الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

خصال العبودية (بعض المظاهر الإجتماعية في المجتمعات الضعيفة)

خصال العبودية
بعض المظاهر الإجتماعية في المجتمعات الضعيفة



عندما ينشأ الطفل يجد نفسه محاطاً بمجتمع متشكل في أخلاقه ومبادئه و عاداته من قبل أن يصله هو، يتشرب الطفل ما يصل إليه دون تمييز لتصبح هذه النظرة المجتمعية و أسلوب التعامل مع الأحداث و المناسبات و الأشخاص معياراً لديه تقاس به الأمور و يُحكَم به على الآخرين، فإذا ما تمكن الإنسان من معاشرة مجتمعات أخرى و كان له من النباهة و بعد النظر ما يكفي تمكن من تمييز عادات مجتمعه و نظرته فأقر منها ما هو صحيح ونفى منها ماهو خاطئ، أما إلم يتيسر هذا أو أنه أصر على ما تعلم وتعود عليه حمية لقومة و أنفة من أن يتبع غيره فإن الجهالة و المعايير الخاطئة تثبت
والناس في تحليلهم و تقديرهم للأمور عادة ما ينشغلون بالأحداث الكبيرة و النتائج النهائية عن الأحداث الصغيرة التي كانت قد تراكمت من تحتها، وهذا ليس أمراً غريباً لأن الأحداث اليومية و العادات الإجتماعية أكثر رتابة وأقل دراماتيكية من تلك التي تظهر على قنوات الأخبار وعلى صفحات الجرائد، كما أن الناس تنسب هذه الأحداث والنتائج غالباً لأشخاص معينين وظروف معينة دون أن يتعمقوا في أسباب المشكلة الأصلية ليتحركوا بشكل عملي لحلها، وهذا المقال يهدف لتوضيح بعض العادات و المواقف الدالة على ضعف مجتمع معين وميله نحو التسليم للعبودية و الظلم من عدمه، واعتبار هذه العادات و المواقف الأخلاقية أساساً من الأساسات و قاعدة من القواعد للجبل الجليدي الذي يظهر للناس على سطح البحر.

عندما يزور الإنسان مجتمعاً من المجتمعات المتقدمة إقتصادياً فإنه غالباً ما يجد أن هناك بناءً ثقافياً واجتماعياً وسياساً متميزاً يختلف عن البناء القائم في مجتمعاتنا، ونحن كثيراً ما نفشل في الربط بين هذه الأنظمة (الإجتماعية والإقتصادية و السياسية) و نسقط إسقاطات خاطئة مبنية على سوء تقدير لأساس المشكلة عندنا و أسباب التفوق عندهم، فشخص تجده يرجع من بعثته الخارجية محملاً بمحاضرة كاملة في نفسه عن أهمية احترام القانون و سيادته و كأن القوانين المكتوبة في بلداننا هي سبب تخلفنا ! ، و آخر يكلمك عن أهمية الديموقراطية و حقوق الإنسان و يؤكد لكل شخص بأننا متخلفون لأننا لا نحكم صناديق الإقتراع و كأن صناديق الإقتراع ستغير عادات الناس و عصبياتهم ! ، و آخر يتكلم عن الحريات الفردية و عدم التدخل في حياة الناس الخاصة و كأن ضمان الوصول للشراب و النساء سيحل المشاكل ! ، وأنا هنا أعاكس هذا كله و أتصور أني قادر على تحديد بعض من الظواهر الإجتماعية الظاهرة للجميع والخفية في نفس الوقت في أثرها على أغلب الناس، و أنا بعد ذكرها سأبين كيف أنها مجتمعة تعبر عن حالة عامة من الوهن الذي لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض إذا ما اجتمعت فيه

هذه المظاهر الإجتماعية عامة وليست بأي حال من الأحوال شاملة، ولكنها الأظهر بالنسبة لي، وهي برأيي تؤثر في بعضها البعض ويستجلب بعضها الآخر إلى أن يظهر ذلك على البناء الإقتصادي و السياسي في آخر المطاف، فيكون الناتج النهائي لاجتماع هذه النقاط ضعف سياسي عام وظاهر، وانكشاف أمام القوى الخارجية و الداخلية المعادية لذلك البناء السياسي.


