بين الغزل و الزواج
كلما كانت العلاقة عابرة كانت المقاييس سطحية ..
يظهر في كثير من المقالات الغربية حديث عن مستوى الجاذبية الفردية لدى كل من الجنسين عند الحديث عن الغزل ، هذا الحديث يأتي في كثير من الأحيان على شكل تصنيف طبقي بناءً على المكانة في سوق التزاوج (الجاذبية الجنسية) و مع أن كثيراً من هذه التصنيفات تعطي للمظهر مكانة ظاهرة إلا أن الواقع الملموس يخون كثيراً من هذه التصنيفات مما يجعلها عاجزة عن شرح الواقع كما هو بتفصيله .
الغزل و العلاقات العابرة تختلف في شكل تفاعلاتها الإجتماعية عن العلاقات الهادفة لبناء مستقبل أسري مستدام ، إذ الأولى موقف نفعي و غروري محض يهدف لإيجاد شعور بالمكانة الإجتماعية بناءً على الغرائز الأولية البدائية التي يخفى على الكثير تنكرها في شكل شهوة جنسية تتصف بالإندفاع الغريزي و غير العقلاني و الثانية موقف إستثماري معني بالناتج النهائي البعيد المترتب على هذه العلاقة .
العقل البشري عضو معقد يظهر تعقيده كلما قورن بالحيوانات الأكثر بساطة في خلقتها و حركتها ، و لعل أكثر ما يظهر من هذا التعقيد في شكل الدماغ في تركيبه التشريحي إذ هو مكون من أجزاء أكثر بدائية تظهر في الفقاريات ( جذع الدماغ - Brain stem ) و أجزاء أكثر تعقيداً تظهر في الثديات ( كالدماغ الأمامي و أجزاء من الدماغ الطرفي كالجسم الصلب) ، إلا أن ما يميز الإنسان هو دماغه الأمامي الكبير لدرجة أنه يغلف كامل الدماغ و تشكل قشرته نسبة كبيرة منه و بالأخص في الفص الأمامي المعني بالتعلم و الإستنباط و بناء الشخصية ، و بالتالي فإن تميز الإنسان عن الحيوان في تعامله و حركته يظهر بمقدار تميز الموقف الذي يخوضه الإنسان عن الموقف الحيواني وهو يتشابه أو يتطابق مع الموقف الحيواني البسيط كلما كانت الظروف متطابقة و كان سعي الإنسان لمعارضة غريزته المحببة أقل .. ( قشرة الدماغ الكبيرة عند الإنسان تعطيه القدرة على السيطرة على غرائزه البدائية بناءً على قدرة أخرى كامنة أيضاً وهي إستشراف المستقبل البعيد و البناء على التجارب البعيدة التي لم يخضها هو ولكنه سمع أو قرأ عنها و حاول بناء نسق عليها و استشف منها غاية و قيمة تفوق الحركة اليومية التابعة للغرائز البسيطة التي يريد الإنعتاق منها )
نظراً لأن الحيوانات كائنات أكثر بساطة فإن تفاعلها الإجتماعي أكثر بساطة بالضرورة و تزداد البساطة كلما انحدرنا في سلم الخلقة الحيوانية لنجد أبسط طرق التزاوج و أكثرها وضوحاً ، و بالتالي فإن عقد المقارنات يمكننا من فهم الطبيعة البشرية في أبسط حالتها و البناء على هذا الفهم بإضافة بعض العوامل التي تميز البشر فيتوجب حسابها ..
إن هدف هذا المقال هو الوصول إلى نتيجة مفادها أن الغزل يمثل أبسط حالات التلاقي بين الجنسين و كذلك هي الكثير من النشاطات الإجتماعية المحببة للنفس والتي تعد ممارستها معلم من معالم المتعة البدائية عبر العالم أجمع ، و اعتماد المقال في تأكيده على هذه النقطة قائم على طبيعة اللذة المستقاة من هكذا حركة و تفاعل بدائي ظل ثابتاً على مدا العصور وهو يتكرر لدا بقية الحيوانات إذ الإندفاع الطبيعي البدائي يتميز بقوته و بدائيته التي لا تحتاج لتلقين و تربية بل التربية تهدف في الأساس لكبح هذا الإندفاع و ضبطه ليخدم الصالح العام و المصلحه الفردية البعيدة أيضاً في مجتمع إنساني معقد .
