الأربعاء، 6 يوليو 2016

في مسألة النسب (٢)




في مسألة النسب ( ٢ )
لا تحفظ الأنساب إلا لمصلحة سياسية 



القبيلة .. دولة بسيطة : 

القبيلة كيان سياسي خفيف الحركة بسيط التركيب بسيط الأهداف ينشأ في بيئة قليلة الموارد كثيرة المخاطر مكشوفة الأرض، لذلك فإن أفراد المجتمع في تلك اللبيئة ينحون للمحافظة على أنسابهم لما في القرابة و الرحم من معاني العصبية ما يهذب النفس و يضبطها، إذ الإنسان يجد في نفسه غضاضة أن تصاب رحمه بأذى نظراً لكون الإنسان يجد أن رحمه تمثله، و إدراك هذه النقطة يوصلنا للنتيجة البدهية وهي أن القبيلة و الرحم كانت أول الكيانات الإجتماعية المتحضرة ظهوراً ( و أنا هنا أعني بالتحضر النظام و رعاية المصلحة العامة و التعايش السلمي الناتج عن الهذه الرعاية، و لست أعني بها منتجات الحضارة المادية و تركيبها الطبقي و بنائها الإداري البيروقراطي .. ). و لأن الإلتزام و رعاية مصالح الآخرين تعد حالة طارئة عند الإنسان فإنه من البدهي أن تكون أول الكيانات السياسية نشوءً هي تلك الكيانات التي ترتبط بالدم و تتشابه في الخلقة و تتفق على تاريخها و مستقبلها، هذه الكيانات كايانات بسيطة بدائية قليلة التنوع كثيرة التشابه عظيمة التنافع بين أفرادها، كل فرد منها يؤدي وظيفة واضحة و مهمة في المجتمع ، فوظائف الذكور ( كالصيد و الزراعة و الحماية و الإستكشاف و ضبط المجتمع داخلياً ) يتميز بها الذكور فعلاً و تعد وسيلة للتفاضل بينهم ، أما وظائف الإناث فإنها متشابهة و أكثر أماناً و انصياعاً و ترابطاً من وظائف الذكور ( كالحمل و الرضاع و الرعاية و القيام بخدمة الأسرة و الحفاظ على العلاقات الإجتماعية لها ) و من كل ذلك يشكل الكيان وحدة متماسكة صلبة ، فالعصبية القوية المحفوظة بالمشاركة الكبيرة في الموارد و الحفظ الشديد للنسب و الشعور الجماعي بالمخاطر الخارجية يجعل من جميع أفراد القبيلة أطرافاً فاعلين في هذا الكيان، إنتاجاً و حماية و انضباطاً ، و لذلك فإن القبيلة في البادية تشكل أعلى درجات التجانس و الوحدة و الكفاءة الإدارية ليس لشيء إلا لاتحاد عصبيتها و توقد جذوتها و قلة التكلف في العلاقات الإجتماعية بين أفرادها، لكن ما الذي يجعل بعض فروع القبيلة تعلو على بعضها الآخر ؟ و ما الذي يجعل بعض القبائل قادرة على السيادة و إخضاع القبائل الأخرى ؟ 

إنتقال مجتمع قبلي من حالته الإدارية و الإجتماعية البسيطة إلى الحالة الهرمية المركبة التي يتطلبها بناء الدولة الغنية المستقرة يحدث صراعاً و مواجهة تُكْسَر فيها الكثير من العادات القديمة لتُبْنى عادات أخرى أكثر عملية و نفعاً في هذه البيئة الجديدة، و لأن العادات القديمة كثيراً ما تكون متجانسة مع بيئتها يعضد بعضها بعضاً لتتحقق المصلحة العامة ( كالزواج من الأقارب يهدف لحفظ النسب و الشجاعة و القضاء على الملكية الفردية بين أفراد القبيلة يهدف للقضاء على التمايز بين أفراد القبيلة للحفاظ على العصبية و توقدها ) فإن القضاء على بعض تلك العادات مما يضر بمصلحة الدولة ( كالتعدي على الملكية الفردية و القدح في الأعمال المهنية في مقابل العمل العسكري و التطلع الدائم للسيادة السياسية ) يؤدي للإضرار بعادات أخرى ذات نفع عظيم للدولة ( كالكرم و الشجاعة و العفة ) إذ أن العصبيات القديمة تهدم في مقابل عصبية جديدة يفترض بها أن تنمو لتستبدلها . 


