية إلى المعادلة نظراً لكوننا نعرف أن أي رقم يوضع على البسط فإنه يساوي صفراً مهما كبر إذا كان المقام الموضوع “لا نهائي” (أي أن خلق الخلائق كلهم على الله في الجهد سواء وهذا الجهد الذي قلنا أنه متساو عليه هو في المقدار الكمي لا شيء حرفياً، وهذا ليس استنتاجاً عبقرياً بل هو منطق بسيط ظاهر بجلاء في السنة النبوية التي ورد فيها أن الخلائق كلها تهلك يوم ينفخ في الصور و يعيد الله بعثها يوم القيامة كما لو أنه لم يهلكها ولم يخلقها من قبل في ستة أيام)، هذا المنطق و المبدأ الذي ننطلق منه نحن كمسلمين في النظر للمخلوقات و حالها يفسر لنا الشيء الكثير، فنستنتج منه أن التسليم الذي هو نقيض الجزع و الإعتداء طارئ على المخلوقات عموماً وعلى البشر خصوصاً (الذين يتمتعون بحرية الإختيار من بين سائر المخلوقات و القدرة على تسخير ما دونهم من كائنات)، ذلك أننا قد قررنا أن كل شيء يسعى لديمومة وجوده وبقاء أثره و علو شأنه في مقابل زوال الوجود و الأثر الذي هو حاصل لا محالة، و بالتالي فإن التسليم لمنشئ هذا الخلق بالإماتة و الإفقار (أي الرضا و التسليم له إذا قضى موتاً أو فقراً على الإنسان) مع القيام بالمسؤولية المادية عند الغنى و العلو تجاه الفقير و الضعيف تأتي مناقضة لما هو كامن و أصيل في نفس الإنسان (الإعتداء طلباً للتعالي و الخلود)، و لذلك فإننا نجد أن الله تعالى يقول في سورة النساء معلقاً و مبيناً أثر تدخله على حياة الناس و مقارناً ذلك الأثر بأثر حركة الناس و أفعالهم عندما تكون بمعزل عن هدايته : ( و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمالهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك و أرسلناك للناس رسولا و كفى بالله شهيدا )، و يقول أيضاً في سورة الشورى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير )،  ففي هاتين الآيتين نجد المدخل الذي يمكن أن ندخل منه للتعليق على الآيات السابقة في أول المقال و الدلالة على ما قلته، فالله تعالى يقول بعبارة أخرى : (إن ما يقوله المشركون يا محمد من نسبة الشر و المصائب الواقعة عليهم إليك جهل، فالله تعالى هو مقدر الأقدار ومصير الأحداث فما يحصل لكم يحصل بعلمه و إرادته وكل هذا يكون بحكمته ولا يصير دون إذنه، و أما تفصيل الأحداث من حيث المقاربة البشرية فإن عليك يا محمد و الناس من بعدك أن تقاربوا هذه الأحداث بالطريقة الآتية .. الحسنة المادية و المعنوية التي تصيبكم عائدة لفضل الله و رحمته و منته ذلك أنكم أيها البشر غير قادرين على الخلق ولا على التصيير ولا على معارضة السنن الكونية التي أوجدتها عندما تكون فوق طاقتكم و أما المصائب التي تقع عليكم فجلها عائد إلى ما كسبته أيديكم، ذلك أنكم بإعراضكم عن الله و إقبالكم على شهواتكم و مطامع نفوسكم تعتدون على بعضكم البعض وعلى المخلوقات الأخرى من دونكم فتفسدون الحرث و النسل و تعودون للجهل والجهالة فينهار البناء و النظام لذلك أو تتحولون إلى شكل قاس و ظالم من الأنظمة يقع عليكم به الشقاء، أو يحق عليكم سخط الله فلا يمنع عنكم جنده في السماء و الأرض لتصير احتمالية الغرق بالطوفان و الهلاك بالزلزلة و القذف بالحجارة أموراً واردة جداً)، و كذلك هي الآية الثانية في سورة الشورى مؤكدة لهذا المفهوم.