الأحد، 10 مايو 2015

الدولة .. مواقف فلسفية

الدولة .. مواقف فلسفية عبر التاريخ

تشكل مراحل نشوء الدول و تطورها المواقف المتباينة المفكرين المعاصرين لهذه الدول عبر التاريخ ، و لعل نظرة سريعة لمواقف الفلاسفة الغربيين تعطي لمحة عن هذه المواقف المتباينة تباين أعمار الدول و أرواح الشعوب ، و لعل هذه النظرة تبين للقارئ كذلك ملامح التمايز بين الحضارة الغربية و الإسلامية في مواقف المفكرين و العلماء من الدولة و واجباتها و التزامات أفرادها .. 


نظرية العقد الإجتماعي : 
هي نظرية قائمة على أساس تسليم المجتمع قدراته الدفاعية و الأمنية لكيان سياسي واحد يقوم بكفاية الناس في أمنهم نظير مقابل ما حتى يتفرغوا لتحقيق مصالحهم و تأمين رغباتهم



١- تومس هوبز .. يعد رأس قائمة المتكلمين بهذه الفلسفة إذ سبق بها غيره حين طرح على نفسه هذا السؤال في أواخر القرن السادس عشر ( لماذا يجب علينا أن نخضع لسلطة خارجية ؟ ) 
قام هوبز بتصور نفسه يعيش حياة ما قبل المجتمع المتحضر ليقارن تلك الحالة بالمكاسب الإجتماعية المتحققة من الإنقياد لسلطة عليا مستقلة ، سمى تلك الحالة السابقة لمرحلة التعايش الإجتماعي بالحالة الطبيعية أو الأصلية (state of nature) .. هذه الحالة يسعى فيها الفرد لتحقيق مصلحته الذاتية دون اهتمام كبير لمصلحة الآخرين فيتميز ذلك النسيج الإجتماعي بالتفكك و الإعتداء و سيادة المتربص و نظراً لأن الإنسان لا يتمكن في مثل هذه الحالة من بناء أي شيء ذا بال أو تحقيق أي مصلحة كبيرة دون ترك ما يغليه و تعريض ممتلكاته للخطر فإن المجتمع بأكمله يتميز بعدم الإستقرار و عدم القدرة على الإستمرار ، فيكون من الطبيعي وقتها سعي الناس لإيجاد نظم إجتماعية و قواعد حاكمة تظبط الجميع و توكل لشخص ما ذا قوة مستقلة مهمة حفظ هذا النظام و قواعده و العادات التابعة له حتى تتحقق المصلحة العامة ولو أدى ذلك لشيء من طغيان هذه القوة المستقلة نظراً لأن ذلك من طبيعة البشر .



٢- جون لوك .. الفيلسوف الإنجليزي من فلاسفة عصر النهضة الذي يقول (( إذا سألك سائل متى بدأت تفكر فيجب أن تكون الإجابة .. عندما بدأت أحس )) كان من منظري الفلسفة التجريبية مع ديفيد هيوم و إلم يكن يلغ قيمة الدين و التدين كما فعل ذاك بل ترك له حيزه و دوره .. إستخدم لوك نفس منهجية هوبز و انطلق من منطلقاته لكنه اختلف معه في شكل الحالة الطبيعية أو الأصلية فقال بأنها تحتوي على أسس أخلاقية تجعل ذلك النسيج الإجتماعي ممكن تحمله و كان أشد اعتراضاً على السلطة المطلقة عندما تكون غاشمة .


٣- جون جاك روسو .. كان يرى أن التجمع حصل لتعقد وسائل الإنتاج و حاجتها لكثرة اليد العاملة وهو بذلك يعارض سابقيه إذ يرى أن الحالة الطبيعية/ الأصلية كانت حالة هادئة مستقرة و مكتفية ، و أنه لولا هذا الإجتماع المنتج لما ظهرت ثقافة المقارنة ( الحسد و الطمع و المفاخرة .. ) و لما ظهرت الملكية الخاصة التي قسمت الناس و حرفتهم عن طبيعتهم الطاهرة عندما كانوا على حالتهم الأصلية . 