عندما ينتقل المجتمع من الحالة البدوية الخالصة ( حيث يكون فيها النسب محفوظاً تماماً دون أي اختلاط بغريب أو اندماج في كيان سياسي أجنبي ) إلى الإستقرار و التحضر ( عن طريق المعاشرة و المتاجرة ) و عندما تزداد فروع القبيلة و يكثر عددها حتى تصير من عداد الدول فإن أفرع القبيلة و عائلاتها تتسابق للوجاهة طلباً للسيادة و يصير التعالي فيها و التمييز الطبقي ظاهراً بعد أن كان معيباً و محارباً،  في هذه الحالة و غيرها من الحالات المشابهة ( عندما تتلاقى القبائل من ذات العرق الواحد ) فإن الفخر بالأحساب يصبح ذا قيمة أعلى إذ هو يمايز بين الأنساب المتقاربة و يساهم في تعبيد الناس بعضهم لبعض، و هذه الحالة من السعي لبلوغ نسيج طبقي تمثل حالة انتقالية غير مستقرة، فهي ليست حالة إجتماعية بدوية خالصة ولا هي حضرية واضحة بل موقف منتصف بين حالتين، يحاول المجتمع فيها أن ينظم نفسه في بناء طبقي هرمي يتوافق مع المصلحة العامة للدولة كما يحاول أن يحافظ على بعض تقاليده و نقاوة عرقه إذ أن ذلك يمثل الإمتداد التاريخي لهذا المجتمع و الكيان السياسي الحاضر. و لأن هذه الحالة قد تطول كما أن الظروف قد تتبدل من الوفرة إلى الندرة (القحط) و الهجرة إلى البراري فإن الناس قد يخلطون بين أسبقية الطرفين ( الفخر بالأحساب و الطعن في الأنساب ) . 

النسب يسبق الحسب إذ هو ارتباط جماعي و رحم يقصد بها النصرة و التعاون ، أما الحسب فهو فخر ناتج عن و جود كيانات إجتماعية و سياسية منافسة يسعى أصحاب النسب الواحد أن يميزوا بها أنفسهم عن غيرهم أملاً في سيادة أو امتناعاً عن اتباع، ولا يعني هذا أن الأصل في الناس التراحم بل إن التباين الطبقي بين القبائل أو الطبقات الإجتماعية لا يحصل إلا بتراحم حقيقي واضح بين أفراد القبيلة أو الطبقة المعنية، ذلك أن حجم الثروة و القوة العسكرية تزداد بازدياد الأفراد المتشاركين و بالتالي فإن فارق القوة و الثروة يصبح أكثر جلاء كلما كانت مقارنة في جماعات كبيرة. 

لذلك فإنه يمكن اختصار ما سبق في هذه العبار .. (( النسب قرين الحسب و يقصد بهما السيادة ))

و لنوضح ما سبق في نقاط بسيطة ما هية الخصال التي ترشح الفرد للوجاهة في قومه و لسيلدة القبيلة على سائر القبائل : 
١- نقاوة العرق .. وهي تؤكد مفهوم الأصالة. 
٢- شرف النسب .. وهو يؤكد مفهوم العظمة. 
٣- الهيمنة المادية .. وهي تؤكد الكفاءة و ارتباط المصلحة. 

