الاثنين، 30 نوفمبر 2015

الخلافة و طبقية المجتمعات



الخلافة و طبقية المجتمعات
عندما تتحرك الطبقات تظهر الصراعات 


تكلم الكثير من علماء الإجتماع عن ضعف الإنسان و اتكاله على غيره و أنه كائن إجتماعي بطبعه، ليس ابتداءً ببن خلدون ولا انتهاءً بعلماء الإجتماع الحديث ، فحاجة الناس إلى بعضهم البعض واضحة وضوح النهار إذ لا تتم صنعةٌ دون اجتماع الفعلة “اليد العاملة” ولا تُستصلح أرض و يُحصد زرعها إلا بتعاون الجماعة ، ولا تُحفظ المساكن و يُرفع بناؤها إلا بنظام محكم يَضبط الناس و يَضمن عدم التعدي . هذه السُخرة في الطبيعة البشرية و الحاجة إليها تجعل من البناء الإجتماعي بناءً معقداً تفاعلياً  درامياً تظهر هشاشته و آلامه ما تعاقبت جماعات حاكمة أو تظاهرت عصبيات فاعلة ، و على هذا فالبناء السياسي التراتبي الطبيعي للدول بناءٌ قامعٌ ضابطٌ بطبعه يتعارض مع غريزة الإنسان التي تأنف التبعية و تتجنب القيود و تحرص أبداً ما كانت على مصلحتها الفردية  ( رزقها و أمنها و نسلها و مكانتها ) ولا تنساق إلا عندما تكون الخيارات الأخرى أقل إرضاءً . 

إن هذه الطبقيةَ و هذا الضبطُ معرضٌ دائماً للإنهيار مع تقادم الزمن متى ما انتفت الظروف القامعة لانتفاض الناس ، فقرب العدو الخارجي و قلة موارد الرزق و صعوبة ضبط تقلبات الطبيعة يدفع الناس للإتنظام في اجتماع بشري كبير يضمن من المصالح أكثر مما يوقع من المضار ، و مع ما قيل بأن الإنسان إجتماعي بطبعه إلا أن أنسه بالناس لا يكفي لتحمل ظروف الإجتماع الكريهة و المجحفة عندما لا يكون هناك ما يُقنع ، و لذلك فإن الهجرات البشرية كانت ولا تزال ظاهرةً منذ فجر التاريخ ، ولولا غلبة حاجة الإنسان للرزق و الأمن و الإستقرار ما نشأت القرى و امتدت البلدان و انتشرت الأعراق و هذا كله ظاهر ..  يقول الله تعالى على لسان الملائكة رداً على المتعذرين بالإستضعاف : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها .. ) سورة النساء . 

إن الصراعات البشرية كلُها عبارةٌ عن صراعاتٍ دفاعيةٍ من أجل البقاء أو صراعاتٍ توسعيةٍ من أجل التعالي ولا يوجد استثناء لذلك ، فالمجتمعات التي تشهد جغرافيتَها انحساراً في الموارد و ازدياداً في عدد السكان تصبح المواجهة فيها مسألة وقتٍ لا أكثر ،  فيما تكون المواجهةُ في الحالة الثانية مدفوعةً بدافع التعالي و التكاثر ، وفي هذا يقول الله تعالى : ( إعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) ، و يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) ، و مع أن عموم المفسرين يفسرون الآية الأولى بحركة الزمان و مراحل عمر الإنسان  إلا أني أرى الآية أعمق من ذلك بكثير فهي تأتي في سياق التكاثر - في الأموال و الأولاد - و هذا التكاثر إن تم فإن أثره أعمقُ من أثر الفرد و حركةُ الزمان عليه أبطأ من حركته على الفرد و مواجهة الأمم للرسالة بدافع المكاثرة في المال و الولد أظهر من مواجهة الأفراد لها و لذلك فإن تتمةَ الآية تصويرٌ لحركة الزمان و أثرهها على الأمم بما تحويه من زينة و مفاخرة و مكاثرة ، فهذا كله يكون على أشده بادئ الأمر في شباب الدولة و عنفوانها ، حتى إذا ما استوى البنيان و أعجب عماله  ( أعجب الكفار نباته ) صار إلى هياجٍ و اصفرار ، إذ الإعجاب يقتضي الرضا و الراضي عن المجهود لا يسعى لاستكمال  مجهوده ، فإذا استُكمِل العمل سكن العامل  و متى ما سكن العامل صدئ المعمول و لا يعود بعد الصدء غير الحطام ، و في الآخرة عذاب شديد لكل من بنى بنياناً أساسه مفاخرةٌ و مكاثرةٌ و قهرٌ و استعباد .

