صناعة الأمارة .. (٢)
( إن الطريقة التي تسلكها الأمم للدفاع عن نفسها و الصراع من أجل البقاء تدل على صورة الشخصية الكامنة في أذهان أفرادها )
هذا المقال يحاول أن يؤكد نقطة وهو ينطلق منها أيضاً ، وهي أن الإنسان عاملٌ مستقلٌ مؤثرٌ في حركة الزمان و المكان كما هو يتأثر ، يصنع التاريخ كم أن التاريخ يصنعه ، بعكس ما سار عليه عموم الفكر الفلسفي الغربي الذي يرى بأن الإنسان مادة ظروفه و حصيلة صراعه الدائم المرير من أجل البقاء تأسره غرائزه ولا يملك الإنعتاق منها، و سواءً كان الصراع يتخذ شكلاً طبقياً عمودياً أو هو صراع أفقي -عرقي كان أو عقدي- أو حتى على صعيد التفاعلات الإجتماعية الصغيرة التي يتصارع فيها الأفراد ذكوراً و إناثاً من أجل ضمان النسل و مركزية الذرية و مكانة العائلة الإجتماعية ( صراع التناسل ) فالمقال في عمومه تأكيد لأهمية الشخصية السائدة في الجماعة بغض النظر عن ظروفها و نظرة هذه الجماعة للمحيط من حولها و طريقة تفاعلها معه إذ الموقف الجماعي في نظرته للمحيط و طريقة تفاعله معه موقف محوري يؤثر في شكل المستقبل ، فالجماعات المؤثرة تقف موقف التعالي الأخلاقي المقرر للعموم صحة الفعل من عدمه فيتبع عن ذلك تعال مادي يحقق سيطرةً ماديةً على المحيط و هيمنةً عليه ، تصوغ على إثره الجماعةُ المصيرَ العامَ و تتركُ معالماً على المادة من حولها تدل على حركتها على تلك الأرض بعكس الجماعات المتأثره الساكنة التي يُرى للزمن أثره عليها .
قبل عدة أيام اطلعت على نظرية إجتماعية أصلها دراسة بيئية مبنية على ملاحظة حركة الحيوانات و طرق تزواجها و صراعها من أجل البقاء و ضمان نسلها . هذه النظرية سميت ب ( r/K selection theory ) أي نظرية “الإختيار بين النوع و الكم” في طريقة التناسل و الصراع من أجل البقاء و قد سميت بهذا الإسم من قبل العالمين (ربورت مكارثر) و (إدوارد أو ويلسون) وهما عالمان بيئيان درسا تفاعل الكائنات و قدرتها على البقاء في محيط معزول -كالجزر و الحضائر- لدراسة درجة اغتناء البيئة بالكائنات و أثر اغتنائها بدايةً على الكائنات المهاجرة إليها عندما تكون هذه البيئة معزولة عن البيئة الكبير “الأم” مهما كان شكل هذا الإنعزال الجغرافي .. إذ الإنعزال عن المحيط الكبير يقلل بالضرورة من العوامل المغنية للبيئة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى انقارض بعض الكائنات و بقاء بعضها الآخر .
البيئة المعزولة سواءً كانت جزراً حقيقية أو بيئات متميزة معزولة بشكل آخر كالواحات و رؤوس الجبال و الغابات الصغيرة المحدودة كلها تشكل ظروفاً قاسية تؤثر في طريقة تفاعل الكائنات و تميزها من حيث قدرتها على البقاء ، و هذا بالضبط ما تقصد الدراسة تسجيله وما نتج عن ذلك من ملاحظة إجتماعية تنطبق على البشر كما هي تنطبق على الكائنات الأخرى و يجد لها الإنسان صوراً يومية في الحياة السياسية و الإجتماعية .