إن الغزل نشاط إجتماعي عفوي مبني على إنكشاف الجنسين لبعضهما البعض دون أهداف علمية أو مصلحية تجمعهم عدا المصلحة الطبيعية من التزاوج ، و بما أن هذه هي الحالة ( أي أن التزاوج هو المحور الأساسي في هذه العلاقة ) فإن بقية المواضيع تعد ذات أهمية نسبية لا يمكن اعتبارها إلا بمقدار إضافتها للقيمة التزاوجية للفرد . من هنا فإن القيمة المعتبرة للطرفين المقبلين على هذه العلاقة قيمة جنسية مستمدة أساساً من الإدراك اللا واعي لدى كل من الطرفين بقيمة جينات الطرف الآخر المستشفة من خلقته و تفاعله مع محيطه و أثره على ذلك المحيط ، فكلما كانت الخلقة دالة على الصفات المحببة اعتياداً في ذلك الجنس و كلما كان شكل التافعل مع المحيط محبباً كانت القيمة الجنسية أكبر .
الحيوانات تختلف في بنيتها و طريقة تزاوجها إلا أن الثديات بالعموم تتخذ شكلين في التزاوج و في الأدوار الأبوية تجعل من تلاقيهما و تمييزهما لمكانتهما في سوق التزاوج مختلف ، فالثديات التي لا يتميز الذكر فيها عن الأنثى في بنيتة الجسدية كثيراً تكون وظيفته غير متميزة أيضاً عن وظيفة الأنثى بعد الولادة إذ أن خصائصه النفسية تشبه إلى حد بعيد خصائص الأنثى ( فهو قليل الإندفاع ، كثير الحذر و المراعاة ، قليلة قدرته على فرض السيطرة ) فتصير إليه الرعاية غالباً فيما تزداد الأنثى جموحاً و تعدداً إذ لا يملك الذكر القدرة على فرض سيطرته عليها ولا منعها من الرحيل ، و العكس صحيح إذ الحيوانات ذات التمايز الجسدي بين الجنسين يظهر على ذكورها الإندفاع و الإستعداد للصراع و الهلكة في سبيل الظفر ببقية النساء، و الذكر هنا غالباً ما يقوم بتحديد أرضه و تمييزها و فرض سيطرته على الإناث و الصغار فيها فتكون الخصال الجسدية و النفسية الدالة على القوة مثار فتنة عند الثديات هنا ، أما الثديات الأولى فإن البنية الجسدية لا تهم و تبقى الأهمية منصبة على الخصال النفسية الدالة على إستعداد الذكر للرعاية و المحافظة على النسل .
الطيور و الثديات المتشابهة في الخلقة الجسدية بين الجنسين يقل فيها التعدد عموماً و إن كان الإلتزام بالعلاقة في هذه الحيوانات يختلف في مداه الزمني إلا أن افتقار الذكر للميزة الجسدية يدفعه للإستثمار المادي و الإسترضاء أكثر مما يعطي الأنثى يداً علوية تسمح لها بالإنسحاب من هذه العلاقة إن أرادت .. ( قرد البنوبو الظاهر في الصورة العلوية مثال على ذلك )
الأنثى عند الحيوانات التي يظهر فيها تمايز جسدي تعد من ممتلكات الذكر إذ هي أرضه التي يزرع فيها بذوره و درجة وفائها وانقيادها له يتعلق كثيراً بمدى قدرته على فرض نفسه و إظهار تميزه في ذلك المحيط البيئي و قدرة الإنثى من ثم على الخروج من هذه العلاقة أو حتى رغبتها تكون في الغالب قليلة ، الذكر هنا يحتفظ بقدرته على التعدد و التعدد هنا يتناسب طردياً مع قوته .. ( قرد الشمبانزي في الصورة العلوية .. يكثر القتال بين ذكوره و تظهر ملكيته على نسائه فهو يعد مثالاً واضحاً على ذلك )