الفلسفة النفعية : 
هي فلسفة أخلاقية تقول بأن القيمة الأخلاقية للعمل مستمدة من قدرة هذا العمل على تحقيق المنفعة العامة ، هذا يعني بالضرورة أن قيمة العمل غير مستمدة من ذاته بل هي قيمة مستمدة من شكل الناتج النهائي المترتب من ذلك العمل (consequentialism) .. أشهر مقولة دالة على هذه الفلسفة (( الغاية تبرر الوسيلة )) 


من هذا المنطلق و تبعاً لهذه الفلسفة فإن الصواب و الخطأ يعدان أمران نسبيان غير مرتبطين بعمل معين بل هما الناتج النهائي لعمل ما أدى لمنفعة عامة أكسبت العمل تبعاً لذلك معنى .. إشتهر بهذا القول ( جون ستيوارت ميل و جيريمي بينثام



فلسفة النفعية (العواقبية) نقيض الأخلاق “الواجبة” بالضرورة إذ أن الآخيرة تعمد إلى الحكم على العمل (السلوك) من خلال أخلاقيته المنفصلة عما ينتج عنه .. و هذا برأيي هو تجسيد لاختلاف الأولويات فالأول يقدم مصلحة الجماعة الكبيرة (السياسية) و الآخر يقدم مصلحة الفرد و الجماعة الصغير (الإجتماعية) و حرية أفرادها متجاهلاً العالم الخارجي  ، و لا تعكس هذه المواقف ميول الأفراد فحسب و لكنها تعكس ميول المجتمع في الدولة ككل تبعاً للشعور العام بالخطر الخارجي من عدمه و الوفرة المادية من عدمها فيسمح لكثير من العادات الإجتماعية بالمرور دون مسائلة حتى يصبح الظرف الإجتماعي المريح غير مستقل فتنتقل العقول للنظرة السياسية و الأخلاقية السياسية ( أي أخلاق العقلية النفعية في مقابل الأخلاق المجردة ) 



الفلسفة المثالية في السياسة : 
المثالية في الفلسفة هي مذهب قائل بأن حقيقة الكون أفكار و صور عقلية و هي بذلك تؤمن بأن العقل مصدر للمعرفة بعكس المادية ، ولا يهمني هنا تأييد هذه الفلسفة أو نقضها بقدر ما يهمني توضيح المنطق القائم على تصور جمال مطلق و حق مطلق لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال العقل المنفصل ، و النتائج المترتبة على تصور حقيقة مطلقة و جمال مطلق يسعى إلى تحقيقه الفرد و المجتمع عوض عن فكرة الإدارة الحكيمة لما هو موجود لتحقيق المصلحة العامة التي بتحققها تتحق القيمة و يستمد العمل مشروعيته و جماله .. 



هذه النظرة انساقت على المجال السياسي عند الفلاسفة الذين انطلقوا من هذه المنطلقات ، أبرزهم ( جورج فيلهلم هيجل ) الذي كان يرى بأن الدولة في حد ذاتها غاية معبرة عن مجموعة القيم و الصور الجمالية التي يجب أن يفني الفرد نفسه من أجلها كونها الفاعل العالمي و الراسم للحضور الدولي لحياة الملايين من البشر الذين انقضوا فكان هذا الكيان السياسي بهيئته نتاج عملهم و تضحياتهم ،  فبدل أن تكون الدولة وسيلة تتحقق بها مصلحة الجماعة كما عند أصحاب العقد الإجتماعي أو الفلسفة النفعية تصبح غاية يفنى الفرد من أجل بقائها و بقاء تاريخها و صوره و يصبح التعدي و الصراع على هذه الهوية بغض النظر عن المصلحة أمر مبرر و مفهوم .  