هذا التفسير يتوافق مع الكثير من نصوص القرآن ومن يقرأ القرآن بوعي بحركة المجتمعات و طرق الصراع فإن الأدلة القرآنية و استدلالاتها تصبح أكثر اتساقاً و معنى في نظره و يصبح استشراف مقصود الشارع أكثر وضوحاً ، فالله تعالى عندما شرع الجهاد شرعه تبعاً لظروف سياسيةٍ و طلباً لتحقيق ظروف سياسيةٍ أخرى ، و كذلك هو عندما نظم العلاقات البشرية فإنه بنى هذه الأنظمة و التشريعات على أساس وعي بحركة الجماعات البشرية و تقلباتها و بالتالي فإن الأنظمة المشروعة كانت يجب أن تكون أنفع الأنظمة و أقواها ، لا ألينها و أحلاها ، و كما أن مقصود الشارع يمكن أن يوصل إلى شرعه فإن الأحكام الشرعية الواضحة يمكن الإستدلال بها لمعرفة مقصود الشارع  . 

يقول الله تعالى في سورة الأنعام : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك لسريع العقاب و إنه لغفور رحيم ) ، و يقول في سورة الزخرف : ( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا و رحمة ربك خير مما يجمعون ) ، فالله تعالى يقرر في هاتين الآيتين حقائق سياسية و اجتماعية ليبني عليها المجتمعُ المسلمُ نظرةً واقعيةً و قيميةً تمكنه من بناء دولةٍ عادلةٍ راسخة الأركان كما يحب الله و يرضا، فالحقيقة هي أن الله قد أوكل هذه الأرضَ و شؤونها إلى الإنسان يسخر مواردها كيف يشاء و يسوس مخلوقاتها كما يحب فيصير الإنسان خليفةً عليها وهو لخلافته هذه مسؤول و محاسب يوم القيامة ، و لم تقف الآية عند هذا التقرير بل أكدت حقيقة الطبقية في المجتمعات البشرية و سخرة الناس بعضهم لبعض وهو في  هذا التقرير في هذا السياق يفيد تمام الإبتلاء إذ ليس السائس كالمسوس و ليست تتجلى أعظم معاني الإيمان و الحكمة كما تتجلى في أمة تقارع الأمم من أجل تعظيم إله غائب عن الحس و إسقاط شريعتة الغيبيه على واقع رافض، و الأمة المسلمة المستسلمة لربها تستعبد نفسها بنفسها لخالقها طواعيةً وهي عنه محجوبةٌ و تخوض من المحن في سبيل إعلاء كلمته على سائر الكلام الشيء الكثير مما يميزها عن سائر الأمم و يجعل الجنة إرثاً لها على حسن انقيادها ، يقول تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله ) ، والله تعالى يعلم أن هذه البنى السياسية و الإقتصادية لا تستقر أبداً و أن الإنسان لطبعه الجزوع المنوع لا يُتم بناءً إلا ليهدمه ، ولا تسود فيه جماعة إلا لتخلفها أخرى حتى يَبتلي الله العباد بعضهم ببعض ( ولنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات و بشر الصابرين ) ، ( و لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين و نبلو أخباركم ) ، وهو سبحانه و تعالى يقسم الأرزاق و يسوق الظروف ليتم هذا الإبتلاء ( و ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين ) . 

