الأربعاء، 8 يوليو 2015

بين الغزل والزواج



بين الغزل و الزواج 
كلما كانت العلاقة عابرة كانت المقاييس سطحية ..


يظهر في كثير من المقالات الغربية حديث عن مستوى الجاذبية الفردية لدى كل من الجنسين عند الحديث عن الغزل ، هذا الحديث يأتي في كثير من الأحيان على شكل تصنيف طبقي بناءً على المكانة في سوق التزاوج (الجاذبية الجنسية) و مع أن كثيراً من هذه التصنيفات تعطي للمظهر مكانة ظاهرة إلا أن الواقع الملموس يخون كثيراً من هذه التصنيفات مما يجعلها عاجزة عن شرح الواقع كما هو بتفصيله . 

الغزل و العلاقات العابرة تختلف في شكل تفاعلاتها الإجتماعية عن العلاقات الهادفة لبناء مستقبل أسري مستدام ، إذ الأولى موقف نفعي و غروري محض يهدف لإيجاد شعور بالمكانة الإجتماعية بناءً على الغرائز الأولية البدائية التي يخفى على الكثير تنكرها في شكل شهوة جنسية تتصف بالإندفاع الغريزي و غير العقلاني و الثانية موقف إستثماري معني بالناتج النهائي البعيد المترتب على هذه العلاقة .

العقل البشري عضو معقد يظهر تعقيده كلما قورن بالحيوانات الأكثر بساطة في خلقتها و حركتها ، و لعل أكثر ما يظهر من هذا التعقيد في شكل الدماغ في تركيبه التشريحي إذ هو مكون من أجزاء أكثر بدائية تظهر في الفقاريات ( جذع الدماغ - Brain stem ) و أجزاء أكثر تعقيداً تظهر في الثديات ( كالدماغ الأمامي و أجزاء من الدماغ الطرفي كالجسم الصلب) ، إلا أن ما يميز الإنسان هو دماغه الأمامي الكبير لدرجة أنه يغلف كامل الدماغ و تشكل قشرته نسبة كبيرة منه و بالأخص في الفص الأمامي المعني بالتعلم و الإستنباط و بناء الشخصية ، و بالتالي فإن تميز الإنسان عن الحيوان في تعامله و حركته يظهر بمقدار تميز الموقف الذي يخوضه الإنسان عن الموقف الحيواني وهو يتشابه أو يتطابق مع الموقف الحيواني البسيط كلما كانت الظروف متطابقة و كان سعي الإنسان لمعارضة غريزته المحببة أقل .. ( قشرة الدماغ الكبيرة عند الإنسان تعطيه القدرة على السيطرة على غرائزه البدائية بناءً على قدرة أخرى كامنة أيضاً وهي إستشراف المستقبل البعيد و البناء على التجارب البعيدة التي لم يخضها هو ولكنه سمع أو قرأ عنها و حاول بناء نسق عليها و استشف منها غاية و قيمة تفوق الحركة اليومية التابعة للغرائز البسيطة التي يريد الإنعتاق منها ) 

نظراً لأن الحيوانات كائنات أكثر بساطة فإن تفاعلها الإجتماعي أكثر بساطة بالضرورة و تزداد البساطة كلما انحدرنا في سلم الخلقة الحيوانية لنجد أبسط طرق التزاوج و أكثرها وضوحاً ، و بالتالي فإن عقد المقارنات يمكننا من فهم الطبيعة البشرية في أبسط حالتها و البناء على هذا الفهم بإضافة بعض العوامل التي تميز البشر فيتوجب حسابها .. 

إن هدف هذا المقال هو الوصول إلى نتيجة مفادها أن الغزل يمثل أبسط حالات التلاقي بين الجنسين و كذلك هي الكثير من النشاطات الإجتماعية المحببة للنفس والتي تعد ممارستها معلم من معالم المتعة البدائية عبر العالم أجمع ، و اعتماد المقال في تأكيده على هذه النقطة قائم على طبيعة اللذة المستقاة من هكذا حركة و تفاعل  بدائي ظل ثابتاً على مدا العصور وهو يتكرر لدا بقية الحيوانات إذ الإندفاع الطبيعي البدائي يتميز بقوته و بدائيته التي لا تحتاج لتلقين و تربية بل التربية تهدف في الأساس لكبح هذا الإندفاع و ضبطه ليخدم الصالح العام و المصلحه الفردية البعيدة أيضاً في مجتمع إنساني معقد . 