عدد الكائنات في البيئة المعزولة (التي لم يتدخل الإنسان فيها) يمكن تحديدها بنقطتين : ١- معدل الهجرة . ٢- معدل الإنقراض . و كلٌ من هذين النقطتين يتأثران بعدة عوامل ، فحجم البيئة المعزولة و درجة بعدها يؤثران في معدل الهجرة و قدرة الكائنات المهاجرة على الوصول إليها ، أما معدل الإنقراض فيتأثر بدرجة غنا هذه البيئة (كبرها)، و مناسبتها للكائن و درجة انعزالها و مدة انعزال الكائنات فيها . و ليس يهمنا هذا الكلام كله ولكن ما يهمنا هي الطرق التي تتخذها الكائنات ( الحيوانات ) في هذه الظروف القاسية للحفاظ على نسلها ، وهي هذه الطرق التي يمكن استخدامها لمقارنة حالة المجتمعات البشرية و قدرتها على البقاء .
بعد البيئة المعزولة يؤثر في معدل الهجرة
حجم البيئة المعزولة يؤثر في معدل الهجرة
الحيوانات في طريقة تناسلها و الحفاظ على جنسها حسب هذه النظرية تنقسم إلى قسمين .. ١- قسم يسعى لإنجاب أكبر قدر ممكن في أقصر وقت ممكن دون بذل جهد كبير في الرعاية و التنشئة . ٢- و قسم آخر يتصف بالتحزب و العصبية للجماعة فينجب قليلاً و يرعى ذريته حتى يشتدوا وهو يحرص على تقوية إنتمائهم و دفعهم للمدافعة عن أقرانهم و ذراريهم .. غالباً ما يُستخدم الأرنب للدلالة على الجماعة الأولى و الذئب للدلالة على الجماعة الثانية و إن كان التقسيم يعم جميع الحيوانات ، فالحيوانات التي تَظهر القوة في خلقتها تميل لتحديد هويتها القبلية بمعزل عن القبائل الأخرى المنافسة لها و إن كانت من نفس الفصيلة الحيوانية وهي تتصارع معها على النفوذ و تحرص على الغلبة فيما تكون الحيوانات من القسم الأول ضعيفةً حريصةً على مجرد البقاء و إبقاء النسل فتتناسلُ بشكلٍ سريعٍ بحسب الموارد المتوفرة دون أن يظهر على أفرادها تحزبٌ وهويةٌ مستقلةٌ يتم التضحية لأجلها ، فالحمير و الغزلان على سبيل المثال لا يقوم فحولها بمدافعة الحيوانات المفترسة و لا يعرضون أنفسهم للخطر وقت الهجرة وهم يقودون القطيع تجاه المراعي الخصبة بل يتدافعون فيما بينهم كلٌ يطلب نجاته .. الصراع بين الذكور هنا لا يكون إلا للتزعم و الإبهار طلباً للتزاوج .
هذه النظرة لطريقة الإنجاب و الرعاية التي يتخذها كل قسم كوسيلة إستراتيجية لضمان النسل ليست حديثة ولكنها أُغفِلت في مقابل نظرية التطور التي تفسر تركيبَ الكائنات و طريقةَ نموها و تعاشرها تبعاً لتاريخ فصيلتها و أثرَ الإنتقاءِ الطبيعي عليها وعلى نسهلا وهي تصارع من أجل البقاء (Evolutionary Psychology)، و مع أن الإنتقاءَ الطبيعيَ و أثره ظاهر في سيكولوجية الكائنات من حولنا إلا أن طريقة التناسل و درجة الإستثمار في النسل و نوع التركيب الإجتماعي في القطيع لا يمكن إنكار تناسبه مع مقدار القوة التي يتمتع بها ذلك الفصيل ، و بالتالي فإن هذه النظرية لا تتكئ على سراب.
الصَدَفُ ينتج٥٠٠ مليون بيضة في السنة و بالتالي فهو من أكثر المخلوقات إعتماداً على معدل التوالد لبقائه ، في مقابل القرد الذي ينجب مولوداً واحداً في السنةِ ليكون من أكثر المخلوقات إعتماداً على نوعِ المواليدِ و كفاءتهم ، و بين ذلك و ذاك تتمايز الكائنات فالأسماك بالعموم تتكاثر بكثرة و سرعة إلا المفترس منها , و الثديات تتفاوت تبعاً لحجمها و البيئة التي تصلح لمعيشتها و غذائها .
