في مسألة النسب ( ٢ )
لا تحفظ الأنساب إلا لمصلحة سياسية
القبيلة .. دولة بسيطة :
القبيلة كيان سياسي خفيف الحركة بسيط التركيب بسيط الأهداف ينشأ في بيئة قليلة الموارد كثيرة المخاطر مكشوفة الأرض، لذلك فإن أفراد المجتمع في تلك اللبيئة ينحون للمحافظة على أنسابهم لما في القرابة و الرحم من معاني العصبية ما يهذب النفس و يضبطها، إذ الإنسان يجد في نفسه غضاضة أن تصاب رحمه بأذى نظراً لكون الإنسان يجد أن رحمه تمثله، و إدراك هذه النقطة يوصلنا للنتيجة البدهية وهي أن القبيلة و الرحم كانت أول الكيانات الإجتماعية المتحضرة ظهوراً ( و أنا هنا أعني بالتحضر النظام و رعاية المصلحة العامة و التعايش السلمي الناتج عن الهذه الرعاية، و لست أعني بها منتجات الحضارة المادية و تركيبها الطبقي و بنائها الإداري البيروقراطي .. ). و لأن الإلتزام و رعاية مصالح الآخرين تعد حالة طارئة عند الإنسان فإنه من البدهي أن تكون أول الكيانات السياسية نشوءً هي تلك الكيانات التي ترتبط بالدم و تتشابه في الخلقة و تتفق على تاريخها و مستقبلها، هذه الكيانات كايانات بسيطة بدائية قليلة التنوع كثيرة التشابه عظيمة التنافع بين أفرادها، كل فرد منها يؤدي وظيفة واضحة و مهمة في المجتمع ، فوظائف الذكور ( كالصيد و الزراعة و الحماية و الإستكشاف و ضبط المجتمع داخلياً ) يتميز بها الذكور فعلاً و تعد وسيلة للتفاضل بينهم ، أما وظائف الإناث فإنها متشابهة و أكثر أماناً و انصياعاً و ترابطاً من وظائف الذكور ( كالحمل و الرضاع و الرعاية و القيام بخدمة الأسرة و الحفاظ على العلاقات الإجتماعية لها ) و من كل ذلك يشكل الكيان وحدة متماسكة صلبة ، فالعصبية القوية المحفوظة بالمشاركة الكبيرة في الموارد و الحفظ الشديد للنسب و الشعور الجماعي بالمخاطر الخارجية يجعل من جميع أفراد القبيلة أطرافاً فاعلين في هذا الكيان، إنتاجاً و حماية و انضباطاً ، و لذلك فإن القبيلة في البادية تشكل أعلى درجات التجانس و الوحدة و الكفاءة الإدارية ليس لشيء إلا لاتحاد عصبيتها و توقد جذوتها و قلة التكلف في العلاقات الإجتماعية بين أفرادها، لكن ما الذي يجعل بعض فروع القبيلة تعلو على بعضها الآخر ؟ و ما الذي يجعل بعض القبائل قادرة على السيادة و إخضاع القبائل الأخرى ؟
إنتقال مجتمع قبلي من حالته الإدارية و الإجتماعية البسيطة إلى الحالة الهرمية المركبة التي يتطلبها بناء الدولة الغنية المستقرة يحدث صراعاً و مواجهة تُكْسَر فيها الكثير من العادات القديمة لتُبْنى عادات أخرى أكثر عملية و نفعاً في هذه البيئة الجديدة، و لأن العادات القديمة كثيراً ما تكون متجانسة مع بيئتها يعضد بعضها بعضاً لتتحقق المصلحة العامة ( كالزواج من الأقارب يهدف لحفظ النسب و الشجاعة و القضاء على الملكية الفردية بين أفراد القبيلة يهدف للقضاء على التمايز بين أفراد القبيلة للحفاظ على العصبية و توقدها ) فإن القضاء على بعض تلك العادات مما يضر بمصلحة الدولة ( كالتعدي على الملكية الفردية و القدح في الأعمال المهنية في مقابل العمل العسكري و التطلع الدائم للسيادة السياسية ) يؤدي للإضرار بعادات أخرى ذات نفع عظيم للدولة ( كالكرم و الشجاعة و العفة ) إذ أن العصبيات القديمة تهدم في مقابل عصبية جديدة يفترض بها أن تنمو لتستبدلها .
