الخلافة و طبقية المجتمعات
عندما تتحرك الطبقات تظهر الصراعات
تكلم الكثير من علماء الإجتماع عن ضعف الإنسان و اتكاله على غيره و أنه كائن إجتماعي بطبعه، ليس ابتداءً ببن خلدون ولا انتهاءً بعلماء الإجتماع الحديث ، فحاجة الناس إلى بعضهم البعض واضحة وضوح النهار إذ لا تتم صنعةٌ دون اجتماع الفعلة “اليد العاملة” ولا تُستصلح أرض و يُحصد زرعها إلا بتعاون الجماعة ، ولا تُحفظ المساكن و يُرفع بناؤها إلا بنظام محكم يَضبط الناس و يَضمن عدم التعدي . هذه السُخرة في الطبيعة البشرية و الحاجة إليها تجعل من البناء الإجتماعي بناءً معقداً تفاعلياً درامياً تظهر هشاشته و آلامه ما تعاقبت جماعات حاكمة أو تظاهرت عصبيات فاعلة ، و على هذا فالبناء السياسي التراتبي الطبيعي للدول بناءٌ قامعٌ ضابطٌ بطبعه يتعارض مع غريزة الإنسان التي تأنف التبعية و تتجنب القيود و تحرص أبداً ما كانت على مصلحتها الفردية ( رزقها و أمنها و نسلها و مكانتها ) ولا تنساق إلا عندما تكون الخيارات الأخرى أقل إرضاءً .
إن هذه الطبقيةَ و هذا الضبطُ معرضٌ دائماً للإنهيار مع تقادم الزمن متى ما انتفت الظروف القامعة لانتفاض الناس ، فقرب العدو الخارجي و قلة موارد الرزق و صعوبة ضبط تقلبات الطبيعة يدفع الناس للإتنظام في اجتماع بشري كبير يضمن من المصالح أكثر مما يوقع من المضار ، و مع ما قيل بأن الإنسان إجتماعي بطبعه إلا أن أنسه بالناس لا يكفي لتحمل ظروف الإجتماع الكريهة و المجحفة عندما لا يكون هناك ما يُقنع ، و لذلك فإن الهجرات البشرية كانت ولا تزال ظاهرةً منذ فجر التاريخ ، ولولا غلبة حاجة الإنسان للرزق و الأمن و الإستقرار ما نشأت القرى و امتدت البلدان و انتشرت الأعراق و هذا كله ظاهر .. يقول الله تعالى على لسان الملائكة رداً على المتعذرين بالإستضعاف : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها .. ) سورة النساء .
إن الصراعات البشرية كلُها عبارةٌ عن صراعاتٍ دفاعيةٍ من أجل البقاء أو صراعاتٍ توسعيةٍ من أجل التعالي ولا يوجد استثناء لذلك ، فالمجتمعات التي تشهد جغرافيتَها انحساراً في الموارد و ازدياداً في عدد السكان تصبح المواجهة فيها مسألة وقتٍ لا أكثر ، فيما تكون المواجهةُ في الحالة الثانية مدفوعةً بدافع التعالي و التكاثر ، وفي هذا يقول الله تعالى : ( إعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) ، و يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) ، و مع أن عموم المفسرين يفسرون الآية الأولى بحركة الزمان و مراحل عمر الإنسان إلا أني أرى الآية أعمق من ذلك بكثير فهي تأتي في سياق التكاثر - في الأموال و الأولاد - و هذا التكاثر إن تم فإن أثره أعمقُ من أثر الفرد و حركةُ الزمان عليه أبطأ من حركته على الفرد و مواجهة الأمم للرسالة بدافع المكاثرة في المال و الولد أظهر من مواجهة الأفراد لها و لذلك فإن تتمةَ الآية تصويرٌ لحركة الزمان و أثرهها على الأمم بما تحويه من زينة و مفاخرة و مكاثرة ، فهذا كله يكون على أشده بادئ الأمر في شباب الدولة و عنفوانها ، حتى إذا ما استوى البنيان و أعجب عماله ( أعجب الكفار نباته ) صار إلى هياجٍ و اصفرار ، إذ الإعجاب يقتضي الرضا و الراضي عن المجهود لا يسعى لاستكمال مجهوده ، فإذا استُكمِل العمل سكن العامل و متى ما سكن العامل صدئ المعمول و لا يعود بعد الصدء غير الحطام ، و في الآخرة عذاب شديد لكل من بنى بنياناً أساسه مفاخرةٌ و مكاثرةٌ و قهرٌ و استعباد .
هذا التفسير يتوافق مع الكثير من نصوص القرآن ومن يقرأ القرآن بوعي بحركة المجتمعات و طرق الصراع فإن الأدلة القرآنية و استدلالاتها تصبح أكثر اتساقاً و معنى في نظره و يصبح استشراف مقصود الشارع أكثر وضوحاً ، فالله تعالى عندما شرع الجهاد شرعه تبعاً لظروف سياسيةٍ و طلباً لتحقيق ظروف سياسيةٍ أخرى ، و كذلك هو عندما نظم العلاقات البشرية فإنه بنى هذه الأنظمة و التشريعات على أساس وعي بحركة الجماعات البشرية و تقلباتها و بالتالي فإن الأنظمة المشروعة كانت يجب أن تكون أنفع الأنظمة و أقواها ، لا ألينها و أحلاها ، و كما أن مقصود الشارع يمكن أن يوصل إلى شرعه فإن الأحكام الشرعية الواضحة يمكن الإستدلال بها لمعرفة مقصود الشارع .