 ١- تقديس المظاهر 
هذه النقطة لا يمكن تعميمها لأن الناس كثيراً ما يسيؤون فهمها و التفريق بين أهمية اللباقة و المظهر الحسن وبين خطورة الإنشغال بالمظهر و الوقوف عنده. كل المجتمعات القوية و المستقرة تجد أن فيها اهتماماً عاماً باللباقة و الذوق و التناسق في كل شيء تقريباً، و هذا شيء جيد إذ يدل على العلو والأمارة ويعبر عن ميل عام لاستكمال العمل وإتقانه، وحب الإحاطة بجميع جوانب الحياة حتى يكون لذلك المجتمع هيمنة تامة على البيئة المحيطة وقدرة كبيرة على الإستفادة منها. كل هذا أمر جيد ولا يعاب ، لكن الذي يعاب هو الإهتمام الزائد بالمظاهر إلى الحد الذي يصبح معه الإنسان أسيراً لمظهره وغير قادر على التنازل فيه، ومن ذلك حب العلامات التجارية و احتقار الأعمال الجيدة التي لا تملك إسماً تجارياً أو مظهراً مميزاً. هذه القداسة في نفوس الناس للعلامات التجارية إذا انتشرت تدفع الناس لصرف أموال مبالغ فيها لأجل خدمات و صناعات يمكن الإستعاضة عنها بشيء مشابه و أرخص، لكن الشاري هنا يدفعه حب التميز والرغبة في الإنتساب لطبقة لا ينتسب إليها حقيقةً فيستسهل صرف هذه المبالغ ويستحي من طلب الخصومات و المراجعة مع البائع في كثير من الأحيان لكي لا يظهر بمظهر أقل. و على العكس فإن الشراء من أصحاب البسطات يقترن بالمخاصمة و الإتهام بالإستغلال حتى و إن كان هامش الربح قليلاً وقيمة السلعة بالنسبة للشاري أقل بكثير من المحلات المعروفة. هذا الإشكال كله يحصل لأن الشاري هنا غير معني بالسلعة بقدر اعتناءه بالمظهر، فالإستغناء الحاصل في كثير من حاجات الحياة الأساسية مع السعي المستمر للتنافس على المكانة و الطبقية الإجتماعية تجعل الناس يميلون في خياراتهم التسوقية لتكديس الأموال عند فئة قليلة من الناس تمثل منتجاتهم أحدث الصرخات وأرقاها، ومقتنوا هذه المنتجات هم علية المجتمع في العادة وعموم الناس يحاولون التشبه بهم،  وكلما زاد ذلك ازداد تكدس المال عند فئة قليلة و ضعفت قدرة التاجر الصغير على المنافسة و الإستغناء، وهذا كما هو واضح يؤدي للطبقية الشديدة و الإستعباد في نهاية الأمر.
هذا مظهر واحد وليس سبباً لازماً لحدوث الإستعباد، كما أن إنتشار العلامات التجارية في مجتمع من المجتمعات لا يعني بالضرورة ضعفها، فأحياناً تتميز بعض المجتمعات في صناعة هذه العلامات التجارية فتكون هذه الصناعات وسيلة لاغتنائها، ويكون ذلك الإغتناء على حساب مجتمعات أخرى تسعى للبس وركوب تلك المنتجات وهي غير قادرة على إنتاج مثلها أو حتى التنازل لشراء ماهو دونها من حيث المظهر و الإسم.


٢- قبول التملق و التربص إجتماعياً و اعتباره ذكاء 
درج الناس منذ القدم على امتداح من ترجى منفعته أو تخشى وطأته ولكن عندما يصبح امتداح القوي وظيفة مجزية و وسيلة مقبولة إجتماعياً للترقي، وعندما يصبح التربص بكل مخالف في كل زلة له وكل سريرة يخفيها عن الناس وسيلة مشروعة لكسب العيش واكتساب الحظوة بين الناس فإن ذلك المجتمع يعد مجتمعاً معيباً ومتخلخلاً، لا يمكنه أن يواجه أي تحد خارجي حقيقي.
عندما يقدم الناس شخصاً من بينهم يكون سبب تقديمه إجادته لكتابة الشعر فقط، فتارة يطري على شخص أكثر من حقه و تارة يعيب أناساً بما يفوق عيوبهم حقيقةً فإن ذلك المجتمع يعد معيباً عيباً خطيراً، ليس لوجود أمثال هؤلاء الشعراء ولكن لتقديمهم على أنهم مثل عليا وسادة في المجتمع. و قس على ذلك الإعلاميين الذين لا يقدمون للناس غير النميمة و التربص و الإطراء و الإدعاء، هؤلاء عندما يقدمون للناس على أنهم مثل و قادة يجب أن يحتذى بهم فإن ذلك المجتمع يعد مجتمعاً هشاً وقابلاً للتناحر.    