عندما ينتقل المجتمع من الحالة البدوية الخالصة ( حيث يكون فيها النسب محفوظاً تماماً دون أي اختلاط بغريب أو اندماج في كيان سياسي أجنبي ) إلى الإستقرار و التحضر ( عن طريق المعاشرة و المتاجرة ) و عندما تزداد فروع القبيلة و يكثر عددها حتى تصير من عداد الدول فإن أفرع القبيلة و عائلاتها تتسابق للوجاهة طلباً للسيادة و يصير التعالي فيها و التمييز الطبقي ظاهراً بعد أن كان معيباً و محارباً، في هذه الحالة و غيرها من الحالات المشابهة ( عندما تتلاقى القبائل من ذات العرق الواحد ) فإن الفخر بالأحساب يصبح ذا قيمة أعلى إذ هو يمايز بين الأنساب المتقاربة و يساهم في تعبيد الناس بعضهم لبعض، و هذه الحالة من السعي لبلوغ نسيج طبقي تمثل حالة انتقالية غير مستقرة، فهي ليست حالة إجتماعية بدوية خالصة ولا هي حضرية واضحة بل موقف منتصف بين حالتين، يحاول المجتمع فيها أن ينظم نفسه في بناء طبقي هرمي يتوافق مع المصلحة العامة للدولة كما يحاول أن يحافظ على بعض تقاليده و نقاوة عرقه إذ أن ذلك يمثل الإمتداد التاريخي لهذا المجتمع و الكيان السياسي الحاضر. و لأن هذه الحالة قد تطول كما أن الظروف قد تتبدل من الوفرة إلى الندرة (القحط) و الهجرة إلى البراري فإن الناس قد يخلطون بين أسبقية الطرفين ( الفخر بالأحساب و الطعن في الأنساب ) .
النسب يسبق الحسب إذ هو ارتباط جماعي و رحم يقصد بها النصرة و التعاون ، أما الحسب فهو فخر ناتج عن و جود كيانات إجتماعية و سياسية منافسة يسعى أصحاب النسب الواحد أن يميزوا بها أنفسهم عن غيرهم أملاً في سيادة أو امتناعاً عن اتباع، ولا يعني هذا أن الأصل في الناس التراحم بل إن التباين الطبقي بين القبائل أو الطبقات الإجتماعية لا يحصل إلا بتراحم حقيقي واضح بين أفراد القبيلة أو الطبقة المعنية، ذلك أن حجم الثروة و القوة العسكرية تزداد بازدياد الأفراد المتشاركين و بالتالي فإن فارق القوة و الثروة يصبح أكثر جلاء كلما كانت مقارنة في جماعات كبيرة.
لذلك فإنه يمكن اختصار ما سبق في هذه العبار .. (( النسب قرين الحسب و يقصد بهما السيادة ))
و لنوضح ما سبق في نقاط بسيطة ما هية الخصال التي ترشح الفرد للوجاهة في قومه و لسيلدة القبيلة على سائر القبائل :
١- نقاوة العرق .. وهي تؤكد مفهوم الأصالة.
٢- شرف النسب .. وهو يؤكد مفهوم العظمة.
٣- الهيمنة المادية .. وهي تؤكد الكفاءة و ارتباط المصلحة.