  • نقاوة العرق تؤكد ارتباط الفرد بمجتمعه ارتباطاً حيوياً، فهو منهم وحدهم ليست له ارتباطات عرقية أخرى أو نسب يجعله يتعصب لغير قومه، لذلك فإن انتصاراته إنتصار لهم كما أن عاداته تكون من صميم عاداتهم و ذاكرته التاريخية مستمدة من ذاكرتهم .. هذه الأصالة التي يراها العامة يراها هو أيضاً تجعل من العلاقة بين الحاكم و محكوم ارتباطاً دينياً إذ هي في عداد صلة الأرحام و من بدهيات التعصب في العلاقة الإجتماعية. 
  • شرف النسب له علاقة بشرعية التعالي ، فمن ارتبط نسبه ( أي فرعه من القبيلة ) بالشرف التاريخي ( أي الإنتصارات السياسية و العسكرية و السيادة على قومه يفيض عليهم من ماله و يساهم في حل مشاكلهم ) كان نسبه ممثلاً لتاريخ المجتمع ككل، إذ أن إنجازات المجتمع يمكن اختزالها إلى حد ما بما قام به أجداد هذا الشخص و أقرباءه و أقران أجداد، فتستخدم سيرة جده و من عاشره كوسيلة لحفظ تاريخ المجتمع و تصور أمجاده . 
  • لا يسيد من لا يستطيع ضمان مصالح الناس ، و لأن أصحاب العقار و الأملاك الكثيرة (الأصول) يملكون من فائض المال ما يستطيعون به أن يوظفوا شرطة و أمناً مستقلاً ، كما يستطيعون أن يوظفوا في أعمالهم و يقرضوا من أموالهم ما يحرك عجلة الإقتصاد و يقلل من الخصومات و النزاعات التجارية فإن صاحب المال غالباً ما ينتهي به الأمر أن يصحب ذا مكانة سياسية بارزه، وهو إن اتفقت له الخصلتين السابقتين صار مرشحاً للملك في قومه. 

مما سبق نلحظ أنه و إن كان عموم الناس يسعون للسيادة إلا أن السيادة لا تكون إلا من نصيب أوسع الناس أثراً في المكان و الزمان، أي أن الشخص وسيع الأثر مكاناً ( بامتلاكه للمادة و السلطة العسكرية الناتجة عنها ) بحاجة لأن يكون وسيع الأثر زماناً أيضاً ( أي أنه بحاجة لأن يكون منتمياً لنسب ممتد عبر التاريخ طولاً و آثراً كما هو ممتد عبر المكان في أثره المادي )، و هذا الإمتداد للفرد في إحداثيات الزمان و المكان و إن كان الناس يعترضون عليه فإنهم لا ينكرون أثره خصوصاً بتفاعلهم اليومي الذي ينقاضونه بأقوالهم. 

أخيراً يجب أن نلحظ أثر الخلقة على حركة البشر صعوداً و هبوطاً في التفاعل الإجتماعي، فبالإضافة لكون المادة و التاريخ و عدد الجماعة التي ينتمي إليها الإنسان مهمة فإن الخلقة مهمة أيضاً، فالجماعات التي يظهر فيه جمال خلقي تجد لنفسها فرصة في التعالي تتفوق على تلك الجماعات ذات العيوب الخلقية أو المتواضعة في هيأتها، و ذلك لسببين : 

١- جمال الخلقة هي الخصلة الأولى التي يهتم لها عامة الرجال عند الزواج، فنعومة المرأة و دقة ملامحها و بياض بشرتها يغري بها الرجال، و بالتالي فإن المجتمع الذي يملك من هذه الخصال ما يغري به المجتمعات الأخرى الشريفة يصبح مناسباً لهذه المجتمعات وبالتالي مستفيداً من شرفها و مكانتها ( أي أن الجمال يؤدي بالتدريج عن الطريق التزاوج للسايدة و الشرف ). 

٢-  السيادة و الرياسة من معانيها النظام و الكمال، و الجمال يفيد ذلك نظراً لما يحمله من معاني الإنتظام و التناسق بعكس القبح الذي يقترن بالفوضى و الدناءة، و لذلك فإن الجماعات التي تحسن خلقتها تجد لذلك أثراً على نفس أصحابها فيحرصون على إتمام الجمال في ملابسهم و مراكبهم و تفاعلهم و ما سوى ذلك، و هذا كله ييسر الأسباب لتسيد تلك الجماعة، كما أن غيرهم يقدمونهم في الوظائف نظراً لأن الناس يحسنون الظن بجميل الخلقة و يتفائلون به.  