٣- العصبية العرقية الشديدة 
 التعصب للعرق و العائلة شيء طبيعي في البشر بل هو أساس البناء الإجتماعي و السياسي، فالإنسان يميل للدفاع عمن يشبهه مخافة حلول الضرر به هو، و يسعى في علو من يشبهه إستشعاراً منه أن من يشبهه يمثله في أعين الناس، ولأن في الترابط الأسري و النعرة منفعة ومنعة من أن يحل الضرر بالإنسان فإن الإسلام قد حرص عليها واعتبر الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وجعل للوالدين سلطة ليست لأحد من الناس، وللزوج على زوجته سلطة ليست لأحد من الناس، وللقرابة بالعموم حق يسأل عنه الله يوم القيامة، فهذه كلها أمور مطلوبة من المسلم لكن العصبية تكون بحدود و ضوابط شرعية وهي التي نتكلم عنها هنا.
 الذي يحصل في المجتمعات الضعيفة هو تكلف العصبية والمزايدة فيها إلى الحد الذي يُرهَق فيه الفرد و تتعطل حركته في سوق العمل و تصبح المنافسة والإستقلال وطلب الغنا أو المصاهرة مع من يرى فيه صلاح ومنفعة تهمة. هذا الأمر لا يلحظه الكثير من الناس ذلك أن المواقف النفسية و المصلحية كثيراً ما تُلبَس لباس العادات و التقاليد و تُستَخدم الشرعية المجتمعية هنا لقمع كل شخص يسعى للتميز أو لعقد صفقات تجارية و خيارات تسوقية وعلاقات زوجية تحقق المصلحة الفردية، فمثلاً تجد أن الأفراد من عائلة معينة قد يحسدون فرداً من أفرادهم على ما رزقه الله من نباهة وعلم فيحاولون أن يضغطوا عليه لحضور جميع المناسبات والإجتماعات معهم حتى لا يشعروا بتميزه عنهم عندما ينشغل بالدراسة أوعمل، أو أنهم يوقعون على فرد من أفرادهم مزيداً من الحمل المادي إذا وجدوا أن هذا الفرد قد اغتنا وهم لم يحصل لهم ما حصل له، أو أنهم قد يوجدون عرفاً إجتماعياً بألا يتزوج شباب العائلة من خارج العائلة أو العكس،  وهذا يمكن تعميمه على نطاق إجتماعي واقتصادي أوسع، فالرجل إن كان قد حقق مكسباً مادياً من الإنفتاح في سوق العمل فإن أفراد الطبقة الدنيا و أحياناً المتوسطة سيرغبون في تضييق مساحة التوظيف لكي لا تشمل أحداً غيرهم بغض النظر عن الكفاءة، وهم هنا يتجاهلون عمداً كل إضافة يقدمها الأجنبي عنهم ويظنون أنهم هم الوحيدون المتسببون في غنا ذلك المجتمع وذلك الشخص.