الكائنات التي تقدم نوعية النسل على كميته
|
الكائنات التي تقدم كمية النسل على نوعيته
|
تعيش غالباً في مناخ ثابت و مستقر .. تميل للسيطرة على بيئتها ولا تتحمل التقلب الكبير في الطقس و الظروف المعيشية |
تعيش في الغالب في بيئة متقلبة المناخ و الظروف .. هذه البيئة تناسب هذه الإستراتيجية في البقاء . |
معدلات الوفاة تعتمد بشكل كبير على الكثافة السكانية إذ التهديدات الخارجية أقل خطراً عليها منها على نفسها |
معدلات الوفاة لا تعتمد غالباً على الكثافة السكانية بل تعتمد على الظروف الخارجية و الإعتداء الخارجي .. زوال المعتدي يؤدي لانفجار في تعدادها . |
تميل للتنافس و التمايز |
لا تميل للتنافس كثيراً و إظهار التعالي . |
تنتقي حسب نوع النسل و كفائته |
تنتقي حسب القدرة على الإنجاب و كميته .. |
معدلات الإنجاب قليلة ، و مدة الحمل طويلة ، و حجم الجسم كبير و متوسط العمر طويل . |
معدلات الإنجاب عالية ، و سرعة الإنجاب عالية ، و الأجسام صغيرة و متوسط الأعمار صغير. |
الكثافة السكانية تكون ثابتة عبر الزمن و غير متذبذبة عموماً ، متوافقة مع كمية الموارد في البيئة المحيطة . |
الكثافة السكانية غير ثابتة ، متذبذبة بشكل كبير وهي غالباً ما تكون دون كثافة القسم الثاني من الكائنات المفترسة المحيطة . |
لماذا الإهتمام بهذه الدراسة ؟ و ما الذي يمكن أن تدل عليه ؟
إنني على كثرة ما سمعت عن هذه النظرية و التحليلات السياسية التي بنيت عليها أرى بأنها تحوي من التفسيرات و الدلالات لكثير من الأسئلة ما يجعل طرحها و مناقشتها أمراً مهماً و مفيداً . تناسب القوة و أثرها على التركيبة الإجتماعية و الطريقة البيولوجية في التعاشر يجعل الكثير من المواقف الإجتماعية و السياسية مفهومة و يؤكد على محورية الكثير من التشريعات الإسلامية التي أُهملت أو بُررت و فُسّرت بشكل خاطئ تبعاً لموقف أخلاقي مسبق لدى الناس .
البشر بطبيعة الحال أكثر المخلوقات ميلاً نحو اليمين ( أي تقديم نوعية المولود و كفائته و الإستثمار فيه على مجرد العدد ) و هذا الميل البيولوجي الطبيعي يظهر بشكل أكبر على شكل صيغة ثقافية و عادات إجتماعية لدى المجتمعات الغالبة في مقابل المجتمعات الضعيفة ، فالمجتمعات المتغلبة تصرف قواها و طاقتها للتغلب على العدو الخارجي فيما تحرص على الحفاظ على الداخل من خلال نظام يقدم الكفائة و يحافظ على التراتبية بحسبها و يسخر الكثير من جهده و موارده لتنشئة نسله و تقويته ، فيما تعيش المجتمعات المستضعفة مغلوبةٌ على أمرها تحرص على مجرد البقاء و تتخذ التكاثر وسيلة له ولا تصرف من قواها الكثير تجاه من يعاديها بل تنصرف الكثير من هذه القوى للداخل لتصبح وسيلة للتمايز و التدافع من أجل البقاء في بيئة إجتماعية هشة تستشعر الفناء .. المجتمع الغالب واثق من نفسه ، ثابت في نظرته ، قادر على استقراء واقعه و استشراف مستقبله ، يكره التذبذب و لا يستطيع التعايش مع الفوضى ، فيما تكون البنية الإجتماعية و السياسية لدى المجتمعات المغلوبة بنية تكالبية تدافعية تتغذا على الفوضى و تجد في انهزامها وسيلة لتبرير وجودها و تركيبتها و عاداتها .