و هذا الكلام في الحقيقة يفسر أحداث الصراع التي نشاهدها يومياً و يرد على معظم الأباطيل التي تلقى باتجاه الإسلام و المسلمين ، فهم كما يحاول الكفار أن يصوروهم متطرفون يسعون لإبادة الخليقة و القضاء على حريات الناس و فرض الدين عليهم بالإكراه ، فيما الحقيقة كانت ولا تزال صراعاً طبقياً ، تارةً طبقيةً عرقيةً ليس فيها من الدين شيءٌ و تارةً طبقيةً دينيةً تسود فيها كلمةٌ مقابل أخرى ، ولذلك فإن الصراع يظل دائماً صورةً من صور التعالي ، فلا الإسلام معني بالقضاء على بقية الأديان ولا بقية الأديان أشغلت نفسها بالقضاء المبرم على الأديان الأخرى ، فالصراع كله كان دائماً صراعاً حول من يعلوا صوته .. يقول النبي عليه الصلاة و السلام : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) ، و يقول الله تعالى على لسان المشركين : ( أآلهتنا خير أم هو ، ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ) ، ولكن سيادة الإسلام و ظهوره على بقية الأديان خير للبشر و لغير البشر ، فيقول : ( إن هذا القران يهدي للتي هي أقوم .. ) .

يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام مخاطباً قومه : ( قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) ، فشكل الصراع كما هو ظاهرٌ في الآية كان طبقياً ولا يزال يستخلفُ الله به جماعةً على أخرى لينظر كيف تعمل ، و حالة الصراع هذه لا تظهر إلا مع حركة الطبقات الإجتماعية في سعيها لتحقيق مكانة أفضل أو تثبيت مكانة تحققت ، و لذلك فإن حركة الناس اليومية في حقيقتها صراع ولكن هذا الصراع لا يأخذ شكلاً سياسياً واضحاً حتى تكون جل مصادر القوة قد تحولت من يد جماعة لأخرى ، و لهذا فإن الصدقة و الوقف من أشكال التنازل عن القوة التي يجزي الله عليها أجراً عظيماً و يحمي بها الأمم من الإنهيار والتقاتل فيقول : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني و أنتم الفقراء و إن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ففي هذه الآية ربط بين التولي عن أمر الله بالإنفاق في سبيل الله و بين تبدل الأحوال و سيادة الأمم الأخرى الأكثر رحمةً و عدلاً ، و في آيةٍ أخرى يقول : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .. ) و في هذه الآية أيضاً دلالةٌ واضحةٌ على سنةٍ كونيةٍ تناقض المنطق الرأسمالي الذي يرى بعموم المنفعة عند تحرر الأسواق دون التأكيد على أهمية الشعور بالمسؤولية الإجتماعية والعمل الخيري ، فهذه الآية تقرر أن فرص الرزق لدى البشر غير متكافئة و أن الله قد أوكل “إستخلف” حال الضعفاء في هذه الأرض إلى الأقوياء الأغنياء وهو سائلهم عما قدموه من مال و معونه لهم ، وكذلك هي الآيات في الإنفاق كثيرة لكن من أهم الدلالات على صدق هذا الإستنباط ورود آيات الربا و تحريمها بعد ١٣ آية تكلمت عن الإنفاق و الصدقة - منها آية مثل الله بها المنفق في سبيله بالجنة التي إن أصابها وابل آتت أكلها ضعفين إذ هي قد انتفعت و نفعت غيرها وإلم يصبها وابل فقد أصابها طلٌ خفيف فظلت جنةً جميلة - مما يؤكد ارتباط الربا باظطراب حركة المال الطبيعية  و انحسارها عن العاملة لتتكدس بيد الأغنياء من المجتمع . 