إن الغزل نشاط إجتماعي عفوي مبني على إنكشاف الجنسين لبعضهما البعض دون أهداف علمية أو مصلحية تجمعهم عدا المصلحة الطبيعية من التزاوج ، و بما أن هذه هي الحالة ( أي أن التزاوج هو المحور الأساسي في هذه العلاقة ) فإن بقية المواضيع تعد ذات أهمية نسبية لا يمكن اعتبارها إلا بمقدار إضافتها للقيمة التزاوجية للفرد . من هنا فإن القيمة المعتبرة للطرفين المقبلين على هذه العلاقة قيمة جنسية مستمدة أساساً من الإدراك اللا واعي لدى كل من الطرفين بقيمة جينات الطرف الآخر المستشفة من خلقته و تفاعله مع محيطه و أثره على ذلك المحيط ، فكلما كانت الخلقة دالة على الصفات المحببة اعتياداً في ذلك الجنس و كلما كان شكل التافعل مع المحيط محبباً كانت القيمة الجنسية أكبر . 

الحيوانات تختلف في بنيتها و طريقة تزاوجها إلا أن الثديات بالعموم تتخذ شكلين في التزاوج و في الأدوار الأبوية تجعل من تلاقيهما و تمييزهما لمكانتهما في سوق التزاوج مختلف ، فالثديات التي لا يتميز الذكر فيها عن الأنثى في بنيتة الجسدية كثيراً تكون وظيفته غير متميزة أيضاً عن وظيفة الأنثى بعد الولادة إذ أن خصائصه النفسية تشبه إلى حد بعيد خصائص الأنثى ( فهو قليل الإندفاع ، كثير الحذر و المراعاة ، قليلة قدرته على فرض السيطرة ) فتصير إليه الرعاية غالباً فيما تزداد الأنثى جموحاً و تعدداً إذ لا يملك الذكر القدرة على فرض سيطرته عليها ولا منعها من الرحيل ، و العكس صحيح إذ الحيوانات ذات التمايز الجسدي بين الجنسين يظهر على ذكورها الإندفاع و الإستعداد للصراع و الهلكة في سبيل الظفر ببقية النساء، و الذكر هنا غالباً ما يقوم بتحديد أرضه و تمييزها و فرض سيطرته على الإناث و الصغار فيها فتكون الخصال الجسدية و النفسية الدالة على القوة مثار فتنة عند الثديات هنا ، أما الثديات الأولى فإن البنية الجسدية لا تهم و تبقى الأهمية منصبة على الخصال النفسية الدالة على إستعداد الذكر للرعاية و المحافظة على النسل . 



الطيور و الثديات المتشابهة في الخلقة الجسدية بين الجنسين يقل فيها التعدد عموماً و إن كان الإلتزام بالعلاقة في هذه الحيوانات يختلف في مداه الزمني  إلا أن افتقار الذكر للميزة الجسدية يدفعه للإستثمار المادي و الإسترضاء أكثر مما يعطي الأنثى يداً علوية تسمح لها بالإنسحاب من هذه العلاقة إن أرادت .. ( قرد البنوبو الظاهر في الصورة العلوية مثال على ذلك )





الأنثى عند الحيوانات التي يظهر فيها تمايز جسدي تعد من ممتلكات الذكر إذ هي أرضه التي يزرع فيها بذوره و درجة وفائها وانقيادها له يتعلق كثيراً بمدى قدرته على فرض نفسه و إظهار تميزه في ذلك المحيط البيئي و قدرة الإنثى من ثم على الخروج من هذه العلاقة أو حتى رغبتها تكون في الغالب قليلة ، الذكر هنا يحتفظ بقدرته على التعدد و التعدد هنا يتناسب طردياً مع قوته .. ( قرد الشمبانزي في الصورة العلوية .. يكثر القتال بين ذكوره و تظهر ملكيته على نسائه فهو يعد مثالاً واضحاً على ذلك ) 