- نقاوة العرق تؤكد ارتباط الفرد بمجتمعه ارتباطاً حيوياً، فهو منهم وحدهم ليست له ارتباطات عرقية أخرى أو نسب يجعله يتعصب لغير قومه، لذلك فإن انتصاراته إنتصار لهم كما أن عاداته تكون من صميم عاداتهم و ذاكرته التاريخية مستمدة من ذاكرتهم .. هذه الأصالة التي يراها العامة يراها هو أيضاً تجعل من العلاقة بين الحاكم و محكوم ارتباطاً دينياً إذ هي في عداد صلة الأرحام و من بدهيات التعصب في العلاقة الإجتماعية.
- شرف النسب له علاقة بشرعية التعالي ، فمن ارتبط نسبه ( أي فرعه من القبيلة ) بالشرف التاريخي ( أي الإنتصارات السياسية و العسكرية و السيادة على قومه يفيض عليهم من ماله و يساهم في حل مشاكلهم ) كان نسبه ممثلاً لتاريخ المجتمع ككل، إذ أن إنجازات المجتمع يمكن اختزالها إلى حد ما بما قام به أجداد هذا الشخص و أقرباءه و أقران أجداد، فتستخدم سيرة جده و من عاشره كوسيلة لحفظ تاريخ المجتمع و تصور أمجاده .
- لا يسيد من لا يستطيع ضمان مصالح الناس ، و لأن أصحاب العقار و الأملاك الكثيرة (الأصول) يملكون من فائض المال ما يستطيعون به أن يوظفوا شرطة و أمناً مستقلاً ، كما يستطيعون أن يوظفوا في أعمالهم و يقرضوا من أموالهم ما يحرك عجلة الإقتصاد و يقلل من الخصومات و النزاعات التجارية فإن صاحب المال غالباً ما ينتهي به الأمر أن يصحب ذا مكانة سياسية بارزه، وهو إن اتفقت له الخصلتين السابقتين صار مرشحاً للملك في قومه.
مما سبق نلحظ أنه و إن كان عموم الناس يسعون للسيادة إلا أن السيادة لا تكون إلا من نصيب أوسع الناس أثراً في المكان و الزمان، أي أن الشخص وسيع الأثر مكاناً ( بامتلاكه للمادة و السلطة العسكرية الناتجة عنها ) بحاجة لأن يكون وسيع الأثر زماناً أيضاً ( أي أنه بحاجة لأن يكون منتمياً لنسب ممتد عبر التاريخ طولاً و آثراً كما هو ممتد عبر المكان في أثره المادي )، و هذا الإمتداد للفرد في إحداثيات الزمان و المكان و إن كان الناس يعترضون عليه فإنهم لا ينكرون أثره خصوصاً بتفاعلهم اليومي الذي ينقاضونه بأقوالهم.
أخيراً يجب أن نلحظ أثر الخلقة على حركة البشر صعوداً و هبوطاً في التفاعل الإجتماعي، فبالإضافة لكون المادة و التاريخ و عدد الجماعة التي ينتمي إليها الإنسان مهمة فإن الخلقة مهمة أيضاً، فالجماعات التي يظهر فيه جمال خلقي تجد لنفسها فرصة في التعالي تتفوق على تلك الجماعات ذات العيوب الخلقية أو المتواضعة في هيأتها، و ذلك لسببين :
١- جمال الخلقة هي الخصلة الأولى التي يهتم لها عامة الرجال عند الزواج، فنعومة المرأة و دقة ملامحها و بياض بشرتها يغري بها الرجال، و بالتالي فإن المجتمع الذي يملك من هذه الخصال ما يغري به المجتمعات الأخرى الشريفة يصبح مناسباً لهذه المجتمعات وبالتالي مستفيداً من شرفها و مكانتها ( أي أن الجمال يؤدي بالتدريج عن الطريق التزاوج للسايدة و الشرف ).
٢- السيادة و الرياسة من معانيها النظام و الكمال، و الجمال يفيد ذلك نظراً لما يحمله من معاني الإنتظام و التناسق بعكس القبح الذي يقترن بالفوضى و الدناءة، و لذلك فإن الجماعات التي تحسن خلقتها تجد لذلك أثراً على نفس أصحابها فيحرصون على إتمام الجمال في ملابسهم و مراكبهم و تفاعلهم و ما سوى ذلك، و هذا كله ييسر الأسباب لتسيد تلك الجماعة، كما أن غيرهم يقدمونهم في الوظائف نظراً لأن الناس يحسنون الظن بجميل الخلقة و يتفائلون به.