من أسباب حديثي في هذا الموضوع تلك القصص المتكررة لحالات الطلاق في مجتمعنا تحصل بدعوى عدم التكافؤ في النسب ، و لأن هذا الموضوع كثيراً ما يطرح ليجد الناس في إثارته غصة، كما يسعون للتفاعل معه بطريقة تبدو ساذجة أحياناً ( إذ تجد بعض الناس يسعى للتأكيد على أمجاد و تاريخ لا يذكره الناس أو للتزوج بمن يجلهم في أنسابهم و يمتنع عن تزويج من لا يحترمهم و إن كان المجتمع لا يقر له بتعاليه عليهم )، كله هذه المواقف تعود للحرص الكامن في أفراد المجتمع على التعالي و التمايز ( وهذا نقيض التواضع و التراحم التي أمر بها الإسلام ) كما يعود للجهل بأسباب الشرف التي تختص بها بعض العوائل ، فالشرف تصنعه أجيال متتابعة لا جيل واحد ، أي أنه يحتاج لأجيال من السيادة و خصالها ( الغنى مع الكرم و الشجاعة و العفة و الحكمة و إنكار النفس ) ، فالجد الذي يملك من ذلك الكثير لا يتميز كثيراً عن قومه لكنه ييسر لابنه أن يزيد بعد أن كان تعلم من أبيه خصاله ، ثم ابن الإبن بعد ذلك ، ثم ابن الحفيد ، فإن تكررت السيادة و خصالها في عائلة من العوائل حتى ارتبطت الأحداث التاريخية بهم كان في ذلك تمييز لهم و لنسبهم، فالناس لا تذكر التاريخ البعيد و قدرتها على معرفة ماكان عليه الناس بوضوح قبل قرنين من الزمن محدود جداً ، لذلك فإن الأنساب تعلو و تهبط بظهور خصال الخير في الناس و الغنى ، كما أن إقبال الناس على التمايز في حال الوفرة لا يعني صحة التمييز ولا كفاءته ، و بمجرد تغير أحوال المعيشية و ظهور الحاجة تنهار تلك المعايير ليسيد أناس لم يكن لهم في السيادة نصيب.

مختصر المقال في نقاط :

  • حفظ الأنساب يكون أساساً لحفظ كيان المجتمع.
-   إذ ظهر الغنى حفظت الأنساب الأكثر شرفاً (الحسب) و أهملت الأخرى. 
-   إذا استقرت الدولة و طبقاتها على مدى قرون إختصت الطبقة الحاكمة نفسها بحفظ النسب و الحسب و استعبدت الطبقة الدنياً إستعباداً حرفياً (كما حصل في أوروبا). 
-   عبر القرون تتغير الكيانات السياسية (القبائل و الشعوب) بحركة المال و الناس فتتغير الذاكرة التاريخية ( إذ أن ذاكرة عامة الناس لا تمتد عميقاً في التاريخ ) مع مرور الزمن لتظهر فئة أرستقراطية جديدة و طبقة محتقرة جديدة بحسب وفرة المال و العدد و تاريخ الشرف الذي يدونه الناس خلال هذه المدة الجديدة ( غالباً ما تكون المدة أربعة أجيال كما ذكر ابن خلدون .. فمن عرف في قومه بخصال الشرف و السيادة ثم رؤيت تلك الخصال في ابنه و حفيده أيضاً صار لابن حفيده نسب يبتغى و لتاريخ أجداده هيبة يتمثل بها الناس ).
-    للجمال أثر في مستقبل الجماعة كما للمال و الكفاءة و التاريخ و إن كان أثره يتأخر أحياناً إلا أن جمال الخلقة ينحو للزاوج بالمال و العلم و الشرف. 

في مسألة النسب (١)