يقول الله تعالى في آية أخرى : ( ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ) ، و هذه الآية من الآيات التي تؤكد الحكمة الإلهية في تقدير الصراع و التنازع بين البشر إذ التعظيم للخالق لا يتجلى بأبهى صوره إلا وسط المحن ، و الأعمال بالعادة لا تكتسب قيمةً تذكر متى ما كان العامل مكرهاً على القيام بها ، أما المختار فهو شخص مهاجر إلى محبوبه طالباً قربه و مستذل النفس له طالباً مرضاته بكل ما يملك وهذا هو قصد الإبتلاء و مراد الخلقة البشرية و الإستخلاف ، يقول الله تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) ، و يقول : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم مافي قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحاً قريبا ) ، و يقول : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ) . 

و في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدنيا حلوة خضرة و إن الله مستخلفكم عليها لينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) رواه مسلم . و ليس غريباً أن يؤكد النبي عليه الصلاة و السلام على النساء و يخصصهم بالتحذير بعد أن عمم ذكر الدنيا ، فالأنثى بخلقتها غالية وهي أكثرُ ما يعجبُ الرجلَ و أكثرُ ما يطلبهُ ، وهي و إن كان العقل الواعي للرجل العاقل غيرَ مدركٍ لأسباب الإفتتان إلا أن تعامله معها و تعامل المجتمع معها كان ولا يزال كتعامله مع الذهب الذي يحوي قيمته في ذاته دون أن يكون مطلوباً لإنتاج ما ، و كذلك فإن المرأة تتصرف على هذا الأساس دون وعي و كأنها مادة تستشعر قيمتها مما يصرف عليها و يبذل لها و تتوقع من الناس الحب و الإحترام دون أن تشعر هي أو يشعر المجتمع بأن عليها أن تقدم نظير هذا الحب و الإحترام ما يبرره ، و إن كان هذا كله لا يكفي فإن الأنثى كذلك لا تحب الذكور و لا تفتتن بهم أبداً إذ أن ضعفها و هشاشة خلقتها الجسدية و النفسية لا يوائمها إلا القوة التي هي مجموعة من الصفات النفسية و العقلية و المادية التي يمكن اختزالها كلها في كلمة واحدة (( الرجولة )) ، و لأن الرجولة في أصلها هلكة جسدية و مادية يكتسب صاحبها قيمة إجتماعية و مادية من مجموع الخصال و الممتلكات التي تكون قد تحققت له بعد تعرضه لها فإنه لا يُستغرب أن تميل معظم النساء إلى فئة قليلة من الرجال ، ولا يُستغرب أن يزيد هذا الميل كلما زاد الإختلاط و كثر المال إذ الرجال المتميزون برجولتهم وقوتهم قلة بين الذكور في هذه الظروف و العكس صحيح عندما يمنع الإختلاط و يُساعد الذكور على الإغتناء ليكتسبوا رجولتهم و عندما تقوم الحروب و تكون ظروف الحياة أشد تكون قيمة الذكور أكبر إذ يسهل في هذه الظروف اكتساب خصال الرجولة و إشعار النساء بحاجتهم للرجال ، و هذا كله يؤكد نقطةً واحدةً وهي أن النساء يكونون كالذهب تماماً في أثرهم و تأثرهم في مجتمعاتهم فيُستخدمون كوسيلةٍ للتعالي و القهر في المجتمعات المترفة ، واتقاء النساء و حجب مظاهر التعالي بهن و تجنب قهر الرجال بهن يقي من التحاسد و الأثرة التي تهلك بالأمم . 

ختاماً يقول الله تعالى : ( و إذ قالت الملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ) .. أي إني أعلم ما سيكون منهم من تعظيم و تضحية و صبر تجعلهم في مقام عالٍ عندي يعلوا غيرهم من المخلوقات .   

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

عن روح الحضارة



عن روح الحضارة 
( يعجز معظم من الناس عن تمييز أثر الروح الإجتماعية و السياسية عند العامة عن أثر السياسة الحكيمة للحكومات ) 


كنت أنوي كتابة هذا المقال منذ مدة نظراً للمغالطات الكثيرة التي أسمعها في شرح سبب تقدم الحضارات و الدول و سبب تراجعها و لكني تكاسلت عن الكتابة و لم أجتهد في تحديد نقاط الفكرة و توضيح صورها و لكني الآن بعد قراءة كتاب ( التحلل العظيم ) لنيل فرغسون أجد أن ما طرحه مفيدٌ عموماً كمعلومات و يفيد بشكل أكبر كوسيلة في قيادة الكتابة لتحديد نقاط الكلام و هذا بالضبط ما أنوي فعله .