إن الطبيعة البشرية في خلقتها المتباينة بين الجنسين تدل على الإختلاف النفسي الذي بدوره يدل على إختلاف الأدوار و على إستعداد كل من الجنسين لتقبل الخصال الجسدية و الشكلية كدلائل على الأهلية النفسية للقيام بالدور المتوقع و أي من الخصال الشخصية و المادية المستنبطة من الحوار العقلاني لا يمكن لها أن تؤثر كثيراً في نفسية المغازل إذ أن الميول الجنسية غريزية بسيطة مندفعة لتقبل الصور الظاهرة كدلالات عميقة منطقية تدفع الفرد للإستثمار في هذا الجسد الذي يبدو ظاهراً في قدرته على حمل الخصائص الجينية المطلوبة القادرة على البقاء ، أما معاني الوفاء و الديمومة في العلاقة الزوجية بين الفردين فهي في الغالب مفاهيم أكثر تعقيداً تدل على الإستثمار البعيد و الإستبصار و الضبط إذ أن المشاهد من الأنثى في الفرقة الأولى من الثديات أنها أميل لتعديد العلاقة الجنسية بعد ضمان النسل عند الذكر الأول ولا تلتزم بالمكوث معه إلا لضعف يخيفها من الإنتقال غالباً فيما يكون الذكر في الفرقة الثانية أميل للتعدد بقدر قدرته على فرض السيطرة ، و كذلك فإن مفهوم رعاية المصلحة الإجتماعية و الرابطة العرقية هي مفاهيم عقلانية أكثر تعقيداً وهي أظهر في الإنسان منها في الحيوان إذ هي تعارض الميل الطبيعي لدا كل من الجنسين في اختيار الجينات الأفضل (الزوج الأكثر جاذبية) .
و مع أن البشر يختلفون فيما بينهم و يصعب وضعهم جميعاً في إطار واحد إلا أن وجود نسق يجمع العموم يجعل من المنطقي تعميم القاعدة و قبول الحالات الشاذة كما هي ، فلنقم بطبع هذه الصورة الحيوانية على الحالة البشرية لنوجد نسقاً في طريقة التعامل و الإلتفات عند المغازلة إذا ما استبعدنا العامل الديني (العقدي) في الضبط و استبعدنا الدافع العقلاني و التقليدي في التزاوج .. العوامل الجاذبة في الأنثى تكون ( المظهر الدال على الخصوبة ، و المظهر الدال على البراءة ـ وجه طفولي- ، و المظهر الدال على الضعف -القصر و النحافة- ، و الشخصية الدالة على الضعف و العجز ، و الشخصية الدالة على التعاطف مع محيطها ) هذه المظاهر التي توجد خلقةً و يسهل تصنعها كثيراً عند الغزل تطغى على الخصال الأخرى التي يمكن احترامها ( كالعقلانية و العلم، و التدين ، و المكانة الإجتماعية ، و الدخل الذي قد يكون عاملاً سلبياً أحياناً ) و قدرة هذه العوامل على الجذب مستمدة من الطبيعة البشرية التي تميز الخلقة الذكورية عن الأنثوية لتستمد قيمتها من معاني السكون و العجز و الخصوبة التي تغري الذكر فتشعره بإمكانية زراعة بذوره و مراقبتها و رعايتها في أرضية خصبة و مطواعة ، أما العوامل الجاذبة في الذكر فتكون ( المظهر الدال على القوة -الطول و العرض و العضل- ، و المظهر الدال على الخبرة ، و المظهر الدال المكانة و السيطرة على المحيط -هذا يعني أن الذكر يجب أن يتميز بالضرورة إذ الذكورة ليست فيها قيمة ذاتية ولكن القيمة في الرجولة التي تراها المرأة في تميز الذكر بسيطرته على محيطه-، و الشخصية الدالة على الخبرة و الثقة ) هذه المظاهر كلها تلحظ فيها البدائية إذ المال إختراع بشري غير معدود نظراً لكونه عاملاً ثانوياِ يدل على تعقل الأنثى المنجذبة التي تختار بعقلها دون عاطفتها مصلحتها المادية تحسباً لظروف سيئة أو رغبة في المفاخرة ، بعكس المظهر الدال على المكانة و السيطرة الذي بطبيعة الحال يمكن تصنعه بالمال لكنه -مظهر السيطرة و التميز- هو المؤثر في سوق التزاوج إذ يعطي هيبةً و شعوراً أنثوياً بالعجز أمام هذا الذكر المسيطر فترغب في الإستسلام له و تتمنى لو كانت الأرض الوحيدة الذي يزرعها فتعلو مكانتها تبعاً لمكانته .