إن الطبيعة البشرية في خلقتها المتباينة بين الجنسين تدل على الإختلاف النفسي الذي بدوره يدل على إختلاف الأدوار و على إستعداد كل من الجنسين لتقبل الخصال الجسدية و الشكلية كدلائل على الأهلية النفسية للقيام بالدور المتوقع و أي من الخصال الشخصية و المادية المستنبطة من الحوار العقلاني لا يمكن لها أن تؤثر كثيراً في نفسية المغازل إذ أن الميول الجنسية غريزية بسيطة مندفعة لتقبل الصور الظاهرة كدلالات عميقة منطقية تدفع الفرد للإستثمار في هذا الجسد الذي يبدو ظاهراً في قدرته على حمل الخصائص الجينية المطلوبة القادرة على البقاء ، أما معاني الوفاء و الديمومة في العلاقة الزوجية بين الفردين فهي في الغالب مفاهيم أكثر تعقيداً تدل على الإستثمار البعيد و الإستبصار و الضبط إذ أن المشاهد من الأنثى في الفرقة الأولى من الثديات أنها أميل لتعديد العلاقة الجنسية بعد ضمان النسل عند الذكر الأول  ولا تلتزم بالمكوث معه إلا لضعف يخيفها من الإنتقال غالباً فيما يكون الذكر في الفرقة الثانية أميل للتعدد بقدر قدرته على فرض السيطرة ، و كذلك فإن مفهوم رعاية المصلحة الإجتماعية و الرابطة العرقية هي مفاهيم عقلانية أكثر تعقيداً وهي أظهر في الإنسان منها في الحيوان إذ هي تعارض الميل الطبيعي لدا كل من الجنسين في اختيار الجينات الأفضل (الزوج الأكثر جاذبية) . 

و مع أن البشر يختلفون فيما بينهم و يصعب وضعهم جميعاً في إطار واحد إلا أن وجود نسق يجمع العموم يجعل من المنطقي تعميم القاعدة و قبول الحالات الشاذة كما هي ، فلنقم بطبع هذه الصورة الحيوانية على الحالة البشرية لنوجد نسقاً في طريقة التعامل و الإلتفات عند المغازلة إذا ما استبعدنا العامل الديني (العقدي) في الضبط و استبعدنا الدافع العقلاني و التقليدي في التزاوج .. العوامل الجاذبة في الأنثى تكون ( المظهر الدال على الخصوبة ، و المظهر الدال على البراءة ـ وجه طفولي- ، و المظهر الدال على الضعف -القصر و النحافة- ، و الشخصية الدالة على الضعف و العجز ، و الشخصية الدالة على التعاطف مع محيطها ) هذه المظاهر التي توجد خلقةً و يسهل تصنعها كثيراً عند الغزل تطغى على الخصال الأخرى التي يمكن احترامها ( كالعقلانية و العلم، و التدين ، و المكانة الإجتماعية ، و الدخل الذي قد يكون عاملاً سلبياً أحياناً ) و قدرة هذه العوامل على الجذب مستمدة من الطبيعة البشرية التي تميز الخلقة الذكورية عن الأنثوية لتستمد قيمتها من معاني السكون و العجز و الخصوبة التي تغري الذكر فتشعره بإمكانية زراعة بذوره و مراقبتها و رعايتها في أرضية خصبة و مطواعة ، أما العوامل الجاذبة في الذكر فتكون ( المظهر الدال على القوة -الطول و العرض و العضل- ، و المظهر الدال على الخبرة ، و المظهر الدال المكانة و السيطرة على المحيط -هذا يعني أن الذكر يجب أن يتميز بالضرورة إذ الذكورة ليست فيها قيمة ذاتية ولكن القيمة في الرجولة التي تراها المرأة في تميز الذكر بسيطرته على محيطه-، و الشخصية الدالة على الخبرة و الثقة ) هذه المظاهر كلها تلحظ فيها البدائية إذ المال إختراع بشري غير معدود نظراً لكونه عاملاً ثانوياِ يدل على تعقل الأنثى المنجذبة التي تختار بعقلها دون عاطفتها مصلحتها المادية تحسباً لظروف سيئة أو رغبة في المفاخرة ، بعكس المظهر الدال على المكانة و السيطرة الذي بطبيعة الحال يمكن تصنعه بالمال لكنه -مظهر السيطرة و التميز- هو المؤثر في سوق التزاوج إذ يعطي هيبةً و شعوراً أنثوياً بالعجز أمام هذا الذكر المسيطر فترغب في الإستسلام له و تتمنى لو كانت الأرض الوحيدة الذي يزرعها فتعلو مكانتها تبعاً لمكانته .