الكتاب يدور في مجمله حول محورين اثنين .. المحور الأول محور تاريخي يتكلم فيه الكاتب عن أهم التطبيقات التي أدت لسيادة الغرب على بقية العالم و كيف أن تبني بقية العالم لهذه التطبيقات يقود بالتدريج لتعديل موازين القوة و حلحلة السيطرة الغربية المطلقة على العالم و أنه بالتالي إذا ما أراد الغرب المحافظة على شيء من مكانته فإن عليه أن يحافظ على هذه التطبيقات ، أما المحور الثاني فهو محور يتكلم عن معالم إنهيار البناء المؤسسي الغربي الذي كان يدل يوماً ما على انسياسبية المجتمعات الغربية و إبداعها و حريتها وهو ما بدأ يتآكل في العقود الأخيره بحسب الكاتب وهذا برأيه السبب الأساس لتراجع المجتمعات الغربية و تضعضعها .

( المحور الأول ) التطبيقات الأساسية التي أدت لسيادة الغرب كما هو مذكور في الكتاب :
١- التنافسية . 
٢- الثورة العلمية . 
٣- حقوق الملكية . 
٤- التطور الطبي . 
٥- المجتمع الإستهلاكي . 
٦- أخلاقيات العمل . 

و أما ( المحور الثاني ) فهو يتكلم عن معالم إنهيار البناء المؤسسي في الغرب بناءً على ملاحظات الكاتب : 
١- إنهيار العقد الإجتماعي بين الأجيال . 
٢- زيادة تعقيد الأنظمة . 
٣- سيادة المحامين لا سيادة القانون . 
٤- تراجع المجتمع المدني . 


إن مجموعة النقاط التي أغفلها الكاتب هي نفسها النقاط التي كنت أنوي التكلم عنها و كذلك الملاحظات التي ذكرها تعد من الدلائل المؤشرة على صحة الإستنباطات التي ذكرتها سابقاً كقوانين حاكمة لحركة المجتمعات و التاريخ .. لذلك فإن ربط النقاط السابقة بما ذكر من ملاحظات يساعد على إحياء هذه النقاط و توضيحها . 

الكتاب كما ذكرت في مجمله تأكيد على هذه النقاط الست التي رفعت الحضارت الغربية حتى صارت في موضع القيادة و مع أنه لا يشرح سبب تملك الغرب وحده لهذه التطبيقات مجتمعةً إلا أنه يؤكد على قدرة المجتمعات الأخرى على تبنيها و الإستفادة منها و أن هذا ما يتم بالفعل في الوقت الحاضر وهو ما سيؤدي لتراجع النفوذ الغربي في نهاية المطاف ، ولكن ما يثير حفيظة الكاتب هي مجموعة من الأمور التي لاحظها على النسيج الإجتماعي في شكله المؤسسي وهو يتآكل مخلخلاً الحركة السياسية و الإقتصادية الحرة و مرسخاً لمزيدٍ من التنظيم و البيروقراطية التي لا يبدو أن الكاتب يدرك أسبابها بل يعزوا التراجع في الحركة الإقتصادية و النفوذ السياسي لها أكثر من كونها وسيلة دفاعية لمشكلات أعمق يبدو أن الكاتب يجهلها أو يتجاهلها . 

من خلال هذا الكتاب و غيره من الكتب يظهر جلياً أن الغرب بالعموم يجهل سبب تقدمه الحقيقي أو يتجاهله وهو في طرحه يدور حول جوهر الموضوع لكنه لا يصيبه و كل ما يفعله هو الحديث عن وسائل التيسير و ضمانات الحرية و قيمتها و عن أثر تشكلها في الأذهان من عمل مؤسسي و حقوقي و مسؤولية إجتماعية و فردية و كل هذا ببساطة لا يمكن نسبته للعمل المؤسسي إذ العمل المؤسسي نفسه عرض لا سبب و الحقيقة التي ستظل ثابته أن المجتمع الذي لا يضحي لا يبني ولا يتعلم التراتبية و النظام و أن الطمع و الجزع اللتان تقترنان بالكفر تفسدان كل بناء . 