يقول الله تعالى في سورة الأنعام : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك لسريع العقاب و إنه لغفور رحيم ) ، و يقول في سورة الزخرف : ( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا و رحمة ربك خير مما يجمعون ) ، فالله تعالى يقرر في هاتين الآيتين حقائق سياسية و اجتماعية ليبني عليها المجتمعُ المسلمُ نظرةً واقعيةً و قيميةً تمكنه من بناء دولةٍ عادلةٍ راسخة الأركان كما يحب الله و يرضا، فالحقيقة هي أن الله قد أوكل هذه الأرضَ و شؤونها إلى الإنسان يسخر مواردها كيف يشاء و يسوس مخلوقاتها كما يحب فيصير الإنسان خليفةً عليها وهو لخلافته هذه مسؤول و محاسب يوم القيامة ، و لم تقف الآية عند هذا التقرير بل أكدت حقيقة الطبقية في المجتمعات البشرية و سخرة الناس بعضهم لبعض وهو في هذا التقرير في هذا السياق يفيد تمام الإبتلاء إذ ليس السائس كالمسوس و ليست تتجلى أعظم معاني الإيمان و الحكمة كما تتجلى في أمة تقارع الأمم من أجل تعظيم إله غائب عن الحس و إسقاط شريعتة الغيبيه على واقع رافض، و الأمة المسلمة المستسلمة لربها تستعبد نفسها بنفسها لخالقها طواعيةً وهي عنه محجوبةٌ و تخوض من المحن في سبيل إعلاء كلمته على سائر الكلام الشيء الكثير مما يميزها عن سائر الأمم و يجعل الجنة إرثاً لها على حسن انقيادها ، يقول تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله ) ، والله تعالى يعلم أن هذه البنى السياسية و الإقتصادية لا تستقر أبداً و أن الإنسان لطبعه الجزوع المنوع لا يُتم بناءً إلا ليهدمه ، ولا تسود فيه جماعة إلا لتخلفها أخرى حتى يَبتلي الله العباد بعضهم ببعض ( ولنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات و بشر الصابرين ) ، ( و لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين و نبلو أخباركم ) ، وهو سبحانه و تعالى يقسم الأرزاق و يسوق الظروف ليتم هذا الإبتلاء ( و ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين ) .
و هذا الكلام في الحقيقة يفسر أحداث الصراع التي نشاهدها يومياً و يرد على معظم الأباطيل التي تلقى باتجاه الإسلام و المسلمين ، فهم كما يحاول الكفار أن يصوروهم متطرفون يسعون لإبادة الخليقة و القضاء على حريات الناس و فرض الدين عليهم بالإكراه ، فيما الحقيقة كانت ولا تزال صراعاً طبقياً ، تارةً طبقيةً عرقيةً ليس فيها من الدين شيءٌ و تارةً طبقيةً دينيةً تسود فيها كلمةٌ مقابل أخرى ، ولذلك فإن الصراع يظل دائماً صورةً من صور التعالي ، فلا الإسلام معني بالقضاء على بقية الأديان ولا بقية الأديان أشغلت نفسها بالقضاء المبرم على الأديان الأخرى ، فالصراع كله كان دائماً صراعاً حول من يعلوا صوته .. يقول النبي عليه الصلاة و السلام : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) ، و يقول الله تعالى على لسان المشركين : ( أآلهتنا خير أم هو ، ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ) ، ولكن سيادة الإسلام و ظهوره على بقية الأديان خير للبشر و لغير البشر ، فيقول : ( إن هذا القران يهدي للتي هي أقوم .. ) .
يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام مخاطباً قومه : ( قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) ، فشكل الصراع كما هو ظاهرٌ في الآية كان طبقياً ولا يزال يستخلفُ الله به جماعةً على أخرى لينظر كيف تعمل ، و حالة الصراع هذه لا تظهر إلا مع حركة الطبقات الإجتماعية في سعيها لتحقيق مكانة أفضل أو تثبيت مكانة تحققت ، و لذلك فإن حركة الناس اليومية في حقيقتها صراع ولكن هذا الصراع لا يأخذ شكلاً سياسياً واضحاً حتى تكون جل مصادر القوة قد تحولت من يد جماعة لأخرى ، و لهذا فإن الصدقة و الوقف من أشكال التنازل عن القوة التي يجزي الله عليها أجراً عظيماً و يحمي بها الأمم من الإنهيار والتقاتل فيقول : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني و أنتم الفقراء و إن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ففي هذه الآية ربط بين التولي عن أمر الله بالإنفاق في سبيل الله و بين تبدل الأحوال و سيادة الأمم الأخرى الأكثر رحمةً و عدلاً ، و في آيةٍ أخرى يقول : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .. ) و في هذه الآية أيضاً دلالةٌ واضحةٌ على سنةٍ كونيةٍ تناقض المنطق الرأسمالي الذي يرى بعموم المنفعة عند تحرر الأسواق دون التأكيد على أهمية الشعور بالمسؤولية الإجتماعية والعمل الخيري ، فهذه الآية تقرر أن فرص الرزق لدى البشر غير متكافئة و أن الله قد أوكل “إستخلف” حال الضعفاء في هذه الأرض إلى الأقوياء الأغنياء وهو سائلهم عما قدموه من مال و معونه لهم ، وكذلك هي الآيات في الإنفاق كثيرة لكن من أهم الدلالات على صدق هذا الإستنباط ورود آيات الربا و تحريمها بعد ١٣ آية تكلمت عن الإنفاق و الصدقة - منها آية مثل الله بها المنفق في سبيله بالجنة التي إن أصابها وابل آتت أكلها ضعفين إذ هي قد انتفعت و نفعت غيرها وإلم يصبها وابل فقد أصابها طلٌ خفيف فظلت جنةً جميلة - مما يؤكد ارتباط الربا باظطراب حركة المال الطبيعية و انحسارها عن العاملة لتتكدس بيد الأغنياء من المجتمع .
يقول الله تعالى في آية أخرى : ( ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ) ، و هذه الآية من الآيات التي تؤكد الحكمة الإلهية في تقدير الصراع و التنازع بين البشر إذ التعظيم للخالق لا يتجلى بأبهى صوره إلا وسط المحن ، و الأعمال بالعادة لا تكتسب قيمةً تذكر متى ما كان العامل مكرهاً على القيام بها ، أما المختار فهو شخص مهاجر إلى محبوبه طالباً قربه و مستذل النفس له طالباً مرضاته بكل ما يملك وهذا هو قصد الإبتلاء و مراد الخلقة البشرية و الإستخلاف ، يقول الله تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) ، و يقول : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم مافي قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحاً قريبا ) ، و يقول : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ) .
و في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدنيا حلوة خضرة و إن الله مستخلفكم عليها لينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) رواه مسلم . و ليس غريباً أن يؤكد النبي عليه الصلاة و السلام على النساء و يخصصهم بالتحذير بعد أن عمم ذكر الدنيا ، فالأنثى بخلقتها غالية وهي أكثرُ ما يعجبُ الرجلَ و أكثرُ ما يطلبهُ ، وهي و إن كان العقل الواعي للرجل العاقل غيرَ مدركٍ لأسباب الإفتتان إلا أن تعامله معها و تعامل المجتمع معها كان ولا يزال كتعامله مع الذهب الذي يحوي قيمته في ذاته دون أن يكون مطلوباً لإنتاج ما ، و كذلك فإن المرأة تتصرف على هذا الأساس دون وعي و كأنها مادة تستشعر قيمتها مما يصرف عليها و يبذل لها و تتوقع من الناس الحب و الإحترام دون أن تشعر هي أو يشعر المجتمع بأن عليها أن تقدم نظير هذا الحب و الإحترام ما يبرره ، و إن كان هذا كله لا يكفي فإن الأنثى كذلك لا تحب الذكور و لا تفتتن بهم أبداً إذ أن ضعفها و هشاشة خلقتها الجسدية و النفسية لا يوائمها إلا القوة التي هي مجموعة من الصفات النفسية و العقلية و المادية التي يمكن اختزالها كلها في كلمة واحدة (( الرجولة )) ، و لأن الرجولة في أصلها هلكة جسدية و مادية يكتسب صاحبها قيمة إجتماعية و مادية من مجموع الخصال و الممتلكات التي تكون قد تحققت له بعد تعرضه لها فإنه لا يُستغرب أن تميل معظم النساء إلى فئة قليلة من الرجال ، ولا يُستغرب أن يزيد هذا الميل كلما زاد الإختلاط و كثر المال إذ الرجال المتميزون برجولتهم وقوتهم قلة بين الذكور في هذه الظروف و العكس صحيح عندما يمنع الإختلاط و يُساعد الذكور على الإغتناء ليكتسبوا رجولتهم و عندما تقوم الحروب و تكون ظروف الحياة أشد تكون قيمة الذكور أكبر إذ يسهل في هذه الظروف اكتساب خصال الرجولة و إشعار النساء بحاجتهم للرجال ، و هذا كله يؤكد نقطةً واحدةً وهي أن النساء يكونون كالذهب تماماً في أثرهم و تأثرهم في مجتمعاتهم فيُستخدمون كوسيلةٍ للتعالي و القهر في المجتمعات المترفة ، واتقاء النساء و حجب مظاهر التعالي بهن و تجنب قهر الرجال بهن يقي من التحاسد و الأثرة التي تهلك بالأمم .
ختاماً يقول الله تعالى : ( و إذ قالت الملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ) .. أي إني أعلم ما سيكون منهم من تعظيم و تضحية و صبر تجعلهم في مقام عالٍ عندي يعلوا غيرهم من المخلوقات .