الأحد، 14 فبراير 2016

القوة ( النفوذ )




القوة (النفوذ) 
كيف يحافظ المجتمع على نفسه من نفسه ؟ .. الرضا وعبادة الله


يمر الإنسان في كل يوم بنطاق من نطاقات السلطة (النفوذ) يكون شخص ما قد بناها قبل، لا يدرك عموم الناس تلك النطاقات لأن معظمهم لا يفهم القوة (النفوذ)، لكنهم يشعرون بأثرها و يرغبون في امتلاكها أملاً في دفع ضرر أو تحقيق مصلحة.

القوة (النفوذ) موضوع غالباً ما يتجنبه الناس نظراً لحساسيته و أثره على المجتمع الصغير الذي يسعى لإشعار أفراده بتساويهم، خاصة و أن المجتمعات (الصغير منها خاصة) دائماً ما تجد الشرعية في سيادة الرأي العام على المجتمع (أي سيادة المبادئ العامة و التقاليد العامة و المصلحة العامة على الجميع)، لذلك فإن الكلام بشكل أكثر دقة عن القوة ومن يملكها يبدو شيئاً نجساً لأنه يصدم رغبتنا في تساوي الناس واحترام مكانتهم (التي نسعى للحفاظ عليها بعدد لا محصور من المجاملات أملا في إخفاء التباين الحقيقي)، لكن الحقيقة هي أن القوة ليست منسابة في المجتمع بالتساوي كانسياب الماء على الأرض المنبسطة، كما أن تراكم القوة ليس شراً محضاً ولا هو خير محض بل هي طبيعة الحياة (سنة الله في هذا الكون) التي يؤدي التعامل معها بإيجابية لإيجاد النتائج المرغوبة.

توزيع القوة و انتشارها يحدد شكل النظام السياسي و قوانين اللعبة السياسية في المجتمع، ذلك أن القوة ببساطة تحدد من يتخذ القرارات و كيف يتخذها، لذلك فإن معرفة كيفية عمل القوة (النفوذ) يعد مفتاحاً مهما يساعد الإنسان على أن ينعتق من نفوذ الآخرين و أن يؤخذ بجدية، فهو ليس كياناً سلبياً مفعولاً به بل كيان متفاعل يؤثر و يتأثر ، لذلك فإن هدف هذا المقال هو توضيح مصادر القوة و طريقة تفاعلها و كيفية التعامل معها أملاً في تحقيق المصلحة العامة .

أسئلة المقال هي : 
١- من أين تأتي القوة (النفوذ) ؟ 
٢- كيف تمارس القوة (النفوذ) ؟
٣- ما الذي يمكن أن يفعله الفرد ليكون حراً و منعتقاً من نفوذ الآخرين ؟ 

لنعرف المصطلح أولاً .. القوة (النفوذ) ببساطة هي أن تتمكن من دفع الناس و ضبطهم لعمل ما تريدهم أن يعملوه , هذا الكلام بسيط وهو ينطبق على جميع مفاصل الحياة الإجتماعية من علاقات أسرية إلى زوجية إلى العلاقات التجارية العملية، لكن لأن التفصيل في كل زاوية من زوايا النفوذ الإجتماعي سيطيل المقال و يخرج به عن الفائدة العملية فإن المقال سيركز على المجتمع ككل و أثر العلاقات الصغيرة المتعددة في تحقيق النتائج السياسية المطلوبة.

يمكن تلخيص مصادر القوة في ست نقاط ، هي : 

١- القوة المسلحة ( قوة الأمن ).
وهي القوة العسكرية التي بها يتم فرض قرار من القرارات بقوة السلاح و التهديد بمصادرة المصالح و الممتلكات لدى العامة، سواءً كانت هذه القوة شرطة نظامية أو ميليشيا إرهابية هي في نهاية المطاف القوة في أبسط صورها.

٢- القوة المادية ( المال ).
وهي امتلاك المال الذي يعطي القدرة على شراء النتائج، ذلك أن قيمة المال في ندرته و تمثيله لمجهود سابق لذلك فإن المال قوة قادرة على شراء أي مصدر آخر من مصادر القوة تقريباً .. أحيانا لا يكون المال نفسه مملوكاً لكنها مجموعة الخدمات و السلع التي يحتاجها الناس والتي يحتكرها فرد من الأفراد فتمكنه من فرض نفوذه و سلطته.