  • التطبيقات التي ذكرها الكاتب في موضوع السيادة و التقدم تتراوح بين أسباب مؤدية للتقدم و أعراض ناتجه عن هذه الأسباب زادت من التقدم و منحت المزيد من القوة . حق التملك و حرية المنافسة و أخلاقيات العمل سبقت في تكوينها و صعوبتها نتائج هذه النقاط وهي النهضة الصناعية و التطور الطبي و ثقافة الإستهلاك ، ولولا ترسخ العصبيات و توازن القوة في القارة الأوروبية لما كان بالإمكان ترسيخ مبدأ التنافسية الإقتصادية التي لا تأتي إلا تبعاً للتنافسية السياسية التي تقتل العصبيات الداخلية و تحولها للخارج فتخلق وعياً جماعياً بالمسؤولية و الإقتدار تتمحور حوله العقيدة و القانون و السوق و هذا بالضبط ما تم في القارة الأوروبية . 
  •   من الطبيعي و المنطقي إستيراد منتجات الحضارة قبل استيراد قواعدها نظراً لأن منتجات الحضارة تغير موازين القوة على المدى القصير وهي سهلة الإستيراد إذ هي لا تلزم القيادة بمواجهة مسلمات المجتمع الثقافية و السياسية و العقدية ، ولكن استيراد هذه المنتجات يغير البيئة الداخلية في المجتمع و يغير درجة الإنكشاف الذي بدوره يؤدي لتغير الوعي و تغير الثقافة فتصير القواعد التاريخية مهلهلة بالتدريج و مع الزمن يصبح تغييرها و إصلاحها ضرورة ملحة هي الأخرى . 
  • القواعد لا يمكن تأكيد بنيانها طالما أن الفرصة لم تتح للبناء ، فالبناء الكبير الناجح هو وحده ما يؤكد صحة هذه القواعد و يرسخها في نفوس الناس ولولا أن الأوروبيين وجدوا وسيلة للخروج من سجن القارة الأوروبية الصغيرة و وجدوا موارداً للإستهلاك و النمو لما صار المستقبل أكثر جمالاً في ذهن العامة ولما تحركت الجموع في شكل جديد لهدف جديد عوضاً عن المواجهة الداخلية . الوفرة الجديدة في الموارد مع صعوبة العائق و كثرة المنافسة و علو الهدف توجد ثقافة عملية طامحة مبادرة تصادر من الحاكم اندفاعه و توفر عليه و على الحكومة مطالب الرعاية و تنجح دائماً في صياغة واقعٍ جديدٍ أكثر إبداعاً و غناً من قدرة الحاكم نفسه على التصور . 
  • تصور لو أن القارتين الأمريكيتين ما وجدت، و تصور لو أن الطاقة الرخيصة ( الوقود الأحفوري ) ما وجدت أيضاً كيف كان بالإمكان لسكان المجتمعات الغربية أن يخوضوا في تفاصيل بناء الحضارة الغربية وهم أساساً لا يملكون كفايتهم من المادة و لا يملكون ضمان أمنهم ناهيك عن توفير المواد اللازمة و الرقة الجغرافية الزائدة التي تدعم النمو في عدد السكان و تطوير الصناعة و استجادتة البناء و تحقيق السيطرة المنقطعة على باقي المجتمعات .. إن تجاهل هذين العاملين في بروز الغرب يعد خطأً فادحا و إن كانا تطبيقين لا يمكن استيرادهما و تطبيقهما على بقية المجتمعات إلا أن لهما من الأهمية ما يبرر تغير موازين القوة . 