الحقيقة أن موقف كلاً من هؤلاء الفلاسفة قد يكون معبراً عن مرحلة حضارية (عمراً حضارياً) مختلفة تمر بها مجتمعاتهم ، فمرحلة الوسيلة “هوبز” التي لم تصل فيها الدولة بعد إلى درجة من القوة و الغنى و التاريخ تكون ظاهرة فيها فكرة العقد الإجتماعي و النفعية أحياناً نظراً لهشاشة البنيان السياسي و قيمه و صوره الجمالية و تخوف أفراده على المصالح الفردية التي اجتمعوا من أجلها ، أما المرحلة الثانية “هيجل” فهي ناشئة عن وضوح الصور الجمالية و القيمية و العادات السياسية لمجتمع غالب أصبحت هذه الصور معه و بنيانها السياسي تشكلان قيمة تفوق قيمة الغاية التي من أجلها تشكلت الدولة .. 
تبدأ الدولة من نسيج إجتماعي مفكك يحرص أفراده على مراعات عاداتهم الإجتماعية الضيقة و مصالحهم المستقلة حتى تتكرر تجارب الإخفاق المناطقي و القبلي في وجه التحديات الخارجية لتنهار معها العادات الإجتماعية المجزئة و تذوب في عادات سياسية جامعة متكئة على أفكار سياسية و اقتصادية أكثر عمقاً و صور عقدية أكثر وضوحاً تؤدي لبنيان سياسي أكثر إستقرار و نضج .. هذا البنيان السياسي الناجض يعتمد على مجموعة العادات السياسية و الإجتماعية التي راكمها المجتمع بالتدريج مع تكرر تجاربه المؤلمة حتى صار منقاداً بنفسه دون أن يكون هناك داع لتدخل رجل السياسة بعمق و دون أن يكون هناك حاجة لمصادرة حريات الأفراد الذين يقومون هم ذاتهم بتقديم الكثير من التنازلات حرصاً على ضمان المصلحة العامة التي يجدون بها ضماناً لمصالحهم و ضماناً لاستمرار الهوية المقدسة في نظرهم .. 
إن شكل الدولة المسلمة الأولى عكست هذا الإتجاه و سارت بعكس التسلس التاريخي الطبيعي لنشوء الدول عندما قام النبي عليه الصلاة و السلام ببناء دولة ذات ملامح سياسية و اجتماعية واضحة في ظرف عقدين من الزمن و أعطاها قيمة عقدية تفوق القيمة المادية المتحققة من التنظيم السياسي فكان في هذه الروح وسيلة لخلاص العرب من ظرفهم الجغرافي و الديموغرافي الصعب .. السياق الطبيعي لنشوء دولة يكون عادة بتوفر الأرض الخصبة المتسعة التي تسمح بإنتاج فائض يمكن تداوله و استجلاب مصلحة أخرى بديلة عنه من خلال التبادل التجاري إن كان في داخل ذلك القطر أو خارجه ، هذا كله بالتدريج يظطر المجتمعات لتبني عادات اجتماعية و سياسية معينة تساعد على تحقيق المصلحة العامة المتوفرة شروطها الطبيعية فتكون الدولة وسيلة و حلقة من سلسلة الأحداث الطبيعية المتعاقبة و كيان يرتكز أساساً على منطق المصلحة الإقتصادية و يبني ثقافته حولها ولا تتعارض عقيدته المبنية معها بل تعضدها و تكون منتجاً آخر من منتجات ذلك الظرف و هذا بالظبط ما يجعل العقيدة الإسلامية مختلفة في نشأتها و هويتها السياسية و طريقة تفاعلها عن بقية العقائد ، فهي عقيدة متجاوزة للواقع السياسي المفتت حالمة بمستقبل جامع مختلف تنهار فيه الهويات العرقية و المناطقية و تتخلص فيه النفوس من التعلق بالمادة إلى التعلق بكيان واحد مستقل منفصل مهيمن يجعل الجميع سواسية كأسنان المشط رغم التباين المعيشي و التنظيمي و رغم اختلاف القدرات و المفاخر ، و لذلك فإن هذه العقيدة الجديدة أعطت معنى آخر للتحرر سوغت للأعرابي الإنقياد دون الشعور بالمهانة و جلعت البناء الإجتماعي الإسلامي المثالي المكتفي داخلياً و خارجياً غاية تفوق الغاية البشرية الطبيعية الداعية للسيادة و التعالي .. هذا كله جعل الكيان السياسي في الإسلام و إن كان كياناً مراعياً للمصلحة العامة و طالباً لها إلا أنه غاية في حد ذاته تكتسب أساساته القداسة كام هي مخرجات عمله ولولا ذلك ما تمكن العرب من تجاوز واقعهم الجغرافي القاحل المفتت ولولا ذلك ما كانت الكيانات السياسية في الإسلام متشابهة إلى حد بعيد تشابه تدين أصحابها و لما استطاع الفكر الإسلامي أن يشهد تنمية مستمرة رغم تباعد الأرض ..

كل الأفكار المطروحة طرحت بشكل أو بآخر في الفكر الإسلامي و لكن تمايز الظروف سمحت بانحسار الفكر عن حيز السياسة العملي و تباين الدور للدين جعل من المبادئ السياسية و الإجتماعية علم لا ينفصل عن العلوم الدينية بل هو باب من أبواب الفقه في الدين !! .. من هنا ظرت كلمات كـ ( مقاصد الشريعة ، و المصلحة العامة ، و المصالح المرسلة .. ) و من هنا كان التحايل الإجتماعي و الديني على الظروف القبلية و العرقية المجزئة باحتكار العادات المقبولة سياسياً و اجتماعياً حتى تكون السلطة السياسية محدودة إلا حد ما و القدرة على التجاوز والبغي أضعف ..

متى تهيأت الظروف لترسخ عادات سياسية تحقق المقاصد الشرعية على أتم وجه فإن ذلك الكيان السياسي يصبح كياناً راشداً