و مع أن الإستدلال بطبيعة الكائنات الحيوية للدلالة على التركيبة الإجتماعية و الثقافية لدى المجتمعات البشريه عليه ما عليه إلا أنها تحمل دلالة واضحة على مركزية العامل الحيوي (البيولوجي) في تقرير الأثر و البناء و ترد على متبني فكرة التربية في تقريرها للبناء الإجتماعي و السياسي ، و هذه النقطة مهمة و محورية وهي قادرة على توفير الكثير من الجهد و المال في حال وصلت لأصحاب القوة و المتنفذين حتى تبنى السياسات على ماهو واقعي و على السنن الكنوية لا التمني الذي لا يمكن أن يغير من الطبيعة البشرية و البيئة شيء .
هنا مجموعة من النقاط التي يجب التأكيد عليها تبعاً لهذا الكلام و تبعاً لما سبقه في مقالات سابقة :
- المجتمعات البشرية مجتمعات مصارعة و متصارعة بطبعها تكتسب قيمتها من قدرتها على فرض سيطرتها على محيطها و فرض احترامها ، و كلما تمكنت من تحقيق هذه الغاية سادت روح السيطرة فزادت كفاءة الأفراد و قدرتهم على إستشراف المستقبل “العلم” و الإنتظام في بناءٍ متين لتحقيق المصلحة العامة .
- الكفائة و النفع قرينة القيمة و القبول في المجتمعات البشرية (و بالأخص لدى الرجال) ، و الهوية الجماعية محورية أيضاً في المجتمعات البشرية فضعف الأفراد عن حماية هذه الهوية طاعن في قيمتهم و مستجلب لفنائهم ، و بالتالي فإن الجماعات التي لا يستطيع أفرادها الدفاع عنها تنهار أخلاقها و تضعف قدرتها على فرض النظام و إيجاد العلاقات الأسرية و الزوجية المستقرة في الكثير من الأحيان .
- القوة السياسية لا تأتي إلا بنظام ، و النظام لا يُضبط إلا بتراتبية ، و التراتبية الصحيحة لا تتم إلا بتقديم الأكفأ و الأقوى ، ولأن إستقرار التراتبية و النظام يتطلب رضاً عاماً عن شكله فإن هذا النظام يجب أن يسمح بالصراع الداخلي المحدود بين المتنافسين على القيادة فيما يُترك الضعافُ و العجزةُ تحت وصايةِ الأقوياءِ و رعايتهم ، و هذا كُلُهُ لا يؤدي لمنفعةٍ عامةٍ مالم يحترمِ الضعيفُ القويَ و يسلمُ له أمره و يلتزمُ القويُ تبعاً لذلك برعايته و رعاية ذريته .
- تنمو المجتمعات البشرية عدداً و اقتصاداً حتى تستنفد المواردَ الطبيعيةَ المتوفرة إذ ليس هناك من خطر على الإنسان أكثر من نفسه و لولا الندرة في الموارد لاستمر في التكاثر ، ولذلك فإن كمية الموارد و تنوعها و توزيعها له أثر كبير على البناء الإجتماعي و السياسي و القوة العسكرية لجماعةٍ من الجماعات في مقابل جماعةٍ أخرى .. و المجتمعات القوية التي تغلب جميع أقرانها و تخضع الطبيعة من حولها حد الأمان المطلق و الرفاهية المطلقة تصبح هويتها في خطر أكبر مع الوقت نظراً لأن رجالها ينشغلون بالتمايز فيما بينهم عن مواجهة العدو الخارجي .