أظن أني أحتاج للتوضيح و التفصيل بشكل أكبر، فالحقيقة هي أن العصبيات ليست واحدة، بل برأيي أن هناك عصبيتان عرقيتان أحدهما عملي مفيد و الآخر ضار مستنزف للمجتمع، فأما العصبية العملية فهي عصبية ناجمة عن الإنتاج والنجاح المادي وليست سابقة له، فالمجتمع المنجز الذي يبني الكثير و يحقق الغنا تجد أن أفراده يميلون لبعضهم البعض و يثقون في قدرات بعضهم البعض ولا يميلون للإعتماد على الآخرين كما هم يعتمدون على بعضهم، وهم مع هذا التعصب و التمييز لبعضهم تجدهم شديدوا المطالبة في العمل من بعضهم البعض، قليلوا الصبر على الأخطاء إن وجدوا خللاً أو إهمالاً فيما بينهم، لذلك فإن ذلك المجتمع و إن كان يوظف بعضه البعض و يميلون للإستثمار في بلدانهم إلا أن كل ذلك لا يكون عادة على حساب الجودة و التنافسية و إنما متناغماً معها، ذلك أن ثقافة العمل وإحساس الفرد بالمسؤولية وأنه سيقصى و يطرد في حال لم يرتقي لما هو منتظر منه يكون عاماً  ومعيناً. أما العصبية الضارة و المستنزفة فهي تلك العصبية التي يدعي فيها أفرادها لأنفسهم ما ليس لهم، ويطالبون بناءً على ذلك الإدعاء ما لا يستحقون، فلا يستقر مجتمعهم إلا باسترضاء مادي كبير دائم، فكل من يملك مالاً و نفوذاً وبناتاً يجد أنه مطالب بالإستثمار و التعاقد والتزاوج مع من لا يعد الإستثمار فيه و التعامل معه والتقارب منه أمراً مجدياً و نافعاً، و أحياناً يصل الأمر لأن تحتاج المؤسسة التجارية لتوظيف شخصين للقيام بعمل يقوم به شخص واحد في العادة لاسترضاء الجماهير، أو أن الأب يستمر في الصرف على بيت ابنته التي زوجها لمن لا يستحق فقط لأنه قريب، وهذا كله عائد للعصبية.
كما يجب أن توضح نقطة أخرى هنا قد تفسر بعض هذه التصرفات، فالمجتمعات الضعيفة في ثقافتها العملية و الإنتاجية و الإبداعية تظهر فيها هذه العصبية المستنزفة بشكل أكبر، ذلك أنها تستشعر ميلها لتحلل و الإنهزام أمام تلك المجتمعات المنافسة و المهاجرة في حال لم تُفرَض قوانين تميزها و تساعدها على غيرها، و أما أصحاب العصبية العملية فإنهم أقل ميلاً لإظهار عصبيتهم أو المطالبة بتشريع قوانين تميزهم لكونهم لا يحتاجون لها، فهم أكثر اعتزازاً في داخلهم بأنفسهم و أكثر ميلاً للإنتظام و التعاون فيما بينهم، و أقل قبولاً لخسارة المال للآخر الذي لا يشبههم، وأكثر حباً للتزاوج من داخل مجتمعه دون إكراه أو عتب إجتماعي، وهم مع ذلك قليلوا السخط و الإعتراض على وجهائهم كثيروا العمل و الإنضباط لتحقيق الإغتناء و السيادة المادية و المعنوية على غيرهم.
والعصبية في موضوع الزواج شيئ مشابه للعصبية في موضوع المعاملات التجارية، فالمجتمع الذي يتصور لنفسه مكانة تفوق مكانته السياسية و الإقتصادية الحقيقية تجد أنه يتكلف في العلاقات الإجتماعية و يستنزف بعضه البعض كما يفعل في العلاقات التجارية، فالزواج في المجتمعات العملية يقترن بالكفاءة و المنفعة إلى حد كبير ولا يعد هذا عيباً عند عموم الناس، فالخصال الحسنة في الخاطب تدل على منفعة آنية وإمكانية نشوء جيل حسن يحمل صفاة الوالدين ويعين بالتالي على ازدياد نفوذ العائلة المادي، أما في المجتمعات الأكثر تعصباً فإن المال لا يحترم كما يحترم العرق ونسب الفرد الخاطب، فأصالة عرقه تدل على علوه هنا حتى و إن كان عمله لا يشهد له بذلك، هذه الحالة توجد كيانات إجتماعية منفصلة داخل المجتمع لا يمكن أن تذوب في بعضها لتكون هوية واحدة جامعة، كما أن الظلم و تأكيد الطبقية العرقية يصبح بالتدريج أكثر قداسة لأن الكثير من الناس سيجدون أن لهم مصلحة مباشرة من تحريف السياسات و التشريعات لصالحهم حرصاً منهم على ألا يهبطوا في السلم الإجتماعي إلى المكانة التي يقررها لهم سوق العمل، وهذا كله أمر ظاهر للمراقب، أما الذي لا يظهر لغالبية الناس فهو الأثر البعيد لارتباط الناس في العلاقات الزوجية على أساس العصبية و النسب فقط، إذ يتم تحييد الجانب العملي تباعاً ليصبح جانباً ثانوياً فتترسخ الكثير من الصفات الوراثية و العادات الإجتماعية السيئة على حساب الصفات الأقوى في الأشخاص الأقدر و الأكثر حكمة صلاحاً