٣-  القوة السياسية (الشرعية). 
هذه تكون عن طريق استخدام القانون و البيروقراطية لدفع الناس لعمل شيء ما أو تجنبه، ونظراً لأن هذه القوانين لا تكتسب قداستها إلا من شرعية الحكومة، فإن الحكومة إما أن تكون منتخبة تمثل القرار العام لدى الناس فتستمد شرعيتها من ذلك، أو هي حكومة دينية تستمد شرعيتها من شرعية القانون الذي تطبقه و تنضبط به، أو هي حكومة سلطوية ضامنة لمصالح الناس بقوتها فتكتسب شرعيتها من تلك المصالح المضمونة و تاريخهاالثابت في الإدارة، في نهاية المطاف هذه القوة هي قوة أخلاقية يحترمها العامة لأنها تمثل عمومهم مهما كان شكل الحكومة.

٤- العادات الإجتماعية (التقاليد السياسية).
هي مجموعة الأعمال و التصرفات و المواقف التي يقرها المجتمع في مقابل تلك التي يعترض عليها، وهي لكونها لا تملك قوة مركزية تفرض من خلالها رؤيتها فهي تعد قوة ناعمة إذ هي بعكس القوانين البيروقراطية تعد قانوناً عاماً ضمنياً يتخلل المجتمع فيضبطه وفق صورة اجتمعاية مسبقة، يستطيع من خلالها المجتمع أن يدفع الناس لتغيير تصرفات معينة و قوانين معينة أو المحافظة على بعض التصرفات للحفاظ على الهوية العامة و المصلحة العامة.

٥- قوة الفكرة . 
أي فكرة يؤمن الناس بها و يجدوا أن تفاصيلها واضحة لديهم فإن أثرها يصبح واضحاً على حياتهم و قراراتهم السياسية و الإجتماعية ، مثل فكرة سيادة الشريعة الإسلامية في المجتمعات المسلمة و سيادة الحرية الفردية في المجتمعات الغربية، هذه الأفكار المتباينة تمثل حضارات مختلفة و تؤدي لبناء سياسي مختلف. 


٦- العدد . 
إن اجتماع عدد كبير من الناس على موضوع معين وإن كان عارضاً يؤدي لزيادة احتمالية تحقيق هدفه ، ذلك أن الأعداد الكبيرة تحمل في جعبتها قدرة إقتصادية و اجتماعية كبيرة تكفي لتحقيق تغييرات سياسية ملحوظة . 


هذه كانت المصادر الأساسية للقوة ، وهي في الحقيقة تتفاوت لدى الناس، فبعضهم يملك عدة منها و آخرون يملكون مصدراً واحداً بشكل كبير و آخرون لا يكادون يملكون شيئاً، الحقيقة هي أن مصادر القوة الأولى ( من عصبية تمنح قدرة عسكرية و مال يمنح نفوذاً إقتصادياً مدنياً ) هي الأهم عندما نتكلم عن القوة بشكل مطلق عبر الزمن، ذلك أن أفكار الناس و مبادئهم تتبدل مع الزمن و قدرة المخلصين على الإمتثال بتلك المبادئ و تمثيلها يضعف تدريجياً، خاصة إذا كانت الحاجات الأساسية من أمن و غذاء لا يتوفران لدى عامة الناس. لذلك فإن المصادر الأولى هي أثبت المصادر عبر الزمن و أقدرها على الحشد و ممتلكها أقدر على الحصول على الشرعية السياسية و القنانوية من غيره .

لنتأمل الآن في قوانين القوة ، كيف تتحرك القوى و تتفاعل مع بعضها ؟

١- القوة لا تثبت أبداً .
القوة لا تثبت بيد فرد أو جماعة، هي إما تجتمع بيد أحدهم أو تتحلل من عنده، و بالتالي فإن الشخص إلم يكن يعمل فإنه أرضية لعمل الآخرين، و المثل العربي يقول ( إلم تكن ذئباً أكلتك الذئاب ).

٢- القوة تنساب مثل الماء. 
القوة تنتشر كالموج خلال حياتنا اليومية تبعاً لتفاعلات الناس اليومية من مصالح تجارية و خدمات إجتماعية تبنى بها تحالفات و عصبيات متعددة و تفكك أخرى، لذلك فإن السياسة تعد عملاً واعياً و منظماً يهدف لتوجيه هذه الأمواج و استخدامها لتحقيق أهداف سياسية مرغوبة ، إذ تعد القرارات السياسية تحركات تهدف لتجميد موجة ما و تنمية أخرى حسب الأهداف السياسية المسبقة.