في مسألة النسب ( ١ )
لا تحفظ الأنساب إلا لمصلحة سياسية 

قبل عدة أيام دخلت في نقاش ماتع مع أحد الأخوة المقيمين (غير السعوديين) عن أحوال الأمة العربية و الإسلامية عموماً وعن مستقبل منطقة الشرق الأوسط خصوصاً و قد كان مما دار النقاش حوله مسألة الهوية القبلية و المناطقية، فقد ذكر الأخ المتحدث أن الإسلام كان قد ألغى هذه الهويات المجزئة و أتى بهوية واحدة جامعة لكل المسلمين، وقد كانت وجهة نظره هذه تقتضي أن الهويات الجزئية لا ينبغي لها أن توجد أساساً، كما أن الإحتفاظ بالأنساب و ما يتبعه من طعن فيها و تمييز في الزاوج على أساسها يعد من أمور الجاهلية التي أتى الإسلام بنقضها و استشهد بقوله تعالى :( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) كما استشهد بزواج بلال و غيره مما جرى في السنة النبوية، و مع أن هذا الكلام ليس جديداً إلا أن إعادة طرحه و الصورة التي يريدها المتحدث بطرحه أعادت هذا الموضوع إلى واجهة فكري لينشغل بالي به و ليحرضني على التأمل في الموضوع بشكل أكبر ، إذ أني و إن كنت أفهم شيئاً من طبيعة البشر و أفهم بداهة وجود هذه الهويات الجزئية - والتي يمكن أن توصف بأنها مقسمة في أحيان كثيرة - إلا أن سبب تعالي بعض هذه الهويات في الذهن الجمعي لا يزال يحيرني إلى حد ما، فالتعالي هذا هو الذي يثير الأضغان و يؤدي للفرقة السياسية التي تضر بالمصلحة العامة ، كما أن المفارقة بين النظرة المثالية للمجتمع المسلم - والتي ذكرها أخونا آنف الذكر -  و النظرة الواقعية تؤدي لنشوء صراعات إجتماعية و سياسية نظراً لأنها تنقض شرعية القيادة و الوجاهة في المجتمع و تكسب الحركات الإجتماعية الطبقية المعترضة و الساخطة ( على قسمة الله و تقديره و ليس على الظلم و التعدي ) شيئاً من الشرعية و القوة ، و لذلك فإن هذا المقال يتكلم عن أسباب التعالي و التباين بين الناس و يهدف للوصول إلى نظرة شرعية موضوعية للمجتمع يصح تطبيقها و يمكن التدليل عليها بما جاء في الكتاب و السنة، إذ أن الإسلام بقدر ما قارب بين المسلمين ( مثل المسلمين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى و السهر )  أكد على وجود طبقية في الخلقة و الظروف وأن ذلك يؤدي لهرمية تحقق الغاية الإلهية من التباين وهي السخرة، يقول تعالى : ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليّتخذ بعضهم بعضاً سخريّاً )، و كذلك فإن من مقاصد الطبقية التي أوجدها الله الإبتلاء، يقول تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ).


الحديث قد يطول إن عمم لذلك فإني سأجعل المقال على شكل إجابة لسؤال : ما هي الأنساب ؟ و ما قيمتها ؟ و لماذا يحافظ عليها مجتمع دون آخر ؟ و ما الذي يجعل بعض الأنساب تتفوق على بعض ؟ 

النسب انتساب أو ارتباط نفسي يقوم به الإنسان رغبة في ضمان مصلحة لا تتحقق إلا باجتماع عصبي  يهلك أفراده أنفسهم له و يستنزفون مواردهم أملاً في حمايته و إعلاء ذكره، و الإنتساب لا يشترط أن يكون لهوية قبلية بل الهويات تتعدد فقد تكون عرقاً لا يحفظ أنسابه أو منطقة يتميز سكانها بخلقة و ديانة و تاريخ أو حرفة و طبقة اجتمعاية معينة، ولأن هذا الكلام يطول و يكرر ما قد تم ذكره في مقالات سابقه فإنه لا يخدم موضوعنا كثيراً  ، فالهويات المكانية و الطبقية الإقتصادية يسهل تغييرها ولا يتعذر على الناس المنتسبين إليها التنقل إما صعوداً طبقياً أو انتقالاً مكانياً كما يتعذر عليهم تغيير هويتهم العرقية و أنسابهم. الرحم على الطرف الآخر وما ينتج عنها من شعوب و قبائل تعد وحدة أكثر تماسكاً وصلابة فلا يظهر تفاعلها مع محيطها إلا بعد مضي زمن طويل و تعاقب الكثير من الأجيال، و لأن هذا التذبذب و التحول في الأنساب و العصبيات و ظهور الأقوام و الشعوب يخفى على الكثير من الناس فإن هذا الموضوع جدير بالدراسة و التأمل منفصلاً عن بقية الهويات.