  • العمل المؤسسي معلم واضح يدل على تميز المجتمعات من حيث النمو الحضاري و القوة الحضارية و ما ذكره الكاتب من حيث تراجع العمل المؤسسي و التطوعي يدل على حقيقة واحدة مغفلة تتحدث من وراء هذه النقاط وهي أن الميل للعمل المؤسسي و التطوعي الشفاف ميل أخلاقي ثقافي يدل على درجة الإندماج الحاصل بين أفراد المجتمع و توحد العصبية فيه و توافق الأهداف الإستراتيجية و قوة العاطفة الكامنة في عموم الناس لتحقيق هذه الأهداف ، إذ أن أي نقطة من هذه النقاط لا يمكن تفسيرها بوجود أيد خفية تتآمر على بناء المجتمع بل تدل على أن المجتمع نفسه يتحلل ثقافياً و عقدياً و عاطفياً ولا تعمل الإجراءات القانونية إلا كوسيلة للحماية من آثار هذا التحلل ولا يستأسد المحامون و يكثرون إلا دلالةً على بروز المصلحة الفردية و الإستعداد لاستغلال الثغرات القانونية لتحقيق مكاسب مادية على حساب المجموع ولا تزداد الإستدانة و يقل العمل التطوعي و يقل الإنجاب إلا دلالةً على تراجع الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع في حاضره و مستقبله عندما يظطر أبناءه و أحفاده لسداد ديون أجداده .
  • إن أكثر الوصفات التي يعطيها الإقتصاديون و السياسيون للتقدم الإقتصادي هي وصفات تقنية سياسية تتعامل مع حركة الناس ولا تحركهم فهي في كثير من الأحيان تجهل أو تتجاهل أسباب تحركهم المنسجم تارة و التصادم تارة أخرى ولذلك فإن كثيراً من الوصفات لا تحقق النتائج المرجوه إذ هي تغفل المشكلة الحقيقية الكامنة في المجتمع ، فالمجتمعات لا تبنى على الحرية و ادعاء ذلك جهالة لأن ذلك إن صح فإن أكثر المجتمعات فوضوية هي أكثرها حرية و تقدماً !! و نظراً لأن ذلك لا يصح فإن الحرية لا يمكن أن تكون سبباً ، ولو أننا استعظنا عن هذه الكلمة بعبارة ( سيادة القانون ) لكانت الثانية أكثر منطقية لكنها هي أيضاً عاجزة عن تبرير سيادة القانون معنوياً و مادياً على مجتمع من المجتمعات و عجزه عن آخر و تقدم معدلات الفساد التي هي ببساطة "تحايل على القانون و تعديه" في مجتمع من المجتمعات و تراجعه في آخر ولوصلنا في نهاية المطاف لاستنتاج أنا القرارات السياسية لا تبني إلا بشكل محدود و دورها الفاعل لا  يظهر إلا بقدر كفاءتها في إدارة الموارد التي تملكها لا أكثر    و من ثم فإن قلوب الناس و عواطفهم و أحلامهم و عصبياتهم و ثقافتهم هي العمود الفقري الذي يبنى عليه كل شيء . 
  • الرجال الأقوياء في المجتمع ثلاثة ( رجل السياسة "قائد الجيش" ، و رجل المال ، و رجل الدين ) .. المجتمعات الغربية شهدت في العقود الأخيرة تراجعاً في التدين بشكل كبير نظراً لقلة المعقول من الدين و جهالة رجاله و فشله في إقناع العامة بأهدافه الإستراتيجية ، و لذلك فإن رجل الدين صار ضعيفاً في الغرب و ضعفه يدل على قلة الإندفاع و الحركة في المجتمعات الغربية و ميلها للسكون و اقتصارها في حركتها السياسية على المقايضة لتحقيق المصالح المادية دون أهداف إستراتيجية بعيدة المدى ( و هذا ظاهر في المحاضرات المذاعة و الأفلام و الروايات أيضاً ) ، أما رجل المال فهو يفقد قوته يوماً بعد يوم بازدياد تطفل الحكومة على ممتلكاته و مصادرته لها و التشكيك في حركته و تقييد حريته و هذا بالتالي يقودنا إلى الحلقة الأقوى وهو رجل السياسة