ماهي الأمارة ؟
الأمارة في أصلها وصايةٌ و تراتبيةٌ نظاميةٌ مبنيةٌ على وعيٍ بتفاوت القدرات و الكفاءات وما يتبع ذلك من تفاوتٍ في الصلاحيات و المكانة ، و لأن التسليم بالتفاوت و الإنقياد و التنازل خصالٌ غير أصيلةٍ في الطبيعة البشرية فإن أي رسالةٍ تهدف لبناء نظامٍ سياسيٍ صالحٍ قويٍ و متامسكٍ يجب أن تتمكن من زرع الهيبة و الأمل في قلوب أفراد المجتمع مع قدرٍ كبيرٍ من الزهد و الرضا حتى يستطيع الناس أن يُعَبّدوا أنفسهم لعضهم البعض دون جهدٍ عسكريٍ كبير أو هدرٍ كثيرٍ للمال .
الإسلام يعي بأن عموم الناس لا ينقادون لما هو عقليٌ و منطقيٌ بل تقودهم غرائزهم و عواطفهم بالعموم ، يقول تعالى : ( و قالوا إنا وجدنا آبائنا على أمة و إنا على آثارهم مهتدون ) و يقول : ( و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) ذلك أن أكثر من في الأرض يتبعون غرائزهم و أهوائهم، و لأن هذه الغرائز غرائز أنانية طامعة لا تشبع فإن الأصل انحلال النسيج الإجتماعي و البناء السياسي مالم يكن هناك عامل خارجي مؤثر أو قوة ضابطة ، و أما العاطفة فإنها تتعلق بما ورثته المجتمعات من عقائد دون تحكيم عقلي عميق فتصبح الكثير من العادات الإجتماعية و الممارسات الثقافية متمحورة حول هذه العقائد و التي تكتسب الكثير من الرواسب عبر القرون تبعاً للمصلحة الإقتصادية و الإجتماعية التي يتطلبها الزمان .
الأمارة وصايةٌ يمنحها الإسلام لكفاءات المجتمع التي تتمكن من فرض هيبتها و تأكيد النظام الشرعي فيها لتصبح الهوية الإسلامية و الشريعة متمثلةً في خُلُقهم و هيأتهم ، و لأن هذه العقيدة تكتسب الكثير من قوامها و هيبتها من صور الرجال المهابين في خِلقَتِهم و خُلقِهِم و من تلك الصراعات الفردية و الجماعية التي تحول الصور الذهنية التي يختزلها القرآن إلى أجسامٍ و عاداتٍ مادية يتمكن العامي من ربط نفسه بها و التعصب لها و التعالي على غرائزه من خلالها ، فيكون للأمير دورٌ محوريٌ في تجسيد الدين و تكون لعادات الأمارة و نظمها دورٌ في رفع ذائقة العامة و تكون لشجاعة الأمير و استعداده لخوض الحروب دور في جمع الكلمة و رفع الهمة . و الأمير هنا لا يكون صاحب الدولة و الأمارة السياسية فحسب ، ولكنه رأس القبيلة و رأس العائلة كما هو رأس الأمارة و الوزارة . هذه الطريقة الهرمية في البناء السياسي تقلل تكلفة الحكم على الدولة و تعطي الكثير من التوكيل لرؤوس الجماعات في داخل الدولة كما هي توكل الرجل على بيته و تمتنع عن التدخل في تفاصيل القيادة والعلاقة فيما بين الناس .. هذا الشكل من الأنظمة يصنع عقلية الأمير لدى شريحة واسعة من الناس بسبب الصلاحيات التي يمتلكها أفرادها و القدرة التي يمتلكونها على التأثير و بناء الشخصية العامة ، هذه الشريحة يمكن تسميتها بالشريحة الأرستقراطية العامة إن صح التعبير أو غير ذلك و إن كانت الأرستقراطية قد صارت مرتبطة في الأذهان بالجماعة القريبة من الحاكم والتي تتعالي