أصل النسب رحم و أهمية الرحم تكمن في العصبية و لأن الأنساب الطويلة المحفوظة تربط أكبر عدد ممكن من الناس برابط الدم فإنها بذلك تبني كيانات سياسية (القبائل) و هذه القبائل تقوم بدورها بتحقيق الهدف المرجو من وجودها وهي مصلحة هذا الكيان (القبيلة) و تكون مصلحة القبيلة غالباً في الإستقلال عن الهيمنة الخارجية أو السعي لنيل سيادة سياسية على المحيط، و لأن الظروف تتغير فإن عادات الناس تتبدل، لكن القبيلة ككيان قوي مربوط ثباتها غالباً بديمومة حالة الفقر و الندرة التي تبقي الناس على درجة عالية من التراحم و الإنتظام و التعصب . 

مما ذكرنا يصح أن نربط إلى حد كبير بين كلمة الرحم و العصبية، كما أننا نفهم مقصد الإسلام من تأكيده على صلة الرحم و بر الوالدين و حق الزوجة على زوجها، الإسلام يسعى لحفظ العصبية التي تعد هدفاً أساساً للزواج و الخلفة، ولأن العائلة النووية (الأسرة الصغيرة) تعد أصغر الكيانات الإجتماعية و من ثم السياسية فإن فهم حركتها و تفاعلها مع محيطها يساعد على فهم الكيانات الأكبر و كيفية تفاعلها و تأثرها بمحيطها، ولعلي أقف عند موضوع الأسرة النووية قليلاً لأني أشك في أن القارئ يتفق معي على أن المقصود من الزواج الخلفة و الجماعة الصغيرة المتراحمة التي تنتج عنه، ولذلك فإني سأوضح هذه النقطة في سطور قبل أن أنتقل إلى التي تليها. 

يجد الرجل في نفسه غريزة جنسية قوية أودعها الله أساسها النفسي وفرة الحيوانات المنوية في الرجل الواحد وعلى مدى العمر و وفرة الرجال المستعدين للجماع (التلقيح)، أما أساسها الفيسيولوجي فإنه مربوط إلى حد كبير بكمية هرمون التيستيستيرون في الدم، أما المرأة على الطرف الآخر فإنها بالإضافة لكونها تملك عدداً قليلاً من البويضات فإنها تحتكر الإنجاب و الرضاع و القدرة على الرعاية، و لذلك فإنها لا تجد موضوع الجماع (التلقيح) مثيراً لها كثيراً إذ المعروض أكثر من المطلوب و التكلفة التي ستتحملها غالية جداً ( هذا بالإضافة لكون هرمون التيستيستيرون قليل عندها ) و إنما تجد في نفسها الحاجة للإحتماء و الإرتباط بمن هو أقوى منها و بعدد غير قليل من الناس تضمن حبهم و قدرتهم على الإهتمام بها إذ هي ضعيفة جسداً و آيلة للذبول الجسدي خلال عقدين من الزمن لتجد نفسها فاقدة لأي قيمة كبيرة مضافة يمكن أن تفاوض بها في عالم الرجال، هذا الإختلاف بين الرجل و المرأة في حاجاتهم ( الحاجة الغريزية عند الرجل للتلقيح و الغريزية عند المرأة لطلب الأمان ) يجذب الجنسين و يغريهم بالتزاوج لكنه يخفي عنهم حقيقة وهي أن الزواج التزام دائم بعلاقة تذهب جذوتها غرائزية ليحقق الطرفين غاية أعظم من مجرد المصلحة الفردية التي دفعتهما أول الأمر للتقارب،  فنحن إن استثنينا هذه الرغبة في المعاشرة عند الرجل ( وهي كما أسلفنا لا تدل على استعداد للإلتزام بالعلاقة، إنما هي غريزة بدائية تدفع الرجل دون وعي لطلب كل امرأة ذات قوام أنثوي دقيق ليلقحها فيكثر بذلك نسله و يعلو على أقرانه ) و ركزنا على السبب الذي يدعوا الرجل للإلتزام بعيالة زوجته و المرأة لتسليم جسدها وما ينتجه لزوجها وجدنا أن استمرار العلاقة و تراحم طرفيها حرص الطرفين على تخليد الذكر و عمارة الأرض (خصوصاً من قبل الرجل) و طلب الأمان (خصوصاً من قبل المرأة) ، و بالتالي فإن العلاقة الزوجية الملتزمة ( التي تتجاوز الرغبة الجنسية العابرة و تدوم مدى طويلاً ) أساسها طلب الأمن و الإستقرار بالإضافة لطلب امتداد الهوية الإجتماعية عبر الزمان و المكان ( أي أن هذه الهوية لا تموت بموت الشخصين ) و لأنها كذلك موقف محافظ أساسه التأمين للمستقبل و الحرص على البناء للأجيال التالية ( أي أنه موقف غير أناني ) فإن هذه الكيانات الصغيرة تتأثر بما تتأثر به الكيانات الكبيرة حال وجود وفرة مادية و رخاء إقتصادي ، إذ أن الرخاء كما ذكرت في مقالات سابقة يدعو الناس لطلب الكمال و المفاخرة مما يزيد التصنع و يقلل الصدق و التضحية في العلاقات.