٣- القوة تتكدس. 
من يملك القوة يسهل عليه جمع المزيد من منها، كما أن من لا يملكها يصعب عليه الحفاظ على ما بقي له منها. الشيء الوحيد الذي يمنع هذا القانون من الوصول بنا لواقع حاد تتكدس فيه القوة كلها بيد شخص واحد يتحكم بالباقين هي كيفية تعاملنا مع القانونين السابقين.


 ماهي القوانين التي نفرضها حتى نمنع مجموعة بسيطة من تكديس قوة (سلطة) زائدة تسمح لها بتأكيد تميزها قانونياً ؟ ماهي الأمور التي يمكن عملها حتى تكون للفرد قوة (نفوذ) يتحرك من خلالها في الحياة العامة حراً كريماً؟ 
إن معرفة القوة ( أين توجد ؟ من يملكها ؟ كيف امتلكها ؟ كيف تتحرك ؟ ماذا ينوي أصحاب النفوذ أن يعملوا بهذه القوة ؟ و كيف يتم العمل لتكديس المزيد منها ؟ ) تساعد الفرد و المجتمع على التموضع بحيث لا يتم استغلاله ولا التلاعب به . 

هنا نصل إلى النقطة الختامية وهي الهدف من هذا المقال .. تكدس القوة (النفوذ) و ما يوجده ذلك من تشريع للإستعباد و الظلم . 

كما ذكرنا في النقطة الأخيرة من قواعد القوة (النفوذ) وهي أن القوة تتكدس ، أي أن القوة بطبيعتها تجذب المزيد من القوة ، لذلك فإن المجتمعات البشرية تنحو بطبعها نحو الإستعباد ( الإستعباد البشري للبشر و اسعتباد الأوهام للعقول الذي يؤدي بدوره لمزيد من الإستعباد البشري ) ، المجتمعات البشرية المتحضرة (التي يوجد فيها نظام مدني مركب يتميز بالصنائع و التخصص و الهرمية الإدارية) تحتاج بالضرورة لضبط أفرادها، و نظراً لكون البشر يميلون بطبيعتهم للتعدي و الأثرة فإن الضبط يجب أن يكون قوياً و خارجياً إلى حد كبير، لكن المجتمع المسلم الذي يسعى لأن يكون مجتمعاً راشداً يحاول أن يتجنب القمع العسكري و الإفقار المادي بأكبر قدر ممكن مما يجعله يركز على مصادر القوة الأخرى غير القمعية لضبط المجتمع ( العادات الإجتماعية، العقيدة ، وقوة الرأي العام ) ، و لأن هذه القوة قوة ناعمة منتشرة وغير منتظمة في المجتمع فإنها تحتاج لمن يربيها و يوضحها و يحركها، ولأن ذلك يعتمد على حرص أصحاب القوة و النفوذ في البلد ( من سياسيين و تجار ) فإن ذلك لا يتم عادة إذ أن أصحاب النفوذ ينأون عن مشاركة نفوذهم و تسليمه لغيرهم مالم يظطروا لذلك، لذلك فإن هذه الحالة ( من سيادة المبدأ و العادات الإجتماعية المفيدة و الرأي العام ) حالة طارئة تمثل وعي أصحاب النفوذ و سعيهم للإندماج في محيطهم و حرصهم على تنمية المبادئ و العادات بمواردهم و قواهم التي يملكونها ( أي توكيل المجتمع بنفسه من خلال موارد المتنفذين التي يملكونها فيساعدون المجتمع على أن يمثل نفسه وهويته )، لذلك فإن الدولة المسلمة الراشدة ليست دولة يحكمها العلماء ، هي دولة يحكمها أصحاب النفوذ كما يحكم أصحاب النفوذ أي دولة أخرى، لكنها دولة تتميز بحرص المتنفذين على المصلحة العامة بإعادة شيء كثير من مصادر قوتهم إلى المجتمع باستمرار لتحيا عقيدة المجتمع و مبادئه و تبقى عاداته القويمة ثابتة راسخة في حركة الناس . 