تبعاً للتحليل لسابق نستنتج : 
١- أن كلا الجنسين سطحي عند المغازلة إذ المغازلة غريزة حيوانية بسيطة ناتجة عن رغبة المخلوق في إبقاء نسله ، و نظراً لكون الطبيعة بخلقتها الإلهية تدفع باتجاه بقاء الأقوى و الأصلح فإن هذا التفاعل الإجتماعي يبقي و يقدم الأنثى التي يدل مظهرها على أكبر قدر من الخصوبة و اللين فيما يقدم الذكر الذي يدل مظهره على أكبر قدر من القوة و السيطرة على المحيط .
٢- أن المجتمعات التي تعد المغازلة و العلاقات الجنسية خارج الزواج عادة مقبولة تزيد من الإهتمام بالمظاهر إذ أن المغازلة تفاعل غير عقلاني أو عميق ، و نظراً لأن مظهر الذكر يتأثر كثيراً بقدرته على تمييز نفسه و إظهار سيطرته على محيطه و بقية الذكور فإن الغزل يدفع باتجاه الطبقية و الإستعباد في سبيل حصول البعض على كل المعروض من الإناث ، وفي هكذا مجتمع يكون الإهتمام بالمظهر عند الإناث أمر حيوي و محوري إلى الحد الذي تصبح معه حاجات المستضعفين الضرورية أمراً ثانوياً لا يجب التركيز عليه سياسياً .


٣- أن تعقد المجتمعات الإنسانية يجعل من سبل إظهار القوة و السيطرة عند الرجل تتغير و تتكيف ولكنها لا تزال في أصلها تحقق نفس المعاني و تؤدي لبناء طبقي هيكلي صلب ( القوي فيه يستعبد الضعيف ) فسواءً إستخدمت الوظيفة أو المال أو العصبية العرقية في التمييز و إظهار القوة فإن الأصل يظل واحداً ، فالشاب الذي كان يستخدم عضلاته لتمييز نفسه أمام الفتيات أيام الشباب هو نفسه الرجل الذي يستخدم مركزه الإقتصادي و الإجتماعي لتمييز نفسه أمام الفتيات عند الكبر .
٤- أن الإنتشار في التزاوج طبيعة ذكورية أكثر منها أنثوية تبعاً لما ذكر من خصائص التمايز الجسدي بين الكائنات ، إلا أن الذكر عندما يلزم إجتماعياً بتحمل المسؤولية عن نسائه و أطفاله (مملكته) فإن رغبته في المحافظة على نتائج إستثماره تجعل من إندفاعه للتعدد يقل ، و على العكس فإن المسؤولية عندما تُعَوَم و توضع الأنثى في موازاة الذكر فإن قدرته على السيطرة على الأرض التي إستثمر فيها (الأنثى) تقل و بالتالي فإن قدرته على توقع نتائج إستثماره و الإجتهاد في تحصيله يضعف فتقل رغبته في البقاء في هذه العلاقة الخاسرة و يقل معها إحترام الأنثى له فتكتسب من الخصال الذكورية بالتدريج ما يصعب معه تمييزها عنه نفسياً على الأقل .. 
٥- أن عاطفة الأبوة عند الذكر و عاطفة الأمومة عند الأنثى و الرغبة المتبادلة في إغمار كل من الطرفين الآخر بمشاعره المستمدة من دوره دليل على العذرية وقلة العلاقات السابقة إذ أن النفس البشرية غير منفصلة عن غريزتها الجنسية بل هي متممة للغرس و ضامنة للنسل ولا يتم الإنفصال حتى تتعدد العلاقات فتضعف العاطفة المميزة و تصبح العلاقة الجنسية شكل واضح من أشكال السيطرة و التعالي .