لنعد لنقطة حديثنا و لنرى كيف تندثر الأنساب و تثبت بحسب البيئة الجغرافية و الكيان السياسي الجامع، فالظروف البيئية كلما كانت أكثر صعوبة و الإنتاج أقل وفرة كانت سوق البلد أصغر حجماً و الكيان السياسي الناتج عنه أقل انفصالاً عن ذلك السوق و أقل بيروقراطية إذ أن الفائض عن السوق لا يكفي لعيالة مؤسسة سياسية مستقلة ببيروقراطيتها ولا تحمل تكلفة جيش متفرغ للقتال و أسبابه، هذه المجتمعات تعتبر لذلك مجتمعات بدائية ( أو بدوية )، أي أنها بادية في سلم الحضارة تسبق في حالها حال الدول و الأمصار التي تعقدت في بنائها بوفرة الإنتاج. و لأن الدول بطبيعتها كيانات هرمية من حيث البناء الإقتصادي ( الطبقات الإقتصادية في المجتمع ) فإنها تؤدي لظهور هرمية أخرى سياسية و اجتماعية، ولأن طول الزمن يؤدي بالتدريج إلى محو آثار الماضي فإن الدولة المركبة في بنائها الهرمي إن طال بها عمر نتج عن ثباتها اضمحلال للأنساب و تباين طبقي و هوية شعوبية ( قومية ) راسخة تستبدل الهوية القبلية القديمة. لكن حركة الطبقات عبر الزمن تختلف بين الدول بحسب ظروفها الجغرافية و المادية، كما أن رأس الهرم معرض للسقوط و الإستبدال من قبل الهجمات الداخلية و الخارجية، لذلك فإنه يصح التفريق بين حالتين : 

الحالة الأولى - أن تُحْكم الدولة من قبل عائلة واحدة أو عوائل متقاربة يطول حكمها ليرتبط تاريخها بتاريخ ذلك البلد فتحفظ أنساب هذه العائلة و إنجازاتها دون سواها من بقية المجتمع ( أي أن النسب و الحسب تحتكره عائلة واحدة لها الملك و للعوائل القريبة من شرفها شيء من النسب و الحسب مثلها وهؤلاء يسمون طبقة أرستقراطية، بعكس بقية المجتمع الذي لا تحفظ أنسابه ولا يمتنع عن التزاوج فيما بينه على هذا الأساس نظراً لعدم امتداد تاريخ عوائله في التاريخ إمتداداً مميزاً بل إن المعيار الأهم في التمييز بين الناس في طبقات الأدنى هو المال و الأملاك التي ترفع الإنسان في طبقته الإقتصادية ). 

الحالة الثاني - أن تُحْكم الدولة من قبل عوائل خارجية غازية أو حتى داخلية طارئة لكن هذا الحكم لا يدوم طويلاً فلا تجد لتلك العوائل ارتباطاً تاريخياً بهوية الدولة ولا تاريخ الدولة يقف عند تلك العوائل، فهذه العوائل نظراً لقصر مدة الحكم و السيادة يكون تاريخها مقطوعاً و شرفها مصطنعاً و لذلك فإن الكثير من أفراد المجتمع يتطلعون إلى ما وصلت إليه فيسهل سقوطها ) أي أن هذه الحالة لا توجد فيها طبقة أرستقراطية عميقة مالكة للأراضي و ممتدة عبر التاريخ لدرجة يصير معها تاريخها ممثل لتاريخ الدولة و منجزاتها).