الذي صارت قوته في ازدياد مع ازدياد اتكال العامة على الحكومة و حركتها و قلة الدافع الداخلي عند العموم للعمل للمصلحة العامة التي لا يبدو أن أحداً يتفق على شكلها .. مالا يدركه الكثير بأن تراجع نفوذ رجل السياسة و اقتصار صلاحياته على الإدارة و الحماية يدل على صحة البناء الإجتماعي الكامن في المجتمع إذ أن المجتمع الذي يقل فيه التعدي تقل فيه الحاجة لاستخدام القوة مما يقلل من شرعية الحكومة الكبيرة المتنفذة فتصير المطالبة بإضعاف القوة المركزية أمراً مشروعاً و وسيلة لتحقيق المزيد من النمو الإقتصاديو تيسيره ، أما رجل المال فهو الرجل الواقعي الذي يسعى في مصلحته هو و سعيه هذا إن كان بكفاءة و مسؤولية فإن المؤسسات الإقتصادية الكبرى تقوم حوله و نموها بعد ذلك داعم لنمو المجتمع ككل إذ هي تعيد الفائض للناس في شكل خدمات و صناعات و أموال و علم ينتفع به ولا تبخل بذلك إلا عندما يتوقف رجل المال عن التأثر برجل الدين فرجل الدين هو العقل الأخلاقي و القيمي و صاحب النظرة الإستراتيجية التي تلامس قلوب العامة و تحركها و تنظمها دون إكراه بل تستحثها و تنمي فيها الخيال و تعلمها معاني التضحية و التنكر للذات وهي بقدر نجاحها في تحقيق ذلك الهدف تنجح في تحريك رجال المال ليعيدوا للمجتمع شيئاً مما أخذوا و لتؤدي هذه الحركة في نهاية المطاف لمصادرة الكثير من القوة السياسية من يد الحاكم و رجل الأمن .
  • إنا مهما درسنا فإنا نعود دائماً إلى نقطة البداية وهي أن أصل البناء الحضاري الإنسان ، عقيدته و مبادئه و عصبيته و أن هذه الأمور عندما تتغير فإن أكفأ السياسيين و العلماء و التجار لا يستطيعون أن يبنوا من موتى القلوب حضارة .. يقول الله تعالى : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) و يقول : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض .. ) و يقول : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) 
  • إن مؤسسات الدولة الديموقراطية تعمل على حماية الضعيف من تعدي القوي و تسعى لجعل عمل الدولة بإداراتها أكثر شفافية و عرضة للمساءلة لكنها على كفاءتها لا تحمي من الإنحلال و الفوضى و الحكم الفردي لأن القانون عندما يصبح مجرد حبر على ورق و القيم عندما تفقد قداستها و قدرتها على تحريك الناس فإن الإنضباط الذاتي يضعف و معه يصبح الناس أكثر اتكالاً على الحكومة لحمايتهم فتصبح الدولة أكثر مركزية و الناس أكثر قبولاً لمصادرة حرياتهم في سبيل ضمان أمنهم حتى تعود الدولة جمهوريةً شوهاء تحكمها جماعة متنفذة عسكرية تدعي العلم بالأصلح و تشرع استخدام القوة للمصلحة العامة ، يقول تعالى : ( و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) . 
  • إن صلاح الإنسان عماد يدعمه صلاح القانون الحاكم ، و شعور المحكوم بقداسة القانون لا قداسة منفذية و مراقبية تضمن صلاح النظام ككل إذ هي تنزع من البشر حق التشريع و تؤكد على أن الحكم في القضايا يوكل للأعلم و الأصلح فلا يعود هناك مجال للتلاعب بالنظام السياسي إلا من خلال السيطرة على القوة التنفيذية التي لا تستطيع مصادرة روح الأمة و وعيها فتكون الشريعة الإسلامية في نهاية المطاف هي الوسيلة الأصلح و الأقدر على حماية الهويات و ضمان القوة و الثبات و تحقيق التنظيم و العدل .