ملحوظة .. الأنثى التي لقيت رعاية أبوية جيدة تميل للتعلق بمن يشبه أباها من الذكور فهي ساكنة و متعاطفة و مقدرة لحضوره و سيطرته فيما تميل الأنثى التي نشأت في بيئة بعيدة عن أبيها إلى الثورة و المنافسة و عدم الإنقياد إلا للقسوة الظاهرة الفاتنة وكذلك الذكر الذي يتعلم إحترام الأنثى و رحمتها و الرغبة في حمايتها من تجربته مع أمه و رغبته في العثور على حضن كحضنها و إستشعاره لضعفها. 

الأحد، 5 يوليو 2015

الدولة و الناس

الدولة و الناس 
نقاط تختصر فلسفة التاريخ في نشوء الدول و الحضارات و دوران الأحداث بين الأمم المتجاورة : 

١- التعدي هو الأصل في الطبيعة البشرية ..
 السبب يعود لكون البشر في خلقتهم الأولية دون هداية أو هدف ضعاف طامعون و جزعون يشغلهم طلب الأمان المادي و استمرار النسل ولا يتميزون فيما بينهم إلا بمقدار استعدادهم للتنافس فيما بينهم لنيل المكانة والشرف و المركزية في النسيج الإجتماعي ، أما غير ذلك من معاني الخلود و التناغم مع الخلق و خالق الخلق فإنها مفاهيم دخيلة تزيد وعي الإنسان تركيباً و تعقيداً فتتغير حركته الإجتماعية و السياسية و من ثم مصيره . البشر لذلك بطبيعتهم الأولية ينفرون من المشاركة و تطغى على أذهانهم الشكوك في كل قوة فاعلة خارج ذواتهم ولا يعد التسلط في ذهن الإنسان الأولي (البدائي) إلا وسيلة من وسائل طلب البقاء إما بالقضاء على عدو محتمل أو بزيادة موارد الدخل (المادية و البشرية) ولذلك فإن طبيعة البشر الأولية إقتضت ألا ينضبط البشر عادة في عصبية إلا إذا كانت هذه العصبية أقدر على التعدي و تحقيق المصلحة وهي تزول بزوال هذه المصلحة و تتسع باتساعها ، ولذلك فإن بعض المواقع الجغرافية بمواردها تبرر زيادة سكانها و قوة عصبيتهم و تفوق تنظيمهم الذي دفعتهم إليه هذه الطبيعة فيما تبرر بعض المواقع الجغرافية الأخرى سبب ضعف جماعة أخرى و قلة عددها و تفرق عصبيتها و بساطة هيكليتها السياسية و الإجتماعية إلا أن هذا العامل الطبيعي هو عامل واحد بدائي يظهر تأثيره بشكل واضح كلما كانت دوافع البشر القاطنين بدائية مقتصرة على الرزق و الأمان و يخبو تأثيره كلما تجلت عوامل أخرى أكثر تعقيداً تدفع باتجاه تجاوز هذه العوامل أو تسخيرها فلا يلبث هذا العامل (الجغرافي الطبيعي) أن يتراجع أثره بمجرد بروز العامل الداخلي البشري المعقد مما يعيد شكل البناء السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي .

ملحوظة .. المجتمعات الأولية (البدائية) التي يقل انفتاحها على المجتمعات الخارجية تتصرف بعدائية أيضاً من منطلق الشك المحض و الحرص المحض دون قدرة على رؤية التشابه و المصالح المشتركة ولا تتعلم هذا المنطق إلا بالتدريج مع ازدياد الخلطة و اتفاق المصلحة .