على المحكومين و تسعي في مصلحتها الذاتية و تستغل الموارد و اليد العاملة دون أن تضيف للمجتمع ما يشرع لها ذلك، وهذا و إن كان صحيحاً إلا أن توارث المرتبة الإجتماعية هذه هو الذي قعد بها عن القيام بدورها وهو دور الضبط و التحفيز ( فهي لا تظبط بالقوة أساساً ولكنها تمتلك المكانة الإجتماعية التي تصوغ من خلالها عادات المجتمع و أخلاقه ، فتكون فيها الهيبة التي تضبط الغرائز و العواطف و تحرك الناس نحو طلب السماء ) .. البناء الهرمي في الدولة الإسلامية بناء صحيح صالح يكتسب صلاحه من صلاح قلوب أفراده أكثر من صلاح النظام نفسه و عبقريته إذ أنه لا يوجد نظامٌ عبقري يحقق النتائج عندما تكون القلوب ميتة ، فالأنظمة مهما ملكت من نظم و ضوابط فإن عصبيات الناس و جهالتهم تقعد بتلك الأنظمة عن بلوغ غايتها فيما تنجح أنظمة أخرى لا تختلف كثيراً في البناء الهيكلي للدولة نظراً لكون أفرادها يملكون هويةً سياسيةً و عقيدةً واضحةً متجسدةً في خلق أمرائها و ههيئتهم و في شكل بنيانها و طبيعة بيئتهم حتى صارت الأخلاق العامة متجاوزة لخلق الأنانية و الجزع .
العقد الإجتماعي الذي يتنازل فيه عموم الناس عن قدرتهم القتالية و شيء من قرارهم السياسي لأجل ضمان مصالحهم و تجسيد هويتهم لا يكون بين عموم الناس و رأس الدولة فحسب ولكنه يكون بين الأمراء الصغار و من تحت إمرتهم أيضاً ثم من يعلوهم و من يعلوا هؤلاء حتى رأس الدولة ، التسليم هذا هو ما يزيد عدد الأمراء الذين يعرضون للمحاسبة و يملكون الكثير من الموارد حتى يمثلو الهوية العامة ، سواءً كانت هذه الهوية لأسرة صغيرة أو عائلة كبيرة أو منطقة في دولة أو الدولة ككل ، و هكذا فإن هذا الهرم الكبير الذي يتشكل من عدة أهرام داخله هو الذي يدفع الرجال للتخلق بخلق الأمير عوضاً عن خلق الفقير وهو ما يوجد الشعور بالمسؤولية تجاه البيئة الصغيرة المحيطة و القدرة على السيطرة مما يستحث الفكر و ينشط الهمم و يوجد لعموم الذكور فرصة يحصلون من خلالها على صفة الرجولة و أخلاقها .
الرجولة هوية مكتسبة تعطي الذكور قيمتهم المفقودة و هي تحقق المصلحة العامة للمجتمع من خلال سير العامة لتحقيق هذه الصفة ، كل الأفراد في المجتمع يتنقلون بين الحاجة للإستئمار بأمير يفرض النظام و الحاجة للتعالي علو الأمارة في النفوس حتى تنضبط الأخلاق ، و لأن الأمارة قوة تؤخذ ولا تعطى ولأن الرجولة صفة تستجلب ولا تمنح فإن التركيبة الإجتماعية للمجتمع يجب أن تعطي لكل ذكر الفرصة أن تتسامى نفسه ليستأمر فيضبط غيره و ينضبط ، و هذه الأمارة على تفاوتها تحقق الهدف في إيجاد وسيلة يجد الذكور من خلالها أنفسهم و يجد المجتمع من خلالها وسيلة تظهر فيها كفاءاته ، فهناك أمير بيته “رب البيت” ، و أمير عشيرته ، و أمير منطقته ، و أمير مؤسسته ، و أمير قطاعه “وزارته” ، و أخيراً أمير البلاد .. و هذه الأمارات تيسر من الوسائل ما تحافظ به على مقامات الجميع و تحقق مصالحهم و تضبط أفرادهم .