تزاوج أصحاب النفوذ السياسي و العسكري بأصحاب المال و أصحاب الوجاهة من العلماء هو تزاوج طبيعي يتم دائماً عبر العصور وفي كل بلد لينتج طبقة أرستقراطية تحتكر المال و النفوذ السياسي، هذه الدائرة اللولبية اللا منتهية لا تنكسر إلا بقدوم قوة منافسة تحل نفسها مكان القوة المحتكرة الأولى أو بحرص هذه الطبقة مع عامة الناس على الإبقاء على هوية المجتمع القويمة بمبادئها المقدسة و عاداتها الإجتماعية النافعة، ولأن ذلك لا يتم إلا بالإقلال من تكدس موارد القوة (العسكرية و المالية) فإن هذه الحالة هي حالة طارئة في الغالب تدفع الناس للتضحية العامة بالعصبيات السياسية و الموارد المالية لتنتهي بالإقلال من التفاوت في الدخل و النفوذ لتصبح للمبادئ و العادات السلطة الأكبر عوضاً عن سلطة الإنسان. 

الإسلام اعتمد على وسيلتين بالعموم لتحقيق هذه الحالة ( حالة عدم تكدس القوة و استعباد البشر للبشر ) : 
١- ضبط الطبقة الأرستقراطية (ذات الوجاهة ، الطبقة التي تملك القوة و المال) .. هذا الضبط يتم بتقنين التعاملات التجارية ( فيمنع الربا و القمار و الغرر و بيع المسكرات و الدعارة و ما إلى ذلك من أمور تسهل استعباد الناس و جمع مواردهم و احتكارها ) ، و ضبط القرارات السياسية ( فالمخلوق لا يطاع في معصية الخالق، المأمور لا يقبل بأن يؤمر بالتعدي على مال غيره و حياة غيره و عرض غيره مما أتت الشريعة بتحريمه و الحفاظ عليه، مما يضيق على الحاكم مساحة التحرك والقدرة على التجبر ) ،و مصادرة السلطة التشريعية لتكون سلطة إلهية بمبادئ و مقاصد واضحة لا يستطيع الحاكم تجاوزها و استغلالها ( هنا لا يستطيع الحاكم التلاعب في عقائد الناس ولا وضع مبادئ مصلحية للتشريع غير المبادئ الظاهرة في الشريعة الإسلامية مما يعقد عليه تشريع أفعاله و تعبيد قلوب الناس له) . 

٢- ضبط عامة الناس .. و يكون هذا الضبط بزرع التقوى ( أي الإنصراف بالقلب لطلب الآخرة و الرضا بالقليل من الدنيا ) في قلوب الناس مما يجعلهم عصيين على الإستعباد ، فهم لا يزنون ولا يسكرون ولا يقامرون ولا يغامرون بأموال الناس أو يتعدون عليها أو على حرمات المسلمين ، بذلك يصعب على المتنفذ اللعب على وتري الطمع و الجزع في قلوب الناس. هذه المجتمعات التي تتقي الله تجد في نفسها القدرة على الإعتراض على الظلم و الصبر على المشاق و تجاوز الملاذ الآنية لغاية أسمى . 

(( المجتمع الذي يعبد الله منعتق في حياته اليومية من عبادة البشر المتنفذين و العلماء الكذابين، هو مجتمع راض بالقليل متجاوز للأطماع ، وهو مجتمع عميق في نظرته و آماله و تصرفاته ))

غالباً ما تكون الظروف الصعبة و التهديدات القريبة هي الدافع الأساس لانضباط الناس، ذلك أن الناس طمعون جزعون ما كانت الظروف ميسرة لهذه الغرائز أن تطلق، فإذا ما قست الظروف و اظطر الناس لتعلم الرضا و التضحية فإن المجتمع بالعموم من أعلى الهرم إلى أسفله يتصرفون بما يفيد المصلحة العامة ، الغني و السياسي يعيد كل منهم الكثير من قوته إلى المجتمع و يستعيظ عن الإرهاب و الترغيب بمخاطبة العقل الأخلاقي و القيمي في الناس، و كذلك فإن الناس تصبح أكثر حساسية لأي تعد يحصل من قبل أي شخص كان، قوياً أو ضعيفاً، يمس هذه المبادئ و العادات التي ظلت تحافظ على المجتمع على مدى قرون .


يقول الله تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيءً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيءً وهو شر لكم والله يعلم و أنتم لا تعلمون (٢١٦) ) سورة البقرة .