٢- الحضارة منتج ديني ..
 إن قدرة البشر المحدودة على ضبط بعضهم البعض بواسطة الموارد الحسية تجعل بناء الدولة أمراً شاق جداً يتطلب أزمنة عديدة تتراكم فيها الكثير من العادات و العصبيات و القيم التي تساهم في التنظيم الإجتماعي لتحقيق المصلحة الإقتصادية و السياسية المرجوة مما يعني بالضرورة أن الحضارة التي تمثل الدرجة الأعلى في التناغم الإنساني و الحس القيمي و الوعي بالمسؤولية تجاه الغير يستحيل بلوغها بالإعتماد على الوسائل الحسية فحسب إذ هي منتج قيمي خيالي يستحث الأفراد طواعية لتحقيق هدف إستراتيجي مشترك يتجاوز قدرات السلطة المنفردة  .. البناء الحضاري لذلك تحرك بشري داخلي يعتمد في أساس نشأته و تطوره على المورد البشري و فكره أكثر من المورد المادي و وفرته إذ هو وعي جماعي يحرك الناس و يحفز الجميع لبلوغ صورة جميلة سياسية و اجتماعية و اقتصادية و فنية مما يوجد نتيجة مختلفة لهذا البناء السياسي و إن كانت جغرافية أرضه و موارده لم تتغير مع تغير الزمن . هذا المنتج الأخلاقي و التنظيمي المقصود يختلف عن المنتج المادي الناتج عن السعي الحضاري لجماعة من الجماعات إذ أن المنتجات المادية يمكن نقلها و تقليدها و الإضافة عليها في كثير من الأحيان تبعاً للحاجة المادية و ظروف الحياة بعكس التركيبة السياسية و الحركة العلمية و الإقتصادية و الإجتماعية الناشئة عن الحركة البشرية المنتظمة ككل تجاه هدف حضاري ضابط فإنها حبيسة المجتمع الذي آمن به و ضحى لأجله . 


  



٣- العقيدة المؤثرة بضاعة مفيدة في الضبط يحرص السياسي على إبقاء الشكل المطلوب منها ولا يهاجمها ..
 هذه القاعدة تفسر سعي الإنسان لاستحداث عقيدة كما تفسر سعيه لتحوير العقيدة القديمة و الإستفادة منها ..
 (( الفرد الذي لا يؤمن بشيء لا يتحرك لشيء لا يحس بمنفعته المادية القريبة )) ذلك أن الدين يعطي للحياة معنى يتجاوز المادة الملموسة و المتعة القريبة و يعطي للأفعال قيمة خالدة في ذهن العامل مما يزيد استعداد الفرد للتضحية و تحمل الصعاب و الرضى بالقليل و يقلل في النفس معاني الحرص المادي و تبعاتها من طبقية و تفاخر ، هذا الإستعداد للإنضباط الذاتي المستمد من الوعي بالصور الجمالية يكسب الدين قيمة لا تنكر في عقل رجل السياسة إلا أن هذه السلطة في الدين مرهوبة أو مبغوضة نتائجها إذ هي تفوق سلطة رجل السياسة لذلك فإنه غالباً ما يسعى لتحوير الدين و ضبطه أكثر من القضاء عليه حفاظاً على دافع التضحية و الهوية القيمية المميزة ولا تعد الصور المرسومة للعامة من خلاله أكثر من مجسمات خيالية غبية في نظر السياسي لكنها تكتسب قيمتها من خلال قدرتها على تحريك الناس و ضبطهم ولا تختلف عن الأصنام في شيء بل يمكن تجسيد هذه الآلهة على شكل أصنام إن وجد السياسي في ذلك مصلحة ولو حتى زادت الخرافة اللا منطقية حولها فإن المنتج يبرر ذلك الفعل أيضاً ومن هنا تصبح صناعة الخرافة تجارة مربحة سياسياً ولا يلبث التراكم العقدي الخاطىء ( تراكم الخرافة ) كثيراً حتى ينتج مجتمعاً متصلباً تقليدياً منبتاً عن واقعه متغافلاً عن حقوق و حريات أفراده في سبيل المصلحة السياسية القريبة التي لا يمكن لها أن تدوم كثيراً .. إن تراكم الخرافة بهذا الشكل يورث الجهالة و عدم القدرة على الربط المنطقي إذ تصبح الحوادث كلها مرتبطة بإرادة إله أو عدة آلهة دون سنن كونية ثابتة بل هي إرادة الآلهة المنفصلة التي يجب إرضاءها بين حين و آخر تجنباً للحوادث و طلباً للإستقرار و المنفعة الدنيوية ولن يجد القارئ صعوبة في تصور الضعف في هذه الهيكلية السياسية العقدية .