من أسباب حديثي في هذا الموضوع تلك القصص المتكررة لحالات الطلاق في مجتمعنا تحصل بدعوى عدم التكافؤ في النسب ، و لأن هذا الموضوع كثيراً ما يطرح ليجد الناس في إثارته غصة، كما يسعون للتفاعل معه بطريقة تبدو ساذجة أحياناً ( إذ تجد بعض الناس يسعى للتأكيد على أمجاد و تاريخ لا يذكره الناس أو للتزوج بمن يجلهم في أنسابهم و يمتنع عن تزويج من لا يحترمهم و إن كان المجتمع لا يقر له بتعاليه عليهم )، كله هذه المواقف تعود للحرص الكامن في أفراد المجتمع على التعالي و التمايز ( وهذا نقيض التواضع و التراحم التي أمر بها الإسلام ) كما يعود للجهل بأسباب الشرف التي تختص بها بعض العوائل ، فالشرف تصنعه أجيال متتابعة لا جيل واحد ، أي أنه يحتاج لأجيال من السيادة و خصالها ( الغنى مع الكرم و الشجاعة و العفة و الحكمة و إنكار النفس ) ، فالجد الذي يملك من ذلك الكثير لا يتميز كثيراً عن قومه لكنه ييسر لابنه أن يزيد بعد أن كان تعلم من أبيه خصاله ، ثم ابن الإبن بعد ذلك ، ثم ابن الحفيد ، فإن تكررت السيادة و خصالها في عائلة من العوائل حتى ارتبطت الأحداث التاريخية بهم كان في ذلك تمييز لهم و لنسبهم، فالناس لا تذكر التاريخ البعيد و قدرتها على معرفة ماكان عليه الناس بوضوح قبل قرنين من الزمن محدود جداً ، لذلك فإن الأنساب تعلو و تهبط بظهور خصال الخير في الناس و الغنى ، كما أن إقبال الناس على التمايز في حال الوفرة لا يعني صحة التمييز ولا كفاءته ، و بمجرد تغير أحوال المعيشية و ظهور الحاجة تنهار تلك المعايير ليسيد أناس لم يكن لهم في السيادة نصيب.
مختصر المقال في نقاط :
- حفظ الأنساب يكون أساساً لحفظ كيان المجتمع.
- إذ ظهر الغنى حفظت الأنساب الأكثر شرفاً (الحسب) و أهملت الأخرى.
- إذا استقرت الدولة و طبقاتها على مدى قرون إختصت الطبقة الحاكمة نفسها بحفظ النسب و الحسب و استعبدت الطبقة الدنياً إستعباداً حرفياً (كما حصل في أوروبا).
- عبر القرون تتغير الكيانات السياسية (القبائل و الشعوب) بحركة المال و الناس فتتغير الذاكرة التاريخية ( إذ أن ذاكرة عامة الناس لا تمتد عميقاً في التاريخ ) مع مرور الزمن لتظهر فئة أرستقراطية جديدة و طبقة محتقرة جديدة بحسب وفرة المال و العدد و تاريخ الشرف الذي يدونه الناس خلال هذه المدة الجديدة ( غالباً ما تكون المدة أربعة أجيال كما ذكر ابن خلدون .. فمن عرف في قومه بخصال الشرف و السيادة ثم رؤيت تلك الخصال في ابنه و حفيده أيضاً صار لابن حفيده نسب يبتغى و لتاريخ أجداده هيبة يتمثل بها الناس ).
- للجمال أثر في مستقبل الجماعة كما للمال و الكفاءة و التاريخ و إن كان أثره يتأخر أحياناً إلا أن جمال الخلقة ينحو للزاوج بالمال و العلم و الشرف.