تبعاً للتحليل لسابق نستنتج :
١- أن كلا الجنسين سطحي عند المغازلة إذ المغازلة غريزة حيوانية بسيطة ناتجة عن رغبة المخلوق في إبقاء نسله ، و نظراً لكون الطبيعة بخلقتها الإلهية تدفع باتجاه بقاء الأقوى و الأصلح فإن هذا التفاعل الإجتماعي يبقي و يقدم الأنثى التي يدل مظهرها على أكبر قدر من الخصوبة و اللين فيما يقدم الذكر الذي يدل مظهره على أكبر قدر من القوة و السيطرة على المحيط .
٢- أن المجتمعات التي تعد المغازلة و العلاقات الجنسية خارج الزواج عادة مقبولة تزيد من الإهتمام بالمظاهر إذ أن المغازلة تفاعل غير عقلاني أو عميق ، و نظراً لأن مظهر الذكر يتأثر كثيراً بقدرته على تمييز نفسه و إظهار سيطرته على محيطه و بقية الذكور فإن الغزل يدفع باتجاه الطبقية و الإستعباد في سبيل حصول البعض على كل المعروض من الإناث ، وفي هكذا مجتمع يكون الإهتمام بالمظهر عند الإناث أمر حيوي و محوري إلى الحد الذي تصبح معه حاجات المستضعفين الضرورية أمراً ثانوياً لا يجب التركيز عليه سياسياً .
٣- أن تعقد المجتمعات الإنسانية يجعل من سبل إظهار القوة و السيطرة عند الرجل تتغير و تتكيف ولكنها لا تزال في أصلها تحقق نفس المعاني و تؤدي لبناء طبقي هيكلي صلب ( القوي فيه يستعبد الضعيف ) فسواءً إستخدمت الوظيفة أو المال أو العصبية العرقية في التمييز و إظهار القوة فإن الأصل يظل واحداً ، فالشاب الذي كان يستخدم عضلاته لتمييز نفسه أمام الفتيات أيام الشباب هو نفسه الرجل الذي يستخدم مركزه الإقتصادي و الإجتماعي لتمييز نفسه أمام الفتيات عند الكبر .
٤- أن الإنتشار في التزاوج طبيعة ذكورية أكثر منها أنثوية تبعاً لما ذكر من خصائص التمايز الجسدي بين الكائنات ، إلا أن الذكر عندما يلزم إجتماعياً بتحمل المسؤولية عن نسائه و أطفاله (مملكته) فإن رغبته في المحافظة على نتائج إستثماره تجعل من إندفاعه للتعدد يقل ، و على العكس فإن المسؤولية عندما تُعَوَم و توضع الأنثى في موازاة الذكر فإن قدرته على السيطرة على الأرض التي إستثمر فيها (الأنثى) تقل و بالتالي فإن قدرته على توقع نتائج إستثماره و الإجتهاد في تحصيله يضعف فتقل رغبته في البقاء في هذه العلاقة الخاسرة و يقل معها إحترام الأنثى له فتكتسب من الخصال الذكورية بالتدريج ما يصعب معه تمييزها عنه نفسياً على الأقل ..
٥- أن عاطفة الأبوة عند الذكر و عاطفة الأمومة عند الأنثى و الرغبة المتبادلة في إغمار كل من الطرفين الآخر بمشاعره المستمدة من دوره دليل على العذرية وقلة العلاقات السابقة إذ أن النفس البشرية غير منفصلة عن غريزتها الجنسية بل هي متممة للغرس و ضامنة للنسل ولا يتم الإنفصال حتى تتعدد العلاقات فتضعف العاطفة المميزة و تصبح العلاقة الجنسية شكل واضح من أشكال السيطرة و التعالي .
ملحوظة .. الأنثى التي لقيت رعاية أبوية جيدة تميل للتعلق بمن يشبه أباها من الذكور فهي ساكنة و متعاطفة و مقدرة لحضوره و سيطرته فيما تميل الأنثى التي نشأت في بيئة بعيدة عن أبيها إلى الثورة و المنافسة و عدم الإنقياد إلا للقسوة الظاهرة الفاتنة وكذلك الذكر الذي يتعلم إحترام الأنثى و رحمتها و الرغبة في حمايتها من تجربته مع أمه و رغبته في العثور على حضن كحضنها و إستشعاره لضعفها.