 ٤- الهوس بالإدارة و احتقار المهن
من الأمور التي لاحظها الكثير من الكتاب في المجال السياسي و الإقتصادي هو ميل المجتمعات الضعيفة لدراسة التخصصات الإجتماعية و الأدبية و احتقارهم أو عجزهم أو عدم إدراكهم لمركزية التخصصات العلمية و المهنية، هذا الأمر كان ظاهراً وربما لا يزال في دول جنوب شرق آسيا إذا ما قورن أهلها بالصينيين الذين يعيشون فيها، وفي أفريقيا إذا ما قورن أهلها بالأجانب الوافدين إليها، وفي جنوب أمريكا كذلك أيضاً فإن الوافدين إليها من الأوروبيين و خصوصاً الألمان و الإيطاليين في السابق فإنهم قد تمكنوا من الهيمنة على الكثير من القطاعات التجارية فيها. وقس على ذلك التمايز بين القوميات في أمريكا من حيث متوسط الدخل و التمثيل في القطاعات الصناعية. هذا الكلام يعرفه الكثير و يلمحون إليه و يقولون بأن أبناءنا عليهم التركيز في دراستهم و احترام تخصصاتهم و الإنضباط في عملهم لكنهم في الغالب يجهلون أو يتجاهلون نقطة مهمة هي أساس المشكلة هنا وهي حب السلطة في مقابل حب الحرفية و احترامها، فهذه المجتمعات يرى أفرادها أن الحرف بالعموم سهلة و أن الجميع قادر على شغلها و أن ما هو مطلوب هو أن تدفع لأي عامل راتباً يعيشه ليضمن لك الإنتاج المطلوب في هذا المجال، و أن العبقرية الحقيقية تكمن في الإدارة و القدرة على ضبط العمال هؤلاء الذين قد تخصصوا في هذه الحرف والذين لا يفهمون شيئاً في الإدارة وليس لهم بعد نظر و حكمة في كيفية الخروج بالمنتج النهائي، و الحقيقة هي أن هذا الأمر أبعد ما يكون عن الصواب، فالإدارة كعلم أسهل بكثير من التخصصات العلمية، وهي بالعموم كوظيفة سهلة للغالبية من الناس إذا منحوا القوة، أما القيادة وهي قرينة الإبداع و العلم التقني صعبة على عموم المدراء و على عموم الناس، ذلك أن الإلهام لا يحصل إلا للمتمكن في مجاله، الذي يستطيع أن يستحث بما يعلم وبما يحلم به الناس من دونه، فيصبحون وهم يحلمون بما يحلم ويعيشون لتحقيق ذلك الحلم وكأنه قد كان حلمهم منذ البداية. وهذه ليست النقطة الوحيدة فحتى الإبداع في العمل والإتقان في تفاصيل الأمور لا يتحقق إلا إذا توفر الموظفون الحريصون على تخصصاتهم، الغير منشغلين بالمناصب الإدارية و الصراعات السياسية أكثر من انشغالهم بالخروج بمنتجهم بشكل كامل وجميل يمثلهم جميعاً.
بالمعموم يجد الإنسان أن المجتمعات التي ترسخت فيها الصنائع بشكل أكبر تعد العمل المهني/الحرفي الوسيلة الأسمى للترقي الإجتماعي وللحصول على الذكر الطيب وتخليد السيرة، بل إن الكثير من أفراد هذه المجتمعات ينسبون أنفسهم لهذه المهن و يورثونها أبنائهم، خصوصاً إذا تميزوا وعرفوا بها، و هذه المجتمعات بالعموم تميل لاحتقار العمل الإداري و الحكومة نظراً لأنها تقترن بالضرائب و فرض القوانين والتطفل على ما ينتجون فتأخذ جزءً من أرباحهم فيعد العامل فيها شخصاً متطفلاً و متعالياً أكثر مما يعد إضافة نافعة، وهذا بعكس المجتمعات الضعيفة التي يسعى الكثير من أفرادها للعمل الحكومي و يجدون في أنفسهم الإستعداد لقبول بيروقراطيتها الجامدة بل أحياناً حتى التعدي على الممتلكات الخاصة ومصادرة أملاك التجار و الأغنياء من أصحاب المهن الرفيعة. هذه خصال نفسية تعكس حب التسيد و التعالي بعكس تلك المجتمعات الأخرى التي يسود فيها حب الإستغناء و الإعجاب بتفاصيل الحرف و الجمال الظاهر في المنتج من مبدأه إلى حد اكتماله، فالمجتمعات الأولى ترى أن من ينشغل بهذه الأمور مغفل يمكن شراؤه أو قمعه إلم يعمل وفق أوامر سيده، بل حتى قد يصح  عقابه عقاباً جسدياً إلم يخدم إسم سيده و يرفع ذكره، أما المجتمع الثاني فإنه يحترم كل التفاصيل و الإضافات في هذه المهن و يعتبر أن المشتغلين فيها أشرف من السادة أو أنهم على الأقل لا ينقصون عنهم
هذا الدافع لولاه ولولا حب للجمال و التفاصيل في هذه المهن و احترامها لما رأينا شركات مثل مرسيدس و آبل، ولما تقدم الطب لما نراه الآن، ولما ظهرت الجامعات العالمية بالمستوى الذي نراه، فمع أن المجتمعات الضعيفة ترى أن هذه المنجزات ممكنة عن طريق الإدارة الجيدة إلا أن الحقيقة أن هذه المنجزات تعبر عن روح العاملين فيها أكثر مما تعبر عن مديريها، فهي حركة مستمرة يهلك فيها العاملون أجمل سني عمرهم و يشغلون فيها أذهانهم ليخرجوا بصرح جميل متميز يشعرون أنه يعبر عنهم و عما يؤمنون به