٤- أعظم بناء حضاري بناء عارض يظهر على حدود هويات حضارية متصارعة ، و الدولة نسيج عارض أيضاً يتحلل بتحلل العوامل الخارجية و الداخلية ..
 إن أي بناء إجتماعي بشري هو بناء عارض ( كما هي المركبات العضوية ) يقوى في عصبيته و تركيبته السياسية بقدر تميزه و تصارعه مع العصبيات الخارجية كما أن أي رسالة حضارية هي رسالة مبهمة تظهر تفاصيلها بقدر اختلافها عن الرسالات المجاورة المصارعة لها ، و نظراً لأن الأصل في الطبيعة البساطة و التحلل و الوصول لحالة السكون الذي تتساوا فيه جميع الوحدات في خمول دون تفاعل فإن أي مركب مادي أو عضوي أو اجتماعي هو نتيجة تدخل ما أورث تصادماً و تفاعلاً نتج عنه ذلك المركب المنتظم المعقد وما أن يضعف هذا "التدخل" حتى تعود هذه المركبات إلى طبيعتها الأولية .. التدخل قد يكون عاملاً جغرافياً و سياسياً طارئاً غير محسوب اعتياداً نتج عنه تغيرٌ في الوعي العام و المزاج العام للمجتمع ، أو قد يكون رسالة سماوية تحدت الوعي العام و الأخلاق العامة مما أدى لحركة بشرية مغايرة للحركة القديمة ، ولو أنا تصورنا تصادماً قوياً للرسالات الحضارية (الدين) لكان الناتج أشبه بحركة الموج المتصادم التي ينتج عنها بناءً متراكماً هو حاصل اندفاع الموجتين و لحظة اصطدامهما وتعاليهما تمثل أعلى درجات التحضر الناتجة عن أعلى درجات الأندفاع و التضحية و التعقل و الإستفادة من كل ما هو مفيد . 



٥- يتبنى المجتمع الهوية الأقدر على حماية و تحقيق المصالح المادية عندما تكون الهوية التمثيلية غير ممكنة ..
 إن الحاجة الطبيعية للرزق و الأمان تسبق الحاجة لتمثيل القيم و المعاني ولذلك فإن إحساس الجماعة بعدم توفر الخيارين جميعاً ( ضمان الحاجات الضرورية للبقاء و تمثيل المبادئ و القيم و الصور الجمالية ) يحيلها للقبول بالخيار الأول و تجاهل الهوية التمثيلية طلباً للبقاء ، و ما أن تستقوي الجماعة و تستشعر إمكانية تعبيرها عن نفسها و قيمها فإن استعدادها للهلكة يصبح ظاهراً إذ الهلكة العامة للجماعة أصبحت مستبعدة و من ثم فإن النفوس (المزاج العام) انتقلت في حركتها من دافع البقاء و الإحتماء إلا دافع التعبير و التمثيل (الرسالة الحضارية) وهذان الموقفان في أثرهما على التركيبة السياسية و المزاج الإجتماعي متباينان أشد التباين و نتيجتهما على القدرة الإبداعية تختلفان بقدر اختلاف النفسية الواثقة المندفعة عن النفسية المنكفئة المعتذرة .