٥- سيادة الأنوثة 
   من دلائل ضعف المجتمع إستئساد النساء و ضعف الرجال، وهذا شيئ غالباً ما يرافق حالة الترف و الرخاء في المجتمعات المتقدمة، فالمجتمع عندما يأمن و تدوم له حالة الغنا و الرفاهية لفترة طويلة تفقد النساء فيه الشعور بالحاجة للرجال كما يصبحن أكثر تطلباً  وأكثر إصراراً على المساواة، والتي في الغالب تعني إستغلال الرجل ونكران حقه
سيادة الأنوثة تعني المجاملة و تجاهل المنافسة التي هي الطابع الغالب في الحياة، فسيادة الرجل و الرجولة عائد للتفاضل في الوظائف واعتماد المرأة على الرجل في أمور أكثر حيوية مما يعتمد فيها عليها، فإذا ما حصل الغنا و شعرت المرأة بالإستغناء فإن الشعور بالإمتنان يزول و معه الأدوار الطبيعية القائمة في البيت تزول، هذا يؤدي لضعف البناء الأسري و سهولة الإنفصال والتخاصم في المحاكم، ولهذا كله تقل رغبة الرجال في الإرتباط والإنجاب في المجتمعات الغنية وهذا كله مضعف للمجتمع ككل


٦- سيادة الضعفاء 
سيادة الضعفاء من آخر المظاهر ظهوراً ومن أكثرها وضوحاً، وهي غالباً ما تعني وجود الكثير من خصال الضعف و الوهن، ففي المجتمعات التي يجتمع فيها معظم ما ذكرنا تجد أن أفراد المجتمع يحرصون على تقديم الذي يشبههم و يكون مستعداً للظلم لصالحهم لا أن يقيم العدل و أن يذكرهم بما يجب عليهم فعله، و نظراً لأن الأقوياء غالباً ما يكونون مستقلين و غير منشغلين برأي العامة فيهم فإن الضعفاء يحبون أن يروا شخصاً ضعيفاً يحكم، كأن يكون من أقلية أو من خلفية فقيرة لكي يضغطوا عليه فيستخدموه لمصادرة أموال الأغنياء و للإلتزام تجاههم بوعود قد لا تتحمل تكلفتها الدولة، كما أن تذكير هذا الحاكم و الأمير المستحدث بأصله يطيب لنفوس هؤلاء وتطيب لهم فكرة أنهم قادرون على إزالته متى ما أرادوا لكونه ضعيف الأصل، مع أن إزالة هؤلاء غالباً ما تكون أكثر كلفة من إزالة الحكام الأقوياء نظراً لميلهم لاستخدام كل أنواع العنف و التجسس و الإبتزاز عندما يشعرون أن مكانتهم مهددة و أن الجماهير لم تعد تميل لصالحهم.


إن هذه الخصال على اختلافها تتصل فيما بينها بنفس الموضوع وهو حب التعالي على الآخرين. هذا هو الدافع الأساسي و سيد كل الأخلاق الذميمة، فالمجتمع الذي لا يسعى في مجمله للإكتفاء والإستغناء لن يحرص على الحفاظ على كرامة الضعفاء فيه وإعطائهم ما يكفيهم لإغنائهم عما يمكن أن يلحق بهم من أذى ومهانة، كما أن الحرص على التعالي على الآخرين و طلب المديح و المكانة يجعل الناس يميلون لتشريع كل مظلمة و قبول كل تحريف في المنطق السليم، ذلك أن النفوس التي لا تتمتع بخصال الأمارة (وهي أساساً الإغتناء و الإستقرار) ستحاول أن تتظاهر بها عن طريق استعباد الآخرين والتلبس بملابس الأمارة والسيادة الظاهرية، وهذا كله لا يغني المجتمع ولا يمنع الوهن والهشاشة عنه.